المؤتمرات

المنتدى العالمي للوسطية

المؤتمر الدولي بعنوان: التصوف الراشد الجذور والآفاق ودوره في بناء الحضارة الإنسانية

ورقة بعنوان: التصوف والسياسة

التصوف بين الماديات والروحانيات

تقديم: الأستاذ: عبدالمحمود أبُّو

رئيس المنتدى – فرع السودان

المملكة الأردنية الهاشمية – عمان

7- 8/9/2019م

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات وأشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له وأشهد  أن سيدنا محمد عبده ورسوله خاتم أنبيائه ورسله وعلى آله وأصحابه أجمعين.

تمهيد

جاء الإسلام دينا خاتما للرسالات السماوية، متضمنا لأصولها ومصدقا لكتبها ومصححا لانحرافات أتباعها ومتمما لتعاليمها قال تعالى: ” شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ”[الشورى:13]. وجاءت تعاليم الإسلام شاملة لكل ما يحتاجه الإنسان فاهتمت بالجانب الروحي والجانب المادي والجانب العقلي والجانب التربوي والجانب الأخلاقي وغيرها من متطلبات الفطرة الإنسانية، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم في دعوته يخاطب مطالب الإنسان في مجالاتها المتعددة كما أشار إلى ذلك القرآن الكريم في قوله تعالى: ” هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ”[الجمعة:2]. وسارت الخلافة الراشدة على نهج النبوة متبعة في الأصول ومجددة في الوسائل ومواكبة لمستجدات الحياة على حسب متطلبات الواقع دون إنحراف عن المقاصد الكلية التي جاء الإسلام للمحافظة عليها.

ومع تطور الحياة وتوسع رقعة الدولة الإسلامية وانتقال وظيفة الدعوة من الدولة  إلى الجماعات؛ أصبحت كل جماعة تركز على محور من محاور الدعوة تأثرا بالبيئة المحيطة بها والواقع الذي تعيش فيه؛ فاهتم الكلاميون بتصحيح العقيدة، والمحدثون بالسنة النبوية، والمتصوفة بالتربية والتزكية، وهكذا تعددت الجماعات العاملة في مجال الدعوة وتنوعت أساليبها واختلفت مجالات اهتمامها.

إنني أشارك في هذا المؤتمر الخاص بالتصوف عن علاقة المتصوفة بالسياسة وذلك عبر ثلاثة محاور هي:

المحور الأول: مفهوم التصوف

اختلف الباحثون حول تعريف التصوف باختلاف الزوايا التي نظروا منها إلى التصوف؛ فمنهم من عرفه من خلال المحتوى والقضايا والمسائل والمفاهيم، ومنهم من عرفه من خلال المنهجية المعرفية والعملية، ومنهم من عرفه بالنتائج التي توصل إليها من مقولات وعقائد وممارسات وأفعال، أي من “مخرجات التصوف”، ومنهم من عرفه من خلال أعلامه وشخصياته البارزة(الجنيد وأبوطالب المكي والغزالي والحلاج وابن عربي)، ومنهم من عرفه من خلال الحقب التاريخية التي مر بها، عصره الأول وبدايته ومنطلقاته وحقبه الوسيطة والمتأخرة. وقد يصنف المحتوى إلى محتوى عقدي، وأخلاقي وعلمي ومعرفي وفني وأدبي وما هوخاص بالعبادات[1].

ومن التعريفات التي تقيمه تقييما إيجابيا، تقول:” إنه علم القلوب الذي يجعل القلوب نيرة سليمة وصحيحة” أو تقول: “إنه يحث على الإهتمام بالعبادات الباطنة، كإخلاص النية والتوجه بالعمل لله تعالى، ويحث على التوكل والصبر والمحبة والرضا” أو تقول: ” إنه علم الأخلاق الذي يحث على التحلي بالأخلاق والصفات الحميدة وترك الصفات الذميمة”أو تقول: “إنه علم الحقيقة الذي يزود صاحبه بمعرفة أسمى وأعظم وأجل موجود وهو الله سبحانه وتعالى”أو تصفه ” بأنه علم التجارب والأذواق والمواجيد والمكاشفات والإلهامات وعلم الباطن والعلم اللدني”[2].

وكما اختلفوا في تعريفه اختلفوا في أصل كلمة الصوفي هل هي مشتقة من الصوف أم من الصفاء؟ ولكل حجته وأدلته، فقيل:

تشاجر الناس في الصوفي واختلفوا         فيه ظنوه مشتقا من الصوف

ولست أنحل هذا الاسم غير فتى          صافى فصوفي حتى سمي الصوفي[3]

وذكر ابن الجوزي: أن الزهاد في الكوفة لبسوا الصوف في القرن الأول؛ وكان أويس القرني يلبس الصوف؛ بل روت السيدة عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم ” كان يلبس الصوف وينتعل المخصوف ويخصف نعله ويرقع ثوبه”[4]. وكان أهل الصفة لا يلبسون غير الصوف صيفا وشتاء، فكانوا يعرقون فيه صيفا فتفوح رائحة الضأن منهم كلما أصابه المطر.

ولعل الزهد هو الذي دفعهم إلى لبس الصوف هروبا من ملذات الحياة وحياة الدعة والراحة، ولا يفعل ذلك إلا من صفا قلبه، وأشار الإمام ابن القيم إلى جوهر التصوف بقوله: ” في القلب شعث لا يلمه إلا الإقبال على الله، وفيه وحشة لا يزيلها إلا الأنس بالله، وفيه حزن لا يذهبه إلا السرور بمعرفته وصدق معاملته، وفيه قلق لا يسكنه إلا الاجتماع عليه والفرار إليه، وفيه نيران حسرات لا يطفئها إلا الرضا بأمره ونهيه وقضائه، ومعانقة الصبر على ذلك إلى وقت لقائه”[5].

إن التصوف الحقيقي لا يخرج عن ما ذكره ابن القيم؛ فالتصوف محضنا تربويا وروحيا وتنمية حميمية للشخصية المسلمة مرورا بالتخلي سعيا إلى التحلي ثم التجلي؛ وهو مؤسسة تشيع الآداب وصيغ السلوك الراقية في الصحبة والسفر والأكل والنوم والحديث والكسب وطلب الرزق وطلب العلم مع الزهد عما في أيدي الناس، واللجوء إلى الله والغنى عما سواه. إنه وسيلة للإصلاح العام وتدريبا عمليا  على المشاركة في خدمة الخلق، وأخيرا يبقى التصوف صيحة إعتراضية على الفساد وعبودية المال والمتاع الدنيوي، وعلى المظهرية وحب الشهرة والتصدر بلا استحقاق، وحداء رقيقا نحو يقظة روحية تحيي موات القلب وتجدد الإيمان في الصدور[6].

لقد أرجع كثير من الباحثين المستشرقين التصوف إلى أصول فارسية وهندية ويونانية ونصرانية؛ مستندين إلى أن بعض أفكار التصوف وممارسات المتصوفة يوجد ما يشابهها في تلك المصادر مثل وحدة الوجود والمواجد والأذواق والحكمة ؛ وقد لخص أحد الباحثين العرب ما ساقه المستشرقون دلالة على تأثير النصرانية في التصوف الإسلامي في خمسة أمور:

أولها: التشابه في بعض المظاهر، مثل استعمال الخرقة في مقابل ما يستعمله الرهبان من ثوب على الكتفين، وكذا استعمال الصوف واتخاذه شعارا.

ثنيها: التشابه في بعض الموضوعات، مثل: محاسبة النفس.

ثالثها: بعض المشابهة اللغوية آرامية التركيب، مثل: ناسوت ، رحموت، لاهوت، رباني، روحاني، ونحوها.

رابعها: الاختلاط بين المسلمين والنصارى العربفي الحيرة والكوفة ودمشق ونجران.

خامسها: ما يرويه الصوفية الأوائل من أقوال ينسبونها إلى المسيح عليه السلام[7]

ولكن المحققين لم يقبلوا هذا الزعم وأكدوا أن التصوف الإسلامي ظاهرة سنية، نشأت بين أهل السنة والجماعة وصدرت عن أسس إسلامية، وهذا لا يمنع أبدا – بل لعل هذا ما حدث فعلا- أنها تأثرت في رحلة تطورها الطويلة بمؤثرات خارجية، كان لها أثر ملحوظ في صبغ هذه الظاهرة السنية الإسلامية ببعض الألوان الجديدة مع بقاء الظاهرة مرتبطة بأصولها الأولى[8].

إن التصوف الإسلامي مرجعيته إسلامية خالصة، ومفرداته مبثوثة في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، فالتزكية والزهد والتوكل والذكر والمحاسبة والتوبة والتذوق؛ ركائز أساسية في التصوف وقد حث عليها القرآن الكريم وبينت معالمها السنة النبوية، قال تعالى:” كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ  فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بْالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ” [البقرة:ذ51-153] والأدب الصوفي يقوم على المعاني الواردة في الآيات الكريمة السابقة. كذلك مفهوم الانفاق وما يتعلق به من ركائز التصوف” مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ  الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ  لاَ  يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُوا مَناًّ وَلاَ أَذًى لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ  قُوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌ حَلِيمٌ”[البقرة:161-163].

