المؤلفات

           قراءات وخواطر في الفكر الإسلامي

د. عبد المحمود أبّو

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة الطبعة الثالثة

هذه الخواطر يبدو أنها وجدت قبولا، فقد نفدت كل النسخ من الطبعتين الأولى والثانية، ولا زال الإقبال عليها نسأل الله أن يجعلها خالصة لوجهه الكريم، وأظن أنها من بركات صديقي الراحل الفرضي الإمام النور التلب الذي خصصت الاهداء لروحه أسأل الله أن يكرم نزله ويبارك في ذريته أبنائه وبنتيه، وفي زوجه التي حافظت على الوصال بيننا وأكرمتنا بزيارة أسرتي في بيتنا، أسأل الله أن يحفظها ويكرمها ببر أبنائها.

الكتاب يركز على منهج الوسطية، ويراهن على أن فلاح الأمة وصلاحها وشهودها يكون بالالتزام بالوسطية منهجا وسلوكا، فهو المنهج المستقيم الذي جاء به الإسلام وطبقه رسول الله صلى الله عليه وسلم قولا وفعلا، وفي ظل هذا المناخ الذي طغت فيه الماديات وتراجعت فيه القيم فإن الوسطية هي البلسم الذي يعالج أدواء البشرية ويحقق لها التوازن ويعيدها إلى قيم الفطرة التي فطر الله الناس عليها.

اللهم إني أسألك نفسا بك مطمئنة تؤمن بلقائك وترضى بقضائك وتقنع بعطائك. اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة.

رمضان 1444هـ

مارس 2023م

مقدمة الطبعة الثانية

هذا الكُتَيّب تجميع لخواطر وقراءات وأفكار جاءت دون ترتيب؛ وقد وردت في خطب جمعة، وفي مداخلات في منتديات، وبعض الأفكار كانت خواطر مرت بالذهن وأنا أطالع بعض الكتب؛ وقد صدرت الطبعة الأولى قبل سنوات بعنوان “قراءات وخواطر فكرية” نفدت كلها؛ وكنت وددت أن أراجع الأفكار لأُرتبها وأضيف إليها وأحذف، ولكني لم أجد الوقت، وقد ألَحَّ عليَّ صديقي الحبيب: عبدالرحمن مخاوي بضرورة طباعة الكتاب على حاله وذلك لكثرة الطلب عليه حسب رأيه؛  فاستجبت لرغبته ؛ وأذنت له بالقيام بطباعته في نسخته الثانية، على أمل أن أجد الوقت لمراجعته وتنقيحه في الطبعة الثالثة إذا شاء الله. وقد يلاحظ الذين اطلعوا على النسخة الأولى أن هذه الطبعة قد اشتملت على بعض التعديلات والاضافات متعلقة بالعناوين والتقديم والتأخير، وغير ذلك ؛مع الإبقاء على نفس العنوان؛ واستعرض الكتاب مناهج الفكر الإسلامي السائدة في الساحة مع التركيز على منهج الوسطية الذي يراه الكاتب هو المخرج من محنة الأمة الحالية. آمل أن يجد القارئ فيه مايفيد.

عبدالمحمود أبُّو

غرة محرم 1439هـ

أم درمان

إهداء

أهدي هذا الكتاب لروح صديقي الراحل الفرضي الإمام النور التلب؛ ذلك الرجل الذي جمعتني به صداقة ومحبة في الله، وتواصل وجداني بالرغم من أننا لم نلتق وجها لوجه حتى غادر هذه الفانية!! أسأل الله أن يجمعنا في مستقر رحمته بصحبة المصطفى صلى الله عليه وسلم والناجي منا يأخذ بيد أخيه يوم القيامة؛ ومن خلف فما مات، فقد أكرمه الله بذرية صالحة نحسبها كذلك إن شاء الله. بارك الله في أبنائه (محمد الصادق والتجاني والإمام وعبدالله. وبنتيه سارا وحفية. وزوجه أم الحسن عبدالله قرشي) قال تعالى:”والذين ءامنوا واتبعتهم ذرياتهم بإحسان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء..”

مدخل:

      كثير من المسلمين وغير المسلمين؛ يستغربون من تناقضات خطابات العاملين في مجال الدعوة الإسلامية، والمتحمسين لها من العلماء والمفكرين وخطباء المساجد وغيرهم من النشطـاء في هذا المجـال، وهذا الاستغراب مرجعه التناقض بين المفاهيم والمواقف التي تصدر عن هؤلاء المعنيين مع أنها مدعومة بالنصوص والأدلة؛  بل أكثر من ذلك نجد أن هذا التناقض أدى إلى إضعاف الالتزام بالإسلام عند كثير من المسلمين؛ في  العقيدة،  والأحكام، وثبات المواقف؛ مما نتج عنه زعزة واضطراباً في الحالة الإسلامية بصفة عامة. فصار الدعاة عاجزين عن الإقناع؛ لأنهم عندما يطرحون أي مبدأ أو فكرة؛ يواجهون بالنقيض الذي يطرحه داعية آخر ! ومن الناحية الأخرى؛ فإن كثيراً من غير المسلمين قلَّلُوا من احترامهم للمسلمين؛ بسبب هذا السلوك الذى يرونه عند المسلمين فاقتنعوا أنهم على حق! لأنهم ينظرون إلى المسلمين من خلال الممارسة والواقع؛ فيقولون لو كان دين هؤلاء صحيحا لما كانوا على هذه الحال ! والذين أنصفوا المسلمين فإن إنصافهم يأتي من اطلاعهم على الإسلام من مصادره الأصيلة، ومن تاريخه الناصع؛ فأقنعتهم الحقائق والوقائع بحقيقة هذا الدين؛ وقليل ماهم. إنّ التناقض في الخطاب الإسلامي بين العاملين في مجال الدعوة يرجع لعدة عوامل أهمها :

العامل الأول :  غياب قيادة دينية مجمع عليها لتكون لها الكلمة الأخيرة في حسم الخلاف، فلقد غابت هذه المرجعية بوفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد يقول قائل إنّ المرجعية موجودة تتمثل في الكتاب والسنة، هذا صحيح من حيث مصدرية الأحكام، ولكننا مع ذلك نرى الخلاف قائما بالرغم من وجودهما؛ لأن منهج التعامل معهما يختلف من عصر إلى عصر، ومن شخص إلى آخر، فغياب المرجعية البشرية المجمع عليهـا عامل من عوامل التناقض المعـاش[1] .

العامل الثاني :  المنهج التعليمى المتبع في معظم المؤسسات الدينية غيَّب حقيقة الدين الإسلامي عن كثير من المسلمين، حيث أهمل روح الإسلام بتركيزه على الفروع والشكليات : لقد اعتمد المنهج على التحفيظ والرواية، مهملا الأسلوب النبوى القائم على التربية وغرس المبادئ والمفاهيم بصورة تمكِّن المتلقي من التفاعل معها وتطبيقها، كما افتقر إلى وسائل غرس نهج التفكير، والمقارنة في أذهان المسلمين، ولذلك فإن الدين الخاتم لم يتم استيعابه كرسالة عالمية خالدة تخاطب كل بني البشر باختلاف ثقافاتهم وعاداتهم وعصورهم؛ بل انتهج كثير من الدعاة أسلوبا يقدم الإسلام كأنه ديانة قومية محلية متقوقعة في بادية العرب في عصرالجاهلية .

العامل الثالث :  تحَكُّم النظم السياسية المستبدة على الساحة التاريخية الإسلامية الغالبة شلّ حركة الفكرالإسلامي، وغيّب تلاقح الأفكار والآراء؛ الذي يمثل أهم عوامل الإبداع والتطور لما يتيحه من تعدد الخيارات التي تمكن المتلقي من الاختيار بين البدائل، فالنظم المستبدة لا تعرف إلا رأياً واحداً هو رأي الحاكم بأمره ! ومن خالفه فمصيره واحد من اثنين : إما السجن وإما القبر !.

العامل الرابع :  اختلاف البيئات والأزمنة والأمكنة له أثر كبير على الفكر، وبالتالي فإن الفهم للدين يختلف من شخص لآخر؛ لأنه ليس بالضرورة أن تكون وسائل الاستنباط وترتيب الأولويات محل اتفاق من الجميع في ظل وجود المؤثرات والخلفيات المتعارضة .

العامل الخامس :  تعامل الآخرمع الإسلام والمسلمين خلق ردَّ فعل غاضب لدى المسلمين، فاختلفت أساليبهم في التعامل مع هذا الآخر؛ فمنهم من يرفض مبدأ التعامل مع الآخر إسقاطا للتاريخ على الواقع؛ ومنهم من يقر مبدأ التواصل استنادا على النصوص الشرعية وعلى التجربة التاريخية، فمنذ أن جاء الإسلام وجد صدوداً وكيداً من المشركين واليهود وبعض النصارى؛ واستمر هذا النهج حتى عصرنا الحاضر؛ مما جعل كثيراً من المسلمين يرفضون أي تسامح مع الآخر، ويدعون لإخضاعه بالقوة بل يسعون لاستئصاله بينما يتبع آخرون منهجاً يتمسك بالأصل وهو الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، ويرى أن كل تصرف يعامل بما يناسبه فإذا انتفت الأسباب رجعنا للأصل .

      هذه العوامل وغيرها أدت إلى بروز مدارس كثيرة داخل الملة الإسلامية يمكن ارجاعها إلى ثلاث مدارس؛ تتفرع عنها فرق، وطوائف، ومذاهب؛ تغطي الساحة الإسلامية بامتداداتها الأفقية والرأسية, تلك المدارس هي : مدرسة الانكفاء على الذات ؛ ومدرسة الانبهار بالوافد؛ ومدرسة الوسطية .

 فالمدرسة الأولى لديها أفكارمعلبة تسعى لإسقاطها على الواقع دون التفات إلى العلل والمتغيرات الزمانية والمكانية والظروف البيئية، أما المدرسة الثانية فهي نقيض المدرسة الأولى؛ تنتمي إلى الإسلام اسماً ولكنها في الواقع مستلبة أمام الآخر ومنبهرة به؛ فتسعى إلى تقليده في كل شئ، وتدعو إلى التحرر من كل ما هو ماض في تاريخنا، بل ترى أنه لامخرج لنا من حالة التراجع الحالية إلابالقطيعة التاريخية والمعرفية عن تراثنا واتباع المنهج الغربي بحذافيره! والمدرسة الثالثة؛ تتبع اسلوباً وسطاً يدعو للالتزام بالثوابت والاجتهاد لمواجهة المستجدات ومراعاة العلل في الأحكام المتعلقة بالمعاملات، ولا تتحرج من الإقتباس من الآخرين، ولكن وفق ضوابط ومعايير معينة تمنع الإنكفاء، وتعصم من الذوبان .

      إنني في هذا الكتيب أحاول استعراض تلك المدارس وأسبابها ودوافعها؛ مع توضيح أن المنهج الأقدرعلى التعبير عن حقيقة الإسلام؛ هوالمنهج الذي يؤكد الفرضيات الآتية : الفرضية الأولى: أن الإسلام هو كلمة الله الأخيرة للبشرية وأنه مكمل للرسالات التي سبقته ومصدق لها ومهيمن عليها بتضمنه لأصولها . الفرضية الثانية : أن عالمية الإسلام تقتضي تواصله مع الإنسان حيثما وجد؛ وتعامله معه بالصورة التي تلبي حاجاته المتجددة . والفرضية الثالثة : أن خلودالاسلام وصلاحيته لكل زمان ومكان؛ تتوقف على جهد واجتهاد حملته وقدرتهم على التعاطي مع المستجدات؛ بصورة تحفظ أصوله وتمكن البشرية من تحقيق مطالبها الفطرية المشروعة؛ دون حرج أو عنت.  وقد اشتمل الكتيب على مقدمة وأربعة فصول وخاتمة ..

الفصل الأول :المدارس العاملة في الساحة الإسلامية

مدرسة الانكفاء :

الإسلام دين الله الخاتم جاء بأحكام تعالج كل مشاكل الحياة المتعلقة بالإنسان والحياة والأحياء والكون؛ وتؤخذ أحكامه من القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة،وفي حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم كان هو المرجع عند الاختلاف باعتباره الرسول المكلف بتبليغ الدعوة، وبعد وفاته واجهت المسلمين مستجدات كثيرة لم يجدوا لها حكما مفصلا في القرآن والسنة ولذلك اجتهدوا لاستنباط أحكام تعالج تلك المستجدات، وظل المجتهدون في كل عصر يبذلون جهدهم لاثبات صلاحية الإسلام وقدرته على التعامل مع مايستجد في حياة الناس؛ وفي العصور المتأخرة توقف الاجتهاد وظهر المقلدون الذين عجزوا عن الاقتداء بالسلف في منهجهجم الاجتهادي؛ فظهر منهج  الإنكفاء وتمدد في الساحة الإسلامية . وهو منهج يقوم على المفاهيم الآتية :

– تقليد السلف في كل ما ذهبوا إليه من اجتهاد؛ بل تقديس آرائهم في بعض الأحيان .

– عدم التمييز بين الثابت والمتحرك من أحكام الإسلام .

– اعتبار منهج الأقدمين هو الخيار الوحيد للتعامل مع الآخر الملي والآخر الدولي.

– اعتبار نظام الخلافة هو النظام الإسلامي الشرعي الأوحد للحكم وما علينا إلا إعادته .

– عدم إعطاء أي اعتبار للمستجدات في الساحة الإسلامية والعالمية.

– الفهم الهجومى للجهاد كوسيلة لنشر الإسلام  .

هذا المنهج غذته العوامل الآتية :

أولاً :  الجمود الفكري

منذ القرن السابع الهجري أغلق باب الإجتهاد إجتهاداً من بعض العلماء؛ حماية للعقيدة ومنعاً للفوضى وضبطاً للأحكام؛ واشترط الفقهاء وقتها أن معرفة الدين الحق تتمثل في تقليد السابقين وتطبيق ما استنبطوه من أحكام؛ ولكن مع طول الزمن تحول التقليد إلى جمود فكري؛ صار عاجزا عن مواجهة المستجدات مما فتح الباب للأفكار الوافدة والنظريات الأجنبية؛ فغزت بلاد المسلمين ووجدت من يناصرها من أبناء المسلمين بسبب عدم قدرة الفقهاء التقليديين على الإجابة على تساؤلاتهم. يقول الإمام القرافي: “الجمود على المنقولات أبداً ضلال في الدين، وجهل بمقاصد علماء المسلمين، والسلف الماضين”[2] وظهرت نتيجة للجمود مدرستان إحداهما تدعوا إلى الإنكفاء على الماضي وترفض كل جديد ، والأخرى تدعوا إلى الحداثة والتبعية للأفكار الوافدة دون نقد . واحتدم الجدل العقيم حول مفاهيم قديمة متجددة؛ هل الإنسان مسير أم مخير ؟ وهل للعقل دور في فهم النصوص أم لا ؟ وتحول الجدل إلى سفسطة ابتعدت عن الجوهر وعما ينفع الناس .

ثانياً :  الخلط الفقهي

الإسلام دين يقوم على العقيدة، والعبادة، والأخلاق، والمعاملات؛ فالعقيدة والعبادة وأصول الأخلاق؛ أحكامها ثابتة لا تتغير بتغير المكان ولا تتبدل بتبدل الزمان؛ وأما المعاملات فهي تتجدد وتتغير حسب تجدد الأحوال وتغير الزمان وتحرك العلل؛ ولذلك جاءت أحكامها مرنة لتتماشى مع تطور المجتمع. كذلك الأمور القائمة على الخبرة والتجربة فإن الإسلام يراعي فيها المصلحة؛ والرسول صلى الله عليه وسلم يقول : ((أنتم أعلم بأمر دنياكم))[3]  غير أن كثيرا من الدعاة وخاصة المتأخرين منهم؛ تعاملوا مع هذه الأحكام بفهم واحد دون تمييز؛ فشاع الخلط ووقع الحرج . إن التعامل مع المتغيرات بمنهج الثوابت هو الذي أدى إلى التخبط وعدم المواكبة؛ ففتح الباب لنقد الإسلام واتهامه بعدم صلاحية التطبيق. جاء هذا الإتهام من أعداء الإسلام نتيجة لممارسات المسلمين .

ثالثاً : محاولة مجاراة اليهود والنصارى 

اليهود يعتقدون أنهم شعب الله المختار! وأنهم أبناء الله وأحباؤه؛ بغض النظر عن التزامهم بمنهج الله أو عدم التزامهم . وحاول بعض المسلمين أن يتفوقوا على اليهود؛ فقالوا بأفضلية الأمة الإسلامية بغض النظر عن الالتزام من عدمه! في حين أن القرآن الكريم قد وضع شروطا لهذه الأفضلية أوضحته هذه الآية : ﴿ كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾ [ آل عمران : 110 ] ولكن بعض المسلمين مجاراة لليهود لم يراعوا هذه الشروط؛ فحكموا بأفضلية الأمة دون التزام بشروط الأفضلية. وحاول بعض كتاب السيرة – مجاراة للنصارى – خلق أحداث من العدم؛ ليثبتوا بها تفوق رسول الله صلى الله عليه وسلم على عيسى بن مريم عليه السلام؛ فإذا كان عيسى قد أحيا الموتى معجزة له؛ فلا بد أن يكون رسول الله قد تفوق عليه بإحيـاء الموتى! . وهكذا إبراء الأكمه والأبرص؛ وفات عليهم أن معجزة المصطفى صلى الله عليه وسلم لم تكن مادية؛ وإنما هي معجزة من نوع آخر تمثلت في القرآن الكريم نصا ومنهجا وتصديقا؛ وهذا المنهج ثابت؛ والتحدي به قائم إلى يوم ، فإذا طُلِبَ من أي مسلم أن يأتي بمعجزة رسول الله صلى الله عليه وسلم لأتى بالقرآن. ولكن التنافس، والمجاراة، ومحاولة إثبات التفوُّق؛ صرفت المسلمين عن الاعجاز القائم؛ إلى انتحال معجزات مشكوك في صحتها! مع أن القرآن الكريم بيَّن أن الله امتنع عن إرسال المعجزات المادية لعلة؛ قال تعالى : ﴿وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُواْ بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفًا﴾ [ الاسراء : 59 ] فعندما يحصرالمرء تفكيره في مرحلة تاريخية معينة ويرفض التعامل مع المستجدات بإيجابية، ويحاول معالجة مشاكل الحاضر برؤية ماضوية، سيجد نفسه معزولاً عن الواقع؛ عندها سيكون منكفئا على ذاته.

إن منهج الإنكفاء لايصلح للمحافظة على التدين الصحيح؛ وبالتالي فهو عاجز عن تقديم الاسلام بالصورة التي تقنع الآخرين للدخول فيه. لأنه يقوم على الجمود، ويناقض العقل، ويصادم الواقع، ويُدْخل المسلمين في حرج بإلزامهم بمفاهيم ومواقف تتناقض مع مقاصد الإسلام وتخالف منهج النبي صلى الله عليه وسلم الذي جاء ليضع عن الإنسانية الإصر والأغلال التي كانت عليها.

مدرسة الاستلاب :

لقد انبهر عدد من المفكرين والمثقفين المسلمين بالحضارة الغربية بصورة أعمتهم عن النظر إلى سلبياتها؛ ولم يميزوا بين الحقائق الموضوعية وبين المفاهيم الخاصة بتلك المجتمعات؛ بل اعتبر بعضهم أن الخير كل الخير هو اتباع الغرب في كل صغيرة وكبيرة!  والشر كل الشر في مخالفته؛ ويرى بعضهم يعتقد أن التخلف الذي تعيشه مجتمعاتنا الإسلامية سببه الإسلام ! فإذا أردنا أن نلحق بركب التقدم؛ ما علينا إلا أن نترك الإسلام جانباً، ويحتجون بأن أوروبا لم تتقدم إلا عندما تحررت من الدين ومن سلطان الكنيسة . هذا الشعور هيمن على كثير من المثقفين طيلة القرنين التاسع عشر والعشرين، وخلق جفوة بين التَّدين والحضارة.  هنالك عدة عوامل ساهمت في خلق هذا الشعور المنبهر :

العامل الأول :  هو ما وصلت إليه الحضارة الغربية من تقدم في مجال العلوم والتكنولوجيا، وبناء الدولة الحديثة التي تقوم على المؤسسات، وسيادة القانون، والتداول السلمي للسلطة، واحترام حقوق الإنسان، وعند المقارنة يظهر تفوُّق النظام السياسي في الغرب على النظم السياسية في البلدان الإسلامية .

العامل الثاني :  هو تخلُّف الخطاب الديني في المجتمعات الإسلامية عن مواكبة تطورات العصر؛  بل وفي بعض الأحيان يعتبرها من مظاهر الكفر! ويروى أنه عندما ظهرت المطبعة لأول مرة في العالم الإسلامي؛ استشير بعض العلماء في تركيا؛  هل يجوز أن يطبع المصحف على الآلة ؟ فاجتمع مجلس العلماء وقرر أنه لا يجوز أن يطبع المصحف في المطابع؛ لأن ماكينة الطباعة سوف تضغط على الكلمات عندما تريد طباعتها وكلام الله يعلو ولا يعلى عليه !!  هذا النوع من الفهم كان سبباً في خلق تناقض بين الدين والتقدم. وكثير من الشباب الذين تلقوا تعليمهم في المؤسسات التعليمية الحديثة واجهوا أسئلة متعلقة بالعلوم، والمدنية، ومقومات الحضارة؛ فلم يجدوا أجوبة مقنعة مما دفعهم إلى تبني النحل الوضعية ليعيشوا عصرهم.

العامل الثالث : هو الإستبداد السياسي الذي قتل روح الإبداع والمقاومة في الإنسان؛ وبالتالي أدى إلى جمود في الفكر وتعطيل وظيفة العقل كما بينا سابقا.

العامل الرابع : الإستشراق : لقد تناول كثير من المستشرقين الإسلام بصورة مشوهة غيَّبت الحقائق وخلطت بين مبادئ الدين وممارسات البشر؛ وفي المقابل مجدت الحضارة الغربية وأظهرتها في صورة الفردوس الموعود .

