الخطب

خطبة وداع الحبيب

ألقاها الأمير عبدالمحمود أبو الأمين العام لهيئة شؤون الأنصار بمسجد القبة بتاريخ: 12 ربيع ثاني 1442هـ الموافق:27 نوفمبر 2020م

أعوذ بالله من الشيطن الرجيم

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين المستحق لجميع الحمد، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة تنجينا يوم الهول الأكبر، وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله ختم الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة وكشف الغمة ومحا الظلمة وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، صلوات ربي وتسليماته عليه وعلى آله وأصحابه ومن سار على دربه إلى يوم الدين.

أما بعد:

قال تعالى:” كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ  فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بْالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ  وَلاَ تَقُولُوا لِمْن يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ  وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُهْتَدُونَ” صدق الله العظيم

أحبابي في الله وأخواني في الوطن العزيز:

سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الاسلام والايمان والاحسان قال عن الاحسان” أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك”[1] وقد سمى الامام المهدى عليه السلام الذين أيدوا دعوته الأنصار؛ تطلعا لبلوغ مقام الاحسان الذي بينه الرسول صلى الله عليه وسلم واستجابة للآية الكريمة” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنصَارَ اللَّهِ…”. لقد جاءت الدعوة المهدية بالتوحيد والتجديد والاجتهاد؛ فاهتمت بتجميع الحق الذي تفرق بين الجماعات المختلفة ومرتكزاتها تؤكد ذلك، فقد جاءت بمدرسة جديدة تعتبر ثورة على الفكر الإسلامي التقليدي وتتمثل تلك المدرسة في الآتي: –

  • الالتزام بالكتاب والسنة المرجع الأول في التشريع الإسلامي.
  • عدم التقيد بالمذاهب؛ لأنها اجتهادات أئمة صالحة في زمانها ولكل زمن منطقه.
  • التمييز بين الثابت والمتغير لتأكيد صلاحية الرسالة الخاتمة وملاءمتها للمستجدات.
  • التعامل مع الإسلام بعمق يجعله تجسيدا حيا في الواقع وليس نصوصا وشارات شكلية.
  • تجاوز الخلافات التاريخية بين الفرق المسلمة، وبين العقل والنقل، وبين الحقيقة والشريعة باعتبار أن الإسلام يوفق بينها دون تصادم (توحيد أهل القبلة).
  • إحياء الجهاد بمفهومه الواسع والاجتهاد للتعامل مع المستجدات لأن حيوية الإسلام تقوم عليهما.
  • –        الالتزام بمنهج واضح المعالم للتجديد والإحياء.

  لقد أحدثت المهدية تحولا كبيرا في السودان وتأثر بها المسلمون ودعاة التحرر من الصين حتى غرب أفريقيا، وجاءت بمفاهيم جديدة في مجال الفكر والممارسة والحياة وأثبتت عمليا قدرة الاسلام على إحداث التغيير ومواجهة تحديات كل عصر: –

إن هذا الإرث الذي تجسده الدعوة الأنصارية كان لكل قائد من قادة الأنصار بصمته التي تميز منهجه في التعامل مع عصره فمهدي الله عليه السلام قال: “لكل وقت ومقام حال ولكل زمان وأوان رجال” وخليفة المهدي قال: “فلتذهب الدولة ولتبقى الدعوة” والإمام عبد الرحمن قال: “لا شيع ولا طوائف ولا أحزاب ديننا الإسلام ووطننا السودان،” والإمام الصديق قال: ” “إن هذه البلاد ملك لكم ولغيركم من المواطنين وإن الإلمام بأحوالها والسعي لصالحها أمانة على أعناقنا جميعاً” والإمام الهادي قال:”لا سلام بلا إسلام فلنمت وليحيى الدين والوطن” فهي دعوة تستند على قواعد صلبة لا تزيدها الشدائد إلا قوة وتتجدد كل حين لتؤتي أكلها بإذن ربها.