كذلك فإن النظر الصوفي للعبادة يتجاوز الأشكال إلى المعاني ولا يقف عند العبادة بل ينظر إلى المعبود “فلا توقفنا مع رؤية الطاعات والدعوات ولا النظر إلى شيء من كافة المخلوقات؛ بل أخرجنا إليك راضين بك ومؤثرين لك على كل شيء “[9] . ” وذوقنا يارب حلاوة الإيمان بك وصف سرائرنا حتى ندرك حلاوة القرآن”[10] .

المحور الثاني: التصوف والسياسة:

ذكرنا أن التصوف اهتمامه الأساسي يتعلق بإصلاح الفرد تربية وتهذيبا وسلوكا من خلال التزكية؛ والسياسة عند الصوفية هي استصلاح الخلق بالإرشاد إلى الطريق المنجي في العاجل والآجل، على الخاصة والعامة، في ظواهرهم وبواطنهم، وتكون من الأنبياء وتسمى سياسة مطلقة، أي كاملة من غير إفراط ولا تفريط، لجميع الخلق وفي كل الأحوال، ومن العلماء- ورثة الأنبياء حقا – على الخاصة في بواطنهم لا غير، أي لا تكون على العامة، لأن إصلاحهم مبني على القهر والسلطان، ولذلك لا تكون على الخاصة في ظواهرهم، وتسمي بالنسبة لهم سياسة نفسية[11] .

هنالك عوامل كثيرة تسبب في عدم اشتغال بعض المتصوفة بالسياسة وابتعادهم عنها. فهم يهتمون عموما بالصراع الداخلي للإنسان وبالخلاص الذاتي وليس بالصراع الذي ينشأ بين أفراد المجتمع، وتوجههم العام هو أن يهتم الفرد بعيوب نفسه قبل أن يهتم بعيوب الآخرين ، وإذا حدث ذلك فإن المجتمع سينصلح بصلاح أفراده،  ومن أسباب ابتعاد المتصوفة عن السياسة والزهد فيها أن الشيوخ لهم مكانة عند أتباعهم وعند أفراد المجتمع عموما، فالناس يحبونهم ولا يتعرضون عادة لنقدهم، لكن دخولهم في السياسة واتخاذهم لقرارات قد لا تعجب كثيرا من قطاعات المجتمع قد يعرضهم للنقد[12]. ومع ذلك فإن كثيرا من المتصوفة لم يهملوا الإصلاح الاجتماعي بل وظفوا طاقات مريديهم وتلاميذهم في مجال أوسع؛ فتصدوا لظلم الحكام وقاوموا الاستعمار وحملوا راية الجهاد حتى أقاموا دولا تحكم بالإسلام. لأن السياسة فعلا يكون معه الناس أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد – كما يقول ابن عقيل-  والسياسة نوعان: عادلة، تخرج الحق من الظالم الفاجر فهي من الشريعة؛ ومدنية من أقسام الحكمة العملية، والسياسة تلزم الصوفي الشيخ مع المريدين والطالبين، وهي سياسة نفسية، وتلزم الإخوان مع بعضهم، وتلزم الصوفية عموما مع الناس[13] وعلى ذلك فإن الصوفية مارسوا السياسة بهذا المفهوم الشرعي من عدة زوايا نلخصها في الآتي:

أولا: نصح الحكام: قام عدد من شيوخ الطرق الصوفية بواجب النصح للحكام التزاما بالتوجيه النبوي” الدين النصيحة” قلنا لمن؟ قال لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم”[14]. فالصوفية بحكم مكانتهم الدينية والاجتماعية صار لهم مريدون وأتباع مما أكسبهم شرعية قيادية في المجتمع وهذا يفرض عليهم أن يكونوا حراسا لمصالح المنتسبين إليهم، وقد يعتدي عليها الحكام، فيقوم المتصوفة بنصح الحكام وحثهم على رفع المظالم عن الناس. ويرى أحمد أمين أن الأمراء عبر التاريخ كانوا يقفون في صف الفقهاء ضد المتصوفة إذا نشأ بينهما نزاع؛ وأرجع ذلك لسببين؛ الأول: أن التعاليم الصوفية تدعو إلى الزهد، وعدم الإهتمام بالدنيا، ولو عمت الفكرة الناس ما صلح ملك، ولا وجد من يعمل. والثاني: أن الصوفية الحقيقيين إنما يخضعون لله وحده، ويؤمنون تمام الإيمان بأن لا إله إلا الله فلا خضوع لملك أو أمير، وهذا يغضب ذوي السلطان عادة[15].

وخصص الإمام الغزالي في سفره المشهور- إحياء علوم الدين-  بابا في أمر الأمراء والسلاطين ونهيهم عن المنكر،ذكر فيه نماذج مشرفة لمواقف شيوخ التصوف وهم يناصحون الحكام دون أن يخشوا في الحق لومة لائم.

وكان عدد من الخلفاء يستجيبون للنصيحة لصدق من صدرت عنهم، ومن ذلك موقف ذي النون المصري مع المتوكل حيث وشي به لدى الخليفة فاستحضره من مصر فلما دخل عليه وعظه فبكى المتوكل ورده إلى مصر مكرما[16]

ثانيا: الشفاعة لدى الحكام : من المهام التي يقوم بها شيوخ التصوف توسطهم لدى الحكام والمسئولين، حيث يقصدهم العامة لمكانتهم ليشفعوا لهم لدى المسئولين، وما كانوا يبخلون بوقتهم ولا جاههم في القيام بأي عمل يرفع الضيم عن الناس، روي أن شقيق البلخي شفع لرجل لدي علي بن عيسى بن ماهان أمير بلخ فقبل شفاعته[17]. بل بلغت مكانة المتصوفة في العصر المملوكي أن رفعت الكلفة  بينهم وبين السلاطين، وروي أن الجارحي – شيخ المتصوفين في العصر المملوكي-  بلغ شأنا لدرجة أن الشكوى كانت ترفع إليه وكان الأمراء يقفون بين يديه فلا يأذن لهم بالجلوس[18]  

ثالثا: جهاد الأعداء و مقاومة الإستعمار: لم يقف دور التصوف عند جهاد النفس وإنما اشتركوا في الجهاد ضد الأعداء ومقاومة الاستعمار، فالصوفية هم أهل التربية العملية، ولذلك تجدهم من أكثر الناس عملاً بالآيات الكثيرة والأحاديث الشهيرة التي تبين فضل الرباط والجهاد، وهم خواص أهل السنة، كما يقرر الإمام القشيري في رسالته، وإن خلت مصنفاتهم من الإشارة إلى موضوع الجهاد الحربي إلا ماندر، كقول أبي طالب المكي (ت 386 هـ): “…. ولذلك صار الجهاد أفضل لأنه حقيقة الزهد في الدنيا“.

وقريب من ذلك ماجاء في كتاب الإحياء للإمام الغزالي: “… إن المنافقين كرهوا القتال، خوفاً من الموت، أما الزاهدون المحبون لله تعالى، فقاتلوا في سبيل الله كأنهم بنيان مرصوص” وفي موطن آخر يقول حجة الإسلام : “ولقد عظم الخوف من أمر الخاتمة فأسلم الأحوال عن هذا الخطر خاتمة الشهادة“.

أما ابن عربي وهو شيخ الصوفية الأكبر فيقول في الفتوحات، متحدثاً عن أصناف الأولياء: “… ومنهم السائحون، وهم المجاهدون في سبيل الله، لأن المفاوز المهلكة البعيدة عن العمران، لا يكون فيها ذاكر لله من البشر، ولذلك لزم بعض العارفين السياحة صدقةً منهم على البيداء التي لا يطرقها إلا أمثالهم، والجهاد في أرض الكفر التي لا يوحّد الله تعالى فيها، فكان السياحة بالجهاد، أفضل من السياحة بغير الجهاد…”. والملاحظ أنه عندما ظهر التصوف رافقته مجموعة من الفضائل المستمدة من الفتوة، وفي مقدمتها: الشجاعة والتضحية.

يقول العارف سهل التستري (ت 273هـ): “أصل هذا الأمر الصدق والسخاء والشجاعة“.

ويذكر غيره: “الأساس الأول للصوفي هو تقوية الصلة بالله، والشجاعة بالقتال للجهاد.

وقد جاء رجل إلى رويم البغدادي أحد كبار العارفين (ت 303 هـ)، وقال له: “أوصني، فقال: أقل مافي هذا الأمر بذل الروح، وإلا فلا تشتغل بترهات الصوفية.

وعلق على ذلك الشيخ الهجويري (ت 465 هـ) في كشف المحجوب شارحاً: “أعني كل شيء غير هذا هو ترهات، وقد قال تعالى:” ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء….”.

وزبدة القول: إن العباد والزهاد ومن بعدهم الصوفية، استنوا لأنفسهم سنة “المرابطة“.

فشدوا الرحال إلى ميادين القتال، لوعظ المجاهدين، وتقوية عزائمهم، والمجاهدة معهم. يقول يحيى بن معاذ الرازي (ت 258هـ) مشيراً إلى أن من شروط الصوفية السياحة للجهاد:

ومن الدلائل أن تراه مسافراً ***                         نحو الجهاد وكل فعلٍ فاضل[19].