هذه العوامل وغيرها  كانت سبباً في تهيئة الأمة لما أسماه المفكر الجزائري مالك بن نبي: “القابلية للإستعمار ” .

لقد سيطرت على العالم الإسلامي – في الغالب – تيارات استمدت مفاهيمها من النهجين المذكورين، وهي تيارات من الصعب أن تلتقي على قواسم مشتركة؛ لأنها تتبع مناهج لا توجد فيها مساحة للآخر، ولديها أحكام مسبقة ضد مخالفيها، فنهج الانكفاء يعتقد أن كل ما يحتاجه المسلم موجود في ما تركه السلف من اجتهاد،  وأن أي اقتباس من الآخرين هو ضلال مبين. ونهج الإستلاب يحكم على الإسلام  من خلال واقع المسلمين المأزوم؛ ويسقط ممارسات رجال الدين في الغرب على دعاة الإسلام وعلمائه؛ فكما أن الغرب لم يتقدم إلا بعد تحرره من سلطان الكنيسة؛ فعلينا أن نبعد الدين من الحياة العامة – وخاصة السياسة – حتى نتمكن من اللحاق بالعصر الحديث! لقد ضاعت حقيقة الإسلام “الوسطية” بين هذين التيارين اللذين علت أصواتهما واختطفا شعار الدفاع عن هوية الأمة ونهضتها! وأدخلا معظم المسلمين في حيرة أدت إلى زعزعة الثقة في الشعارات وأضعفت العقيدة وشوهت الإنتماء .

لا شك أنّ النهجين يشتملان على بعض الحقائق التي ينبغي استصحابها، وبهما كثير من التشوهات والانحرافات يجب التخلص منها، وهذا ما يحققه منهج الوسطية الذي يقدم الإسلام بديلاً حضارياً ونظاماً اجتماعياً أعدل؛ يخاطب ويلبي كل المطالب الفطرية للبشرية. تصديقاً لقوله تعالى : ﴿ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء  تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ﴾ [ ابراهيم : 24 – 25 ]

مدرسة الوسطية

الوسطية تعني السماحة والإعتدال في التكليف، وترك المغالاة في الدِّين والتكلف فيه، إنّ الوسطية منهج يُمَكِّن المسلم من فهم الأمور فهماً صحيحاً، ومن ثم يتعامل معها بوعي، ففي مجال العقيدة يُحقق وَحْدانية الخالق،  وفي مجال العبادة يُراعي مَقاصدها الاجتماعية، ويدرك أنّ أساس الأخلاق هو أنْ تُعامل الناس كما تُحب أن يُعاملوك، ومنهج الوسطية يجعل المرء ينظر إلى الأمور بتوازُن ووعْي وتكامل. 

إنّ معالم الوسطية تتمثل في الآتي : 

أولا: الجمع بين الأصالة والمعاصرة ؛ فالوسطية  تلتزم بالأصالة كمرجعية، ولا تهمل المعاصرة كفضاء للتطبيق، وتفاعل بين النص والواقع. 

ثانيا: التوفيق بين علم الشريعة المُتَمَثِّل في الأحكام الشرعية الخمسة، والمبادئ والمقاصد؛ وبين علم التَّزْكية الذي يخاطب الوجدان ليرتقي بالإنسان إلى مرحلة التذوق الإيماني. . 

ثالثا : التميِيز بين الثوابت والمتغيرات؛ فالأحكام الشرعية تنقسم إلى أصول؛ أحكامها ثابتة؛ تتمثل في العقائد والعبادات وأصول الأخلاق، وفروع ووسائل، أحكامها مُعَلَّلة وتَتَغيَّر بتغيُّر العلل. 

رابعا: التوفيق بين ظواهر النصوص وقراءة ما وراء النصوص، من معاني تستبط بالتأمل والتدبر والتفكر. 

خامسا: الالتزام بالتيسير في الفتوى، والتبشير في الدعوة؛ فالأخذ بالرُّخص، ومراعاة الضرورات، مع معرفة المكونات الفكرية، والخلفيات الثقافية، للمخاطب، واختيار المداخل المناسبة تطبيقا لمبدأ الحكمة المطلوب في الدعوة ؛ قال تعالى : ” ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ”[النحل:125]

سادسا: مراعاة الواقع : التعاليم الإسلامية لا تُطبَّق في فراغ وإنما يقوم بتطبيقها الإنسان بكل خصائصه، وفي واقع تختلف طبيعته من بيئة لأخرى، لذلك فإن منهج الوسطية يراعي الواقع ويزاوج بينه وبين الواجب واستصحاب الواقع، على أساس قوله صلى الله عليه وسلم للسيدة عائشة رضي الله عنها: ” لوﻻ أنّ قومك حديثوا عهد بكفرِ لأسَّسْتُ البيت على قواعد ابراهيم “[4] مراعاة للواقع. 

سابعا : مراعاة الضرورات : الإنسان مخلوق من طين وفيه قَبَسٌ من روح الله ، ومن خصائصه العقل والحرية والإرادة والوجدان ؛ وهذه لديها مطالب ضرورية لتحقيق إنسانية الإنسان، وتمكينه من تحقيق وظيفة الإستخلاف التي خلق للقيام بها . قال تعالى : ” فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا البَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ” [قريش: 3-4] فالحاجات الضرورية اهتم بها الإسلام وشرَع لتلبيتها وصيانتها، وليس هنالك أمر ضروري للإنسان؛حرَّمه الإسلام، وإنما وضع ضوابط شرعية لإشباعه مع مراعاة التوازن بين حاجة الفرد والمحافظة على النظام العام للمجتمع البشري. 

ثامنا: الالتزام بالشورى وكفالة الحرية: فالحرية من أهم خصائص الإنسان،ولذلك حرَّم الإسلام الإكراه في الدين، والحرية شرط لممارسة الشورى التي تضبط النظام الإجتماعي ؛ وعليه فإن الوسطية تُولي اهتماما كبيرا لصيانة الحرية تحقيقا لكرامة الإنسان وتمكينا له من ممارسة الشورى . 

تاسعا: انصاف المرأة وإشراكها في كل الأعمال التي تلائم طبيعتها فهي تمثل الشِّق الآخر للإنسان، وهي مخاطبة كالرجل لتحقيق وظيفة الاستخلاف بكل تجلياتها؛ تقسيما للأدوار وإقامة لرسالة الإنسان في الكون. 

عاشرا: التَّسامح مع الآخر، والعمل على صيانة العيش المشترك بين مكونات المجتمع المتنوعة؛ دينيا وثقافيا، فالتعدد إرادة إلهية، وضرورة اجتماعية، وواقع كوني مُعاش.

الفصل الثاني : عوامل الخلل ومنهج العلاج

عوامل الخلل التي أدت إلى غياب الفهم الصحيح للاسلام كثيرة أهما عاملان أديا إلى تغييب الحقيقة الإسلامية عن أذهان كثير من المسلمين ومفاهيمهم وأثَّرا على الفكر والممارسة، وجعلا مجتمعات المسلمين ضحية للغلو والانحراف، هذان العاملان هما:

العامل الأول: الاستبداد السياسى :

من الأسباب التي أدت إلى تراجع الأمة؛ وقوعها تحت طغيان الإستبداد السياسي ردحاً من الزمن، فقد عاش المسلمون حوالي ثلاثة عقود فقط في ظل الخلافة الراشدة، ثم حلت عليهم نقمة الحكم القائم على التغلب والقهر؛ فضاعت الشورى، وقمعت الحريات، وانتهكت كرامة الإنسان، وتوارى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأن الحاكم بأمره لا يقبل إلا ما يتفق مع هواه، واستسلم كثير من الفقهاء لمنطق الأمر الواقع؛ خوفاً من الفتنة، ومعلوم أن من شروط النهضة توفر الحرية، وأنّ التصدي للعدوان الخارجي؛ يتوقف نجاحه على مقاومة القهر الداخلي . لقد شدّد الإسلام على المحافظة على كرامة الإنسان وجعلها من أولويات مهام الدعوة الإسلامية، فقد جاء الإسلام لتوحيد الله ونفي عقيدة الشرك، وتحرير الإنسان من أسر العبودية والاسترقاق، وبيّن الرسول صلى الله عليه وسلم أنّ حرمة الإنسان مقدمة على حرمة الكعبة المشرفة؛ لذلك حرص الإسلام على توفير مناخ الحرية والأمان وصيانة كرامة الإنسان؛ لأن المناخ السليم من شأنه أن يؤدي إلى الإبداع في العطاء، والإعتدال في المواقف، والوسطية في الأفكار ، وكان العهد النبوي مجسداً لهذه المعاني في أقوى صورها، وكذلك عهد الخلفاء الراشدين .

      إن الحكم في الإسلام يقوم على الإختيار والشورى؛ ولكن الممارسة العملية في الغالب قامت على التغلب والقهر، فأسقطت الشورى، وأهملت دور الأمة في الشأن العام، حيث قامت في مجتمعات المسلمين نظم حكم فاسدة؛ أعطت شرعية لكل متغلب، بحجة منع الفتنة! فيزعم هذا المتغلب بعد أن تستقر له الأمور؛ أنه يحكم بأمر الله، ويتصرف في المال العام دون رقيب ولا حسيب، وبعض هؤلاء الخلفاء كان فاسد العقيدة؛ لايتورع من التجرؤ على الله! فقد روي عن الوليد بن اليزيد أنه استفتح ذات يوم فأوّل ما قابله من القـرآن قوله تعالـى : ﴿وَاسْتَفْتَحُواْ وَخَـابَ كُـلُّ جَبَّـارٍ عَنِيدٍ﴾[ابراهيم : 15 ] فمزَّق المصحف وقذف به على الأرض وقال :

             أتوعـد كـل جبـار عنيد         فها أنـا ذاك جبار عنيد

             إذا ما جئت ربك يوم حشر  فقل يا رب مزقني الوليد[5]

إن الإستبداد الذي خيَّم على المجتمع الإسلامي؛ حرم المسلمين من إقامة نظام سياسي يجسد المبادئ والقيم الاسلامية، ويقبل التطور؛ ليتمكن من منافسة الآخرين, كما أن الاستبداد قتل في الأمـة روح الإبداع . وتحول المستبدون إلى طغاة يؤلهون أنفسهم، وفعلوا بالناس ما لم يفعله الفراعنة الطواغيت! قال الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز : ” لو جاءت كل أمة بفرعونها وأتيناهم بالحجاج لغلبناهم “[6] وعبد الملك بن مروان مع عظمته وحنكته؛ إلا أنه فى مجال فرض سلطانه لايتورع من مخالفة الضوابط الشرعية للحكم فى الإسلام، فقد روى السيوطـي أن عبد الملك صعد المنبر وقال : ” والله لا يأمرني أحد بتقوى الله بعد مقامي إلا ضربت عنقه “[7] . أما المال فقد تعامل معه المستبدون على أنه مالهم الخاص؛ وأنما يفعلونه من تبديد هو بأمر الله , وأن الأمة لا تملك إلا الطاعة. قال أبو جعفر المنصور : ” إنما أنا سلطان الله في أرضه، أسوسكم بتوفيقه وتسديده، وأنا خازنه على فيئه؛ أعمل بمشيئه وأقسمه بإذنه، فقد جعلني الله عليه قفلاً إذا شاء أن يفتحني لأعطياتكم وأرزاقكم فتحني، وإذا شاء أن يقفلني قفلني “[8] . هذا الكلام مقبول فى مجال العقيدة ولكنه فى سياسة الحكم يعنى عدم الخضوع للرقابة والمحاسبة، لقد سادت هذه المفاهيم في مجتمعات المسلمين ردحاً من الزمان فأقعدت بالأمة وعطلت من تطور النظام السياسي .

إن الاستبداد سبب جوهرى من أسباب تراجع الأمة للآتي :

أولاً : لأنه يؤدى إلى غياب الشورى. فالنظام المستبد يقوم على القوة الغاشمة، ويستمد شرعيته من التغلب بالقهر؛ فمن الطبيعي أن يهدر الشورى التي هي إحدى فرائض الإسلام السياسية، يسقطها أولاً في مرحلة الوصول إلى السلطة، ويغيِّبُها ثانياً من الممارسة السياسية وفي إدارة الحكم، وتغييب الشورى أدى إلى حرمان المسلمين من أفكار كثيرة كانت أكثر استنارة من الأفكار الظلامية التي اقترنت بعهد الاستبداد! لأن المستبد لا يقبل الرأي الذي يخالف هواه، ويقرب علماء السوء الذين يعطونه شرعية ويبررون تصرفاته، مما دفع المجتمع إلى حسم خلافاته بالعنف وسيادة منطق الغلبة بالقوة، لأن الرأي الآخر غير مسموح به، ونهج العنف هو الذي ساد واحتل أكبر مساحة في تاريخ المسلمين، مما عطل الفكر الإسلامي عن التطور وبالتالي أصبح عاجزاً عن تقديم نظرية سياسية لإدارة الدولة مكتملة الأركان تنال إجماع الأمة، وتبرز الرؤية الإسلامية للنظام السياسي تنافس الأطروحات السائدة . إن الإستبداد بالرأي نهج فرعوني ممقوت قال تعالى: ﴿قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ﴾ [ غافر : 29]

ثانياً : التطور لا يكون إلا في ظل كفالة الحريات، فمناخ الحرية يسمح بتعدد الخيارات التي تتيح للمجتمع الحكم عليها بعد المقارنة فيختار أفضلها؛ مما يفرض على المتنافسين أن يجتهدوا ليقدموا أفضل ما عندهم، غيرَ أن الإستبداد حرَم الأمة من هذه الميزة، فظلت لقرون وقرون ترى تكراراً لمنتج واحد، فتبلدت مشاعرها، وتردت أخلاقها، ومات أملها، فالإستبداد أسوأ عدو للإنسان؛ لأنه يفسد الأمزجة ويشوه الطبائع ،ويشل التفكير؛ يقول الكواكبي : ( وقد يبلغ فعل الإستبداد بالأمة أن يُحوِّل ميلها الطبيعي من طلب الترقِّي إلى طلب التَّسَفُّل! بحيث لو دُفِعَت إلى الرّفعة لأبَتْ وتألمت كما يتألم الأجهر من النور ، وإذا أُلزمت بالحرية تشقى! وربما تفنى كالبهائم الأهلية إذا أطلق سراحها . وعندئذ يصير الإستبداد كالعلق[9] يطيب له المقام على امتصاص دم الأمة، فلا ينفك عنها حتى تموت ويموت هو بموتها )[10] . وهذا ملاحظ فى كثير من الأنظمة المستبدة؛ فبعد أن تذيق شعوبها الأمرين تنهار وتنهار معها الدول التى تحكمها! فتتحول إلى قبليات متصارعة وقوميات متقاتلة.

ثالثاً : غياب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر : إن النصر على الأعداء لا يحققه إلا من انتصر على عدوه الداخلي، فروح المقاومة تُغْرس في الإنسان من خلال التربية، وقد جعل الإسلام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وسيلة للتصدي للباطل داخلياً؛ وبالتالي تكون الأمة مستعدة لمواجهة أي عدوان خارجي، ولكن عندما تُحرم الأمة من التصدي للظلم داخلياً فإنها ستكون عاجزة عن مواجهة العدوان الخارجي؛ فقد قتل الإستبداد في الأمة روح المقاومة وأفسد مزاجها، وانفرط عقدها وهزمت في كل المعارك التي خاضتها مع العدو الذي احتل ثالث مقدساتها ، وأغرب شيء أن العدو المعني تحيط به الدول العربية الإسلامية إحاطة السوار بالمعصم؛ ولو توزع المسلمون الذين يجاورون العدو كل ألف شخص ضدشخص واحد من أفراد العدو؛ عسكريين ومدنيين لخرج بعضهم دون نصيب! ، ومع كل هذا التفوق البشري لصالح الأمة؛ إلا أنها هُزمت في كل المعارك التي خاضتها مع العدو باستثناء حرب أكتوبر 1973! وحرب المقاومة اللبنانية فى تموز- يوليو2006م .إنه الهوان الذي تنبأ به رسول الله صلى الله عليه وسلم . عن ثوبان قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((يوشك أن تداعى عليكم الأمم ، كما تداعى الأكلة إلى قصعتها ، فقال قائل : أمن قلَّة نحن يومئذ ؟ قال : بل أنتم يومئذ كثير ، ولكنّكم غثاء كغثاء السّيل ، ولينزعنّ الله من صدور عدوّكم المهابة منكم، وليقذفنّ في قلوبكـم الوهـن ، فقال قائل : يا رسول الله وما الوهن ؟ قال : حبّ الدنيا وكراهية الموت ))[11]

رابعاً : الانحراف عن وسطية الإسلام : إن مناخ الكبت والقهر والخوف والإرهاب ، من شأنه أن يصنع الإحباط، والتطرف، والخوف من المستقبل،ويقتل الأمل؛ فالضغط النفسي الناشئ عن تلك الأسباب يمكن أن ينفجر في شكل ممارسات عنيفة موجهة ضد الأبرياء والضعفاء كما هو مشاهد في عالم اليوم ، قال الكواكبي : ( ومن غريب الأحوال أن الأُسَراء [المقهورين] يبغضون المستبد ، ولا يقوون على استعمالهم معه البأس الطبيعي الموجود في الإنسان إذا غضب، فيصرفون بأسهم في وجهة أخرى ظلماً : فيعادون من بينهم فئة مستضعفة، أو الغرباء، أو يظلمون نساءهم ونحو ذلك . ومثلهم في ذلك مثل الكلاب الأهلية، إذا أريد منها الحراسة والشراسة، فأصحابها يربطونها نهاراً ويطلقونها ليلاً؛ فتصير شرسة عقورة، وبهذا التعليل تعلل جسارة الأسراء أحياناً في محارباتهم، لا أنها جسارة عن شجاعة . وأحياناً تكون جسارة الأسراء عن التناهي في الجبانة أمام المستبد، الذي يسوقهم إلى الموت فيطيعونه انذعاراً كما تطيع الغنمة الذئب فتهرول بين يديه إلى حيث يأكلها )[12] وهذا يفسر لنا مظاهر العنف الكثيرة التي ما تركت بلدا اسلاميا إلا وطـالته، وهذا ينافي ما جاء به الإسلام من اعتدال ووسطية. عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( إن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه؛ فسددوا وقاربوا وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة وشئ من الدلجة ))[13] فكما أن الاستبداد يشجع على العنف؛ فهو كذلك يشجع من ناحية أخرى؛ على الغلو في الأعمال، وهو ما نهى عنه الرسول الأمين.  عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أخبروا كأنهم تقالوها [ أي  قالوا هذه العبادة بالنسبة لنا قليلة ] فقالوا أين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم ، قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. قال أحدهم : أما أنا فإني أصلى الليل أبداً، وقال آخر : أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر : أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبداً، فجـاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقـال : (( أأنتم الذين قلتم كذا وكذا ؟ أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له؛ لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني ))[14].

العامل الثاني: الصراع العدمي بين نهجي الإنكفاء والاستلاب:

      التطرف هو الوقوف عند طرفي الشئ، والفضيلة تتوسط رذيلتين، فالجبن قبيح، والتهور سيء والشجاعة وسط بينهما، والبخل ممقوت، والإسراف مذموم، والكرم يتوسطهما، قال تعالى:﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا ﴾ [ الفرقان : 67 ] وفي المجتمع الاسلامى هنالك تطرفان ضيعا الحقيقة هما: التطرف المنكفئ، والتطرف المستلب؛ لأن كلا منهما يقف عند نقطة لا تمكنه من رؤية الأشياء على حقيقتها، وكل واحد منهما يغذي الآخر! فمنهج الإنكفاء يسقط المستجدات من حساباته، ويعلب الأفكار والمفاهيم في مرحلة ماضوية، ويصر على معالجة مشاكل الحاضر بأساليب تجاوزها الزمن ! ومنهج الإستلاب منبهر بالحداثة إلى درجة تؤدي إلى كراهية الذات! ويرفض أي علاقة مع تراث الأمة، وعليه فإن بين النهجين حرباً باردة لا يطفئها إلا طريق ثالث يجسر العلاقة بين الماضي والحاضر وفق معايير منضبطة وموضوعية. وهذا الطريق الثالث هو منهج الوسطية.

منهج الوسطية والدين في حياة الإنسان

يمكن أن نقرأ منهج الوسطية من خلال رؤيته للدين في حياة الإنسان؛ ومكانة الإنسان في الإسلام، ومنهجه للتعامل مع المستجدات.