الحديث: قال صلى الله عليه وسلم: “والذي نفسي بيده ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضر موت ولكنكم تستعجلون” أو كما قال

يغفر الله لي ولكم وللمسلمين

الخطبة الثانية

الحمدلله الوالي الكريم والصلاة على سيدنا محمد وآله مع التسليم

وبعد قال تعالى:” إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِّلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ المُشْرِكِينَ شَاكِراً لأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ”

إن الحبيب الراحل كان متفردا في مسيرة حياته منذ قدومه إلى الدنيا وحتى مغادرته لدار البقاء، فمولده كان آية شهد بها من حضرن لحظة الميلاد وعلاقته بجده الإمام عبدالرحمن المهدي وكل محطات حياته في الصبا والشباب والدراسة ودخوله الحياة العامة ومعاركه الفكرية والسياسية في الحكم والمعارضة كلها تمثل فصولا في مدرسته التي تميزت بالجدية والشمول والتوفيق بين الواقع والواجب تحقيقا للمقاصد، ولم يغادر الحياة خلسة بل شارك أمته آلام الجائحة التي امتحنت بها وتحمل جسده الطاهر آلام البلاء أضعافا مضاعفة حتى أصيب القلب الكبير المليء بالحب والسماحة والرضا فلم يقو على مقاومة الداء فتوقف وسكن وغادر دار الصراع إلى دار الرضا والقرار” يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ المُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي”

أحباب في الله وأخواني في الوطن العزيز

لم يغادر الحبيب الإمام دار الاستخلاف حتى اكتملت مهمته فيها وتحددت معالم مدرسته المتمثلة في الآتي:

المدرسة الفكرية: لقد بلور الحبيب الإمام الصادق مدرسة فكرية وفقت بين الثنائيات التي شغلت الفكر الإنساني وأكدت عدم التعارض بين النقل والعقل والكتاب المسطور والكتاب المنظور فهي مدرسة تجمع بين الأصالة والمعاصرة؛ وتضمن تفاصيلها في كتبه تجاوزت المائة كتاب وهي مبثوثة ومطبوعة تتزين بها المكتبات.

المؤسسة الدعوة: نقل الحبيب الإمام رحمه الله العمل الدعوي من الاجتهاد الفردي إلى العمل المؤسسي فكانت هيئة شؤون الأنصار المؤسسة الدعوية التي تتولى النشاط الدعوي الأنصاري وكل الأنشطة الإنسانية الثقافية والاجتماعية غير السياسية.

الرسالة الوطنية: للحبيب الإمام مدرسة وطنية تقوم مشاركة الجميع في حل الأزمات الوطنية وتعزز ثقافة الديمقراطية والحلول السلمية والمواطنة وحقوق الإنسان وهي مدرسة تقوم على المبادئ والاستقامة وإعلاء المصلحة الوطنية على المصالح الذاتية.

النموذج الإنساني: الحبيب الإمام يتعاطى مع الناس بنزعة إنسانية غاية في الرقي والاحترام فتعامله مع الجميع الرجال والنساء والأطفال على أساس الكرامة الإنسانية ومراعاة الإيجابيات وهو تعامل لاحظه كل من قابله أو تعامل معه.

العلاقة الأسرية: ذكر الحبيب الإمام في أكثر من موقف أنه في تعامله مع أسرته لا يستعمل العنف ولا فرض الأوامر وإنما يتعامل معهم كأصدقاء يربيهم بالقدوة والحوار والملاحظة فأكرمه الله بذرية صالحة تبعت منهجه بقناعة وحب.

العلاقة مع الآخر: أسس الحبيب مدرسة للعلاقة مع الآخر تقوم على التواصل والتعارف والتعاون في المشتركات والإعذار فيما عداها ولذلك له علاقات مع الجميع داخل الوطن وخارجه تجلت في توحد السودانيين في محبتهم لهم وشعورهم باليتم عندما أصبحوا وهو ليس بينهم بل غادرهم إلى دار البقاء؛ فالمشاعر الصادقة التي عبروا بها عن حزنهم تؤكد أنه كان أمة.

فلسفة الحياة: يتعامل الحبيب الإمام مع الحياة وتقلباتها بمنهج الرضا فهو صاحب مقولة “الإنسان يحزن فيسود أفقه ويكره فتضيق دنياه ويفرح فيطيش صوابه وينسى واقعه فيعيش في الخيال ويخلد إلى الواقع فيقتله الملل” ويقول إن الإنسان لكيلا تؤثر فيها تناقضات النزعات النفسية فإن علاجه في آية واحدة في القرآن “لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم” وكل من تعامل معه يدرك مدى قدرته على نقل الإنسان من أجواء الحزن والكآبة والسلبية إلى أجواء الرضا والتفاؤل والإيجابية.