رابعا: الاصلاح الاجتماعي: يلعب المرشد دورا أساسيا يتجلى في توجيه القلوب وترقيتها، وأدوار أخرى مرتبطة بالاجتهاد والتجديد في فهم النصوص الشرعية، والحرص الشديد على أداء المؤسسة التربوية التي يرأسها لأدوارها الاجتماعية والتضامنية والإنسانية، فإذا كان المريض يتوجه للمستشار النفسي ويؤدي له تعويضا مقابل كشف ما يكتنزه صدره من آلام باطنية، فالشيخ المربي يسمع ويوجه وينصح، فاتحا بابه لكل الناس بدون مقابل مادي مصرح به، إنه بلا شك مشروع العمران الأخوي ، الذي يقوي الرأسمال البشري ويسعى للنهوض بأخلاقيته، لكل هذه الغايات، اكتسب التصوف مشروعية عقلانية، فكرية، دينية وتنموية[20].

لقد قام المتصوفة بدور كبير في الاصلاح الاجتماعي؛ فالاهتمام باصلاح الفرد أولى خطوات الاصلاح، إذ بالتزكية وطهارة النفس ينصلح الفرد  وينعكس ذلك على سلوكه كما ورد في الحديث:” ألا وإن الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسدكله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب”[21]. كما أن الزوايا والخلاوي والمجمعات الدينية التي أقامها الصوفية كانت بوتقة ذابت فيها الفوارق الاجتماعية وأصبح الجميع إخوة يربطهم رباط الروح وصاروا كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له جميع الجسد بالسهر والحمى.

ففي مجتمعات الصوفية تنتهي العصبية والعنصرية والاستعلاء بالمال والمنصب، كما تختفي عوامل النزاع والصراع؛ وبالتالي كان للتصوف أثر كبير في الاصلاح الاجتماعي.

خامسا: إقامة دول إسلامية: لم يقف التصوف عند الاصلاح الفردي بل سعى كثير من الصوفية لاصلاح المجتمع وهنالك كثير من قادة التصوف قاموا بتعبئة المجتمع لمواجهة الاستعمار ومقاومة الغزو الثقافي والفكري والسياسي، فاستطاعوا عن طريق الجهاد والاجتهاد والاصلاح الديني أن يطردوا الاستعمار ويواجهوا تحديات العصر باجتهاد جديد وإقامة دول إسلامية تحكم بشرع الله وتقيم قواعد الدين على هدي النبوة؛ ويظهر ذلك جليا في الحركة السنوسية والتجانية والقادرية، ففي غرب أفريقا كانت حركة الشيخ عثمان دان فوديو، وفي شمال أفريقيا حركة الشيخ عبدالقادر الجزائري، وقام الشيخ محمد بن علي السنوسي بنشر الإسلام في صحراء ليبيا وقبائلها؛ وفي السودان أقام الإمام المهدي دولة  إسلامية كاملة الدسم لها نظامها التشريعي والاداري والمالي وسياستها الخارجية استكملت هوية السودان الإسلامية.

المحور الثالث: الوسطية والتصوف وضبط العلاقة بين الماديات والروحانيات  

التصوف عامل مهم في عالم اليوم الذي طغت فيه الماديات، وانتشرت فيه النزاعات بسبب الفراغ الروحي والخراب الباطني؛ فما نشهده اليوم يعود إلى الطمع وشهوة السلطة والمال وحب السيطرة وكلها نزعات يمكن أن يساهم التصوف في علاجها.

إن إهمال الجانب الروحي فتح الباب لطغيان الماديات التي جردت الإنسانية من عوامل خيريتها:

ياخادم الجسم كم تشقى لخدمته              أتطلب الربح مما فيه خسران

أقبل على النفس واستكمل فضائلها       فأنت بالنفس لا بالجسم إنسان

إن جهود العلماء والمفكرين والمصلحين تحتاج إلى الاهتمام بجانب التزكية حتى تؤتي أكلها؛ فأمانة التكليف تقتضي الوعي برسالة الإنسان في الحياة والتي قوامها الاستخلاف والتزكية والعمران، إنها جهود يجمعها مصطلح مهم في الإسلام هو مصطلح الإحسان.

الإحسان خلق لا يكون معه تعامل الإنسان مع أخيه الإنسان مجرد تحصيل خدمات منه، أو توصيلها إليه، وإنما جلب صلاح له أو استجلابه منه، ودفع فساد عنه أو استدفاعه به[22]، وهذا مقتضى قول النبي صلى الله عليه وسلم:” إن الله كتب الإحسان على كل شيء”[23] يقول القرطبي في شرح هذا المعنى:”فإنه تعالى يحب من خلقه إحسان بعضهم إلى بعض، حتى إن الطائر في سجنك، والسنور في دارك لا ينبغي أن تقصر تعهدك بإحسانك”[24]ويقول الغزالي: “وقد أمر الله تعالى بالعدل والإحسان جميعا، والعدل سبب النجاة فقط وهو يجري من التجارة مجرى رأس المال، والإحسان سبب الفوز ونيل السعادة، وهو يجري من التجارة مجرى الربح، ولا يعد من العقلاء من قنع في معاملات الدنيا برأس ماله، فكذا في معاملات الآخرة فلا ينبغي للمتدين أن يقتصر على العدل واجتناب الظلم ويدع أبواب الإحسان وقد قال تعالى: )وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ([القصص:77] وقال عز وجل: )إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ([النحل:90]وقال سبحانه: )إِنَّ رَحْمةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ المُحْسِنِينَ( [الأعراف:56]ونعني بالإحسان: فعل ما ينتفع به المعامل وهو غير واجب عليه، ولكنه تفضل منه؛ فإن الواجب يدخل في باب العدل وترك الظلم”[25]

فالإحسان في التعامل يؤسس لفقه شغوف باصطناع المعروف بوجه عام، ويؤسس لفقه شغوف بأخلاق الإيثار، وهو فقه يقوم على وجهين ذكرهما الإمام الشاطبي:

الوجه الأول: إسقاط الاستبداد والدخول في المواساة على سواء؛ وذلك بأن يرى العبد غيره مثل نفسه، وكأنه أخوه أو ابنه أو قريبه أو يتيمه، أو غير ذلك ممن طلب بالقيام عليه ندبا أو وجوبا، وأنه قائم في خلق الله بالاصلاح والنظر والتسديد فهو على ذلك كواحد منهم. عن أبي سعيد قال: بينما نحن في سفر مع النبي صلى الله عليه وسلم إذ جاء رجل على راحلة له، قال: فجعل يصرف بصره يمينا وشمالا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:”من كان معه فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له، ومن كان له فضل من زاد فليعد به على من لا زاد له.” قال فذكر من أصناف المال ما ذكر حتى رأينا أنه لاحق لأحد منا في فضل”[26].

الوجه الثاني:الإيثار على النفس، وهو أعرق في إسقاط الحظوظ؛ وذلك أن يترك حظ نفسه لحظ غيره، اعتمادا على صحة اليقين، وإصابة لعين التوكل، وتحملا للمشقة في عون الأخ في الله على المحبة من أجله[27]. وهو من محامد الأخلاق، وزكيات الأعمال، وهو ثابت من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن خلقه المرضي، وقد كان عليه الصلاة والسلام أجود بالخير من الريح المرسلة، وقالت له خديجة: إنك تحمل الكل وتكسب المعدوم، وتعين على نوائب الحق. وحمل إليه تسعون ألف درهم فوضعت على حصير، ثم قام إليها يقسمها، فما رد سائلا حتى فرغ منه، وجاءه رجل فسأله فقال: ماعندي شيء ولكن ابتع علي، فإذا جاءنا شيء قضيناه. فقال له عمر: ماكلفك الله ما لاتقدر عليه،فكره النبي صلى الله عليه وسلم ذلك؛ فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله أنفق ولا تخف من ذي العرش إقلالا، فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم وعرف البشر في وجهه، وقال: بهذا أمرت” ذكره الترمذي[28].

وهذا اللون من أخلاق الإيثار؛ يعين عليه ثلاثة أشياء، ذكرها ابن القيم في مدارج السالكين:

الأول: تعظيم الحقوق؛ فإن عظمت الحقوق عنده قام بواجبها، ورعاها حق رعايتها، واستعظم إضاعتها، وعلم أنه أن لم يبلغ درجة الإيثار لم يؤدها كما ينبغي فيجعل إيثاره احتياطا لأدائها.

الثاني: مقت الشح؛ فإنه إذا مقته وأبغضه التزم الإيثار.

الثالث: الرغبة في مكارم الأخلاق؛ وبحسب رغبته فيها يكون إيثاره؛ لأن الإيثار أفضل درجات مكارم الأخلاق[29].