أهمية الدين في حياة الإنسان :

      الإعتقاد الديني يلازم الإنسان حيثما وجد، فهو قدر الإنسان، ومطلب من مطالبه الفطرية، فتكوين الإنسان المركب من المادة والروح؛ يجعل النزعات متعارضة، والرغبات متنوعة، مما يخلق جدلاً داخل الإنسان لا يهدأ إلا بعد أن يجد تفسيراً مقبولاً لهذا التناقض، فالإنسان بحكم تكوينه معرض لنزعات نفسية متعددة ومتعارضة ( الحزن والفرح، الغضب والرضا، الحب والكره، اليأس والأمل …الخ ) هذه الثنائيات تقلق مضجعه، وترهق ذهنه، فالإعتقاد الديني هو الوحيد القادرعلى تفسير مقنع يطمئن إليه الإنسان، قال تعالى : ﴿ الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ ﴾ [ الانعام : 82 ]  والإنسان لا يمكن أن يعيش إلا في وسط مجتمع يتبادل معه المصالح، ومن الطبيعي أن تتعارض هذه المصالح. فالدين هو القادر على تنظيم هذه العلاقات وحمل الإنسان على عدم التعدي على حقوق الآخرين؛ لأن الدين إذا استقر في نفس الإنسان سوف ينمي فيه عنصرالرقابة الذاتية، وهي إن صدقت فأثرها أكبر من الرقابة القانونية، والأجهزة الرقابية؛ قال صلى الله عليه وسلم عن الاحسان : (( أن تعبـد الله كأنك تراه؛ فإن لم تكـن تراه فإنه يـراك ))[15] . والإنسان دائماً يتطلع إلى المعرفة حيث يسعى لإدراك كنه الموجودات التي تعيش معه، ويتساءل عن هذا الكون: بدايته، ووظيفته، ومآله، وعلاقته به، هذه التساؤلات وتلك التطلعات لا يجيب عليها إلا شيء يطمئن إليه الإنسان ويصدقه، والدين هو من يقوم بهذا الدور “العقائد الدينية أعطت الإنسانية الطمأنينة النفسية، والرقابة الذاتية ( الضمير ) والتحصين الأخلاقي،  والهوية الجماعية ” [16] وعليه فإن الإنسان حيثما وجد ارتبط بعقيدة دينية؛ إما عن طريق خطاب الله له وإما عن طريق سعيه نحو المثال المطلق، والدين نشأ عن هذين الطريقين، فخطاب الله للانسان ثمرته الأديان السماوية التي ختمت برسالة الإسلام التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وسعي الإنسان نحو المثل الأعلى؛ ثمرته النحل الوضعية، وكل العقائد التي يدين بها الإنسان ويقدسها. يتضح مما سبق أن الدين له أهمية كبيرة في حياة الإنسان بل هو ضرورة نفسية وضرورة اجتماعية وضرورة كونية؛ ولايوجد مجتمع إنساني يخلو من العقيدة الدينية، وحتى أولئك الذين أنكروا الدين مالبثوا أن حولوا إنكارهم لعقيدة دينية! قال الشاعر الباكستاني الفيلسوف محمد إقبال :

إذا الإيمان ضاع فلا حياة                     ولا دنيا لمن لم يحيي دينَا

ومَن رَضِيَ الحياة بغير دِين                  فقد جعل الفناء لها قرينَا

تُسانِدُها الكواكب فاستقرَّتْ                   ولولا الجاذبيَّة ما بَقِينَا

وفي التوحيد للْهِمَمِ  اتحادٌ                    ولن نصل العلا متفرِّقينَا

وأكد القرآن الكريم هذا المعنى قال تعالى : ﴿ وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ ﴾ [ الجاثية : 24 ]

مكانة الإنسان في الإسلام :

      الإنسـان في الإسـلام مخلوق مكرم لمجرد إنسانيته؛ قال تعالى : ﴿ ولَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً ﴾ [ الاسراء: 70 ] والناس في الإسلام متساوون لا تفاضل بينهم بسبب اللون، أو النوع، أو العرق، أو الطبقة؛ وبالتالي فهم متساوون في الحقوق والواجبات في الدنيا؛ وأما التفاضل بالأعمال والعقيدة فهو في الآخرة؛ قال تعالى : ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ﴾ [ الحجرات : 13 ] والتشريعات الإسلامية جاءت لمصلحة الإنسان، ملبية لحاجاته؛  والتكريم الإسلامي للإنسان يظهر في الحقائق الآتية :

أولاً :  قصة الخلق ؛ إن خلق الانسان تميز بالخصوصية والإصطفاء؛ حيث سواه الله بيده، ونفخ فيه من روحه، وأمر الملائكة بالسجود له؛ تكريما له، وإعلاء لقدره، قال تعالى : ﴿ إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِن طِينٍ  فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ  فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ ﴾ [ ص :70 – 73 ] .

ثانياً :  قضية التكليف ؛ الإنسان خلق مختلفا عن المخلوقات الأخرى؛ مشاركا لها في بعض صفاتها ومتميزاً عليها بالعقل، والحرية، والإرادة، والبيان؛ هذه الخصائص أهّلته للقيام بأمر الاستخلاف في الأرض دون بقية المخلوقات؛ قال تعالى : ﴿ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ  وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ  قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ  قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَآئِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ ﴾ [ البقرة : 30 – 33 ] .

ثالثاً :  تسخير الكون لخدمته ؛ النظرة العميقة تبين أن الكون كله مسخر لخدمة الإنسان؛ فالأرض ذُلِّلَتْ ليمشي الإنسان في مناكبها ويأكل من رزق الله، والسموات جُعلت سقفاً محفوظاً، والشمس ترسل أشعتها لتضيء الأرض، وتنمي النبات، وتقتل الجراثيم، وليعلم الإنسان عدد السنين والحساب، وجعل الله القمر نوراً؛ يبدّد ظلمات الليل، والنجوم خُلقت ليهتدي بها الإنسان في أسفاره، قال الإمام المهدي : ” اللهم  إنا نسألك بسر وحدانيتك،  وبسر قدرتك على كل شيء وبسر ذاتك القائمة بكل شيء، أن تقذف في قلوبنا معرفتك وكمال حبك  ياذا الجلال والإكرام،  وأن تشوقنا إليك إذ أنت الذي أنعمت علينا بإخراجنا من العدم، فخلقتنا في أحسن تقويم، وخصصتنا بما لا نقدر على عده من التكريم ، وأريتنا في أنفسنا ما لا يقدر عليه غيرك، مما يدل على انفرادك، والشوق اليك، وجعلت لنا من بين أيدينا ومن خلفنا ومن فوقنا ومن تحتنا  نعماً لا يحيط بها فكرنا، ودللتنا إلى حب ذاتك التي احتوت على جميع الخيرات، وعرّفتنا بآياتك ما خفي من الأنوار، فكانت ظاهرة لأولي الألباب والأخيار ، ولا تخفى عظمتك باستيلائك على كل شيء مع الرحمة  الظاهرة  الكاملة؛  إلا على خفاش ينكر ظهور ضوء النهار “[17]  قال تعالى : ﴿ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ  وَسَخَّر لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَآئِبَينَ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ  وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإنسان لَظَلُومٌ كَفَّارٌ ﴾ [ ابراهيم : 32 – 34 ] .

رابعاً :  كفالة حقوقه ؛ إن حقوق الإنسان محترمة في الإسلام؛ وهي حقوق مكفولة  لكل الناس؛ حتى أولئك الذين يرفضون الإسلام ويعادونه؛ لأن الدين يقوم على الإختيار وليس على الإكراه، والإيمان لا يعطي المؤمنين حق التعدي على حقوق الآخرين؛ بل دافع الإسلام عن الكافرين به وأدان من آمن به عندما اعتدى المؤمن على حقوق غير المؤمن! لأن التشريع الإسلامي جاء داعياً لبسط العدل مع كل الناس، ونهى عن الظلم والعدوان، ولذلك نجد القرآن دافع عن اليهودي وبرّأه، وأدان المسلم؛ لأن معيار العدل واحد؛ يطبق على كل الناس؛ فعندما سرق طعمة بن أبيرق – أحد بني ظفر من الأنصار – درعاً وانكشف أمره؛ جاءت عشيرته إلى رسول الله تطلب إلحاق التهمة باليهودي وتبرئة المسلم! لأن اليهودي حسب ظنهم لاحرمة له في مقابل المسلم! وتصحيحا لهذا الفهم الخاطئ؛ أنزل الله سبحانه وتعالى تسع آيات تبرئ اليهودي وتدين المسلم؛ وتطلب من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يستغفر الله لاستماعه إلى عشيرة طعمة! ولاعتقاده أن المسلم ربما يكون صادقاً قبل التحقيق؛ جاء النص القرآني مبيناً للعالم كله؛ أن من اكتسب إثماً فإنما يكسبه على نفسه، وأنه لا ربط بين الإسلام وبين تجاوزات المنتمين إليه . قال تعالى : ﴿ إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ وَلاَ تَكُن لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيمًا  وَاسْتَغْفِرِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا  وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا  يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا  هَاأَنتُمْ هَؤُلاء جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَن يُجَادِلُ اللّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَم مَّن يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً  وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللّهَ يَجِدِ اللّهَ غَفُورًا رَّحِيمًا  وَمَن يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا  وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا  وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّت طَّآئِفَةٌ مُّنْهُمْ أَن يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاُّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَيْءٍ وَأَنزَلَ اللّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا ﴾ [ النساء : 105 – 113]  فهذه دعوة صريحة بأن الإختلاف مع الآخر أيا كانت عقيدته؛ لا يسقط حقه في العدالة ، وأنَّ الإنتماء للإسلام لا يعطي حصانة للمسلم عندما يرتكب المحظور، لا بد من تصحيح النظرة التي تحرم المخالف من كل فضل وتضخم الذات بدون جهد .

خامساً :  إحاطته بالرحمة؛ فالإسلام دين الرحمة، ورسوله جاء رحمة مهداة، والله سبحانه وتعالى أرحم بنا من أمهاتنا، وتجلت مظاهرالرحمة في كثير من الأحكام والتعاليم، منها التدرج في الأحكام مراعاة للبيئة المحيطة، ومنها التخفيف في الأحكام مراعاة للطاقة البشرية، والعفو عن الصغائر، وقبول التوبة، ومضاعفة الحسنات، وإذهاب السيئات بها؛ فالإسلام رحمة كله قال تعالى :  ﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾  [ الزمر : 53 ]  إن مكانة الإنسان في الإسلام عظيمة؛ عليه أن يدركها ويحصنها بالشكر والعمل الصالـح قال تعالى : ﴿ قُتِلَ الإنسان مَا أَكْفَرَهُ  مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ  مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ  ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ  ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ  ثُمَّ إِذَا شَاء أَنشَرَهُ  كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ  فَلْيَنظُرِ الإنسان إِلَى طَعَامِهِ  أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاء صَبًّا  ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا  فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبًّا  وَعِنَبًا وَقَضْبًا  وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا وَحَدَائِقَ غُلْبًا  وَفَاكِهَةً وَأَبًّا مَّتَاعًا لَّكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ ﴾ [ عبس : 17 – 32 ]

منهج الوسطية و التحديات

أولا: التعامل مع الوافد من الماضي:

الوافد من الماضي قسمان وحي، واجتهاد بشري في فهم نصوصه. قال المقلدون إن السلف قد انبروا لنصوص الوحي وبوسائل الاجتهاد الصحيحة من قياس وإجماع؛ استنبطوا المبادئ والأحكام؛ فصارت ملزمة للكافة. وقال المنبهرون بالوافد من الحاضر: إن الزمن قد تجاوز رسالة الإسلام، ولكي ننهض فإن علينا أن نتمسك بالحضارة الحديثة؛ لأنها تمثل مستقبل الإنسانية. والمنهج الوسطي قال: إن القطعي، ورودا ودلالة من حقائق الوحي، ملزم للكافة، ولكن بعض مفردات الوحي ظنية الورود كما في أغلب السنة، وبعضها ظنية الدلالة كما في القرآن والسنة. ونصوص الوحي نفسها توجب على الناس تدبرها، معتبرين المقاصد، ومستخدمين الحكمة، والعقل، والمنفعة، والإلهام، والسياسة الشرعية، تحقيقا للتوفيق بين الالتزام بقطعيات الوحي واستصحاب المستجدات.

ثانيا: التعامل مع الوافد من الخارج

المنكفئون يرون أن هدينا محيط بكل شيء؛ ولذلك لايحتاج إلى عطاء إنساني. والمستلبون يرون عكس ذلك تماما. و الموقف الوسطي يقول: إن كتابنا المسطور نفسه وسنة النبي، صلى الله عليه وسلم، يؤكدان وجود إخاء إنساني، وإخاء كتابي؛ يفتح باب المقارنة والمقاربة؛ ويؤكدان أن الكون نفسه كتاب منشور أودعه الله فيه سننا؛ (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ)[الحجر: 85] والإنسانية مكلفة باكتشاف تلك السنن لمعرفتها وتسخيرها. وأنه تكليف للإنسان كل الإنسان مهما اختلفت ملله ونحله، فتبادل المعرفة مطلوب، ووسائل تسخيرها متاحة للناس أجمعين.

ثالثا: اختلافات أهل القبلة

واقع الحال هو أن أهل القبلة مختلفون فرقا ومذاهب واجتهادات. بعض أهل القبلة ينطلق من عبارة الفرقة الناجية ويدعيها لنفسه؛ ويستشهد بنصوص قرآنية معينة يخرجها عن سياقها؛ وعلى أساسها يصدر أحكام التكفير للفرق والمذاهب الأخرى. أهل الشهادة بموجبها أمة واحدة وهنالك قطعيات يؤمنون بها جميعا ويختلفون فيما عداها.

إن اختلافات أهل القبلة نوعان: نوع اختلاف اجتهادي له ما يبرره؛ واختلاف اجتهادي قائم على سوء الفهم. هذا النوع ينبغي أن يجرى فيه حوار جاد؛ لتوسيع دائرة الوفاق. ونوع من الاختلاف يصعب تجاوزه. هذا النوع ينبغي أن يعذر الجميع بعضهم بعضا فيما اختلفوا فيه. منهج الوسطية يقول:  الواجب على علماء الأمة ومفكريها إجلاء هذه الأمور وإصدار نداء المهتدين المؤسس لإخائهم.

رابعا: الموقف من الإصلاح السياسي

الشورى هي ديمقراطية مرتبطة بسقف شرعي. والديمقراطية هي شورى مرتبطة بمؤسسات تضبطها؛ والاثنان يتفقان على أربعة مبادئ: المشاركة ـ المساءلة ـ الشفافية ـ سيادة القانون. هذه المبادئ هي المطلوبة للحكم الراشد. والوسطية تؤمن بالحكم الراشد وتعمل لتحقيقه بحيث تصير النظم الملكية ملكية دستورية، والنظم الجمهورية جمهورية ديمقراطية.

خامسا: الإصلاح الاقتصادي

التنمية البشرية التي تحقق نموا اقتصاديا، وتوفيرا للخدمات الاجتماعية، وتوزيعا عادلا للثروة؛ هدف إسلامي مثلما هي هدف إنساني والوسطية تتطلع لها وتعمل على تحقيقها.

سادسا: العلاقة مع الآخر الملي والآخر الدولي

الإسلام يعترف بالتعددية الدينية، والتعددية الدولية؛ والفهم الهجومي المقترن بجهاد الطلب؛ فهم انتقائي لأحكام الإسلام قال تعالى: (لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ)[الممتحنة:8] والإسلام يوجب الالتزام بالعهود مهما اختلفت العقائد. الوسطية تقول إنّ واجبنا التسامح والتعايش مع الملل الأخرى على أساس المعاملة بالمثل، كما أن علينا التعاون مع الدول الملتزمة بالعدالة والسلام. وأما المعتدين والمحتلين فالواجب الديني والقانوني هو التصدي لهم ( أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ)[الحج:39]

سابعا: الإرهاب

عبارة إرهاب ترجمة غير صحيحة للمعنى، والصحيح هو الإرعاب. الوسطية تقول: إنّ العنف في الإسلام له ضوابط هي: أن يوجه ضد الظلم والعدوان، وألا يطول الأبرياء. وأن مقصده حماية حرية العقيدة والدعوة وحماية المقدسات لكل الأديان؛ الإسلام براء من إرعاب خال من هذه الضوابط.

ثامنا: العلمانية

العلمانية اشتقاق على غير قياس من العالم؛ وهي نحلة ترى أن الحقيقة مستمدة من عالم الشهادة وحده؛ أي العالم الزماني المكاني. العلمانية بهذا الفهم تناقض الدين. ولكن التجربة زحزحت العلمانية من هذا الفهم المتعدي. العلمانية المعتدلة تلتقي مع الوسطية في كفالة حرية الأديان، وكفالة حقوق المواطنة للكافة، والتناوب السلمي على السلطة عبر انتخابات حرة.

تاسعا: العولمة

العولمة تمثل حلقة جديدة من إنجاز الإنسان؛ نتيجة لثورة المعلومات والاتصالات والسوق الحر. ولكن في الظروف الحالية في العالم؛ فإن القوة الاقتصادية، والإستراتيجية، والإعلامية؛ جيرت العولمة لصالح الولايات المتحدة فصيرتها أمركة. الوسطية توجب التعامل الإيجابي مع العولمة والاحتماء من الأمركة، والحرص على الخصوصية الثقافية.

هكذا فإن منهج الوسطية يسعفنا في التعامل مع هذه القضايا الهامة وغيرها، والنتيجة دعوة للتحرر من التقليد، ومن الاستلاب، ومن الهيمنة الأجنبية، ومن الحكم الاستبدادي.[18]

الفصل الثالث:  نظرة موضوعية

      لقد جاء الإسلام بمفاهيم صححت كثيرا من المعتقدات والممارسات التي كانت سائدة في الحياة الجاهلية، فالشرك صحّحه بالتوحيد، والظلم الاجتماعي صحّحه بالعدالة الاجتماعية، والتمايز الطبقـي صحّحه بالمساواة، وهكذا في كل شئون الحياة كان الإسلام ينقض الأساس القديم الظالم ويحل محله أساساً جديداً أصلح للانسان؛ فاستطاع أن يُغير الأوضاع ويتمدد على ربوع الأرض المعمورة في زمن وجيز، وبصورة فاقت ما حققته اليهودية والنصرانية في قرون ! لقد كان الإسلام بلسماً عالج جراحات وآلاماً عانى منها المستضعفون والمقهورون زمناً طويلاً، ورفد الإنسانية بمبادئ حققت في الكون عدلاً وتسامحاً في العلاقات البشرية، ونهضة في العلوم والمعارف، ورحمة للعالمين في جميع نواحى الحياة، غير أنّ هذا العطاء بدأ في التناقص والتراجع لعدة أسباب أهمهاالنظرة الخاطئة للإختلاف.

لقد هيمنت على الأمة مفاهيم تضخم من الخلافات داخل الملة، وتخرجها من مجال الإجتهاد المأجور صاحبه في الحالتين – إن أخطأ وإن أصـاب- إلى مجال الخلاف بين حق وباطل، وبين هدى وضلال، وأُوِّلَت نصوص كثيرة تأويلاً يعمق الخلاف بين الأمة ويغير طبيعته، وفُسِّرت نصوص السنة التي تحدثت عن إختلاف الأمم تفسيراً حصر معنى الأمة في المسلمين، مع أن كلمة الأمة تحتمل بعداً أوسع يدخل فيه كل الذين عاشوا في عصر الرسالة الخاتمة؛ باعتبارهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم، ويتوزعون بين أمة البلاغ وأمة الإجابة، بهذا الفهم الواسع نستطيع إدراك معنى الأحاديث التي تناولت موضوع الإختلاف الذي سيعتري الأمة وتكون الناجية فرقة واحدة والباقـون هلكى! مع أن علماء الحديث تحفظوا على صحة الحديث؛ لأنه يناقض نصوصا محكمة أكدت أن الخير باق في هذه الأمة حتى قيام الساعة؛  عليه ينبغي أن نحدد أولاً طبيعة الإختلاف داخل الملة الإسلامية والعوامل المؤدية إليه؛ حتى يحصر في إطاره .

طبيعة الإختلاف داخل ملة الإسلام :

الخلاف والإختلاف بمعنى واحد؛ هو المغايرة . وهنالك نوعان من الإختلاف هما: اختلاف التنوع، واختلاف التصادم . اختلاف التنوع  محمود؛ لأنه يقوم على التخصص، والتكامل؛ ينطلق من مرجعية واحدة، يهدف لتحقيق غاية واحدة . وأقرب مثل لإختلاف التنوع نجده في اختلاف وظائف الأعضاء في الجسد الواحد؛ فالعينان للنظر، والأذنان للسمع، والانف للشم، واللسان للتذوق، واليدان للبطش، والرجلان للسعي؛ وكلها تعمل في تكامل لخدمة صاحبها، وتحقيق مصلحته؛ بل إذا تعطلت وظيفة أي عضو اختل البناء الإنساني. ومن أمثلة إختلاف التنوع في الإسلام إختلاف أبي بكر وعمر رضي الله عنهما حول التعامل مع أسرى بدر؛ فأبو بكر دعا للعفو وعمر دعا لقتلهم؛ واختلاف الصحابة في كثير من المواقف .

       أما اختلاف التصادم فهو مذموم؛ لأنه يتحول الى نزعة اقصائية متعصبة وحاقدة؛ لا يرى صاحبها الحق إلا ما وافق هواه . فيحصل النزاع والشقاق؛ مما يؤدى إلى إضعاف الأمة وذهاب ريحها كما أوضح القرآن الكريم : ﴿ .. وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾[الأنفال :  46] .

العوامل الموضوعية للإختلاف :

      الإنسان خلق حراً ذو إرادة، وهذه الحرية تعطيه القدرة على الإختيار بين البدائل، فالقرآن يشير إلى أنّ الإختلاف بين الناس وراؤه حِكمة إلهية؛ لأن الله سبحانه وتعالى منزّه عن العبث في أفعاله؛ قال تعالى : ﴿ وَلَـوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ  إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ  وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ  وَقُل لِّلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ  وَانتَظِرُوا إِنَّا مُنتَظِرُونَ  وَلِلّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّـلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِـلٍ عَمَّـا تَعْمَلُونَ ﴾ [ هود : 118 – 123 ] .

والإختلاف الذي حدث ويحدث داخل ملة الإسلام هنالك أسباب موضوعية تجعله مبرراً بل وضرورياً في بعض الأحيان؛  لأن الشعوب التي يخاطبها دين الإسلام شعوب مختلفة العادات والطبائع والأعراف والتقاليد ، وعالمية الإسلام تعني مخاطبته لكل العالمين، وهم يعيشون في بيئات مختلفة، وأحوال مختلفة، وأزمان متعاقبة، فلا بد للدين الخاتم أن يستجيب لهذا الإختلاف وهذا التنوع؛ لأن هذه الإستجابة من شروط عالمية الدين وخلوده. والعوامل التي تجعل الخلاف الإجتهادي في داخل الملة واقعاً حتمياً ومشروعاً كثيرة أذكر منها الآتي :

أولاً : اللغة :

      مصدر التشريع الأول في الإسلام هو القرآن الكريم؛ وقد نزل باللغة العربية الفصيحة، والعربية حبلى بالمعاني؛ فقد تحمل الكلمة الواحدة أكثر من معنى، وتعدد المعاني يؤدى لاختلاف الأحكام. من ذلك مثلا: وردت في القرآن الكريم عدة المطلقة في قوله تعالى : ﴿ وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُواْ إِصْلاَحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكُيـمٌ ﴾ [ البقرة : 228 ] القروء : جمع قرء، والقرء له معنيان : فالقرء بمعنى الحيض؛  والقرء بمعنى الطهر من الحيض. فمن أخذ القرء بمعنى الحيض أفتى بأن المرأة المطلقة تخرج من عدتها بمجرد دخولها في الحيضة الثالثة . ومن أخذ القرء بمعنى الطهر من الحيض فالحكم عنده أن المرأة المطلقة لا تخرج من عدتها إلا بعد طهرها من الحيضة الثالثة. فهنا نجد أن اختلاف الحكم راجع إلى تعدد المعنى في اللغة .