أحبابي في الله وأخواني في الوطن العزيز:

سئل الحبيب الإمام مرات كثيرة عن خليفته فقال إنه تعهد كثيرا من أبنائه وبناته في الكيان بشقيه الدعوي والسياسي روحيا وفكريا وأنه واثق بأن مدرسته قادرة على الاستمرار وتطوير ذاتها من خلال عطاء المؤمنين بها وأنه بنى مؤسسات سياسية ودعوية وفكرية تحكمها نظم ولوائح وأهدافها محددة هي من يخلفه؛ ونقول له نم هانئا يا حبيب فالشجرة التي تعهدتها قد أثمرت والطريق الذي رسمته قد استقام والراية التي رفعتها لن تسقط بإذن الله.

أحبابي في الله وأخواني في الوطن العزيز

أذكر ثلاثة مواقف من المواقف الكثيرة التي تعلمناها من حبيبنا الإمام الصادق رحمه الله ورضي عنه:

الموقف الأول: الرحلة الخارجية

الموقف الثاني: حادثة مسجد الهجرة

الموقف الثالث: موقفي مع الراحل البروفيسور أحمد علي الإمام

أحبابي في الله باسم هيئة شؤون الأنصار نشكر أهل السودان باختلاف مشاربهم وانتماءاتهم ومناطقهم على وقفتهم الصادقة ووداعهم لحكيم السودان فقد أثبت شعب السودان بأنه شعب كريم أبي يستحق كل خير ويتشرف المرء بالانتماء إليه، ونعزي أنفسنا وكل أهل السودان على هذا الرحيل المر في هذا الظرف الحرج؛ ونعزي آل الإمام المهدي وخلفائه وعلى رأسهم مولانا السيد أحمد المهدي في هذا الفقد العظيم ونؤكد لهم أن المؤسسات التي بناها الحبيب الإمام الصادق المهدي تكن لآل المهدي كل التقدير والاحترام، وهي متاحة لهم للمشاركة فيها وفق المبادئ الراسخة واللوائح الناظمة، والأسس المؤهلة التي حددها الإمام المهدي عليه السلام بقوله عن مؤهلات الولاية:” من تقلد بقلائد الدين ومالت إليه قلوب المؤمنين”

ونعزي أبناء الإمام الروحيين من الكوادر التي تشربوا قيم مدرسته وتأهلوا على يديه وانتشروا في الآفاق وندعوهم إلى تجميع صفوفهم والتفافهم مع المؤسسات وفاء للقيم والمعاني التي ضحى الحبيب من أجلها ونحن نعلم أنه نذر حياته كلها لخدمة دينه ووطنه وتجرد تماما من الذاتية والمصالح الشخصية حتى غادرنا إلى دار البقاء.

اللهم إنك تعلم ونحن نشهد أن عبدك الصادق جاءك مؤمنا بك مقتديا برسولك محبا لمن مضى من السلف الصالح من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.

اللهم إنه جاءك واثقا بك مطمئنا لك فأنزل عليه شآبيب رحمتك وتجاوز عن سيئاته وأكرمه بصحبة المصطفين الأخيار، اللهم أنزل على قلوبنا الصبر على فراقه وثبتنا على هذه الشدة وقوي نورنا ليهون علينا ذلك، اللهم أكرم نزله ووسع مدخله وأنزله منزل صدق يارب العالمين.

وندعو الأحباب في ولاياتهم ومناطقهم أن يصلوا عليه صلاة الغائب ويتلقوا العزاء هناك نظرا للظروف الصحية التي تمر بها البلاد.

ونشكر الذين جاءوا وشاركونا وداع الحبيب نسأل الله أن يتقبل مسعاهم ويحصنهم من الآفات والبلايا.

قوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله


[1] رواه البخاري مختصر صحيح البخاري رقم (47)

خطبة_الانتقال

أعوذ بالله من الشيطن الرجيم

بسم الله الرحمن الرحيم

خطبة الجمعة التي ألقاها الأمير: عبدالمحمود أبو بمسجد الهجرة بودنوباوي بتاريخ: 19 ربيع الثاني 1442هـ الموافق:4ديسمبر 2020م

الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك وخلق كل شيء فقدره تقديرا، والصلاة والسلام على نبي الرحمة الذي تركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك.

أمابعد

قال تعالى:” وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي  لاَ  يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ”

أحبابي في الله وأخواني في الوطن العزيز

عندما انتقل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى؛ واجهت المسلمين ثلاث قضايا: القضية الأولى: هل مات رسول الله؟ وإذا ثبت أنه مات فأين يدفن جثمانه الطاهر؟ ، والقضية الثانية كيف تكون خلافته صلى الله عليه وسلم  ومن يخلفه؟ والقضية الثالثة: كيف يتعاملون مع المستجدات التي لم يرد نص على أحكامها صراحة؟ أما موضوع الوفاة فقد انبرى عمر بن الخطاب رضي الله عنه لكل من يقول إنه مات مهددا! حتى جاء رفيقه وصديقه أبوبكر الصديق رضي الله عنه فأكد الوفاة قائلا:” من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حي لايموت”مستشهدا بقوله تعالى:” وَمَا  مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ ” وحَسَمَ أمر الدفن بقوله يدفن في المكان الذي قبض فيه.

واختلفوا في أمر الخلافة وبعد نقاش حَسَم الأمر عمر بن الخطاب بمبايعة أبي بكر وبايعه الناس، وبعد عصر الراشدين بل في عهد علي بن أبي طالب تجدد النزاع حول الخلافة وسالت دماء غزيرة بشأنها حتى قال الماوردي:” ماسُلَّ سيف على قاعدة دينية في الإسلام مثل ما سُلَّ في الإمامة العظمى”

      أما الأمور المستجدة التي لم ينص عليها فالأحكام بشأنها تستنبط بالقياس والإجماع . وفي هذا الصدد نشأ موقفان على طرفي نقيض مع وجود مواقف متدرجة بينهما : أهل الحديث والظاهريون التزموا بالنصوص وبظاهر معانيها . والمعتزلة أخضعوا النصوص لتأويلات عقلية .

إن قضية إكتمال الدين وثبات النص وظهور المستجدات ومسألة الخلافة؛ قضايا فتحت الباب لحوارات ومناقشات جادة في الجسم الإسلامي ودفعت علماء المسلمين لاجتهادات متنوعة تتجدد كلما طرأت عوامل جديدة حتى يومنا هذا.

أحبابي في الله

غادرنا الحبيب إلى دار الخلود في ظرف حرج تمر به بلادنا وأمتنا، وكان الحبيب يردد دائما أن المهدية نصرها متأخر وقد ظهر هذا النصر يوم تشييعه المهيب فقد شهد له الجميع بالصدق والحكمة وثاقب الرؤية، وبكته القلوب قبل الأعين وشعر الجميع بالفراغ الذي تركه.

إن رحيله آية وحدث كبير في مرحلة مفصلية من تاريخ بلادنا وكياننا وأمتنا

كأنما كان المتنبي يعنيه بقوله :

ماكنتُ أحسبُ قبل دفنك في الثرَى  

                          أن الكواكبَ في التراب تغورُ

ما كنتُ آمَلُ قبلَ نعشكَ أن أرَى     

                      رَضوَى على أيدي الرجالِ تسيرُ

خرجوا به ولكل باكٍ خَلْفَهُ          

                      صَعَقاتِ مُوسَى يومَ دُكَّ الطُّورُ

والشمسُ في كَبْدِ السماءِ مريضةٌ       

                             والأرضُ واجفةٌ تكادُ تمورُ

وحفيفُ أجنحةِ الملائكِ حولهُ  

                           وعيون أهلِ [البقعة] صورُ

حتى أتَوْا جَدَثًا كأنَّ ضريحَهُ      

                             في قلبِ كُلِّ مُوَحِّدٍ مَحْفُورُ

عندما تفتحت عيون الإمام الصادق المهدي على الحياة العامة وجد أمة الإسلام مواجهة بتحديات كبيرة؛ فكرية وثقافية وسياسية وغيرها.