فالتصوف بهذا المفهوم الإحساني هو عين الوسطية التي جاء بها الإسلام؛ لأنه يحقق التوازن بين الروحانيات والماديات، قال تعالى:” وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلاَ تَبْغِ الفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ  لاَ  يُحِبُّ المُفْسِدِينَ”[القصص:77]

إن الإحسان يؤطر حركة المسلم في علاقته بالآخر؛ قال تعالى: )إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي القُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ([النحل:90]. قال العلماء: إن هذه الآية الشريفة، أجمع آية في القرآن، ولو لم يكن فيه غير هذه الآية، لكفت في كونه تبيانا لكل شيء وهدى[30] ، ولما تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية على المشركين؛ قال فصحاؤهم: دعوت والله إلى مكارم الأخلاق، ومحاسن الأعمال[31]، ويقول سلطان العلماء العز بن عبدالسلام: ” وأجمع آية في القرآن للحث على المصالح كلها، والزجر عن المفاسد بأسرها قوله تعالى: )إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي القُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ([النحل:90].فإن الألف واللام في العدل والإحسان للعموم والاستغراق، فلا يبقى من دق العدل وجله شيء إلا اندرج في قوله تعالى:” إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ” ولا يبقى من دق الإحسان وجله شيء إلا اندرج في أمره بالإحسان. والعدل هو التسوية والإنصاف، والإحسان إما جلب مصلحة أو دفع مفسدة. وكذلك الألف واللام في الفحشاء والمنكر والبغي عامة مستغرقة لأنواع الفواحش، ولما يذكر من الأقوال والأعمال[32].

الخاتمة

إن التصوف بمفهومه الشرعي يحتاج له كل إنسان لتزكية نفسه وضبط حركة حياته، والمنتدى العالمي للوسطية تبنى منهجا وسطا يجمع الحق الذي تفرق في المدارس الإسلامية؛ حيث يضم فقه التوازن بين الأصل والعصر، إلى وعي المفكرين وتأصيل الأثريين إلى تزكية أهل التصوف وبذلك يتكامل مشروع الوسطية ليقدم الإسلام في صورته الناصعة بعيد عن شطط الغلاة وتفريط المستلبين.

قال تعالى:” أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ”[إبراهيم:24-25]


[1] أنظر: التصوف وأثره في المجتمع، للدكتور: عبدالله حسن زروق. ص(46) شركة مطابع العملة السودانية، 2015م الخرطوم

[2] التصوف وأثره في المجتمع، ص(47)

[3] الموسوعة الصوفية ، تأليف دكتور/ عبدالمنعم الحفني؛ ص(1094)ط 5 – 2006 مطبعة مدبولي القاهرة

[4] السابق ص(1095)

[5] مدارج السالكين؛ لابن قيم الجوزية تحقيق الشيخ حامد الفقي/ طبعة دار الفكر العربي بدون تاريخ.

[6] في التصوف الإسلامي، تأليف أ. د. حسن االشافعي وأبواليزيد العجمي؛ ص(7-8 ط1 (1428هـ – 2007م) دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع والترجمة – القاهرة .

[7] السابق ص(19)

[8] في التصوف الإسلامي ، ص(20)

[9] راتب الإمام المهدي (مجموعة أدعية وأذكار تقرأ عقب صلاة الفجر وصلاة العصر)

[10] السابق.

[11] أنظر: الموسوعة الصوفية، ص(1046)

[12] التصوف وأثره في المجتمع،ص(278-279)

[13] الموسوعة الصوفية، ص(1046)

[14] رواه مسلم حديث رقم(55) المنهاج بشرح صحيح مسلم ابن الحجاج للنووي ص(161)دار ابن حزم للطباعة والنشر والتوزيع. بيروت – لبنان . ط1(1423هـ 2002م)

[15] ظهر الإسلام المجلد الأول لأحمد أمين ، ص(395)الدار المصرية اللبنانية، ط1(شعبان1437هـ – 2016م) القاهرة

[16] الرسالة القشيرية في علم التصوف، تأليف عبدالكريم بن هوزان القشيري النيسابوري؛ ص(40) المكتبة التوفيقية ط2(2015م) القاهرة

[17] الرسالة القشيرية ص(58)

[18] التصوف وأثره في المجتمع. ص(289)

[19] راجع جهاد الصوفية؛ بحث منشور في موقع الموسوعة الحرة

[20] أنظر: التصوف والسياق المعاصر – الحلول البديلة؛ مقال لعلي يوسفي علوي منشور على موقع قناة الجزيرة

[21] رواه البخاري

[22] الحق الإسلامي في الاختلاف الفكري، د. طه عبدالرحمن، صـ 21. نقلا عن القيم الحضارية في الإسلام، صـ 188.

[23] رواه مسلم في صحيحه، كتاب الصيد والذبائح، باب: الأمر بإحسان الذبح، 3/1548، حديث رقم(1955).

[24] تفسير القرطبي، 10/ 166.

[25] إحياء علوم الدين، كتاب الكسب والمعاش، 2/79. وقد ذكر الإمام الغزالي، رحمه الله ، أن الإحسان ينال بواحد من ستة أمور، ثم ذهب يشرحها، وهو كلام مهم ونافع، القيم الحضارية في الإسلام ؛ صـ188.

[26] رواه مسلم، كتاب: اللقطة، باب: استحباب المواساة بفضول المال، 3/1354، حديث رقم(1278).

[27] الموافقات:2/353-355 بتصرف.

[28] الموافقات، 2/355.

[29] مدارج السالكين؛ 1/299.

[30] قلائد العقيان في قوله تعالى:”إن الله يأمر بالعدل والإحسان” للعلامة الشيخ مرعي المقدسي، تحقيق: عبدالحكيم الأنيس، دار البحوث للدراسات الإسلامية وإحياء التراث، دبي ط1، (1436هـ – 2005م) صـ75.

[31] السابق، صـ77.

[32] قواعد الأحكام في مصالح الأنام، 2/161. هذا الفرع مستفاد من كتاب : القيم الحضارية في الإسلام ، نحو حداثة إنسانية جديدة، لمؤلفه: د. محمد عبدالفتاح الخطيب. صـ(179-192) بتصرف.

المنتدى العالمي للوسطية

المؤتمر الدولي: الإسلام في أفريقيا – ومواجهة التطرف والارهاب

نايجيريا – لاغوس

8 – 9     أغسطس 2015

التطرف الديني وآثاره الدينية والاقتصادية والسياسية والثقافية

بقلم: عبدالمحمود أبّو ابراهيم

رئيس منتدى الوسطية –  فرع السودان

بسم الله الرحمن الرحيم

المقدمة:

ابتلي العالم في العقود الأخيرة بظاهرة الإرهاب الذي يغذيه الغلو والتطرف؛ والذي بدوره يُبرزه الإحساس بالظلم، وحالة الإحباط العامة التي تعيشها كثيرمن الشعوب؛ نتيجة لعدة عوامل منها الفقر والبطالة عند بعض الناس، وبؤس الرفاهية عند آخرين.

والإرهاب في العالم الإسلامي جاء نتيجة للغلو في الدين، والتطرف في الأفكار،  والتشدد في المواقف، تلك الصفات التي حذر منها الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: “إياكم والغلو في الدين، فإنه أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين”[1]

لقد تصدرت أخبار الغلاة والمتشددين جُل أجهزة الإعلام! ومامن يوم يمُرُّ إلا وتقرأ فيه، أو تسمع أوتشاهد نبأ التفجيرات التي ينفذها المتطرفون ضد المدنيين في مواقع التجمعات المختلفة،حتى أضحت هذه الأخبار هي المسيطرة على أجهزة الإعلام.

ولاشك أن الغلو وتوابعه أمرٌ تَنْفِر منه العقول السليمة، ويرفضه الضمير الإنساني السَّوِي؛ لأنه ضد الفطرة، ويعبر عن حالة مَرَضية للمُتَّصفين به، والغلو والتطرف لاهوية لهما ولاوطن لهما ولادين، فمنذ وجد الإنسان في هذه الدنيا؛ خلقت معه نزعات متعددة تحمل بذرة الخير وبذرة الشر.

                   كأن عدة أرواح تقوم به              فليس يهدأ ولاتهدأ رغائبه

ومهمة الرسل عليهم الصلاة والسلام؛ تدور حول تنمية عوامل الخير في الإنسان، وتطهيره من نزعات الشر وذلك بإرشاده وتوجيهه للوظيفة التي خلق لأجلها؛ وهي إخلاص العبادة لله، والقيام بوظيفة الإستخلاف على الوجه الذي حدده الله سبحانه وتعالى.

ومع أن الرسل بلَّغوا ما أُنزل إليهم من ربهم؛ إلا أن المجتمع البشري لايخلو من المخالفين للأوامر الإلهية، والمنحرفين في أفكارهم؛ وأخطرهم أولئك الذين يُحَرِّفون كلام الله ويزعمون أنهم يطبقون أحكام الدين! وقد ظهر الغُلُو في كل الملل؛ فاليهود اشتُهروا بالغُلُو التَّجسيدي المادي؛ حتى أنهم قالوا لموسى عليه السلام:أرنا الله جهرة! قال تعالى: “ يَسْئَلُكَ أَهْلُ الكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِّنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً”[النساء:153] والنصارى كان غُلُوُّهم في نسبة الولد لله؛ ورفعهم  المسيح حتى أنهم ألَّهُوه وقد حذرهم الله من ذلك بقوله تعالى: ” يَا أَهْلَ الكِتَابِ  لاَ  تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الحَقَّ إِنَّمَا المَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انتَهُوا خَيْراً لَّكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا  فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً”[النساء:171] وقوله تعالى: ” قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَابِ  لاَ  تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلاَتَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيراً وَضَلُّواْ عَن سَوَاءِ السَّبِيلِ”[المائدة:77].