ثانياً : اختلاف القراءات :

القرآن نزل على سبعة أحرف؛ أي أن صيغ المفردات اللغوية، والتعبيرات داخل اللغة العربية التي نزل بها القرآن سبعة؛ وعلى هذا الأساس جاء اختلاف القراءات. فمثلاً جاء في سورة المائدة في قوله تعالى : ﴿  يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُواْ وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مَّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [ المائدة : 6 ] قرأ نافع وابن عامر والكسائي وحفص: ((وَأَرْجُلَكُمْ)) بنصب اللام عطفاً على الأيدي، فالأيدي تُغسل والأرجل تُغسل على هذه القـراءة. وقرأ أبوعمرو بن العـلاء وحمـزة وشعبة (( وَأَرْجُلِكُمْ)) بجر اللام عطفاً على الرؤوس؛ فالرأس يُمسح والأرجل تُمسح على هذه القراءة، وقال الجمهـور : إنَّ جرَّ أرجلكم جاء على الجوار والإتباع . وحمزة والكسائي في قوله تعالـى: ﴿ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء ﴾ قرآها (( أو لمستم النساء )) فالحكم يختلف بين اللمس والملامسة .

كذلك قرأ حمزة والكسائي في قوله تعالى : ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ ﴾ [ الحجرات : 6 ] قرآها (( فَتَثَبَّتُوا )) بدَل (( فتبينوا )) وهنالك فرق في الحكم بين التثبت والتبيّن؛ فالتثبت يعنى الإنتظار حتى تتضح الحقيقة والتبين يوجب البحث لمعرفة الحقيقة .

ثالثاً : السنة النبوية :

      قُسِّمَت السنة الى ثلاثة أقسام كبيرة تحتها فروع، هي : السنة المتواترة، والسنة المشهورة، وسنة الآحاد، وقد اختلف الأصوليون حول السنة لأسباب ترجع بعضها إلى الرواية : من حيث الجرح والتعديل، فقد يكون الراوي ثقة عند بعض علماء الحديث، وقد يُجَرِّحُه عالم آخر لعلة ظهرت له، وقد يصح السند عند بعضهم فيُقبل ، وقد لا يصح عند آخرين فيُرد، ومن حيث الدراية فقد يقبل الحديث من حيث الرواية، ويرد دِرَاية؛ لأنه يناقض أصلاً أقوى منه، وبعض أسباب الأختلاف ترجع إلى الناسخ والمنسـوخ؛ فقد يقف أحد الفقهاء على حديث ناسخ لحديث لم يقف عليه غيره، وقد يكون الخلاف حول حجية حديث الآحاد ونطاق تطبيقه، وتوجد أسباب كثيرة في هذا المجال تعرض لها الأصوليون في مظانِّها، كما أنّ السنة لم تدون بصفة رسمية إلا في القرن الثاني الهجري في عهد الخليفة عمر بن عبد العزيز؛ والأحاديث جاء تصنيفها من حيث الصحة والحسن والضعف والدرجة؛ وفقاً لمناهج علماء الحديث؛ وهي مناهج من وضع المجتهدين. والسنة ليست على مرتبة واحدة : ففيها القطعي ، وأغلبها ظني ، والأحاديث جاءت متفرقة حسب الحوادث على مدى ثلاثة وعشرين عاماً، ولم تُرَتَّب ترتيباً زمانياً بل حسب موضوعاتها، وبعض الناس سمعوا حديثاً في زمن ما وتفرقوا في الأمصار وربما أتى حديث لاحق ناسخ للسابق ولم يسمعوا به . وهذا ما دعا الإمام مالك أن يقول للمنصور عندما رأى أن يلزم  الناس بالموطأ؛ قال له : ( يا أمير المؤمنين لا تفعل هذا، فإن الناس قد سبقت لهم أقاويل، وسمعوا أحـاديث ، ورووا روايات، وأخذ كل قوم بما سبق إليهم ، وأتوا به من اختلاف الناس، فدع الناس وما اختار أهل كل بلد منهم لأنفسهم.. )[19] . فالإمام مالك بهذا يقر بحق الآخر المختلف، ويجد له مسوغا مشروعاً، ولا يهمل اختلاف البلدان وما يتبعه من إختلاف العادات والطبائع، ويفهم من كلامه أنه يتمتع بسعة أفق وسماحة غابت عن المتأخرين من بعض أتباع مذهبه الذين عبر عنهم صاحب جوهرة التوحيد بقوله :

           ومالك     وسائر  الأئمة        كذا   أبو القاسم هداة الأمة

           فواجب تقليد حبرمنهم           كذا حكى القوم بقول يفهم[20]

والسنة جاءت متنوعة؛  فهناك سنة تشريعية ؛ وأخرى تصنف ضمن العادات البشرية، وأخرى تعتبر من الخصوصيات النبوية؛ وهي تنقسم الى أربعة أقسام : وحي، وفتيا، وقضاء، وسياسة شرعية، فالوحي والفتيا سنة تشريعية ملزمة للأمة؛ والقضاء أصدره الرسول بحسب حيثيات القضية والبينات التـي ظهـرت له، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم : (( إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إليَّ ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضى له على نحو ما أسمع فمن قضيت له بحق أخيه شيئاً فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار ))[21] . والسياسة الشرعية تقوم على المصلحة والتقدير الظرفي في الوقت المعين والزمان المحدد والحالة المعاشة؛ لأن الظروف تتغير والأحكام تتغير تبعاً لتغير أحوالها وأزمانها وقد لخص هذا الأمر الإمام المهدي بقوله : ” لكل وقت ومقام حال ولكل زمان وأوان رجال [22] .

رابعاً : مصادر التشريع :

      أجمع المسلمون على أن الكتاب والسنة هما المصدران الأساسيان للتشريع في الإسلام، واستنبطوا منهما المصادر الأخرى كالإجماع، والقياس؛ هذه المصادر تعتبر مصادر أصلية عند أهل السنة، وهناك مصادر فرعية: كعمل أهل المدينة، والإستصحاب، وشرع من قبلنا، والإستحسان، والمصالح المرسلة، وغيرها من المصادر الفرعية المعروفة. هذه المصادر الفرعية اختلف الفقهاء حولها بين مضَيِّقٍ ومُوَسِّعٍ ومقدم ومؤخر، وهنالك أصول منسوبة لأئمة الفقه هي في الواقع مُخَرَّجَةٌ على أقوالهم، هذا الإختلاف حول مصادر التشريع أدى إلى اختلاف في الفتاوى والآراء .

خامساً : مشروعية الإجتهاد :

لقد أقرّ الإسلام الإجتهاد وحث عليه؛ فقد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرّ اجتهاد صحابته في حياته في مواضع شتى؛ فقد استمع رسول الله صلى الله عليه وسلم لآراء متباينة من صحابته فلم يُعَنِّفْهُم؛ بل تقبل ذلك برحابة صدر واحترام . قال الإمام أحمد : حدثنا أبو معاوية حدثتا الأعمش عن عمرو بن مرة عن عبيدة عن عبد الله قال : لما كان يوم بدر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( ما تقولون في هؤلاء الأسرى ؟ قال : فقال أبو بكر : يا رسول الله قومك وأهلك استبقهم واستأن بهم لعل الله أن يتوب عليهم. وقال عمر : يا رسول الله أخرجوك وكذبوك قربهم فاضرب أعناقهم . قال : وقال عبد الله بن رواحة: يا رسول الله انظر واديا كثير الحطب فأدخلهم به ثم أضرمه عليهم نارا . قال : فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يرد عليهم شيئا. فقال ناس يأخذ بقول أبي بكر، وقال ناس يأخذ بقول عمر، وقال ناس يأخذ بقول عبد الله بن رواحة. فخرج عليهم فقال : إن الله لَيُلِينَ قلوب رجال فيه حتى تكون ألين من اللبن ، وإن الله ليشد قلوب رجال فيه حتى تكون أشدّ من الحجارة، وإن مثلك يا أبا بكر كمثل إبراهيم قال : ﴿..فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ [ ابراهيم : 36 ]  ومثلك يا أبا بكر كمثل عيسى قال : ﴿ إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [ المائدة : 118 ] وإن مثلك يا عمر كمثل نـوح قـال : ﴿ رَّبِّ لَا تَـذَرْ عَلَـى الْأَرْضِ مِنَ الْكَـافِرِينَ دَيَّــارًا ﴾ [ نوح : 26] وإن مثلك يا عمر كمثل موسى قـال : ﴿ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْـدُدْ عَلَى قُلُوبِهِـمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ ﴾ [ يونس : 88 ] أنتم عالة فلايبقين أحد إلابفداء أو ضربة عنق))[23]، وقد طبق المسلمون الإجتهاد في مراحل متعددة من تاريخهم، ذكر الشعبي عن شريح أنه قال : قال لي عمـر : ( اقض بما استبان لك من كتاب الله، فإن لم تعلم كل كتاب الله فاقض بما استبان لك من قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن لم تعلم كل أقضية رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاقض بما استبـان لك من أئمة المهتـدين، فإن لم تعلم كل ما قضت به أئمة المهتدين، فاجتهد رأيك واستشر أهل العلم والصلاح )[24]  ففي كلام عمر مرونة شديدة؛ حيث طلب من شريح أن يقضي بما استبان له، ومعلوم أن الإستبانة نسبية، فقد يستبين الأمر للإنسان في وقت ولا يستبين له في وقت آخر، وأوضح نص على مشروعية الإجتهاد قوله صلى الله عليه وسلم : ((إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر ))[25] كذلك يفهم معنى الإجتهاد من قوله تعالى: ﴿ .. فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ ﴾ [ الحشر : 2 ] فمن الطبيعي أن تختلف اجتهادات الفقهاء وفقاً لظروف كل فقيه وقدرته على الإستنباط والبيئة التي عاش فيها؛ خاصة وأن الإسلام أعطى المجتهد أجرين إن أصاب، وأجراً واحداً إن أخطأ، ما دام ملتزماً بشروط الإجتهاد .

سادسـاً : إقرار الرسول للإختلاف النوعي والمحافظة عليه في إطاره :

كان كثير من الصحابة رضوان الله عليهم فقهاء مجتهدون، واختلفوا حتى في حياته صلى الله عليه وسلم في مواقف كثيرة أقرّهم عليها، وأشهر تلك المواقف اختلاف أبي بكر وعمر حول التعامل مع أسرى بدر، كما سبق. واختلافهم في صلح الحديبية، واختلافهم في الخروج من المدينة في غزوة أحد، واختلافهم في صلاة العصر عندما أمروا ألا يصلوا إلا في بني قريظة، كما أن كل واحد منهم تميز بصفة دون غيره حتى اشْتُهِر بها، ومع مرور الزمن صارت الصفات الفردية والإهتمامات الشخصية مدارس داخل الأمة ؛ قال صلى الله عليه وسلم : (( أرحم هذه الأمة بها أبو بكر، وأقواهم في دين الله عمر، وأفرضهم زيد بن ثابت، وأقضاهم علي بن طالب، وأصدقهم حياءً عثمان بن عفان، وأقرؤهم لكتاب الله أبي بن كعـب، وأبو هريرة وعـاء من العلـم، وسلمـان عالم لا يدرك، ومعاذ بن جبل أعلم الناس بحلال الله وحرامه، وما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء من ذي لهجة أصدق من أبي ذر، ولكل أمة أمين وأمين هذه الأمة أبوعبيدة بن الجراح ))[26] .

      والمدارس الفقهية تطورت من مناهج فردية للصحابة الفقهاء حسب البيئات التي عاشوا فيها والخلفيات الثقافية لكل واحد منهم؛ فأصبحت مع مرور الزمن مذاهب فقهية، واشتهر عند الفقهاء تشدد ابن عمر، ووسطية ابن مسعود، ورخص ابن عباس.

سابعاً : المستجدات :

كما هو معروف فإن النصوص متناهية والحوادث غير متناهية، والممارسة العملية تبرز تحديات تحتاج إلى معالجة، واجه هذا التحدي الصحابة يوم وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم فاختلفوا هل مات الرسول أم لم يمت؟ وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه من أشهر الرافضين للقول بموت الرسول وجرّد سيفه قائلاً : إنه سيضرب كل من يقول إن الرسول قد مات، حتى جاء أبو بكـر رضي الله عنه وتلى الآية : ﴿ وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ ﴾ [ آل عمران : 144]. وبرر عمر موقفه ذلك بقولـه لا بن عباس في خلافته : ( يا ابن عباس هل تدري ما حملني على مقالتي التي قلت حين توفي رسول الله ؟ قـال : قلت لا أدري يا أمير المؤمنين أنت أعلم، قال: فإنه والله ما كان الذي حملني على ذلك إلا أني كنت أقرأ هذه الآية : ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا.. ﴾ [ البقرة : 143 ] . فوالله إن كنت لأظن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سيبقى في أمته حتى يشهد عليها بآخر أعمالها؛ فإنه الذي حملني على أن قلت ما قلت )[27] ؛ إذاً فهو لم يقف موقفه ذاك لأنه صدِمَ فحسب؛ ولكنه قاله عن فهم واجتهاد، فلما ظهرت له الحقيقة امتثل لأمر الله. كذلك اختلفوا في مكان دفن الرسول صلى الله عليه وسلم حتى حسم ذلك أبو بكر بقوله : سمعت من الرسـول يقول : ( ما قُبِضَ نَبِيٌّ إلا دفن حيث قبض؛ فرفع فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي توفي فيه فحفروا له تحته )[28] . كذلك اختلفوا في أمر خلافته : ( فقال الأنصار أنهم أحق بخلافته؛ لأنهم آووه ونصروه وقبض عندهم . وقال المهاجرون إنهم أحق بها؛ لأ نهم أهل السبق في الإسلام، وأنهم هاجروا معه وتركوا أموالهم وديارهم نصرة للدين؛ وأن العرب لا تدين إلا لقريش. وغضب بنو هاشم لأنهم غُيِّبُوا عن الشورى لانشغالهم بتجهيز جثمانه صلى الله عليه وسلم )[29] واختلفوا حول مانعي الزكاة هل يحاربونهم أم لا ؟ واختلفوا في تقسيم الخراج .. وهكذا فرضت المستجدات واقعاً جديداً اقتضى اجتهاداً لمواجهة تحدياته وقضاياه التي لم تكن موجودة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم؛ وخلاصة القـول : أن هنالك أسبابا موضوعية ـ سبق ذكرها ـ  تجعل الإختلاف أمراً حتمياً وضرورياً. ولهذا الإختلاف فوائد كما يقول الدكتور : طه بن جابر العلواني منها : ( أنه يتيح التعرف على جميع الإحتمالات التي يمكن أن يكون الدليل قد رمى إليها بوجه من وجوه الأدلة. وثانياً: إنه يتيح رياضة للأذهان وتلاقحاً للآراء، ويفتح مجالات التفكير للوصول إلى سائر الإفتراضات التي تستطيع العقول المختلفة الوصول إليها. وثالثاً : إنه يتيح تعدد الحلول أمام صاحب كل واقعة ليهتدي إلى الحل المناسب للوضع الذي هو فيه بما يتناسب مع يسر هذا الدين الذي يتعامل معه الناس من واقع حياتهم )[30] . إنها فوائد يؤكدها الإنتاج الفقهي والفكري الذي تذخر به الساحة الإسلامية، ويصدقها الواقع الذي أفرز قضايا معقدة تمكن الفقهاء من التعامل معها .

       إن الإختلاف بهذا الفهم ضرورة إسلامية؛ ولكنه يصبح وبالاً عندما يتحول إلى شقاق وفجور في الخصومة؛ وهذا ما حدث في عصر الخوارج وعصرنا هذا؛ حيث تصدى للفتوى من لا فقـه له ففرض على الناس فهماً قاصراً وحاكمهم على أساسـه. وحمل لواء الإسلام الغلاة ففضلوا وأضلوا وشوهوا ديباجة الإسلام الوضاءة .

إن اختلاف الناس حول الحوادث المعاصرة – مثل الإستفادة من تجارب الآخرين، والتعامل مع غير المسلمين، والأخذ بالنظم الحديثة التي أنتجها العقل البشري؛ كالديمقراطية، والأحزاب، ومنظمات المجتمع المدني، وكذلك الموقف من المرأة، والفن، والرياضة، والنظم الاقتصادية- وأخيراً الإختلاف حول الجهاد؛ كل هذه الإختلافات وغيرها ترجع الى منهج كل جماعة وطريقة تفكيرها ورؤيتها للخلاف. فمنهم من يضعه في إطاره النوعي، ومنهم من يغالي فيرفع سقفه فيُحِيله إلى خلاف بين حق وباطل! ولكن العلماء الربانيين يفهمون طبيعة هذا الاختلاف ويتعاملون على أساسه في كل الظروف، سأل بعضهم علي بن أبي طالب عن أهل الجمل الذين حاربوه : ( أمشركون هم ؟ فقال رضي الله عنه : من الشرك فرّوا . قال : أمنافقون هم ؟ قال : إن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلاً. فقال له السائل: من هم إذن ؟ قال كـرّم الله وجهه : إخواننـا بغوا عليـنا !! )[31] . فبالرغم من أنه الخليفة المبايع من جمهور الأمة، وقد خرج عليه أهل الجمل وشقوا عصا الطاعة، وفرّقوا كلمة الأمة، وسالت دماء كثيرة؛ لكن أمير المؤمنين لم يغب عن ذهنه أنه حامي رسالة وليس منتصراً للذات، ولا منتقماً يجرِّد خصمه من أي فضيلة، وهذه الروح لم تغب عن عظماء الأمة في عصورها المتعاقبة فأبو حنيفة يقـول : ( هذا الذي نحن فيه رأي لا نجبر أحداً عليه، ولا نقول يجب على أحد قبوله بكراهية، فمن كان عنده أحسن منه فليأت به )[32] فالمؤمن دائماً طالب حق لا يتعصب لرأيه إن ظهر له الصواب عند غيره. ومعلوم أنه في عصر التابعين ظهرت مدرستان: مدرسة أهل الحديث التي قامت على فقه الصحابة وآثارهم؛ وكان على قمتها سعيد بن المسيب وعليها اعتمد المالكية والشافعية والحنابلة. ومدرسة أهل الرأي التي تعتمد على الرأي إن غاب الأثر وكان على قمتها إبراهيم النخعي. وعليها سار الأحناف دون أن يكفر بعضهم بعضاً؛ بل في عصور لاحقة عندما احتك كل فريق ببيئة الفريق الآخر؛ أدرك أسباب هذا الإختلاف بينه وبين نظيره.

غير أننا ابتلينا في هذا العصر بحفظة نصوص لايملكون ملكة الفقه المتمثلة في الإحاطة بالموضوع محل الحكم، ومعرفة الواقع الذي تتنزل عليه الأحكام ـ فعدم الربط بين النص والواقع وعدم ربط كل ذلك بالمقاصد يؤدي إلى إصدار أحكام قاصرة توقع الناس في الحرج.

 إنّ كثيراً ممن تصدوا للفتوى في عصرنا هذا يمكن وصفهم  بأنهم حفظة نصوص ولكنهم ليسوا فقهاء، فالفقيه من يمتلك القدرة على استنباط الأحكام من النصوص مع اعتبار الواقع ومراعاة المقاصد. فإصدار الحكم دون مراعاة الواقع وتعقيداته؛ لا يحقق مقاصد التشريع . فلا بد لمن يتصدى للفتوى أن يدرك طبيعة الواقع المعاصر بتعقيداته، وعلاقاته السياسية والإقتصادية، والإجتماعية، والإدارية؛ حتى تكون فتواه قابلة للتنزيل. والفتوى الفردية فى القضايا الكبرى المتداخلة والمعقدة لا تكون مجدية في هذا العصر الذي توفرت فيه المعلومة بصورة غير مسبوقة ، فهناك ضرورة إلى قيام مؤسسات للفتوى تضم كل التخصصات الشرعية والطبية والاقتصادية والاجتماعية والقانونية وغيرها؛ يجتمع فيها علماء الشرع، وعلماء السياسة، وعلماء الإقتصاد، وعلماء الطب، وعلماء الإجتماع، وعلماء الفلسفة، ومتخصصون في العلاقات الدولية، وعلماء القانون؛ حتى تتمكن من إصدار فتاوى تقل فيها نسبة الخطأ وتكون جامعة مانعة.

إن من المنكرات في هذا العصر؛ بروز ظاهرة إطلاق التهم والأحكام جزافاً : فهذا كافر؛ لأنه أدلى بتصريح يخالف هوى المفتي، وذاك زنديق؛ لأنه تبنى فكرة لا يعرف المفتي كنهها، وآخر مرتد؛ لأنه اتخذ موقفاً يتعارض مع موقف المفتي. هذه الفتاوى التكفيرية تدخل في إطار البدعة؛ لأنه لم يُعرف عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه أطلق مثل هذه الأحكام بهذه الصورة؛ بل كان نهجه النهي عن التكفير، قال صلى الله عليه وسلم : ((سباب المسلم فسوق وقتاله كفر ))[33] .