إن أهم التحديات التي واجهت أمة الإسلام في القرن العشرين والقرن الواحد والعشرين هي:

التحدي المفاهيمي: المتمثل في الفهم الشامل للإسلام وعلاقة الإسلام بالرسالات السابقة، والتوفيق بين الكتاب المقروء والكتاب المنظور، واستصحاب مصادر المعرفة كلها.

التحدي الفكري: الذي فرضته المدارس الفكرية العلمانية والاشتراكية والرأسمالية والقومية وكل الأفكار التي تتبناها حركة الحداثة.

التحدي الثقافي: المتعلق بالفنون والرياضة وتحرير المرأة وثقافة الحوار وحقوق الإنسان.

التحدي السياسي: الخاص  بطبيعة الدولة والنظام السياسي والانتقال السلمي للسلطة والفصل بين السلطات والديمقراطية والشورى.

التحدي العلمي: الذي أبرزته الحرية الفكرية وحرية البحث العلمي والتطور العلمي والتكنلوجيا

التحدي الدولي: المتمثل في النظام الدولي الذي على قمته الأمم المتحدة ومجالسها المتخصصة والمواثيق والمعاهدات الدولية ؛ هذه التحديات واجهت الفكر الإسلامي وشغلت العلماء والمفكرين وكان الإمام الصادق من أكثر الناس هما واجتهادا وعملا لمواجهة هذه التحديات؛ وفي الإطار الأنصاري وجد كيان الأنصار في أوج قوته تحت قيادة الإمام عبدالرحمن المهدي والإمام الصديق والإمام الهادي ثم رآه يتعرض لحملة انتقامية سعت لاستئصاله شارك فيها بنو جلدتنا بتدبير إقليمي، وبنظره الثاقب رأى أن مستقبل الكيان رهين ببلورة مدرسة فكرية واضحة المعالم وبقيام مؤسسة دعوية تتولى قيادة العمل الأنصاري في كل مجالاته.

لقد وظف الحبيب الإمام رضي الله عنه وطيب ثراه كل لحظة في حياته لمواجهة التحديات التي تواجه أمة الإسلام والتحديات التي تواجه كيان الأنصار؛ فجاهد واجتهد وحاور وناظر وحاضر ووظف كل طاقاته لبلورة مدرسة متكاملة تجيب على تساؤلات التحديات المعاصرة وترسم معالم الطريق لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد. إن عناوين كتبه ورسائله وأطروحاته تبين حجم اهتمامه بما ذكرنا؛ فمن عناوين كتبه الآتي:

الصحوة الإسلامية ومستقبل الدعوة – مستقبل الإسلام في السودان – المنظور الإسلامي للتنمية الاقتصادية – الزكاة والنظام المالي في الإسلام – العقوبات الشرعية وموقعها من النظام الاجتماعي الإسلامي – جدلية الأصل والعصر – نظرة مستقبلية للإسلام في ظل النظام العالمي الجديد – المرأة وحقوقها الإنسانية والإسلامية – مفهوم الدولة في الإسلام – الإعلان العالمي لحقوق الإنسان من منظور إسلامي – الإسلام والتحول الاجتماعي – التحدي العلماني الجذور والأبعاد – تحديات التسعينات – نحو مرجعية إسلامية متجددة؛ وغيرها من المؤلفات التي تبين حجم اهتمامه والدور الذي قام به في خدمة الإسلام والرد على الشبهات التي تثار حول تعاليمه، ولم يقف دوره عند الرد على الشبهات والاجابة على التساؤلات؛ بل كان يقدم البديل الذي يوفق بين المقاصد الشرعية والمصالح الإنسانية، أو مايسميه الواجب والواقع والمزاوجة بينهما.

وقدم أطروحة في هذا الصدد لكل المسلمين بعنوان نداء المهتدين يدعوهم فيها للاتفاق على رؤية مشتركة والعمل على أساسها لمواجهة التحديات التي تواجه الأمة وخلاصتها:

يا أهل القبلة تعالوا إلى كلمة سواء بيننا:

أولا: إن كتابنا واحد معلوم ومحفوظ النص، ورسولنا واحد معلوم السيرة والهوية. هذه من نعم الله علينا. كتاب الله وسنة رسول الله بين أيدينا. علينا أن نؤمن تماما بأن ما نلتزم به هو القطعي ورودا والقطعي دلالة من الكتاب والسنة. أما الظني ورودا والظني دلالة وما ليس فيه نص أصلا فأمور اجتهادية غير ملزمة لنا.