وعندما ظهرت أمارات الغُلو في عهد نزول القرآن؛ بادر الرسول صلى الله عليه وسلم بالقضاء عليها في مهدها، مبينا لأُمَّته أن الرسالة الخاتمة؛ جاءت لرفع الإصر والأغلال التي كانت على الأمم السابقة، ومعلنا أن هذا الدين يُسْرٌ ولن يُشَادَّ الدين أحد إلاغلبه، مُحَذِّرا من التَّنَطُّع والتشدد والغُلو، وفي وقت لاحق نتيجة لعدة عوامل سياسية واقتصادية واجتماعية وعقيدية؛ برز الغلو مرة أخرى وراح ضحيته خليفتان من الخلفاء الراشدين، وعدد من المسلمين بينهم صحابة وتابعون وعلماء وغيرهم.

وفي العصر الحديث انتشر الغُلو بصورة مُوسعة، شمل معظم البلدان الإسلامية وغيرها، وأدي إلى وقوع خسائر كبيرة في الأرواح والممتلكات والعلاقات، وشَوَّه صورة الإسلام والمسلمين تشويها فتح الباب للتدخُّلات الأجنبية، وأدى إلى إحجام كثير من الراغبين في الدخول في الإسلام.

لقد كانت أكبر خسارة حقَّقها الغُلو تَمثَّلت في الصَّدِّ عن الإسلام واتهامه بالعنف والإرهاب، فضلا عن الأرواح التي أُزهقت والأموال التي أهدرت، والتشويه الذي لحق بالمجتمعات المسلمة من تكفير وتعصب وتدمير.

لقد ثبت حجم الضرر الذي لحق بالإسلام والمسلمين بل وبالعلاقات الإنسانية عموما؛ نتيجة للغُلُوّ والتَّطَرف والتشدُّد والعنف؛ مما يوجب تضافر الجهود وتعاون الكافة لمواجهة هذه الظاهرة بالتعرف على أسبابها وعوامل تغذيتها وآثارها، وأنجع الطرق والوسائل لعلاجها.

إنني أشارك في هذا المؤتمر بهذا البحث الذي يشتمل على ثلاثة محاور ومقدمة وخاتمة سائلا الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا لتشخيص هذه الظاهرة الخطيرة والمساهمة في تحجيمها ومعالجة آثارها؛ شاكرا لمنظمي هذا المؤتمر في رئاسة المنتدى العالمي للوسطية، وفرع نايجيريا، والمركز النيجيري للبحوث العربية؛ سائلا المولى عز وجل أن يجزيهم عن أمة الإسلام خير الجزاء.

المحور الأول: التطرف الديني أسبابه ومظاهره :

التعريف:

التطرف لغة: الوقوف في الطَّرَف، والطَّرَف بالتحريك: جانب الشيئ، ويستعمل في الأجسام والأوقات وغيرها.

والتَّطَرف اصطلاحا: مجاوزة حد الإعتدال.[2]

والعلاقة بين المعنيين اللغوي والعرفي واضحة؛ فكل شيئ له وسط وطرفان، فإذا جاوز الإنسان وسط شيء إلى أحد طرفيه قيل له: تَطَرَّف في هذا الشيء، أو: تَطَرَّف في كذا، أي جاوز حد الاعتدل ولم يتوسط. وعلى ذلك فالتَّطَرُّف يصدق على التَّسَيُّب، كما يصدق على الغلو، وينتظم في سلكه الإفراط، ومجاوزة الحد، والتفريط والتقصير على حد سواء؛ لأن في كل منهما جنوحاً إلى الطرف وبعداً عن الجادَّة والوسط[3] والتطرف والغلو مرتبطان ارتباطا وثيقا، فكل غلو يؤدي إلى تطرف، وكل تطرف ينتج عن غلو.

والغلو لغة: مجاوزة حد الإعتدال، وفي مقابل طرفه هذا طرف آخر هو التَّفْريط أو التَّسَيُّب، وكلا طرفي قصد الأمور ذميم.

والغلو اصطلاحا: نجد النصوص الشرعية تَقْرن بين “الغلو” و”التنطع” وكأنها جميعا مجاوزة حد الاعتدال المطلوب من المسلم أن يلتزم به.[4] 

ويقال غلا الرجل في الدين والأمر غلواً ، إذا جاوز حده، ومعناه عدم الاقتصار على الوسطية، وعرفه شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – كما هو في كتاب (اقتضاء الصراط المستقيم في مخالفة أصحاب الجحيم) بأنه: (مجاوزة الحد بأن يزاد في الشيء في مدحه وذمه على ما يستحق)، وقد ذكر ذلك وقريباً منه الشاطبي في كتابه (الاعتصام)، والحافظ ابن حجر في الفتح وصاحب كتاب تيسير العزيز الحميد، وقالوا: إن الغلو (هو الزيادة ـ والزيادة لفظ عام ـ وسواء كانت هذه الزيادة اعتقادية، أو عملية أو حكماً على الآخرين)[5].

وأطلق العلماء قديما كلمة التطرف الديني على القائل المخالف للشرع، وعلى القول المخالف للشرع، وعلى الفعل المخالف للشرع. فهو فهم النصوص الشرعية فهما بعيدا عن مقصود الشارع وروح الإسلام، فالتطرف في الدين هو الفهم الذي يؤدي إلى إحدى النتيجتين المكروهتين، وهما الإفراط أو التفريط. والمتطرف في الدين هو المتجاوز حدوده، والجافي عن أحكامه وهديه، فكل مُغال في دينه متطرف فيه مجاف لوسطيته ويسره[6] والتطرف قد يكون في المعتقد، وقد يكون في الفكر، وقد يكون في المواقف والسلوك؛ فتجد الشخص المتطرف فاسد العقيدة، منحرف الفكر، حاد الطبع، يقسو على نفسه ويتعامل مع الناس بجفاء وغلظة! ينفر منه جميع الأسوياء، والتطرف في الدين أثر من آثار الوسوسة الشيطانية؛ يقول ابن القيم: “ما من أمر أمر الله به إلا وللشيطان فيه نزغتان؛ إما إلى تفريط وإضاعة، وإما إلى إفراط وغلو. ودين الله وسط بين الجافي عنه والغالي فيه، فكما أن الجافي عن الأمر مضيع له؛ فالغالي فيه مضيع له، هذا بتقصيره عن الحد، وهذا بتجاوزه الحد”[7] .

مظاهره:

إن للتطرف مظاهر كثيره أهما الآتي:

أولا:الغلو في المعتقد: العقيدة هي فهم الإنسان للدين، وتَصَوُّره للكون والحياة؛ ومن ثم رسوخ هذا الفهم في وجدانه إيمانا وتعبدا وتعاملا، ولذلك اختلفت العقائد حسب استعداد كل شخص من حيث المعرفة، والخبرة، والتوازن النفسي، والبيئة المحيطة. فمن الناس من يكون إعتقاده صحيحاً لِتَلَقِّيه للمعلومة الصحيحة من أهل التخصص، ومن المصادر الموثوقة، وتأهُّله الشخصي لهذا التَّلَقِّي، ومنهم من تكون عقيدته منحرفة، لِخطإِ معلوماته، وفساد مصادره.

إن الاستقامة في العقيدة، والاعتدال في الفهم، والتوازن في المواقف؛ أمور تتحق عند الذين يتلقون معلوماتهم من مصادرها الصحيحة،المتمثلة في الأنبياء والرسل والعلماء الربانيين، فهؤلاء تجدهم يلتزمون منهج الوسطية في معتقدهم، وفي مواقفهم، وفي سلوكهم، وفي تعاملهم؛ لأنهم التزموا فطرة الله التي فطر الله الناس عليها وهي تمثل الدين القيم.

وأما المخالفون لهم فتجدهم يغالون في عقيدهم وفي مواقفهم وفي سلوكهم وفي تعاملهم؛ وهؤلاء يفسدون ولا يصلحون قال صلى الله عليه وسلم: “…إن المُنْبَتَّ لاأرضا قطع ولاظهْرا أبقى”[8] وقال تعالى: “ قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً”[الكهف:103-104] إن الغلو في العقيدة قد يكون بإطلاق أوصاف على الله سبحانه وتعالى لاتليق به؛ وقد يكون بالتفريط في جنب الله جهلا بعظمته. كما يكون الغلو بإضفاء صفات على المخلوقين إفراطا، أو انتقاصا للكرامة الإنسانية تفريطا،وهذا الغلو يدفع صاحبه إلى سرعة تكفير الآخرين؛ لأنهم حسب تصوُّرِه خرجوا من الملة التي تنحصر في فهمه هو، وكل من يخالفه فهو كفر! وخلاصة القول: أن الغلو في المعتقد هو الخروج عن الفهم الصحيح للعقيدة القائم على قواعد الإسلام الخمس، والإلتزام بأركان الإيمان الست، والتصور الإسلامي العام للكون والحياة الإنسان؛ والذي تلخصه الآيات الكريمة من سورة الأنعام: ” قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا  كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ (161) قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ (162)  لاَ  شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ المُسْلِمِينَ (163) قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَباًّ وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (164) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ العِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ [الأنعام: 161-165]