 إن دراسة سيرة الرسول القدوة بعقول واعية؛ ستبين المنهج الصحيح للتعامل مع الناس، وتبين سماحة الإسلام، وتمكن الفقهاء من تحويل أحكام الإسلام لواقع ملموس تتحقق فيه مقاصد التشريع، وتساعد الأمة على محاصرة نهج التشدد والتكفير والتضييق على الناس، فالإسلام دين الرحمة والتيسير ورفع الأصر والحرج، وهو لا يتصادم مع الفطرة مطلقاً  قـال تعالى : ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْـقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّـمُ وَلَكِـنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُـونَ ﴾ [ الروم : 30 ]  إنّ فهم الرأي الآخر، والفكر الآخر، والإجتهاد المخالف في إطار التنوع؛ يعتبر أول خطوة في منهج الإصلاح الداخلي، وتوفير الطاقات المهدرة في الصراعات؛ لتوظيفها للنهضة في كافة مجالاتها ، علينا أن نُسْقِطَ من قاموسنا عبارات [ كافر وملحد وزنديق وخائن وعميل ومهزوم..الخ ] في مجال خلافاتنا الفكرية والسياسية . ومطلوب منا أن نجد مساحة في داخلنا لقبول الإجتهـاد المخـالف أو تفهمه على أقل تقدير[34] .

الفصل الرابع: الرسالة الخاتمة هي المخرج

      دين الله الذي أنزله لبني آدم دين واحد هو الإسلام جاء به جميع رسل الله من لدن آدم وإلى خاتمهم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم مع اختلاف في الشرائع، فهو سبحانه وتعالى اصطفى الأنبياء والرسل وأرسلهم على فترات لهداية البشر إلى الصراط المستقيم، ولإخراجهم من الظلمات إلى النور. والمجتمعات البشرية مرّت بنفس المراحل التي يمر بها الإنسان الفرد : مرحلة التكوين، فالميلاد، فالطفولة، فالتعلم، فالتجارب، فالنضج. وكل مرحلة أنزل الله لها ما يلائمها من تشريع ولذلك نجد أن خطاب الأنبياء اتفق في العقائد وتنوع في التشريعات، فنوح عليه السلام ركز على التوحيد ونفي الشرك والمساواة بين الناس؛ لأنه أول رسل الله بعد آدم عليه السلام، وهود وصالح بعد التوحيد كان اهتمامهما يتركز على إبراز مظاهر قدرة الله؛ لأنهما أرسلا لمخاطبة قوم اغتروا بقوتهم وقدرتهم، وشعيب ركز على محاربة الفساد الاقتصادي، ولوط كانت دعوته موجهة ضد الإنحلال الخلقي والشذوذ، وموسى استهدف إبطال السحر وهكذا.. مع إجماعهم على توحيد الله؛ كان كل رسول يخاطب قومه بما يعالج المشاكل التي يعيشونها؛ فالدين واحد والتشريعات مختلفة. قال تعالى : ﴿ شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاء وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ﴾ [ الشورى : 13 ] وقال تعالى :(لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا) إن رسالة الإسلام التي جاء بها سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم جاءت متضمنة لأصول الرسالات السابقة ومصدقة لها؛ فهي الحلقة الأخيرة في سلسلة الوحي الإلهي، وأكد هذا المعنى الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله : (( مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بنياناً فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة من زاوية من زواياه، فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة ؟ قال : فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين ))[35] .

خصائص الرسالة الخاتمة :

      لقد تبين مما سبق أن الإسلام جاء مكملاً للرسالات السابقة متضمناً لأصولها ومصدقاً لها ولكنه باعتباره الدين الخاتم فقد اختص بالآتي

أولاً : العالمية

كانت الرسالات السابقة محدودة المكان ومحدودة الزمان ومقتصرة على قوم دون غيرهم، والقضايا التي جاءت من أجلها محددة، ولكن الإسلام جاء ديناً عاماً يخاطب كل الناس عبر كل العصور، وعالمياً لا يعرف الحدود المكانية ولا الزمانية، وأممياً لا يقتصر على قوم دون غيرهم، وشاملاً يخاطب كل قضايا الإنسان واهتماماته العقائدية، والعبادية، والسلوكية، والإجتماعية، والإقتصادية وغيرها من مطالب الإنسـان .

ثانياً : الختام

رسالة الإسلام جاءت رسالة خاتمة لا تعقبها رسالة أخرى، لأن الله سبحانه وتعالى الذي خلق الخلق يعلم ما يصلحهم فتكفّل بإرسال الرسل إليهم متدرجاً معهم في كل المراحل، فلما وصلت البشرية مرحلة النضج أنزل إليها الرسالة الخاتمة قال تعالى : ﴿ مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَـانَ اللَّهُ بِكُـلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ﴾ [ الأحزاب : 40 ] .

ثالثاً : التيسير

الرسالات السابقة كانت متشددة مع أتباعها فجاءت أحكامها شاقة، وعقوباتها قاسية، فكل شخص مثلا كان لديه مكان معين يتعبد فيه لا يجوز له أن يتعبد في غيره، والنجاسة عندهم لا يزيلها الماء من الثوب، ومرتكب الكبيرة تعجل عليه العقوبة في الدنيا، ومن أراد أن يتوب فتوبته أن يقتل نفسه، قال تعالى عن بني إسرائل: ﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُواْ إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴾[البقرة: 54 ] هذا التشدد رُفِع عن الناس في رسالة الإسلام؛ فالتكاليف ميسرة، وتتصف بالمرونة؛ فمن لم يجد الماء ينتقل إلى التيمم، ومن لم يستطع القيام يصلي جالساً، أو متكئاً، أو راقداً، أو بالإشارة، والتوبة متاحة لكل الناس ما لم تصل الروح إلى الحلقوم، ومن مبادئ الإسلام التيسير ورفع الحرج والتدرج ومراعاة الـواقع ..الخ  قال تعالى : ﴿ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَـانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُـواْ النُّورَ الَّـذِيَ أُنزِلَ مَعـَهُ أُوْلَئِكَ هُـمُ الْمُفْلِحُـونَ ﴾[ الأعراف : 157 ] وتميّز الإسلام بخصائص كثيرة كلها تدخل في باب التكريم لهذه الامة والتخفيف عليها، وقد وردت هذه الخصائص في آيات كثيرة مثل الآية السابقة وأحاديث كثيرة منها : عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قـال : ((أعطيتُ خمساً لم يعطهن أحدٌ قبلي : نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، فأيّما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلت لي المغانم ولم تحل لأحد قبلي، وـأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة ))[36]  فالله سبحانه وتعالى أكرم هذه الأمة بالرسالة الخاتمة التي جاءت رحمة للعالمين ونعمة للمسلمين. قال تعالى: ﴿ وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ﴾ [ آل عمران : 103 ] ومن خصائص هذه الرسالة أنها جعلت العادات البشرية عبادات إذا اقترنت بالنية الخالصة لله ولم تتصادم مع تعاليم الدين، فالأكل إذا قصد به بناء الطاقة التى تساعدعلى الطاعة يكون عبادة، والزواج إذا قُصِد به التحصين وبناء الأسرة الصالحة يكون عبادة، والتبسم في وجه الأخ صدقة، وهكذا..  يسّر الإسلام طرق الطاعات وسهّل دخول الجنة للراغبين؛ عن أبي ذر رضي الله عنه؛  أن ناساً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : يا رسول الله ذهب أهل الدثـور بالأجور ؛ يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون بفضول أموالهم؛ قـال : ((أوليس قد جعل الله لكم ما تصدقون ؟ إن بكل تسبيحة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن منكر صدقة، وفي بضع أحدكم صدقة؛ قالوا يا رسول الله : أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر ؟! قال : أرأيتم إذا وضعها في حرام أكان عليه فيها وزر ؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجرا))[37]

مقومات صلاحية الرسالة الخاتمة

انتشرت في مؤلفات علماء الشريعة الإسلامية وفي أدبيات المفكرين الإسلاميين عبارة أن الإسلام صالح لكل زمان ومكان؛ ولكن الواقع يجعل كثيراً من الناس يتساءلون إذا كان الإسلام كما يقول دعاته صالحاً لكل زمان ومكان فلماذا نرى واقع المسلمين يناقض هذا الادعاء؟ وهو سؤال مشروع لا يفيد وصْم أصحابه بالردة أو التآمر أو الجهل؛ بل الواجب هو تقديم الإجابة المقنعة؛ لأن القرآن الكريم تضمن أسئلة أخطرمن هذا السؤال، فأجاب عنها دون تقريع لأصحابها! بل جاءت أخطر الأسئلة من أنبياء الله ورسله، فموسى عليه السلام سأل ربه عن إمكانية رؤيته؟ فأجابه الله عن سؤاله بصورة عملية. قال تعالى : ﴿ وَلَمَّا جَاء مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ موسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [ الأعراف : 143 ] وإبراهيم عليه السلام تدرج من الشك إلى اليقين مع أن كثيراً من العلماء يقولون إن قصده هو تعليم أمته بأن عبادتهم للأصنام باطلة! ولكن سياق الآيات يدعو للتفكير وإعمال العقل دون حصر قال تعالى : ﴿ وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ  فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ  فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَآ أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ  إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ  وَحَآجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَن يَشَاء رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ  وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ  الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ  وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْـرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِـهِ نَرْفَعُ دَرَجَـاتٍ مَّن نَّشَاء إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيـمٌ ﴾ [ الأنعام : 57- 82 ]  إذاً فالتدرج في الشك والتساؤل هو للتيقن وإقامة البرهان والدليل على العقيدة الصحيحة؛ وليس لإقامة الحجة على عبدة الأصنام فحسب؛ فإن أي تساؤل مشروع؛ خاصة إذا علمنا أن الإسلام جعل العقل شرطاً في التكليف، وحثّ على اتباع الدليل والبرهان؛ فلا مجال للتهرب من الإجابة عن أي تساؤل مهما كان في رأي البعض قاسياً أو غير لائق؛  عليه أقول: إن الادعاء بأن الإسلام صالح لكل زمان ومكان هو ادعاء صحيح تصدقه الأدلة الآتية:

أولاً :  المكان والزمان؛ مقصود بهما ظرفي الوجود الإنساني؛ فلا معنى لزمان ومكان في فراغ، فالصلاحية تستهدف الإنسان العاقل الطبيعي؛ لأن هنالك مجانين، ومصابين بانحراف في تفكريهم فهؤلاء غير معنيين؛ فمن البديهي أن الشاذ لا حكم له، وبناء على ذلك نقول : إن الإنسانية منذ إيجادها وإلى اليوم استهدفت بالهداية من الرسل؛ وفي كل مرحلة من مراحل تاريخها وُجِدَ فيها من تصدى لدعوات الرسل معارضاً، ولكن في النهاية هُزِمَ الباطل وانتصر الحق، واستقر في عقل الإنساني الجمعي أهمية التدين، ووجود معيار للتمييز يبن الخطأ والصواب، لقد سبق بيان أن الإسلام جاء مكملاً للرسالات قبله فمعنى ذلك أنه صدقها، وتضمنت أحكامه أصولها التي هي قاسم مشترك في كل الرسالات السماوية، وهي : التوحيد والعدل وعقيدة البعث والجزاء الأخروي، إن اشتمال أحكام الإسلام لهذه الأصول يجعل كل إنسان بفطرته يصدق الإسلام وإن أبى مكابرة. قال تعالى : ﴿وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانظُـرْ كَيْفَ كَـانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ﴾[النمل : 14 ]  فاعتراف الإسلام بالرسالات السابقة واستصحابه لأصولها وبعض الأحكام الصالحة منها؛ يجعله صالحاً لمخاطبة أتباع تلك الأديان بما هو موجود في أديانهم .

ثانيا :  الأحكام الإسلامية تنقسم إلى قسمين : أحكـام ثابتة وأحكام متغيرة، فالأحكام الثابتة محصورة في العقيدة، والعبادة، وأصول الأخلاق؛  والأحكام المتغيرة ما عدا ذلك من الأحكام التي تغطي كل الساحة الإنسانية من المعاملات؛  لأن حاجات الإنسان متجددة، وعلاقاته متباينة، وبيئاته متنوعة، فإذا وُضِعَتْ أحكامٌ ثابتة في هذا المجال سوف يستحيل تطبيقها؛ ولذلك وضع الإسلام مبادئ عامة، ومقاصد كلية، وعللاً منضبطة؛ وترك للمسلمين تطبيق تلك الكليات بالوسائل التي تلائم ظروفهم المكانية والزمانية، وأعطاهم المشرع حق الإجتهاد لاستنباط الأحكام التي تصلح لأوضاعهم، فالرسول صلى الله عليه وسلم أقرَّ الاجتهاد في حياته فضلاً بعد وفاته، والسيرة مليئة بالشواهد؛  ففي نزوله يوم بدر أخذ باجتهاد الحباب بن المنذر؛ وفي معاملة الأسرى أخذ برأي أبي بكر مع اقراره اجتهاد عمر الذي جاء القرآن مؤيدا له؛ وكذلك اقراره لاجتهاد الصحابة عندما أمرهم بصلاة العصر في بني قريظة، وفي إعطائه المجتهد المصيب أجرين والمجتهد المخطئ أجرا ..الخ إن الفهم الصحيح هو أن نميز بين الثابت والمتحرك، وأن نميز بين المحكم والمتشابه، فقد بين الإمام القرافي؛ أن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم تنقسم إلى أربعة أقسام هي : الوحي ـ والفتيا ـ والقضاء ـ وتعامله كحاكم .

فالوحي والفتيا أحكامهما ملزمة ، وأما القضاء فإن القاضى يفصل في الأحكام على حسب ما يظهر له من بينات، وقد قال صلى الله عليه وسلم : (( إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع فمن قضيت له بحق أخيه شيئاً فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار ))[38] ؛  وأما تعامله كرئيس دولة؛ فإن الصحابة كانوا يراجعونه فيقبل رأيهم، ففي غزوة الخندق رأى أن يعطي ثلث ثمار المدينة لقبيلة غطفان لتخرج من التحالف الذى يقوده أهل مكة لغزو المدينة؛ ولكن الأنصار رفضوا ذلك، فاستجاب رسول الله لرغبتهم؛ الشاهد أن تعامله كقاضي يعتمد على البينات؛ فلا يجوز لأحد أن يقول إن رسول الله قد حكم في هذه القضية بكذا، وعليه فأنا أصدر نفس الحكم دون الرجوع إلى البينات والملابسات التي تحيط بكل واقعة. وأما تعامله كرئيس دولة فيصطلح عليه الفقهاء بفقه السياسة الشرعية؛ وهي متروكة لمراعاة المصلحة وتقديرات البشر وفق ظروف زمانهم . إن الخلط بين الثابت والمتحرك في الفقه الإسلامي؛ كان سبباً من أسبابالانحراف الفكري .

 إن هذا التقسيم لأحكام الإسلام إلى ثوابت ومتغيرات؛ يؤكد أنّ الإسلام جاء بمنهج مرن يمتلك القدرة للتعامل مع كل المستجدات وفق المعايير والمقاصد المحققة للمصلحة الإنسانية عبر الزمان والمكان. قال تعالى : ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء  تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ﴾ [براهيم : 24 – 25 ] .

ثالثاً :  دعا الإسلام لاستصحاب النافع من العطاء الإنساني بغض النظر عن مصدره، قال صلى الله عليه وسلم : (( الحكمة ضالة المؤمن فحيث وجدها فهو أحق الناس بها ))[39]. هذا النهج يجعل الإسلام متقبلاً لكل عمل صالح فكراً كان أو خلقاً أو تقنية؛ مما يؤهله لاتباع المعيار الموضوعي الذي ينظر إلى النتائج؛ فإذا كانت نافعة أخذ بها وإن كانت مضرة رفضها، واستناداً إلى ذلك نجد أن الإسلام منذ فجره لم يرفض كل القيم التي سبقته أو تلك التي عاصرته من انتاج السابقين والمعاصرين؛ بل أشاد ببعض رموز العصر الجاهلي وبعض قيمهم؛ أمثال حاتم الطائى، والحارث بن حلزة، وأكثم بن صيفي، وزهير بن أبي سلمى؛ وينسب إلى عنترة بن شداد أبيات من الشعر تشع نوراً، وعفة، وحكمة، ونبلاً؛ احتفى بها الإسلام وطرب لها المسلمون تلك الأبيات هي :

 ما استمت[40] أنثى نفسها في موطن                حتى أوفي مهرهـا   مولاها

وأغشى   فتـاة الحي عند  حليلها            وإذا غزا في  الحرب لا أغشاها

وأغض طرفي ما بدت لي جارتي                حتى يواري جـارتي مأواها

إني امرؤ سمح الخليقة ماجد                    لاأتبع النفس اللجوج هواهـا[41]

فالمخالف قد يكون ضال العقيدة، منحرف الفكر، معاديا للإسلام تعصباً؛ لكنه لا يخلو من الفضيلة في جانب من جوانب حياته، وكلام عنترة إن قيل دون سند لظن السامع أنه من كلام الصحابة رضي الله عنهم ، قال ابن القيم : ” إن الشريعة لا ترد حقا، ولا تكذب دليلا، ولا تبطل أمارة صحيحة،  وقد أمر الله سبحانه بالنثبت والتبين في خبر الفـاسق، ولم يأمر برده جملة . فإن الكافر الفاسق قد يقوم على خبره شواهد الصدق، فيجب قبوله والعمل به. وقد استأجر النبي صلى الله عليه وسلم في سفر الهجرة دليلا مشـركا على دين قومـه ، فأمنه ودفع إليه راحلته” [42]. وقد شهد رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل البعثة حلف الفضول الذي أبرمته قريش لنصرة المظلوم وردع الظالم، وقال صلى الله عليه وسلم عنه : (( لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفا لو دعيت به في الإسلام لأجبت، تحالفوا أن يردوا الفضول على أهلها وألا يعد ظالم مظلوما))[43] هذه الموضوعية جعلت الإسلام ينتشر في أوساط كثيرة بسلوك قادته ودعاته، فالإنصاف من أميز الصفات التي تجلب الإحترام؛ قال تعالى : ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ [ المائدة : 8 ]

رابعاً : مراعاة الفطرة والاستجابة لمطالبها: الإسلام دين الفطرة، بنص الآية الكريمة:” فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ  تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ”[الروم:30]

والفطرة تعني مجموع الاستعدادات، والميول، والغرائز؛ التي تولد مع الإنسان، فبينما جاءت مفاهيم بعض العقائد مصادمة للفطرة، وأخرى منساقة لغرائزها، جاء الإسلام منسجما مع مطالب الفطرة، ومهذبا لغرائزها، وضابطا لميولها.

وجاءت تشريعات بعض الأديان منحازة للجوانب المادية، بينما نجد بعضها موغلة في الجانب الروحي، فابتدع أتباعها رهبانية ماكتبت عليهم، لقد جاء الإسلام موفقا بين كافة الثنائيات التي شغلت الفكر الإنساني ردحا من الزمان: الروح والمادة، والعقل والنقل، المثال والواقع، الدنيا والآخرة،..الخ ونجد في تعاليم الإسلام تشريعا لكل المواضيع التي تشكل أهمية في حياة الإنسان، وفق ضوابط تحدد لكل موضوع مجاله وحدوده، كما جاءت التشريعات الإسلامية مكملة لأحكام الرسالات السابقة ومصدقة لها ومعترفة بشرعيتها التاريخية.

إن المتعمق في الإسلام؛ يدرك بوضوح صلته الرحمية بالرسالات السابقة، ومراعاته للطبيعة البشرية المحاطة بعوامل الضعف، ودعوته للتأمل والتفكر والتدبر لمعرفة سنن الكون وتسخيرها لوظيفة الاستخلاف.

مطالب الفطرة:

 للإنسان مطالب فطرية؛ تحتاج إلى إشباع موزون قصرت كثير من العقائد عن إشباعهـا وضلت كثير من النحـل عن الاهتداء إليها: ” فطرة الإنسان توجب إشباع عشرة مطالب: روحية – معرفية – مادية – أخلاقية – عاطفية – إجتماعية – بيئية – جمالية – رياضيـة – وترفيهية “[44]  هذه المطالب يقرها الإسلام ويستجيب لإشباعها على النحو التالي :

1 )  فالمطلب الروحي : يشبعه الإيمان، والذكر، والمراقبة، والتوكل؛ قال الإمام المهدي عليه السلام: ” وذوِّقنا يـارب حلاوة الايمان بك، وصف سرائرنا حتى ندرك حلاوة القرآن”[45] والرسول صلى الله عليه وسلم بين في كثير من الأحاديث كيف أن الايمان يحقق طمأنينة نفسية، وسكينة روحية، ولذة وجدانية؛ عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ((ثلاث من كنّ فيه وجد حلاوة الايمان؛ أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار ))[46] وقال تعالى : ﴿ الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ ﴾ [الرعد :28 – 29 ]

2 )  المطلب المعرفي : يشبعه الإسلام بدعوته للأخذ بكل أسباب المعرفة؛ ويؤكد ذلك أن أول آيات القرآن نزولاً دعت للقراءة والتعلم قال تعالى : ﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الإنسان مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ  الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الإنسان مَا لَـمْ يَعْلَمْ ﴾ [العلق :1- 5 ] وأقرّ الإسلام مصادر المعرفة الأربعة : الوحي، والإلهام، والعقل، والتجربة . والأدلة مبثوثة في الكتاب والسنة، والوقائع تؤكد ذلك؛ فقد احتفى المسلمون في عصورهم النبوية، والراشدية، والأموية، والعباسية، بالعلم والعلماء؛ وتشهد على ذلك دار الحكمة التي أنشأها المأمون وضمت أمهات المراجع من كل الحضارات، وعلماء من كل الديانات، ومعارف شملت كل العلوم المتاحة في ذلك العصر، والدعوة لاكتشاف أسرار الكون وسننه وقوانيه تغطي معظم سور القرآن الكريم مع الحثّ على التفكر والتدبر والتعقل والاعتبار؛ قال تعالى : ﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ السَّمَاء مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴾ [ البقرة :164 ] .