ثانيا: التعامل مع الآخر المذهبي الإسلامي يجب أن يقوم على الإيمان المشترك بالقطعيات والاعتراف المتبادل بالاجتهادات على أساس أن التقليد في الاجتهادات غير ملزم وأن القاعدة السنية من اجتهد فأصاب فله أجران ومن اجتهد فاخطأ فله أجر واحد.

ثالثا: هنالك عوامل مستجدة اختلف المسلمون حول كيفية التعامل معها:

وعصرنا الحالي يمتاز بإلغاء المكان عن طريق المواصلات، وإلغاء الزمان عن طرق الاتصالات مما يتيح لنا وسائل افضل في التعامل مع هذه القضايا. الأسلوب الأمثل هو تحديد هيئة أو هيئات فنية ذات معرفة وتخصص في كل المجالات ذات دور استشاري. واتخاذ هيئة أو هيئات تشريعية ذات تفويض شعبي للتداول بشأن المستجدات واتخاذ قرار بشأنها.

رابعا: ينبغي أن نحدد أساسا واضحا للتعامل مع الآخر الملي في أوطاننا. إنهم وجدوا معنا في هذه الأوطان واستمروا فيها باختيارهم، وإن هذا الموقف أكسبهم موقف أهل العهد عهد المواطنة-

خامسا: النظام الدولي الحالي يقوم على أساس العهد الذي يقوم عليه نظام الأمم المتحدة. إنه نظام بالنسبة للمسلمين يعتمد على مرجعية إسلامية أساسية هي: “وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا”[الإسراء:34] و  “لَا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ..”[الممتحنة:8]

سادسا: هنالك منجزات حققها الغرب لا تتعارض مع أصول مبادئنا الإسلامية، ولكن الفضل في تحقيقها وتكوين مؤسسات لاستدامتها يرجع للحضارة الغربية في المقام الأول. تلك المنجزات ينبغي أن نستصحبها دون أدنى حرج، وأن نحدد مرابطها في مقاصد الشريعة الإسلامية؛ تلك المنجزات هي : الحرية الفكرية وحرية البحث العلمي والتكنولوجي، والنظام السياسي الذي يقوم على رضا المحكومين ومساءلة الحكام ويحقق التداول السلمي للسلطة والخضوع العسكري للشرعية الدستورية. والنظام الاقتصادي الذي يقوم على آلية السوق الحر لا سيما في مجال الاستثمار والإنتاج والتبادل التجاري. والالتزام بحقوق الإنسان على أساس أن الله كرمه وأوجب له حقوقا مقدسة.. وحقوق الإنسان في الإسلام تمتاز على غيرها لأنها تستمد من جذور روحية وخلقية وتستوجب جزاءا أخرويا. وتحرير المرأة التي جعلها الله شقيقة الرجل وساوى بينهما إنسانيا وإيمانيا.

سابعا: الجهاد هو ذروة سنام الإسلام. والجهاد هو رهبانية أمة محمد (ص). والجهاد ماض إلى قيام الساعة. إن مادة جهد هي أساس الصلاح والفلاح والنجاح في كل مجالات الحياة. المطلوب تصحيح مفهوم الجهاد للتمييز بينه وبين العنف العشوائي والإرهاب.

إن اتحاد الفهم بين كافة أهل القبلة حول هذه النقاط السبع واجب إسلامي.

 كما قدم أطروحة أخرى للحوار بين الأديان سماها نداء الإيمانيين وأطروحة أخرى للحضارات سماء نداء حوار الحضارات.

لقد اجتهد الرجل وقدم لأمة الإسلام خدمة ومنهجا واجتهادا يسميه أهل الحقيقة واجب الوقت.