ثانيا: التعصب للرأي: من مظاهر التطرف؛ التعصب للرأي وإن خالف الحق! والتعصب من أهم الأسباب التي دفعت أهل مكة لرفض رسالة الإسلام تمسكا بما وجدوا عليه آباءهم قال تعالى: “ وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ (23) قَالَ أَوَ لَوْ جِئْتُكُم بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ”[الزخرف:23-24] إنه التقليد الأعمى الذي يصد المرء عن رؤية الحق، ويحول بينه وبين الصراط المستقيم، تعصبا لما ألفه؛ وليس هذا وقفا على من هم خارج الإسلام بل تجد في داخل الملة من أصيب بهذه النزعة المتعصبة، خاصة في الأمور التي تحتمل أكثر من معنى، فيتعصب لرأي شيخه، أو إمامه، أوطائفته، أوحزبه وإن كان الحق مع غيرهم، وهذا نهج يخالف منهج أهل العلم الذين يتبعون الدليل ولايتعصبون للرأي؛ يقول ابن القيم: ” ثم خلف من بعدهم خلوف فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون، وتقطعوا أمرهم بينهم زبرا وكلهم إلى ربهم راجعون، جعلوا التعصب للمذاهب ديانتهم التي بها يدينون، ورؤوس أموالهم التي بها يتَّجِرون”[9] وهذا النوع من التعصب أدى إلى تعميق الخلاف بين المسلمين، مع أن عوامل الوحدة أكثر لو اتبعوا المنهج العلمي الذي يلتزم بالأصول والقطعيات، ويتسامح في الفروع والظنيات، بل قد يدفع التعصب صاحبه إلى رد النصوص القطعية لمخالفتها لرأي المقلد المتعصب!يقول ابن القيم: “وكيف يكون من ورثة رسول الله صلى الله عليه وسلم من يجتهد ويكدح في رد ماجاء به إلى قول مقلده ومتبوعه؟ ويُضَيِّع ساعات عمره في التعصب والهوى ولايشعر بتضييعه؟ تالله إنها فتنة عمَّت فأعْمت، ورمَت القلوب فأصْمت، رَبا عليها الصغير، وهرِم فيها الكبير، واتُّخِذ لأجلها القرآن مهجورا”[10] التعصب مظهر من مظاهر الغلو.

ثالثا:التشديد على النفس: من مظاهر التطرف الخروج عن منهج الإعتدال، فتجد المتطرف يتشدد على نفسه، ويقسو عليها، ويكلفها ما لاتطيق، فيلزم نفسه بالعزائم دائما، ولايأخذ بالرخص مهما توفرت موجباتها، ويحرم على نفسه الطيبات، ظانّاً بأنه يتقرب إلى الله سبحانه وتعالى! قال سفيان الثوري: “إنما الفقه الرُّخصة من ثِقة، أما التَّشَدُّد فيُحْسِنه كلُّ أحد”! وقد حذر رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك في أكثر من حديث. قال صلى الله عليه وسلم: “إن الدين يُسْر، ولن يُشَادَّ الدين أحدٌ إلا غَلبه…”[11] وقوله صلى الله عليه وسلم: “لاتُشَدِّدوا على أنفسكم فيُشَدِّد الله عليكم ، فإن قوما شَدَّدُوا على أنفسهم فَشَدَّدَ الله عليهم ، فتلك بقاياهم في الصوامع والديار..”[12] إن التشدد في التدين يناقض رسالة الإسلام التي جاءت بالتخفيف واليسر ورفع الإصر؛ قال تعالى: “… وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ المُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ…”[الأعراف:156-157].

ولتأكيد أهمية اليسر في الإسلام؛ نهى رسول الله عن الإلحاح في السؤال حتى لايكون سببا في إيجاب حكم على الأمة يزيد من التزاماتها؛ قال صلى الله عليه وسلم: “إن الله حَدَّ حُدودا فلا تَعْتَدوها، وفَرَض أشياء فلا تُضيعوها، وحرَم أشياء فلا تَنْتَهِكوها، وسَكَتَ عن أشياء رحمةً بكم غير نِسْيان فلا تبحثوا عنها”[13] يقول الشيخ القرضاوي:” والخطاب في قوله: ” فلا تبحثوا عنها” للصحابة في زمن نزول الوحي، حتى لايترتب على بحثهم وتقعُّرهم تشديد بزيادة التكاليف، من إيجاب واجبات، أو تحريم محرمات”[14] ولهذا قال في الحديث الآخر: “ذروني ماتركتكم”[15]

رابعا: الجفوة في التعامل: من مظاهر الغلو، الغلظة والجفوة والفظاظة في التعامل مع الناس، فالغلاة لايعرفون لِينَ الكلام ولاسَمْحَ القول؛ فأسلوبهم في الغالب طابعه القسوة والجفاء، وهو أسلوب مُنَفِّر، يُناقض منهج الإسلام الداعي إلى الرفق واللين والتبشير والتيسير، بل حتى عتاة المجرمين والعصاة أمر الله سبحانه وتعالى بالترفق معهم، فعندما بعث الله موسى وهارون إلى فرعون الذي ادَّعَى الرُّبوبية أوصاهما أن يترفقا به، وأن يقولا له قولا لينا! قال تعالى:” اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى”[طه:42-443] والرسول صلى الله عليه وسلم كان سَمْح السجايا، كَسَاه الله بالجمال وكريم الخصال، أحبه كل من رآه، وأثنى عليه ربُّه بأنه ذوخلق عظيم، ومع ذلك نبَّهه ربُّه بأنّ منهج اللِّين هو الذي يؤَلِّف قلوب الناس، والغلظة تُنَفِّرهم؛ قال تعالى: ” فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظاًّ غَلِيظَ القَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ” [آل عمران:159].

إن الغلظة في الطبع، والجفاء في التعامل، والفظاظة في القول؛ صفات تتناقض مع منهج الإسلام القائم على السماحة واللطف واللين.عن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “ليس المؤمن بالطّعَّان، ولا اللعَّان، ولا الفاحش، ولا البذيء”[16]

خامسا: سوء الظن بالآخرين: سوء الظن يعني عدم الثقة في الآخرين، وتفسير أقوالهم وأفعالهم وجميع تصرفاتهم بما يخالف ظاهرها، ويَحْدُث نتيجةً لِسُوء طَوِيَّة، أولِوَسْوَسَة، أولتكرارِ تجاربَ مؤلمة مع بعض الناس، أدَّت لتعميم سوء الظن على كل الآخرين! وقليل من الناس مَن يستخدم سوء الظن على غرار المقولة الشائعة “سوء الظن من حُسْن الفِطَن” وهي تعني التَّرَيُّث والتَّثَبُّت والتَّحَقُّق من مواقف الآخرين للتَّأكُّد من صِحَّتِها، ولاتعني الجانب السلبي الذي نَعْنِيه من سوء الظن في هذا البحث، ويَصْدُق على ذلك مانُسِبَ للخليفة الراشد عمر بن الخطاب من قول: ” َلسْتُ خِبّاً ولاالخِبُّ يَخْدَعُني” هذا الجانب من سوء الظن – إذا جاز التعبير –  يُعْتَبَرُ محموداً، وأُفَضِّل تَسْمِيَته بالتَّثَبُّت والتَّحَقُّق ثم التصديق.

أماسوء الظن المذموم فهو ما يتعامل به الغلاة تجاه مُخالفيهم، وهو الذي نهى القرآن عن الاكثار منه وجَعْلِه دَيْدَناً، قال تعالى: “ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ…”[الحجرات:12].

إن افتراض كل الآخرين غير صادقين، وغير مؤمنين، وغير مدركين لحقيقة الدين؛ يجعل الحياة مضطربة، وصاحب هذا الإعتقاد لايستطيع أن يتعامل مع البشر الذين خلقهم الله أحرارا عقلاء ذوي إرادة، فصاحب الظن السيئ لايمكنه التعايش مع من يسيء بهم الظن، ولذلك يسعى لإدخالهم في زمرته وإلا سيواجههم، وهو مظهر من مظاهر الغلو. “فما أسوأ أمة تعيش في فتنة وغليان، يتقاذف بعضهم اتهامات الآخرين بالتكفير أو الضلال، أو الزندقة، أو الخروج من الإسلام؛ لأن المتهم جَنَح إلى فكر أو اعتقاد غير مألوف”[17]

سادسا:المسارعة للعنف عند الاختلاف: خُلِق الإنسان وجُبِل على المدنية، أي العيش مع الجماعة، ومن شأن المجتمع البشري الاختلاف في العقائد والآراء، والمنهج الراشد هوالذي يدير الاختلاف والتنوع بالسلم وإعلاء المشتركات؛ ولكن الغلاة ليست لديهم منطقة وسطى؛ إما أن تكون معهم أوضدهم، وعند الاختلاف فالحسم يكون باستعمال العنف، وهذا يتناقض مع منهج الإسلام القائم على الحوار واستخدام الحجة والبراهين الدالة على الحق، والموضوعية في الحوار؛ قال تعالى: “ قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ  (24)  قُل لاَّ تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلاَ نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ”[سبأ:24-25] إنه منهج يبدأ بالمتفق عليه، وانتزاع الاقرار من المخالف، حيث أن أكثرية البشر تُقِرُّ بأن الخالق والرازق هو الله، ثم يؤكد أن المختلفَيْن أحدهما على باطل والآخر على حق، وهو أمر يُصَدِّقُه الواقع. ولم يَنْسِب في هذه المرحلة الحقَّ لأيِّ جهة، وترك أمْرَ تَحْدِيدِه للحوار المنهجي، ثم يختم بعبارة لو التزم بها دعاة الحق لدخلوا القلوب، ولمَهَّدُوا الطريق لطالبي الحق للاقتناع والاتباع؛ تلك العبارة هي:” قُل لاَّ تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلاَ نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ” حيث خاطبت المخالف بأن ماتَنْسِبه لنا، مما تظنُّه إجراماً لاتُسْأل عنه، ولانُسْأل نحن عما تعمل! لاحظ ” أجرمنا” و”تعملون” نسب الإجرام للمؤمنين مع أنهم على حق، ووصف فعل المشركين بالعمل مع أنه باطل! تأكيدا وثقة بأن الحوار المنهجي سيؤكد صحة موقف المؤمنين وبطلان منهج خصومهم. وتعليما لأمة الإسلام بأهمية الحوار كمنهج للاقناع. أما أسلوب الغلاة المعتمد على العنف فليس منهجا صحيحا لإثبات الحق.