3 )  المطلب المادي : اعترف به الإسلام وشرَع له بل اعتبره من النعم التي أنعم الله بها على عباده فاستوجب العبادة قال تعالى : ﴿ فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَـذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُـم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُـم مِّنْ خَـوْفٍ ﴾ [ قريش :3-4 ] وتساءل القرآن مستنكراً على أولئك الذين حرّموا الحاجات المادية رهبنة واسقاطاً لحاجات ضرورية متوهمين أنهم يتقربون إلى الله بحرمان أنفسهم من تلك الطيبات مبيناً أنها من نعم الله التي أباحها لعباده في الدنيا والآخرة قال تعالى : ﴿ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَـا خَالِصَـةً يَـوْمَ الْقِيَامَـةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَـاتِ لِقَـوْمٍ يَعْلَمُـونَ ﴾ [ الأعراف :32 ] .

4 )  المطلب الخلقي : له مكانة كبيرة في تعاليم الإسلام؛ بل بين الرسول صلى الله عليه وسلم أنه ما بعث إلا لأجل ذلك، قـال صلى الله عليه وسلم : (( إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق ))[47]  لأن الإنسان محتاج إلى مقياس خلقي يتعامل به، والقاعدة الأخلاقية تقول: أن تعامل الناس كما تحب أن يعاملوك، وأن الصحيح من الأفعال هو ما ترضى أن يكون قانوناً كلياً يتعامل بموجبه الناس، فالإسلام أقرّ هذا المعنى وزاد عليه فالمعايير الخلقية المعروفة تتمثل في المعاملة بالمثل، والعفو؛ وزاد عليها الإسلام الإيثار كأعلى درجات التعامل الخلقي قال تعالى : ﴿ وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [ الحشر : 9 ] .

5 )  الجانب العاطفي : أشبعه الإسلام بالعلاقات الإنسانية القائمة على المحبة: علاقة الأبوة والأمومة، والبنوة، والعلاقات الزوجية، التي تظللها السكينة، والمودة، والرحمة، وعلاقات الأخوة والصداقة؛ بل في الاطار الإنساني العام دعا الإسلام المسلمين أن يرتقوا بعلاقاتهم الإنسانية من مجال الحقوق والواجبات؛ إلى درجة المحبة؛ عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أوَلا أدلكم على شئ إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم ))[48]  بل إن الرسول صلى الله عليه وسلم قرع الذي تجرد من العواطف؛ لأنه استغرب عندما رأى رسول الله يقبل الأطفال عن عائشة رضي الله عنها قالت: جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : أتقبلون الصبيان ؟ فما نقبلهم فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (( أو أملك لك أن نزع الله من قلبك الرحمـة ))[49]. إن العطف والحنان والحب والإيمان كلها وجدانيات من حرمها فقد حرم الإنسانية .

6  )  الجانب الإجتماعي : أولاه الإسلام أهمية كبرى؛ فحتى العبادة التي تؤدي في جماعة فإنها تفضل على صلاة الفرد بسبع وعشرين درجة، لقد وضع الإسلام تشريعات تحكم العلاقات الإجتماعية للمحافظة عليها وتطويرها، لأن الإنسان لا يستغني عنها ولن يستطيع العيش بدونها؛ بل إن التفريط فيها ربما استغرق كل حسنات العبادات وجرّ المفرط إلى نار جهنم كما ورد في حديث المفلس الذي استنفد كل أجور أعماله في تسديد حقوق الناس الذين أساء معاملتهم، ولما بقيت عليه مطالب أُخِذ من سيئاتهم فطرحت عليه ثم سحب إلى نار جهنم[50]. وقد نهى الإسلام عن كل ما من شأنه أن يكدر العلاقات الإجتماعية؛ عن أبي أيوب الأنصاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( لا يحل لرجل أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال، يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام))[51] والبر في الإسلام لا يكون بالشكليات والمظاهر وإنما بتقديم النفع العام وبذل الخير لضعفاء المجتمع؛ قال تعالى : ﴿ لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ﴾ [ البقرة : 177 ] .

7 )  الجانب البيئي : عرِّفت البيئة عدة تعريفات منها : ” أنها مجموع الظروف والعوامل الخارجية التي تعيش فيها الكائنات الحية وتؤثر في العمليات الحيوية التي تقوم بها . وللإنسان ـ كأحد كائنات النظام البيئي ـ مكانة خاصة نظراً لتطوره الفكري والإجتماعي فهو المسيطر ـ إلى حد ملموس ـ على النظام البيئي وعلى حسن تصرفه تتوقف المحافظة على النظام البيئي وعدم استنزافه “[52] .

      الإسلام باعتباره ديناً خاتماً للديانات جاءت تعاليمه شاملة لكل أوجه الحياة؛ منظمة لعلاقة الإنسان بخالقه، وعلاقته مع بني جنسه، وعلاقته بالكون الذي يعيش فيه؛ بكل موجوداته الحيوانية والنباتية والجمادية، وما عداها من هواء وغازات، ومياه، في الأرض والبحر والجو والسماء .. قال تعالى : ﴿ أَفَرَأَيْتُم مَّا تُمْنُونَ أَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ  عَلَى أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ  وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذكَّرُونَ  أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ لَوْ نَشَاء لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ  إِنَّا لَمُغْرَمُونَ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ  أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاء الَّذِي تَشْرَبُونَ أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ لَوْ نَشَاء جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشِؤُونَ نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِّلْمُقْوِينَ فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ ﴾ [ الواقعة : 58- 73 ]  لقد تناول القرآن العناصر المكونة للبيئة في عدة آيات، كما تحدث عن دور الإنسان فيها سلباً وإيجاباً؛ وجاءت تعاليم الإسلام في القرآن والسنة موجهة للإنسان ومبينة له ما يجب عليه للحفاظ على مكونات البيئة الصالحة التي أنعم الله بها عليه وذلك على النحو التالي :

(أ) :  اعتبار هذه العناصر من نعم الله على عبـاده .. قال تعالـى : ﴿ فَلْيَنظُرِ الإنسان إِلَى طَعَامِهِ  أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاء صَبًّا  ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا  فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبًّا  وَعِنَبًا وَقَضْبًا  وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا  وَحَدَائِقَ غُلْبًا  وَفَاكِهَةً وَأَبًّا  مَّتَاعًا لَّكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ ﴾ [ عبس : 24-32 ] . والقرآن حين يقول : ﴿ أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ ﴾ [ الغاشية : 17 ]  فبذكر الإبل دون غيرها من الحيوانات؛ إنما يشير إلى الاهتمام بهذا الحيوان العجيب والتأمل في تكوينه وتركيبه وخواصه ومنافعه، بوصفه أقرب الأنعام إلى العرب المخاطبين قبل غيرهم بالقـرآن .

وحديث القرآن المتكرر عن الأنعام ( الإبل والبقر والغنم ) دون غيرها من الحيوانات التي قد توجد في بلدان أخرى، إنما يريد أن ينبه المخاطبين إلى العناصر الحيوانية في البيئة لينتفعوا بها ويشكروا نعمة الله فيها فيأكلوا من لحمها ويشربوا من لبنها : ﴿ وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهِ مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَنـًا خَالِصًا سَآئِغًا لِلشَّـارِبِينَ ﴾ [ النحل :66 ] وينعموا بمنظرها غادية ورائحة : ﴿وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ ﴾ [ النحل:6 ]  ومثل ذلك حديثه عن النحل وبيوته، وأنواعه، ومنافعه الغذائية والدوائية في سورة تحمل اسمه .. وكذلك قال تعالى : ﴿ وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُم مِّن جُلُودِ الأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ ﴾ [ النحل:80 ]

وكذلك الحديث عن النخيل والأعناب والزرع : المختلف أكله والزيتون والرمان متشابهاً وغير متشابه وفيه ينبه القرآن إلى أمرين هامين هما :

1 ـ  الإستمتاع بالعنصر الجمالي فيها : ﴿َ هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُّخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُّتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِن طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِّنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انظُرُواْ إِلِى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾  [ الأنعام:99 ] .

2 ـ  الإنتفاع بالعنصر المادي فيها، مع أداء حق الله : ﴿ وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ﴾ [ الأنعام:141 ] .

(ب):  دعوة الإنسان للتفكر في هذه العناصر لاكتشاف قوانينها ونظمها والاستفادة منها .. قال تعالى : ﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾ [آل عمران:190-191]

والأرض التي يعيش عليها الإنسان فيها ظواهر مطلوب منا النظر فيها بعين الإعتبار قال تعالى : ﴿وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاء وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَـا عَلَى بَعْـضٍ فِي الأُكُلِ إِنَّ فِـي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَـوْمٍ يَعْقِلُـونَ ﴾ [ الرعد:3-4 ] .

(ج) :  اعتبار البيئة عاملاً مؤثراً في تشكيل عقلية الإنسان وثقافته .. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال صلى الله عليه وسلم : (( ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمـة جمعـاء هل تحسـون فيها من جدعاء ؟ ))[53] واختلاف الأحكام الفقهية في كثير من القضايا المتشابهة سببه : اختلاف أحوال المخاطبين وبلدانهم وأزمانهم، ووضعت قاعدة فقهية تقول : ” تختلف الفتوى حسب اختلاف الزمان والمكان والحال ”  فالإنسان البدوي تختلف ثقافته عن ثقافة الحضري والذي يعيش في الصحراء يختلف عن الذي يعيش في الغابة حيث الأشجار والمياه والطيور، قال تعالى : ﴿ الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُواْ حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾ [ التوبة :99 ] وقال تعالى : ﴿ أَوَمَـن يُنَشَّأُ فِـي الْحِلْيَـةِ وَهُوَ فِي الْخِصَـامِ غَيْـرُ مُبِينٍ ﴾  [ الزخرف : 18 ] .

(د) :  الإعتناء بالبيئة والمحافظة عليها بكل عناصرها :

1 )  النهي عن قطع الأشجار دون حاجة ضرورية : روى أبو داود في سننه أنه صلى الله عليه وسلم قال : (( من قطع سدرة صوّب الله رأسه في النار )) والمراد بالسدرة شجر السدر المعروف وهو ينبت في الصحاري ويصبر على العطش ويقاوم الحر وينتفع الناس بظلاله والأكل من ثماره ، والوعيد بالنار لمن قطع سدرة يدل على تأكيد المحافظة على مقومات البيئة الطبيعية ، لما توفره من حفظ التوازن بين المخلوقات وسُئل أبو داود راوي الحديث عن المقصود بهذا الحديث فقال : ” هذا الحديث مختصر يعني من قطع سدرة في فلاة يستظل بها ابن السبيل والبهائم عبثاً وظلماً بغير حق يكون له فيها , صوّب الله رأسه في النار ” وكان خلفاء المسلمين يوصون الجيوش الغازية بألا يقطعوا شجرة مثمرة..

2 )  الاعتناء بالتشجير : عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( ما من مسلم يغرس غرساً أو يزرع زرعاً فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كان له به صدقة )) متفق عليه .

وروى أحمد عن أبي الدرداء رضي الله عنه : أنّ رجلاً مرّ به وهو يغرس غرساً بدمشق فقال له : أتفعل هذا وأنت صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم  قال : لا تعجل علي ؛ سمعت رسول الله  صلى الله عليه وسلم يقول : (( من غرس غرساً لم يأكل منه آدمي ولا خلق من خلق الله إلا كان له به صدقة )) .

3 )  الاعتناء بالثروة الحيوانية : روى أحمد والنسائي والدارمي والحاكم من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( ما من إنسان يقتل عصفوراً فما فوقها بغير حقها إلا يسأله الله عنها ، قيل يا رسول الله وما حقها ! قال : ” أن يذبحها فيأكلها ولا يقطع رأسها ويرمي بها” .

وروى أحمد والنسائي أيضاً وابن حبان من حديث الشريد رضى الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (( من قتل عصفوراً عبثاً ، عجّ إلى الله يوم القيامة يقول : يا رب إنّ فلاناً قتلني عبثاً ولم يقتلني منفعة )) يفهم من هذين الحديثين الإعتناء بالحيوان واحترامه والحرص على حياته باعتباره من مكونات البيئة ومنع العبث به وتعريضه للفناء والإنقراض ..

4 )  المحافظة على الأجناس الحية من الإنقراض : قال تعالى : ﴿ وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ ﴾ [الأنعام:38]  وهذا معناه أن هذه المخلوقات وجدت لحكمة فلا يجوز الإعتداء عليها لأنها عامل أساسي في التوازن البيئي ـ روى أبو داود والترمذي والنسائي أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( لولا أنّ الكلاب أمة من الأمم لأمرت بقتلها ، فاقتلوا منها الأسود البهيم )) قال الإمام أبو سليمان عن شرح الحديث في كتابه : “معالم السنن” معناه : ” أنه كره إفناء أمة من الأمم وإعدام جيل من الخلق حتى يأتي عليه كله فلا يبقى منه باقية لأنه ما من خلق لله تعالى إلا وفيه نوع من الحكمة وضرب من المصلحة ، يقول : إذا كان الأمر على هذا ولا سبيل إلى قتلهن كلهن فاقتلوا شرارهن وهي السود البهم وابقوا ما سواها لتنتفعوا بها في الحراسة ”  ..

(ه) :  النهي عن تلوث البيئة : أمر الإسلام بالنظافة : نظافة البدن ونظافة الثياب ونظافة المكان ، وجعل الطهارة شرطاً لصحة بعض العبادات كما نهى عن تلويث الأماكن التي يرتادها الناس لقضاء مصالحهم وحذّر من الملاعن الثلاث : الظل , ومورد الماء , وقارعة الطريق ,  روى الطبراني عن حذيفة بن أسيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( من آذى المسلمـين في طرقهـم وجبت عليه لعنتهـم))..

(و):  زيادة السكان : تطرح مجموعة من المشاكل أهمها مشكلة الإسكان والغذاء والتعليم والصحة والعمل وقد عقدت مؤتمرات عديدة عن ظاهرة المشكلة السكانية وآثارها ولا شك أن زيادة السكان لها آثار على البيئة بسبب قلة الموارد وانتشار الأمراض مما يحدث خللاً في نظام الكون وصحيح هنالك أحاديث استحسنت كثرة الأولاد ولكنها زيادة مشروطة بالتربية الصحيحة والإعاشة السليمة روي عن علي بن أبي طالب أنه قال : ” قلة العيال أحد اليسارين وكثرة العيال أحد الفقرين ”  إن مفهوم البيئة يطلق على ما يحيط بالإنسان مكاناً وزماناً وأشياءً وأشخاصاً وأحوالاً، وهذه البيئة لها أثر كبير على الإنسان سلباً وإيجاباً، ولذلك اهتم الإسلام بالبيئة المادية والمعنوية بصيانتها والمحافظة عليها وتهيئتها ليتمكن الإنسان من إشباع حاجته البيئية فيعيش سليما معافي[54]

8 )  المطلب الجمالي : الجمال في الكون مطلوب كالكمال، وقال صلى الله عليه وسلم “إن الله جميل يحب الجمال”[55] لقد أعطى الإسلام اهتماما كبيرا للبعد الجمالى في جميع مجالاته؛ فالكون نفسه يقوم على نسق جمالى غاية في الروعة والإبداع قال تعالى: ﴿ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِأً وَهُوَ حَسِيرٌ ﴾ [الملك:3-4] والقرآن كتاب الإسلام المقدس جاء غاية في الجمال؛ لفظاً، وتركيباً، وتنسيقاً، ومعنىً؛ واقرأ إن شئت هذه اللوحة القرآنية :﴿ وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءكِ وَيَا سَمَاء أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاء وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾ [ هود:44 ] وقولـه تعالـى: ﴿ وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا  فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا  فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا  فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا  فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا ﴾ [العاديات:1-5 ] .

9 ) المطلب الرياضي : جسم الإنسان ” محتاج للماء والهواء والغذاء، ولإشباع كافة الغرائز لحفظ الحياة هذه الأمور عالقة بالرياضة، ولكن الرياضة في حقيقتها نشاط ضروري لحياة الإنسان إنها :

–  ضرورة صحية لتمرين العضلات وأعضاء الجسم .

–  ضرورة علاجية لعلاج كثير من الأمراض .

– ضرورة نفسية لإشباع حب المنافسة، ولتنفيس حـالات الغضب والحزن ولكسر حالات الملل . 

–  والرياضة ضمن عوامل أخرى تبطئ سرعة الشيخوخة .

– والرياضة ضرورة تربوية بما تحقق من تنظيم التنافس، والتعاون من أجل هدف مشترك .

–  والرياضة تثري الحياة الاجتماعية.

–  والرياضة نشاط جمالي فيه ممارسات فنية وفيه تجميل طبيعي للاجسام “[56] .

فالرياضة إذاً ليست لعباً؛ وإنما هي مطلب ضروري من مطالب الإنسان، والإسلام دين الفطرة يلبي كل المطالب الفطرية للإنسان، والدعوة للسعي في الأرض والمشي في مناكبها فيها إشباع للجانب الرياضي للإنسان؛ إضافة للمقصد المعلن فالعبادات الحركية قربى روحية لله وفي نفس الوقت فيها تنشيط لعضلات الجسم، والقول الجامع في هذا المعنى : أن كل ما يحقق مصلحة لجسم الإنسان فقد أباحه الإسلام، وكل ما يحقق الضرر فقد حرمه الإسلام، ومعلوم أن الرياضة يحتاجها الجسم لتقوية العضلات، ولتخفيف الوزن، ولإزالة الدهون التي تؤثر على نشاط الشرايين؛ فضلاً عن الفوائد الذهنية، والعقلية، والنفسية التي تتحقق للإنسان، وأن إهمال الرياضة ضرَره واضح في إحداث نقيض ما ذكرنا، وهذا من شأنه أن يؤدي إلى الهلاك الذي نهى عنه الشرع قال تعالى : ﴿…وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا ﴾ [ النساء:29 ]

10)  المطلب الترفيهي : إن مشاكل الحياة المتعددة والمعقدة تفرض على الإنسان ضغوطاً نفسية تقلق مضجعه؛ فالترفيه أحد وسائل الترويح عن النفس ولذلك فهو مباح في الإسلام ومطلوب. عن عائشة رضي الله عنها أن زَفَّت امرأة إلى رجل من الأنصار فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (( يا عائشة ما كان معكم لهو ؟ فإن الأنصار يعجبهم اللهو ))[57] والإسلام لم يفرض على الإنسان أن يلتزم بالعبادة طول الوقت؛ وإنما هنالك أوقات للعبادة، وأوقات لطلب الرزق، وأوقات للراحة، وأوقات للترفيه عن النفس، ولذلك تتخلل حياة المسلم الأعياد والمناسبات السعيدة حتى لا يقتله الملل؛ عن أم سلمة رضي الله عنها قالت : دخلت علينا جارية لحسان بن ثابت – يوم فطر – ناشرة شعرها معها دف تغني فزجرتها فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (( دعيها يا أم سلمة فإن لكل قوم عيد وهذا عيدنا ))[58]  وإذا نظرنا للكون وجدناه قد سُخِّرَ للإنسان ليستفيد من خيراته، ويتفكر في مكوناته المتنوعة؛ ليشبع كافة جوانب مكونات جسمه وروحه؛ يقول الدكتور علي جمعة مفتي الديار المصرية السابق: ” لا شئ في الغناء إلا أنه من طيبات الدنيا التي تستلذها الأنفس، وتستطيبها العقول، وتستحسنها الفطر، وتشتهيها الأسماع، فهو لذة الأذن كما أن الطعام الهنيء لذة المعدة، والمنظر الجميل لذة العين، والرائحة الذكية لذة الشم، والإسلام دين الجمال، ودين الطمأنينة، ولم يبق في الإسلام شيء طيب – أي تستطيبه الأنفس والعقول السليمة-؛ إلا أحله الله، رحمة بهذه الأمة لعموم رسالتها وخلودها. قال سبحانه تعالى: ﴿ يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ …﴾[المائدة : 4 ] ولم يبح الله لواحد من الناس أن يحرم على نفسه أو على غيره شيئاً من الطيبات مما رزق الله، مهما يكون صلاح نيته أو ابتغاء وجه الله فيه، فإن التحليل والتحريم من سلطة الله وحده، وليس من شأن عباده “[59]. قال تعالى : ﴿ قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا أَنزَلَ اللّهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَامًا وَحَلاَلاً قُلْ آللّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللّهِ تَفْتَرُونَ ﴾ [ يونس:59 ] قال ابن حزم : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى )) فمن نوى استماع الغناء عوناً على معصية الله تعالى؛ فهو فاسق، وكذلك كل شئ غير الغناء، ومن نوى به ترويح نفسه ليقوى بذلك على طاعة الله عز وجل، وينشط نفسه بذلك على البر؛ فهو مطيع محسن وفعله هذا من الحق! ومن لم ينو طاعة ولا معصية؛ فهو لغو معفو عنه، كخروج الإنسان إلى بستانه متنزهاً، وقعوده على باب داره متفرجا “[60]  وهذا عين الصواب؛ لأن الفهم الواسع للدين يحتاج لذوي العقول النيره، والإدراك العميق، والنظر المستبصر. قال الامام الصادق المهدي : ” إن الطبيعة هي كتاب الله، المشاهد ومناظرها في الشجر والنهر والبر والبحر لوحات جمالية، والطيورالمغردة والحيوانات تصدر أصواتاً هي التي تحاكيها آلات الموسيقى وأنغامها”[61]. وقال الإمام الغزالي: ” من لم يحركه العود وأوتاره، والربيع وأزهاره، فهو فاسد المزاج ليس له علاج ” وقال : ” من لم يحركه السماع فهو ناقص مائل عن الإعتدال، بعيد عن الروحانية، زائد في غِلظ الطبع وكثافته على الجمال والطيور، بل على جميع البهائم، فإنها جميعاً تتأثر بالأنغام الموزونة “[62] .