الحديث:

قال صلى الله عليه وسلم:” يحمل هذا العلم من كل خلف عدُولُه ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين”

الخطبة الثانية

الحمد لله الوالي الكريم والصلاة على سيدنا محمد وآله مع التسليم

وبعد قال تعالى:” أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ” صدق الله العظيم

أحبابي في الله وأخواني في الوطن العزيز

في مجال الدعوة الأنصارية نذر الحبيب حياته لتحقيق هدفين مهمين هما: بلورة وترسيخ المدرسة الفكرية للأنصار، ونقل العمل من النظام الأبوي إلى العمل المؤسسي؛ فالمدرسة الفكرية بدأها بمقدمة كتاب العبادات وأصلها في يسألونك عن المهدية، وشرح متنها وحدد أصولها ومرتكزاتها في أيديولوجية المهدية، وعبدالرحمن الصادق إمام الدين، وخطبة العقيدة وغيرها من الكتب والرسائل والمنشورات التي حددت بوضوح طبيعة المدرسة الأنصارية المهدية حيث ميز بينها وبين المدارس الأخرى الشيعية والسنية والصوفية والفلسفية، وأكد أنها مدرسة سنية وظيفية اجتهادية وسطية توفق بين الأصل والعصر وتجديدية مؤصلة تستصحب الأصول وتتفاعل مع الحاضر وتتطلع لمستقبل له وفاء.

ونقل التنظيم الأنصاري من تنظيم أبوي يتبع لشخص الإمام ويخلط بين الشخصي والعام إلى مؤسسة يحكمها نظام أساسي وتقوم على أجهزة تشريعية ورقابية وتنفيذية تمارس عملها وفق عمل مدروس ومخطط له أهداف وتنظمه لوائح.

أحبابي في الله

 الإمامة في كيان الأنصار تمثل مرتكزا من مرتكزات الدعوة وقد حدد الدليل الأساسي لهيئة شؤون الأنصار الشروط التي يجب أن تتوفر في المهام والكيفية التي يختار بها. والإمام الراحل تم إختياره من المؤتمر العام في 19 ديسمبر 2002م وقد نص الدليل الأساسي في المادة (32 ) أن مجلس الحل والعقد يتولى مهام الإمام في حال غيبته. وستصدر الهيئة منشورا لكافة الأحباب الأنصار تبين فيه الإجراءات المتبعة لحين قيام المؤتمر. وعليه فإن الحبيب الإمام الصادق المهدي رحمه الله وطيب ثراه لم يغادر الدنيا حتى اطمأن على نضج المؤسسة وقدرتها على القيام بمسؤولياتها، وسوف تقوم الهيئة بكل أجهزتها على تفعيل نظامها وهياكلها لتواصل مسيرتها وأداء عملها إلى حين قيام المؤتمر العام الذي يقرر ما يراه إن شاء الله.

أحبابي في الله وأخواني في الوطن العزيز:

تأكد للجميع أن الحبيب الإمام الصادق المهدي طيب الله ثراه كان أمة بعطائه وكان مدرسة متعددة الفصول وقد تبارى الكتاب والشعراء والصحفيون وغيرهم في الحديث عن مآثره كل من الزاوية التي يراها، وفي الواقع كان الحبيب ملهما وبلسما

قال عنه الحبيب محمد صالح مجذوب:

كلَّما ضِقنا صبرْ 

ورما حبالاً للنجاة

وإذا جَزِعْنا للخبر

خط ابتسامته وجاء

وكأنما خلف الحجاب أتته بشرى

طرد التشاؤم جملة

فأحال علقمنا لتمرة

رحم الله الحبيب الإمام ورضي عنه وطيب ثراه وجعل الفردوس الأعلى مقامه مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.

أحبابي في الله وأخواني في الوطن العزيز

نعاهد الحبيب الإمام ونعاهدكم وقبل ذلك عهدنا مع الله أن الراية التي رفعها لن تسقط يإذن الله وأن الدعوة ستستمر وفق الخطة التي رسم معالمها تجديدا لعهد الأئمة وإمام المرسلين، وإننا على العهد باقون وعلى سكة رسول الله سائرون وبمنهج مهدي الله والأئمة من بعده مستمسكون وعلى معالم مدرسة إمامنا الراحل ماضون، تأصيلا واتباعا والتزاما بالمبادئ وتجديدا في الوسائل وصيانة لمشارع الحق حتى نلقى الله إن شاء الله.

زر الذهاب إلى الأعلى