سابعا:تضخيم الذات واحتقار الآخر: من الصفات الواضحة لدى المتطرفين؛ أنهم لايُعطون اعتبارا ولاوزنا لمخالفيهم، ولايقدرون قوة الخصم تقديرا صحيحا، وفي المقابل يُضَخِّمون ذاتهم تضخيما ورَمِيًّا!يحتكرون الحق والمعرفة والنجاة، ويرمون مخاليفهم بالبطلان والجهل والهلاك،

أسبابه:

لقد صار التطرف مقلقا للدول وللمجتمعات الإنسانية، ومصادما للعلاقات الإنسانية القائمة على السلم والتعاون، وأصبح ظاهرة عالمية مقلقة لكثير من الدول، وهنالك جهات كثيرة إهتمت بالتطرف؛ منها علماء النفس وعلماء الاجتماع، وعلماء السياسة وعلماء الدين؛ فضلا عن الأجهزة الحكومية الأمنية والاعلامية والاقتصادية، وغيرها،وكل جهة ترجع أسباب التطرف للعوامل التي تدخل في مجال إهتمامها. ويمكن تلخيص هذه الأسباب في الآتي:

أولا: أسباب تربوية؛ تتمثل في الحرمان من رعاية الأبوين أوكلاهما في سن مبكرة، والحرمان الاجتماعي، والتعرض لصدمة نفسية شديدة فاجعة في الطفولة، والتربية القائمة على القسوة والضرب والتعامل الفظ مع الأطفال؛ هذا النوع من التربية يلقي بظلاله على حياة الأطفال، ويستمر معهم في كل مراحل العمر، ومرحلة الشباب هي مرحلة التنفيس عن الكبت والقهر والحرمان والمعاناة التي واجهت المرء في مرحلة الطفولة. فإن لم يتلقوا تدريبا على التحكم والضبط للنزعات النفسية، فإنهم يعجزون عن مقاومة الرغبات النفسية الشهوانية، ولايستطيعون التحكم في النوازع والانفعالات السلبية، وضبطها فتدفعهم هذه العوامل إلى التطرف[18]

ثانيا: أسباب نفسية: تتمثل في الاضطراب العصابي؛ كالقلق والاكتئاب، واضطراب الشخصية، والاضطراب الذهاني؛ كالاصابة بالفصام أوالهوس، أو الاضطرابات الضلالية؛ التي تجعل المصاب يعيش في هواجس تقنعه بأنه ليس شخصا عاديا، بل له دور كبير يقوم به لتغيير مجرى الحياة! ويجد الواقع مكذبا لاعتقاده وصادما له.وهنالك الدوافع النفسية المتأصلة في النفس البشرية، فضلا عن ضعف الأنا العليا(النفس اللوامة أوالعقل والضمير) وسيطرة الذات الدنيا (الهوى والنفس الأمارة بالسوء) على الشخصية الإنسانية، وتضخيم الأنا العليا بسبب الشعور المتواصل بوخز الضمير، وهذا من الحيل النفسية الدفاعية التي يلجأ إليها الشخص لتطهير ذاته والتكفير عن تقصيره تجاه نفسه أومعتقده الديني أومجتمعه؛ وغالبا مايقترن ذلك بالخجل والاشمئزاز من النفس والاكتئاب، ويبلغ في مرضى الوسواس والاكتئاب النفسي حدا من القسوة والخطورة مايجعل الحياة جحيما من العذاب وعبئا لايطاق[19] وهذا مايفسر لنا القسوة التي يتعامل بها المتطرفون مع أنفسهم ومع الناس، فتفجير الذات طلبا للاستشهاد، وقطع الروس، وحرق الأسرى وهم أحياء؛ ممارسات تنم عن دواخل مريضة ونفوس مضطربة أدت إلى انحراف في الفكر وشذوذ في المفاهيم، مع أنهم لو اتبعوا هدي القرآن منذ البداية لما وصلوا لهذه الحال، قال تعالى: “ وَنَفْسٍ وَمَا  سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا”[الشمس:7-10] وتزكية النفس لاتكون بالانتقام منها وإنما بالتوبة والإكثار من عمل الصالحات.قال تعالى: ” وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ”[هود:114]

ثالثا: أسباب اجتماعية: كثير من الناس يقارنون بين حالهم وحال الآخرين، فينظرون إلى الفوارق الإجتماعية من اختلاف الأصول العرقية، والتباين الثقافي والتفاوت في أساليب المعيشة؛ فلا يرضون بقسمتهم ويسيطر عليهم الإحساس بالدونية؛ فيتطرفون في مواقفهم إنطلاقا من هذا الشعور الخاطئ، ويقومون بممارسات غير طبيعية لتغطية الاحساس بالنقص، وقد لعبت التكنولوجيا الحديثة في تعزيز الشعور بالفوارق عن طريق ماتنشره وسائل الإعلام من أساليب حياة ومعيشة في الدول المتقدمة؛ مقارنة بما تعيشه دول العالم الثالث؛ فيتصاعد الغضب وعدم الرضا بالواقع والسعي للانتقام، وهو عامل مهم في انتشار التطرف في عالم اليوم. وتدخل الأسباب الإقتصادية في هذا المجال؛ فالفقر والبطالة وعدم القدرة على تلبية الحاجات الضرورية عوامل تساعد على انتشار التطرف والرغبة في الانتقام.

رابعا: أسباب فكرية: معظم تصرفات الإنسان نابعة من قناعاته الفكرية، التي تشكلها البيئة التي يعيش فيها؛ وفي عالمنا الإسلامي فإن عوامل التطرف الفكرية متوفرة بشدة؛ فالانقسامات الفكرية بين التيارات الإسلامية من جهة، وبينها وبين التيارات العلمانية واللبرالية والقومية من جهة أخرى؛ أدت إلى استقطاب حاد، ضاعت معه الموضوعية والسماحة والمرونة في التعامل مع الآخر، مضافا إلى ذلك التشويه المتعمد لصورة الإسلام والمسلمين من قبل دوائر في الغرب حيث يتم اختزال الإسلام في ممارسات بعض العناصر المغالية ويُغَضّ الطرف عن تاريخ المسلمين الناصع بل يتعمدون تشويهه مما يدفع الشباب المتحمسين للأعمال المتطرفة ردا على هذا العدوان الذي يستهدف هويتهم وتاريخهم ومعتقداتهم.

المحور الثاني: التطرف الديني آثاره ومخاطره

التطرف الديني من أخطر أنواع التطرف؛ لأن صاحبه يستند إلى عقيدة، ويؤمن أن مايقوم به أمرمشروع، ينتصر فيه لعقيدته ويؤجر عليه يوم القيامة، والحروب الدينية التي وقعت بين الطوائف داخل الملة الواحدة؛ أو بين أتباع الأديان كانت من أشرس الحروب وأفظعها بشاعة؛ والصراع بين الطوائف المسيحية، وبين اليهود والمسيحيين، والحروب الصليبية التي مارسها الغرب ضد المسلمين، والحروب بين الطوائف الإسلامية شاهدة على ذلك[20]

إن الآثار التي يخلفها التطرف على المجتمع والدول في كل مجالات الحياة خطيرة ومدمرة، ويمكن النظر إليها من خلال الآتي:

أولا: الآثار الاقتصادية: لاشك أن الإقتصاد يعتبر عصب الحياة، وعامل مهم في رُقِيّ المجتمعات، وقد أنعم الله سبحانه وتعالى على الإنسان بخيرات كثيرة وحثه على السعي لطلب الرزق حتى يتمكن من العيش في الدنيا بكرامة ويحقق الوظيفة التي خلق من أجلها. قال تعالى:”هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ”[الملك:15] وربط الله بين الأمن وتوفير الطعام في إشارة واضحة إلى أهمية الأمن في استقرار الحياة والهناء بالعيش الكريم؛قال تعالى:” فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا البَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ”[قريش:3-] ويزدهر الإقتصاد في ظل الأمن والاستقرار وبسط العدل، والتكافل بين أفراد المجتمع، قال تعالى:” وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ”[الأعراف:96]. فالإيمان والتقوى من لوازم العدل والاستقرار، بدليل أنه ذكر في آية أخرى أن الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم سيتحقق لهم الأمن والهدى. فالأمن ثمرة من ثمار العدل، والتطرف يتناقض مع العدل، ولذلك فإن للتطرف أثر كبير على الإقتصاد وعناصر إزدهاره، ومن تلك الآثار: توجيه كثير من الأموال للتصدي للنشاط العسكري؛ فالتطرف لايقف عند القناعات والاعتقادات وإنما يتجاوز ذلك إلى السلوك والفعل ومن نتائجه الارهاب والعنف الموجه ضد المدنيين والأبرياء والمؤسسات العامة والخاصة؛ مما يوجب على الدولة التصدي له ومواجهته بكافة الوسائل وأبرزها المواجهة الأمنية، وهذه المواجهة تتطلب انفاقا كبيرا على الأجهزة الأمنية، تدريبا وتسليحا وحوافزا، مما يؤثر على موارد الدولة واقتصادياتها.