خامساً: بسط قيم التسامح: إن أخطر ما أصاب البشرية هو نهج التعصب الديني الذي ينفي الآخر ويسعى لاستئصاله من الوجود؛ والإنسانية في كل يوم تزداد وعياً بخطر التعصب وتتطلع إلى نهج يجعل التسامح يحـل محل التصـادم .

إنني أقول: جازما غير مرتاب؛ إنّ الحل في الإسلام. فقد نهى الإسلام عن الإكراه في الدين وترك الناس أحراراً ليختاروا الدين الذي يريدون. قال تعالى: ﴿لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ..﴾ [البقرة:256 ] ولا يجوز لأحد أن يحمل الناس قسراً على دين لا يريدونه؛ لأن مبدأ الحساب العادل يقوم على الحرية، والرسول صلى الله عليه وسلم – أفضل خلق الله- لم يعطه الله حق الإكراه! فمن باب أولى ألا يعطيه لأحد غيره؛ قال تعالى: ﴿وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [ يونس:99 ] ومهمته صلى الله عليه وسلم فقط تنحصر في البلاغ : قال تعالى : ﴿وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ.. ﴾ [الكهف:29]  ونهى الإسلام عن الإساءة لأصحاب المعتقدات المخالفة؛ بل دعا للبر بهم والتواصل معهم قال تعالى : ﴿ لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ [الممتحنة:8]  والإسلام لا يطلب من أهل الكتاب التخلي عن دينهم؛ بل يأمرهم بالإلتزام به، فعندما حمل الصحابي الجليل حاطب بن أبي بلتعة رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم  إلى {المقوقس} عظيم القبط بمصر ودار بينهما حوار، بدأه حاطب، قال للمقوقس : ( إن لك ديناً لن تدعه إلا لمن هو خير منه، وهو الإسلام الكافي به الله فقد ما سواه، وما بشارة موسى بعيسى إلا كبشارة عيسى بمحمد، وما دعاؤنا إياك إلى القرآن إلا كدعائك أهل التوراة إلى الإنجيل.. ولسنا ننهاك عن دين المسيح، ولكنا نأمرك به )[63]  هذه النظرة التي ينظرها الإسلام لأهل الكتاب جعلته يطلب من المسلمين أن يعاملوا أهل الكتاب معاملة حسنة ويجادلوهم بالتي هي أحسن : ﴿ وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ﴾ [العنكبوت:46]

إن التمييز الطبقي، والتفاضل العرقي، واسترقاق الإنسان لأخيه الإنسان؛ كانت من المفاهيم السائدة في العلاقات الإنسانية في الحقبة التي سبقت مجئ الإسلام، وتعاليم الإسلام جاءت لتلغي لتلك الممارسات الظالمة، وفي هذا العصر تجددت الدعوة إلى ( إحياء كل ما هو انسـاني ) في عالمنا هذا، وإلى إقامة العلاقات على أساسه وفي ضـوئه . لأن هنالك وعياً عالمياً بالقرية الكونية التي سيتأثر أي ركن فيها بما يحدث في أي جزء من أجزائها؛ مما يتطلب تعاوناً بين عمارها للمحافظة عليها أولاً: من الممارسات السيئة المضرة: مثل تلوث البيئة، وانتشار المخدرات، ونقل الأمراض الفتاكة، والهجرة غير الشرعية، وغيرها من أمراض العصر التي سماها الإمام الصادق المهدى بأسلحة الضرار الشامل، وثانياً : للتعاون الإيجابي بين شعوبها لتحقيق الوحدة الإنسانية في ظل التنوع . لقد جاءت الدعوة الإسلامية واضحة لمنع الضرر، في أكثر من موضع: فخليفة المسلمين أبو بكر الصديق يوصي يزيد بن أبي سفيان عندما بعثه علـى رأس جيش للشام قائـلاً: ((.. وإني أوصيك بعشـر: لا تقتلن امـرأة؛ ولا صبياً؛ ولا كبيراً هرماً؛ ولا تقطعن شجراً مثمراً؛ ولا تخربن عامـراً؛ ولا تعقرن شاة ولا بعيراً إلا لمأكلة ؛ ولا تحرقن نخلاً ؛ ولا تفرقنه ؛ ولا تغلل ؛ ولا تجبن .. ))[64] والسنة النبوية دعت إلى منع من يسعى للضرر؛ بل أكدت أن الناس إذا لم يمنعوا المفسدين فسوف تحل الكارثة عليهم جميعاً كما وضح ذلك حديث السفينة؛  قال صلى الله عليه وسلم: (( مثل القائم على حدود الله والواقع فيها؛ كمثل قوم استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذ من فوقنا، فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً ))[65]  إن الإلتزام بهذه التوجيهات يحقق الإصلاح في الأرض ويمنع الفسـاد، ويحقق المحافظة على البيئة – الملك المشترك للعنصر البشري – قال تعالى : ﴿ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [الأعراف:56] . وقال تعالى : ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ  وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ  وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ ﴾ [البقرة:204 – 206]  فالتواصل الإنساني دينياً وثقافياً وحضارياً تبادلاً للمصالح والمعارف؛ أمراً بديهياً في الإسلام، ولم يكن من القضايا التي يحتار فيها المسلمون في السابق، لأنهم كانوا معافين من العلل المُقْعِدَة التي لحقت بالخلف، فقد عاشوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه روح الإسلام؛ فرأوا كيف أنهم تسامحوا حتى مع الذين سعوا لاستئصالهم فعفوا عنهم عند المقدرة، وتجاوزوا عنهم عند التمكن! فرفدوا الإنسانية لأول مرة بمنظومة قيم لا تعرف الثأر ولا الإنتقام؛ بل إنهم أقروا للذين آذوهم بالأخوة، فعندما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة منتصراً وتمكن من خصومه قال لهـم: ((يا معشر قريش ما تظنون أني فاعل بكم؟ . قالوا : خيراً ؛ أخ كريم وابن أخ كريم ، قال : اذهبوا فأنتم الطلقاء ))[66]!!

سادساً :  صيانة كرامة الإنسان : دعا الإسلام إلى التفكر والتدبر في أكثر من آية، وكثير من أحكام الإسلام تقوم على العلل، هنالك عقائد وضعية تعاملت مع الإنسان على أساس أنه نجس لا قيمة له،  وانتقصت من قدره، ورأت أنه لا يسمو إلا إذا عذب جسده وأهان نفسه. وهنالك عقائد غالت في تعاملها مع الإنسان حيث وضعته في مرتبة الألوهية. وكلا العقيدتين فاسدة ولكن الإسلام جاء بفهم وسط لم يستصغر الإنسان ولم يؤلهه، وإنما جعله مخلوقاً مكرماً لمجرد إنسانيته كما اتضح سابقاً. والإسلام جاء ليكرّم هذا الإنسان لأنه سيد المخلوقات؛ ولو أراد الله لهذا الكون انسجاماً قائماً على القهر انسجاماً غريزياً؛ لاكتفي بالخلق الأول. فلا يملك أحد أن يتدخل في إرادة الله ويقول : إنه يريد أن يجبر الناس جبرا ليكونوا كالملائكة. لقد أراد الله سبحانه وتعالى أن يخلق الناس هكذا؛ أحراراً يملكون الإرادة، وبين لهم طرق الخير وطرق الشر،  فمن أراد أن يتبع الهدى فهو حرٌ ومن أراد أن يتبع الضلال فهو حر : ﴿ قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلاً ﴾ [الاسراء:84]  إن إجبار الناس لكى يسيروا على نهج واحد لم يعطه الله حتى لرسوله الأعظـم صلى الله عليه وسلم قـال له سبحانه وتعالى : ﴿لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ ﴾ [الغاشية:18]  وقال : ﴿ولوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ﴾[يونس:99]  وقال : ﴿ فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ﴾ [الشورى:48]  فمهمة رسول الله صلى الله عليه وسلم  محددة بتبليغ ما أُمِربه؛ فقد بُعث نبياً وهادياًومبشراً ونذيراً ولم يبعث قاضياً. وعندما استشار أصحابه في غزوة أحد كان رأي الغالبية من أصحابه أن يخرج بالناس إلى خارج المدينة، فنزل عند رأي الأغلبية وامتثل لهم وخرج. وفي تلك المعركة هُزِم المسلمون لمخالفة الرماة أمر الرسول وسقط رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحفرة، وكُسِرَت سِنُّه، ودخلت حلقة من الدرع في وجنته، وجُرِح في ساقه، فنزل علي بن أبي طالب وأخرجه من الحفرة بمساعدة آخرين؛  ففي هذه الأثناء ودمـه ينزف؛ نزل عليه قوله تعالى : ﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ ﴾ [آل عمران:157]  فكأنه سبحانه وتعالى يقول له : إياك أن تُلغي الشورى لأنها أتت بنتيجة عكسية! فمهما كانت النتائج فإنّ رأي الجماعة لا تشقى البلاد به رغم الخلاف، ورأي الفرد يشقيها . والإسلام جاء بالرحمة ولكننا نرى الآن دعاة أتوا بالعذاب ويريدون أن يقولون لنا هذا هو الإسلام !!

جاء رجل مصري قبطي ومعه ابنه الى الخليفة عمر بن الخطاب وقال له: إن ولد عمرو بن العاص ضرب ابني ظلماً، فأرسل عمر إلى ابن العاص وأمره أن يأتي مسرعاً إلى المدينة هو وولده من الديار المصرية؛ فلما جاء أعطى ابن الخطاب الغلام المصري سوطا وقال له اضرب به ابن الأكرمين! فلما أخذ حقه، قال له لوضربت هذا مامنعتك ـ يعني عمرو بن العاص ـ فلولاه لما تجرأ ابنـه !  فقال المصري أنا لاأضرب إلا من ضربني . فقال عمر عندها مقولته المشهورة: “متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا”[67] بهذا تكون هيبة الدولة بإقامة العدل ومنع الظلم .

هذا هو الإسلام؛ قيم ومبادئ، وانشراح صدر المؤمنين للحكام، فمهما استدل المتحدث بالنصوص لتبرير تصرفاته الخاطئة فإن الناس إن لم يطمئنوا لما يفعل فعليه بالمراجعة . قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه الإمام أحمد : ” إذا سمعتم الحديث عني تعرفه قلوبكم وتلين له أشعاركم وأبشاركم وترون أنه منكم قريب، فأنا أولاكم به. وإذا سمعتم الحديث عني تنكره قلوبكم وتنفر منه أشعاركم وأبشاركم وترون أنه منكم بعيد، فأنا أبعدكم منه “[68] .

ورب العزة يقول : (( إني والإنس والجن في نبأ عظيم؛ أخلق ويعبد غيري، وأرزق ويشكرسواي،  خيري الى العباد نازل وشرهم إلي صاعد، أتحبب اليهم بنعمتي وأنا الغني عنهم، ويبتغضون عني بالمعاصي وهم أفقر شئ إلي، من أقبل لقيته من قريب، ومن أعرض ناديته من بعيد، أهل ذكري أهل عبادتي، أهل شكري أهل زيادتي، أهل طاعتي أهل محبتي، أهل معصيتي لا أقنطهم من رحمتي، إن تابوا إلي فأنا حبيبهم، وإن لم يتوبوا فأنا طبيبهم، ابتليهم بالمصائب لأطهرهم من الذنوب والمعاصي، الحسنة عندي بعشر أمثالها وأزيد، والسيئة بمثلها وأعفو، وأنا أرأف بعبادي من الأم بولدها ))[69].

      إن الذين يتشددون في الدين، ويضيقون على الناس، ويتبعون أسلوب التنفير؛ هم في الواقع قطاع طرق بين الناس وربهم.

إن الله سبحانه وتعالى يقول: ﴿.. مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [المائدة :6] وهو القائل: ﴿.. يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ..﴾ [البقرة:185]. والله سبحانه وتعالى أرحم بنا من أمهاتنا هل الذين يريدون أن يسوقونا قسراً إلى مفاهيمهم اليوم أرحم بنا من أمهاتنا؟!!  أبداً.. والإسلام من تكريمه للإنسان حرم عليك أن تهمزه أو تغمزه أو تسوء به الظن قال تعالى: ﴿ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ﴾ [الحجرات:12]. وقال صلى الله عليه وسلم: ((إياكم والظن فإن الظـن أكذب الحديث… ))[70]. وكان ولاة الأمر وقّافون على الحق مهما كان مقام الناصح لأنهم قرأوا قول الله سبحانه وتعالى : ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ ﴾ [البقرة:206] . فتواضعوا لله وامتثلوا أوامره فوفقهم الله وسدد خطاهم.

سادسا: مرتكزات المنهج الوسطي: إنّ النهج الوسطي للإسلام هو المؤهل للإنتصار للإسلام لما يتميز به من خطاب موضوعي، وأسلوب واقعي، ونظرة شاملة لكل نواحي الحياة الإنسانية؛ وإضافة إلى ما تقدم فإنّ النهج الوسطي هو نهج الإحياء الإسلامي الواعد ويقوم على المرتكزات الآتية :

( أ )  توحيـد أهـل القبلـة ..

أهل القبلة هم كل من نطق بالشهادتين، وآمن بالبعث وأقر بتعاليم الإسلام على الجملة. عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:”مَن صَلَّى صَلاتَنَا واسْتَقْبَلَ قِبْلَتَنَا وأكَلَ ذَبِيحَتَنَا، فذلك المسلم الذي له ذِمَّةُ الله وذِمَّةُ رَسُولِه، فَلاَ تَخْفِرُوا الله في ذِمَّتِه”[71] . فالناس تتفاوت درجاتهم والتزاماتهم، المطلوب هو الإلتزام بالأصول ولا يضير اختلاف الإجتهادات في الفروع ما دامت كلها تصب في مصلحة الإسلام والمسلمين.

 إن الاختلافات الفكرية والمذهبية والسياسية ضرورة؛ لأن الحقيقة الكاملة لا يملكها إلا الله سبحانه وتعالى وقد وزعها على عباده بنسب متفاوتة ليتكاملوا حتى وهم يتصارعون .. فالاختلاف نفسه ليس عيباً، وإنما العيب هو أن يتحول الاختلاف بين المسلمين إلى تعصب، واتهام المخالف بالكفر والزندقة لمجرد المخالفة في الرأي . الإختلاف بين المسلمين في الفروع هو اختلاف تنوع وليس اختلاف تضاد، وللاختلاف أسباب موضوعية ذكرتها سابقاً . إضافة لتلك الأسباب هناك أسباب أخرى ساهمت في تعدد المدارس الفكرية والمذهبية في ديار الإسلام . إن التعدد في الكون أمر واقع، وضرورة اجتماعية، و في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم تعددت أراء أصحابه فأقرهم عليها والوحي ينزل. فالإختلاف ضرورة لاستيعاب الإجتهادات وتنوعها في كل جزئية من الجزئيات .. قال تعالى : ﴿ .. وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ  إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ .. ﴾ [يونس:118-119] وتوحيد أهل القبلة لا يعني أن يكون فهم الناس متطابقاً في كل صغيرة وكبيرة وإنما يعني اتفاقهم على الآتي :

الثوابت.

 الكليات .

الإلتزام بقطعيات الشريعة .

عدم التكفير للمخالفين في الرأي .

  نصرة المظلوم .

  التسامح بين الجماعات المختلفة .

  عدم فرض الرأي بالقوة .

الاجتهاد المؤسسي .

الاتفاق على معالم الدولة الإسلامية.

الاتفاق على أسس الخطاب الإسلامي للآخر.

منهج التعامل مع التراث.

منهج التعامل مع المستجدات.

 إن توحيد أهل القبلة إذا تحقق فسوف يجنب المسلمين كثيراً من المشاكل التي جرّها عليهم التعصب وقصر النظر؛ وسوف يتهيأ المناخ للإنطلاقة الإسلامية الكبرى بوعي وإدراك إن شاء الله.

( ب )  مرجعيـة التشـريع ..

الملزم من التشريع الإسلامي هو ما كان قطعي الورود وقطعي الدلالة .. فالقرآن كله قطعي الورود وبعض آياته قطعية الدلالة، أي أنه كله موحى به من عند الله؛ كلمة كلمة، وحرفاً حرفاً، ومعظم  آيات الأحكام محكمات؛ هنّ أمّ الكتاب وبه نصوص متشابهة تحتمل أكثر من معنى . والسنة ما كان منها وارداً عن طريق التواتر وثبتت صحة نسبته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو قطعي الورود، وما لم تصح نسبته إلى رسول الله يقاس على القرآن ـ والسيرة النبوية تُعتبر ترجمة واقعية وتجسيداً عملياً لتعاليم الإسلام. إنّ القرآن الكريم والحديث الصحيح والسيرة الثابتة؛ كلها مصادر للتشريع ملزمة بالمنهجية المبينة سابقا، أمّا التفاسير، والإجتهادات الفقهية، والآراء الفكرية التي قال بها العلماء؛ فهي للإستنارة، والإستفادة من المنهجية، والإسترشاد .. فما كان منها أقرب إلى قطعيات الإسلام ومقاصده، ويتلاءم مع ظروف عصرنا؛ أخذنا به. وما كان مرتبطاً بزمن محدّد، وأملته ظروف معينة، ولا يحقق المقصد الإسلامي المطلوب في عصرنا؛ تركناه .

وقد وضع الإمام المهدي قاعدة ذهبية في هذا المعنى تقول :” لكل وقت ومقام حال ولكل زمان وأوان رجال ” .

( ج )  التعامل مع غير المسلمين ..

      إن غير المسلمين أخوتنا في الإنسانية؛ وسبق البيان أن الإسلام كرم الإنسان لمجرد انسانيته؛  وعليه فإن نهج التعامل معهم يقوم على الآتي :

ـ  التعاون معهم في كل القضايا الإنسانية؛ مثل إزالة آثار الكوارث الطبيعية، والمجاعات، والمحافظة على البيئة، والتعاون الدولي لحفظ السلام والأمن، وتبادل المنافع معهم، والإستفادة من خبراتهم وتجاربهم، والسند في ذلك هو قول الله سبحانه وتعالى : ﴿ لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ﴾ [الممتحنة:8] 

ـ  معاملتهم بالحسنى وعدم الإساءة إلى معتقداتهم مع الإقرار بانحرافها؛ فقد أمرَ الإسلام أن يُجادَلوا بالتي هي أحسن؛ بل نهى عن سبّ آلهة الوثنين .. فقال تعالى : ﴿ وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾  [الأنعام:108]

ـ  اتخاذ أسلوب الحوار معهم : فالحوار يهدف لإعلاء المشتركات من ناحية، ومن ناحية أخرى فإنه يبين حجتنا؛ فنحن نعتقد أنّ ذكر رسول الله قد ورد في كتبهم، وبشّر به أنبياؤهم . وكتابنا نصّه موحد ومتفق عليه من جميع المسلمين، ولا يوجد تناقض بين تعاليمه وبين الحقائق العلمية والمعارف الإنسانية التي توصّـل إليها الإنسان، ورسولنا أوراقه الثبوتية معروفة : فأسرته من جهة الأب والأم معروفة، وتاريخ ميلاده ومكانه معروفان، وحاضنته ومرضعته معروفتان، ومعلوم أين تربّى وأين توفي، وأين دفن. إن سيرة رسولنا صلى الله عليه وسلم كلها مدوّنة، ومحققة، ولا يوجد تناقض بين المسلمين حول سيرته؛ فهذه الحجج الدامغة، والمفاهيم الواضحة؛ تعطينا أقوى سند مقابل أطروحات الآخرين .. فالحوار هو أفضل أسلوب للتعامل مع غير المسلمين، ولنشر الإسلام بصفة عامة .

ـ  التعايش والتواصل معهم اجتماعياً، والتنافس سلمياً ..

إنّ الإسلام هو دين التسامح والإعتدال، ومفاهيمه تعتمد على الحجة ومخاطبة العقول؛ عليه فإن أسلوب التعايش مع غير المسلمين، والتنافس هو الأجدى والأنفع للإسلام وللمسلمين؛ حيث تظهر حجته، ويبرز منطقه أمام حجج الآخرين ومنطقهم. والمسلمون يستطيعون في ظل التعايش السلمي أن يتحاوروا مع غيرهم ويستفيدوا من مناخ التسامح وكفالة الحريات أن ينشروا دعوتهم. ولا أرى مبررا لحرمان غير المسلمين من نشر دعوتهم، فالحرية لاتتجزأ، ولنترك للناس أن يختاروا، وعلينا أن نحسن عرضنا لديننا، ونلتزم بأحكامه فإن هذا وحده كفيل بإقناع الناس .

( د )  نظام الحكم في الإسلام ..

      لقد عرف المسلمون عدة أنظمة تعاقبت عليهم بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى يومنا هذا، بدأت بالخلافة الراشدة، ثم الخلافة الموروثة، ثم الملك العضوض، وعرف المسلمون عدداً من نظم الحكم في العصر الحديث، مثل الديمقراطية، ونظام الحزب الواحد، والحكم العسكري، والنظام الملكي، وغيرها والسبب في تعدد أنظمة الحكم هو أنّ الإسلام لم يلزم المسلمين بشكل معين لنظام الحكم، وإنما حدّد مبادئ وترك للمسلمين تطبيقها وفق ظروف زمانهم ومكانهم ومصلحتهم .

إن النظام الإسلامي يقوم سياسياً على الشورى، والحرية، والعدالة، والمساواة، والوفاء بالعهد ـ واقتصادياً على الإنتاج، والعدالة في توزيع الثروة، والتكافل، وتحريم الإستغلال، والربا، والكسب دون جهد ـ ويقوم اجتماعياً على الإخاء والتعاون والرحمة .

إن النظام الذي يقوم على النيابة في الحكم، والفصل بين السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، ويسمح بتداول السلطة سلمياً، ويحقق الرقابة على المسئولين والحكام، ويسائلهم ويحاسبهم على تصرفاتهم؛ هو النظام الأمثل للحكم في هذا العصر، وبالمقارنة بين النظم السائدة حالياً نجد النظام الديمقراطي هو الذي يحقق تلك المقاصد، فالمسلمون عليهم أن يقبلوا بهذا النظام حتى يتمكنوا من بلورة النظام السياسي الإسلامي؛ لأنّ البدائل الحالية كلها أسوأ منه،  فالنظام الديمقراطي إذا حدثت له أقلمة ليتلاءم مع بيئتنا ومعتقداتنا؛ ستتحقق في ظله فرائض الإسلام السياسية ، ومبادئه في الحكم، وفي ظل الديمقراطية يقوم نظام الإسلام المنشود؛ لأنها لا تتعارض مع الإسلام في الجوانب المذكورة بل تحقق مقاصده .

( هـ )  المـرأة والتعـامل معهـا ..

      كانت المرأة قبل الإسلام مهضومة الحقوق ومضطهدة من المجتمع؛  فمكانها في مؤخرة المنزل، وهي نفسها تورث من ضمن المال وليس لها حق ملكية أي شئ حتى نفسها، وكانت تدفن وهي طفلة حية مخافة العار في المستقبل، وكان الرجل إذا أنجبت زوجته بنتاً هجرها وابتعد عنها .. قال تعالى : ﴿ وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلاَ سَاء مَا يَحْكُمُونَ ﴾ [النحل: 58- 59]

جاء الإسلام وأبطل كل تلك المفاهيم والعادات، وحقق للمرأة كرامتها وإنسانيتها وأنزل سورة تسمى سورة النساء، وساوى الإسلام بين المرأة والرجل في الحقوق والواجبات وأكد قائلاً : ﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾ [النحل:97] وخاطب الإسلام المرأة بأحكام الشريعة كما خاطب الرجل قال تعالى : ﴿ إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب:35]  والمرأة تدعو للإسلام كما يدعو الرجل، وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وتسعى في كل شئون حياتها: مثل التجارة، والصناعة، والزراعة، وجميع الأعمال التي تليق بها وبأنوثتها وتحفظ كرامتها .. إنها الشق الآخر للنوع الإنساني .. وهنالك نساء حفظ التاريخ أسماءهن مثل: مريم، وخديجة، وعائشة، وفاطمة، وبلقيس، ورابعة العدوية، ورابحة الكنانية؛ التي قطعت الفيافي والصحاري على قدميها لتخبر المهدي بتحركات جيش العدو .

إن الفهم الصحيح للاسلام يؤدى لاحترام المرأة، والإعتراف لها بحقوقها، ويمكنها من القيام بدورها الذي طلبه منا الشرع؛ فهي مكرمة أما وأختاً وبنتاً وزوجة؛ أعطاها الإسلام الحق في التعليم والحق في العمل والقيام بالأنشطة الإجتماعية والسياسية والإقتصادية[72] .

خاتمـة :

      نحن نعيش في عالم متغير لا يشبه العالم القديم لا في نظمه ولا في علاقاته وابتكاراته : فالدولة ليست الدولة، والنظم ليست النظم، والمفاهيم ليست المفاهيم؛ هذا العالم بتعقيداته والتغيرات التي حدثت فيه، يحتاج إلى منهج جديد في التعامل؛ يخاطب المستجدات التي حدثت فيه، والإسلام بمبادئه الإنسانية، وبمفاهيمه العدالية؛ قادر على تحقيق هذا التطلع؛ مطلوب منا أن نطورخطابنا ليلبي هذه الضروريات.

 إن أطروحات المدارس المنكفئة غير قادرة على مواجهة المتغيرات؛ لأنها تخاطب مفاهيم غير موجودة في عصر العولمة. وأطروحات الإستلاب تتجاهل القيم والثقافات التي تشكل هوية المجتمع، فتجد نفسها في تصادم مع الواقع مما يؤدى إلى هزيمة مشروعها كما شاهدنا في كثير من البلدان التي سلكت سبيل الغلاة، إن عالم اليوم ينشد التسامح والموضوعية والتعاون والحريات والحوار، فالخطاب الوسطي هو القادر على مخاطبة هذا العصر وذلك لما يتميز به منهجه من مرونة وإحاطة وتجديد؛ فهو مؤهل للتعامل مع كافة الأشكال والنظم والبيئا.

 باستيعاب المعالم السابقة تتضح المعايير التي بموجبها يصح الحكم كل من يدعي الوسطية؛ هل هو صادق أم يخالف قوله الواقع. فالوسطية منهج يقوم على العدل والتوازن والتكامل؛ فمن يلتزم بهذا المنهج فهو وسطي فردا كان أم جماعة أم تنظيما وإلا فلا.. 

والتوازن يتحقق بفهم صحيح الإسلام، وترسيخ مبادئه عن طريق المناهج التربوية والتعليمية، وكذلك بتجفيف منابع التَّطرف والغلو ومغذّياته الاجتماعية والفكرية، ومعالجة ظاهرة الفقر والأمية والتخلف، ويتم كل ذلك عبر تحقيق الإصلاح السياسي الذي له تأثير كبير على الأمور الأخرى. 

إن الفهم الصحيح للإسلام؛ هو العاصم من الإنحراف عن الصراط المستقيم، وهنا يكون دور العلماء قال صلى الله عليه وسلم :” يحمل هذا العلم من كل خَلَفٍ عُدُولُه يَنْفُون عنه تَحْريف الغَالِين وانتِحَال المُبطلين وتأويل الجاهلين”[73]   

إن الدين التزامٌ قبل الدعوة؛ وسلوكٌ قبل الشعار، وإصلاحُ الباطن قبل الظاهر، فالذي يدعو لأيّ أمر إن لم يكن مُلتزما به في نفسه؛ فلن يكون له أيُّ أثرٍ على الواقع، فمُعَلِّم نفْسَه ومؤدِّبُها خيرٌ من مُعَلِّم الناس ومؤدِّبهم، وثبت بالتجربة أن أكثر الأصوات ارتفاعا بالشعارات هي أقَلِّ التزاما بمضمونها قال تعالى : “ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا  لاَ  تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا  لاَ  تَفْعَلُونَ”[الصف:2-3] أقول لرافعي الشعارات دون التزام؛ أرفقوا بأنفسكم وبالناس، فالشريعة ليست شعارات، ولا حدودا وعقوبات فحسب، وإنما هي منهج حياة متكامل، وبهذا الفهم أقول: إنّ الشريعة ليست غائبة كلياًّ، فالمجتمع المسلم يراعي أحكام الشريعة منذ الميلاد، ويحرص على ممارسة كل شؤون حياته وفق أحكامها، ويجتهد في ذلك حتى الممات. وأعني بذلك النظام العام لمُجتمع المسلمين، وحتى الدول في بعض تشريعاتها مُلتزمة بالشريعة؛  ولا ينفي هذا وجود بعض المخالفات الفردية، والجماعية، وعلى مستوى الدولة، ولكنها مقارنة مع الغالب الأعم؛ فهي مخالفات قليلة، وتتعاظم حَسْب طبيعتها ونوع مقترفيها، وعليه فإن الشعار الصحيح هو “الدعوة لتوسيع قاعدة تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية لتشمل الجوانب التي لم تُطبق فيها”، ولكن بالتدرج مع مراعاة الواقع . 

الإسلام دين خاتم جمع أصول الرسالات السابقة، ومن شروط صلاحيته للتطبيق استجابته لمتطلبات مستجدات الحياة، ومنذ عصر التَّنْزيل مرورا بكل الحقب اهتم الفقهاء بإبراز مقاصد التشريع؛ قال الشاطبي: “المقاصد أرواح الأعمال”[74] واجتهادات عمر بن الخطاب تؤكد ذلك؛ فمنعه سهم المؤلفة قلوبهم، ورفضه تقسيم أراضي العراق، واتخاذه للدواوين، وغيرها؛ كل ذلك يندرج في بند قراءة النصوص الجزئية في ضَوْءِ المقاصد الكلية، وفي عصر الإنفتاح والعولمة وتدفُّق المعلومات وتقارب الزمان والمكان؛ صار إبراز هذا المنهج من ضرورات العصر.  

إن الفكر الإسلامي هو تَفاعُل بين النّصوص والواقع، والإسلام دعا لهذا التفاعل فالقرآن كتاب مقروء والكون كتاب منظور، ومطلوب من المسلم قراءة الكتابين ليفهم مقصد الله من قصة الخلق، ومهمة الإستخلاف، فتجديد الفكر الإسلامي؛ هو تفاعل بين الإسلام والواقع عبر العصور، ولكل عصر مُفَكِّروه ومُجَدِّدُوه، والتجديد هو تجديد التَّدَيُّن لا تجديد الدين، وتجديد القراءة للنصوص وفق متطلبات العصر، لتحقيق التصالح بين الدين والحياة .  

والشرع جاء لتنظيم حياة الإنسان وتوجيهها لما يحقق صلاحه في الدنيا والآخرة، والقرآن نزل  لكل الناس عبر كل العصور، وكل أهل عصر مطالبون أن يقرأوا القرآن كأنَّه أُنْزل عليهم مع استفادتهم من قراءات السابقين لهم، والإلتزام  بالأصول الثابتة التي لاتتغير بتغيُّر الزمان والمكان. واستصحاب الملائم لعصرهم من قراءة السلف. 

فالقرآن الكريم لا تبلى جدته؛ أيْ أن معارفه ومعانيه لا تتقيد بحدود الزمان والمكان؛ إذا فُهم الإسلام بهذا المعنى الواسع، وأدرك المسلمون أن معارف القرآن أوسع من حدود المكان والزمان،  وأنها متجددة؛ فإن ذلك من شأنه أن يحقق توفيقا بين ثوابت الإسلام ومقتضيات العصر المتجددة. قال تعالى: “ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ”[ابراهيم:23-24].

الوسطية منهج فكري، وموقف أخلاقي، ومظهر سلوكي، يتصف به المسلم استجابة لقوله تعالى:”وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَوَلاَتَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلاَتَبْغِ الفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لاَيُحِبُّ المُفْسِدِينَ”[القصص:77] حيث تشيرهذه الآية إلى أهمية الوسطية وتحقيق التوازن في الحياة. والعلماء هم من يناط بهم ترسيخ هذا المنهج؛ قال صلى الله عليه وسلم: “يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله؛ ينفون عنه تحربف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين”[75] الوسطية هي الاعتدال في كل أمور الحياة من تصورات، ومناهج، ومواقف، وهي تحرٍّ متواصل للصواب في التوجهات والاختيارات، فالوسطية ليست مجرد موقف بين التشدد والانحلال؛ بل هي منهج فكري وموقف أخلاقي وسلوكي[76].

 قال تعالى : ﴿ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [ يوسف:108 ]

–  المراجع  –

  1.       القرآن الكريم
  2.       صحيح البخاري
  3. 3-      صحيح مسلم
  4. 4-      مسند الامام أحمد
  5. 5-      سنن الترمذي
  6. 6-      سنن البيهقي
  7. 7-      الموطأ للامام مالك
  8. 8-      موسوعة الحديث
  9. 9-      سنن ابن ماجة
  10. موسوعة أصول الفكر السياسى والاجتماعى والاقتصادى من نبع السنة الشريفة وهدى الخلفاء الراشدين اعداد خديجة النبراوي
  11. البداية والنهاية لابن كثير
  12. اعلام الموقعين لابن القيم
  13. تاريخ الإسلام للذهبي
  14. العقد الفريد لابن عبد ربه
  15. الطرق الحكمية في السياسة الشرعية لابن القيم
  16. المحلى لابن حزم
  17. احياء علوم الدين للامام الغزالي
  18. فتوح مصر وأخبارها لابن عبد الحكم
  19. تاريخ الرسل والملوك للامام الطبري
  20. الاعمال الكاملة للكواكبي
  21. الآثار الكاملة للامام المهدي للدكتور أبو سليم
  22. البيان لما يشغل الأذهان للدكتور علي جمعة
  23. نحو ثورة ثقافية : الامام الصادق المهدي
  24. الراتب للامام المهدي
  25. السنة النبوية مصدراً للمعرفة والحضارة : د. يوسف القرضاوي
  26. إدارة التنمية : الدكتور فضل الله علي فضل الله
  27. الإسلام في عصر العلم : محمد أحمد الغمراوي
  28. الحوار في الإسلام حقائق ونتائج : عبد المحمود أبو
  29. يسألونك عن الأنصارية : عبد المحمود أبو
  30. الإسلام والبيئة : عبد المحمود أبو

الفهرس

الرقم                                      العنوانالصفحة
1مقدمة الطبعة الثالثة2
2مقدمة الطبعة الثانية 3
3اهداء4
4مدخل5
5الفصل الأول: المدارس العاملة في الساحة الإسلامية 8
6مدرسة الإنكفاء9
7مدرسة الاستلاب11
8مدرسة الوسطية12
9الفصل الثاني: عوامل الخلل ومنهج العلاج14
10منهج الوسطية والدين في حياة الإنسان19
11منهج الوسطية والتحديات 22
12الفصل الثالث: نظرة موضوعية للاختلاف25
13الفصل الرابع: الرسالة الخاتمة هي المخرج 35
14خصائص الرسالة الخاتمة36
15مقومات صلاحية الرسالة الخاتمة38
16خاتمة 58
17المراجع61
18الفهرس 62

[1] الشيعة عندهم مراجع دينية يلتزمون بتوجيهاتها بخلاف أتباع المذهب السني.

[2] الفروق  للامام القرافي (2/229)

[3] صحيح مسلم، كتاب الفضائل، باب وجوب امتثال ماقاله شرعا دون ماذكره صلى الله عليه وسلم من معايش الدنيا على سبيل الرأي رقم الحديث (2363)

[4] متفق عليه، رواه البخاري في الصحيح(3/439) كتاب الحج . (42) باب فضل مكة وبنيانها  ومسلم في الصحيح(2/968- 969) كتاب الحج (69) باب نقض الكعبة وبنائها

[5] تفسير القرطبي ، والوفيات لابن شاكر الكتبي، والمستطرف في كل فن مستظرف للأبشيهي

[6]السيرة الحلبية لنورالدين الحلبى ص (168)

[7] تاريخ الخلفاء

[8] تاريخ الخلفاء للسيوطى ص (108)

[9]  دود أسود يمتص الدم. يكون في الماء الآسن إذا شربته الدابة علق بحلقها . مفرده :علقة بفتح العين واللام

[10]  الأعمال الكاملة للكواكبى ، ص (506)

[11]  تاريخ الإسلام للذهبى ، ص (115) موقع الوراق :www.alwaraq.com

 [12] الأعمال الكاملة للكواكبى : ص (503) سلسلة التراث القومى : مركزدراسات الوحدة العربية

[13]  رواه البخارى (39) صحيح البخارى ، ص : (21) مكتبة الإيمان

[14]  متفق عليه : رواه البخارى (1151)  المصدر السابق ، ص : (1079)ومسلم (1401) صحيح مسلم  ، ص : ( 664 ) مكتبة الإيمان القاهرة  

[15] رواه مسلم في صحيحه (8)

[16] الإمام الصادق المهدى : نحو ثورة ثقافية ص (23) مكتبة الشرق الدولية – القاهرة الطبعة الأولى 2006م

[17] راتب الامام المهدى عليه السلام : مجموعة أذكار وأدعية مأثورة وابتهالات عميقة المعانى

[18] الإمام الصادق المهدي، الخيارات الحركية في العالم الإسلامي بتصرف

[19]  حجة الله البالغة للدهلوي ( 307 )

[20]  متن جوهرة التوحيد تأليف برهان الدين ابراهيم بن ابراهيم اللقانى ص(19) الطبعة الثانية 2005م دارالسلام للطباعة والنشر – القاهرة

[21]   أخرجه البخارى في صحيحه (7169) في كتاب الأحكام مكتبة الإيمان

[22]   ابو سليم : الآثار الكاملة للإمام المهدي : الجزء الأول دار النشر جامعة الخرطوم

[23]  البداية والنهاية لابن كثير (2/298)

[24]   إعلام الموقعين لابن قيم الجوزية المجلد الأول ص: (164) دار الحديث القاهرة

[25]   أخرجه البخارى في صحيحه (7352) في كتاب الإعتصام بالكتاب والسنة مكتبة الإيمان القاهرة

[26]  أخرجه ابن عساكر في تاريخه (6/201) والعجلونى في كشف الخفاء (1/118) والعقيلى في الضعفاء (2/159) . الخضراء السماء . المختار(139) المصدر: موسوعة أصول الفكر السياسى والإجتماعى والإقتصادى من نبع السنة الشريفة وهدي الخلفاء الراشدين . إعداد خديجة النبراوى المجلد الثانى (1085)

[27]  سيرة ابن هشام : ( 2 / 661 ـ 666 )

[28]  البداية والنهاية لابن كثير(5/233 ) والسيرة النبوية لابن هشام الجزء الرابع ص(207) مكتبة دار التقوى – القاهرة  طبعة 1999م

[29]  البداية والنهاية لابن كثير: (5/215 – 222)

[30]  طه جابر العلواني : أدب الإختلاف في الإسلام  ص ( 25 ) ، المعهد العالمي للفكر الإسلامي

[31]  أخرجه البيهقي في السنن ( 8 / 173 )

[32]  الإنتقاء ( 140 )

[33]  متفق عليه رواه البخارى في صحيحه (48) ومسلم (116) مكتبة الإيمان – القاهرة

[34] هذا الجزء منقول من بحث بعنوان : الحوار في الإسلام حقائق ونتائج بقلم المؤلف

[35] رواه مسلم في صحيحه في كتاب الفضائل(1187/22/2286) مختصر صحيح مسلم للحافظ عبدالعظيم بن عبدالقوى المنذرى مكتبة الصفا القاهرة الطبعة الأولى 2005م

[36] رواه البخارى في صحيحه في كتاب التيمم (224) مختصر صحيح البخارى المسمى التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح تأليف الامام زين الدين أحمد بن عبداللطيف الزبيدى مكتبة الصفا –  القاهرة الطبعة الأولى 2005م

[37]  رواه مسلم في صحيحه (1006) مكتبة الإيمان –  القاهرة

[38]   أخرجه البخارى في صحيحه (7169) في كتاب الأحكام مكتبة الإيمان

[39] رواه الترمذى وابن ماجة

[40]  ما استمت : أي لم أراودها عن نفسها

[41]  العقد الفريد لابن عبد ربه الأندلسى ص (756) المصدر : موقع الوراق :www.alwaraq.net

[42]  ابن القيم  : الطرق الحكمية في السياسة الشرعية ، ص ( 24 )

[43]  ابن كثير : البداية والنهاية ( ج 2 / ص 270 )

[44] الامام الصادق المهدى: نحوثورة ثقافية ص: (68-69)

[45] راتب الامام المهدى الجزء الأول

[46] رواه البخارى في كتاب الايمان (16)

[47]  رواه أحمد المصدر البداية والنهاية لابن كثير (4/38)

[48] رواه مسلم  في صحيحه في كتاب الايمان (28/ 93/ 54)

[49] رواه البخارى في صحيحه في كتاب الأدب (2013)

[50] نص الحديث ورد في صحيح مسلم رقم الحديث (2577)

[51] رواه البخارى في كتاب الأدب (2038)

[52] إدارة التنمية د فضل الله على فضل الله

[53] رواه مسلم في كتاب القدر(1360/22/2658)

[54] هذه الفقرة منقولة من محاضرة قدمها الكاتب في دار الجمعية السودانية لحماية البيئة بعنوان الإسلام والبيئة بتاريخ : 26 ابريل 2004م وراجع أيضا السنة النبوية مصدراً للمعرفة والحضارة _ د. يوسف القرضاوي. وإدارة التنمية _ د. فضل الله علي فضل الله. و الإسلام في عصر العلم _ محمد أحمد الغمراوي.

[55] حديث صحيح أخرجه مسلم في صحيحه ، وأحمد في مسنده ، والحاكم في مستدركه ، وغيرهم.

[56] الامام الصادق المهدى نحو ثورة ثقافية صفحة (57-58)مكتبة الشروق الدولية الطبعة الأولى 2006 القاهرة

[57] أخرجه البخارى في صحيحه ج (5) ص: 1980 ط دارابن كثير

[58] ذكره الهيثمى في مجمع الزوائد المصدر البيان لمايشغل الأذهان مجموعة فتاوى للدكتور على جمعة مفتى الديارالمصرية المقطم للنشر والتوزيع طبعة 2005م

[59] البيان لما يشغل الأذهان أ. د. علي جمعة صفحة (352)

[60] المحلى لابن حزم ج 7 ص 567 صفحة (355)

[61] الامام الصادق المهدى نحو ثورة ثقافية ص (37)

[62] الامام أبو حامد الغزالى : إحياء علوم الدين الجزء الثانى كتاب آداب السماع والوجد الكتاب الثامن من ربع العادات ص 275 – المكتبة التجارية الكبرى – مصر

[63]  ابن عبد الحكم : فتوح مصر وأخبارها ، ص ( 46 )  طبعة ليدن 1920م  نقلاً عن : هذا هو الإسلام ، لمحمد عمارة 

[64]  رواه مالك في الموطأ

[65]  رواه البخارى في صحيحه في كتاب الشركة ص (516) مكتبة الإيمان القاهرة طبعة 1423ه – 2003م

[66]  تاريخ الرسل والملوك للطبرى ص (555) موقع: www.alwaraq.net [

[67] الولاية على البلدان في عصر الراشدين، عبد العزيز  بن إبراهيم العمري

[68] رواه الامام أحمد في مسنده: موسوعة الحديث

[69] الأحاديث القدسية

[70] رواه مسلم في صحيحه في كتاب البروالصلة والآداب (1308/28/2563) مختصر صحيح مسلم

[71] رواه البخاري

[72] هذه الفقرة منقولة من كتاب يسألونك عن الأنصارية للمؤلف بتصرف  صفحة (27) 

[73] رواه البيهقي

[74] الموافقات (2/334)

[75] رواه البيهقي

[76] راجع الوسطية معالم وضوابط للدكتور عصام أحمد البشير

زر الذهاب إلى الأعلى