ومن الآثار:توقف الأعمال الإقتصادية الزراعية والصناعية والتجارية؛ فالنشاط الاقتصادي يحتاج إلى بيئة آمنة وحياة مستقرة ومطمئنة، وفي ظل العمليات الإرهابية التي يقوم بها المتطرفون تكون الأولوية للمحافظة على حياة الناس، وعليه فإن النشاط الزراعي والصناعي والإقتصادي؛ سيتأثر في البلدان التي تتعرض للعنف والعمليات الإرهابية، بل ربما يتوقف تماما عندما يتوسع العنف كما وكيفا. و تخريب المنشآت والممتلكات العامة والخاصة؛ ومن آثار التطرف التخريب الذي يستهدف المؤسسات بالتفجير والتدمير، فضلا عن إحجام الزوار والسياح، وعزوف الاستثمار الأجنبي.و هروب رأس المال الوطني .

ثانيا: الآثار الدينية: يؤدي التطرف لفساد العقيدة؛ فكما أن التطرف انحراف في الفكر؛ فإنه يؤدي لفساد العقيدة، بتبنيه لمفاهيم تتصادم مع العقيدة الصحيحة، حيث أن المتطرف يتدخل في نوايا الناس وعقائدهم، وهو حق لله سبحانه وتعالى هو الذي يفصل فيه يوم القيامة، كذلك يؤدي التطرف إلى إنحراف في الفكر، كما فعل الخوارج قديما وكما يفعل الداعشيون وأمثالهم حديثا، ومن آثار التطرف الخطيرة؛ إزهاق النفس الإنسانية بإسم الدين! والله سبحانه وتعالى حرم قتل النفس الإنسانية بدون وجه حق، قال تعالى: “ وَلاَ تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ” [الأنعام:151] ومن الآثار أيضا: تشويه صورة الدين بممارسات يستنكرها العقل والوجدان السليم، فقتل الأطفال، وتفجير المؤسسات، وتكفير المؤمنين بسبب اجتهادهم، والتشدد في الدين؛ كلها أفعال تؤدي إلى تشويه الدين والتنفيرمنه. ومن آثار التطرف أنه يؤدى إلى تَصَدُّر قادة جهال يتحدثون باسم الإسلام اعتبروا ممثلين للمسلمين! وتراجع دور العلماء الربانيين الذي أمر الله بالرجوع إليهم، قال تعالى:” وَمَا  أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ  لاَ  تَعْلَمُونَ”[الأنبياء:7]

ثالثا: الآثار السياسية: التطرف يؤدي إلى عدم الاستقرار وزعزعة نظم الحكم،بتبنيه لأفكار موغلة في التعصب، وسلوك مفرط في العنف تجاه الشرائح الوطنية المخالفة لأصحاب النزعة المتطرفة في عقائدهم وأفكارهم، والتطرف من شأنه أن يؤدي إلى تراجع الفكر السياسي الراشد، ليحل محله الفكر الإقصائي، والتطرف يؤدي إلى حدوث انقسامات وطنية بين مكونات المجتمع،

مما يفتح الباب للتدخلات الأجنبية السالبة، وكلها آثار تضر بالسياسة الوطنية وتشوهها.

رابعا الآثار الثقافية: من الآثار السالبة للتطرف انتشار ثقافة العنف والاقصاء، فالتطرف بما يطرحه من أفكار ورؤى ينشر ثقافة العنف والاقصاء لأنه لامكان للتسامح والرفق في سلوك ومواقف المتطرفين، وتقافة العنف تؤدي إلى زعزعة المجتمعات وإثارة الفتنة فيها. كذلك فإن التطرق يقتل روح الابتكار وفي ظله يتراجع الابداع الثقافي، فيصاب المجتمع بالتبلد والجمود. كما يؤدي التطرف إلى تراجع ثقافة الحوار وقبول الآخر؛ لتحل محلها ثقافة الاستقطاب والتعصب الفكري والسلوكي؛ وكلها آثار تضر بثقافة المجتمع وتحيله من مجتمع التآخي والتآلف والتواصل إلى مجتمع التدابر والتنافر والتقاطع.

المحور الثالث: التطرف الديني تجفيف منابعه وطرق علاجه

التطرف انحراف في الفكر، وشذوذ في المواقف؛ ينشأ من العوامل التربوية والنفسية والاجتماعية المذكورة سلفا؛ وتغذيه عوامل خارجية؛ سياسية واقتصادية واجتماعية، وعليه فإن تجفيف منابعه يكون، بمعالجة أسبابه ومغذياته، وذلك على النحو التالي:

أولا: إزالة الأسباب السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تغذيه. عن النعمان بن بشر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ” مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى”[21] إن التخفيف من حدة الفقر، وإعلاء قيم التكافل والتعاون والتراحم، ومعالجة الأخطاء السياسية والاجتماعية، وإزالة عوامل الإحباط؛ من شأنها أن تخفف من النزعة المتطرفة عند الشباب.

ثانيا: إدارة حوار مع حملة الفكر المتطرف لزحزحتهم نحو الرشد والاستقامة.إن الأفكار لاتواجه بالاجراءات الأمنية وحدها وإنما تواجه بالفكر الواعي؛ وعليه فلابد من معرفة مداخل التطرف وأسبابه حتى يتم تفنيدها بالحجة والدليل.

ثالثا: تصحيح المفاهيم بنشر الفكرالصحيح، والمنهج الوسطي؛ الذي يشكل حصانة ضد التطرف.قال صلى الله عليه وسلم: ” ما نهيتكم عنه فاجتنبوه وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم”[22]

رابعا: سد المنافذ التي تفتح الباب للتدخل الأجنبي باعتباره مغذيا للتطرف. إن من أهم أسباب التدخلات الأجنبية في هذا العصر؛ انتهاكات حقوق الإنسان التي تمارسها الدول ضد شعبها، والجرائم الموجه ضد الانسانية، والاضطهاد الديني، والحروب الأهلية؛ وغيرها من الممارسات التي تخل بالأمن والسلم الدوليين.

خامسا: تقوية مسيرة الحوار والتقريب بين المذاهب والمناهج والجماعات المسلمة، وذلك التزاماً بالآتي:

  • تبادل الوُدّ، وتفعيل أوجه التعاون بين علماء الأمة الإسلامية من سنة وشيعة، ودفن كل مظاهر التوتر والخلاف والتعصب المذهبي.
  • منع نشر أو طبع كل الكتب التي تسيء لأتباع المذهب الآخر ، وعدم السماح بنشر المحاضرات والأحاديث التي تمس أوضاع الخلاف.
  • استنكار كل محاولات التضليل والتكفير التي توجه لبعض أتباع المذاهب، لمنع إثارة الفتن، وتخطئة الكاتبين لهذا اللون من التأليف.
  • التشجيع في مجال المقارنة العقدية والفقهية، ولاسيما في صعيد الدراسات الجامعية التخصصية على منهج بيان آراء الآخرين بموضوعيةمجردة، واحترام وتقدير لها، وإشاعة روح الحوار والنقد العلمي من غير تشنيع ولاتجريح ولاهجوم.
  • إقامة أنشطة ثقافية يشترك فيها علماء يمثلون كل المذاهب الإسلامين ويحضرها ناشطون منتمون لكافة المذاهب لتضيق الشقة والتعرف على المشتركات.
  • تفويض أمر الحساب لله سبحانه وتعالى في الأمور المختلف فيها.
  • الالتزام بميثاق شرف يمنع نشر الأفكار التي تدعو للانتقال من مذهب إلى مذهب، تحصينا للمجتمع من الاستقطاب وإثارة الفتنة.[23]

الخاتمة

التوصيات:

أولا: التطرف في العالم الثالث؛ تعبير عن الرفض على الأوضاع القائمة في كل مظاهرها السياسية والاقتصادية والاجتماعية؛ المطلوب إصلاح سياسي؛ يكفل الحرية والكرامة الإنسانية، ويحقق الشورى والديمقراطية في الاختيار، ويضمن التداول السلمي للسلطة. وإصلاح إقتصادي، يحقق العدالة والتكافل والتنمية المستدامة، وإصلاح اجتماعي، يرسخ القيم الإنسانية كالمساواة والتعارف والتراحم.

ثانيا: دراسة علمية لظاهرة التطرف تحدد أسبابها ومغذياتها بدقة، وذلك بالقيام بدراسة مسحية تستهدف شريحة الشباب باختلاف مستوياتهم التعليمية، والاجتماعية والاقتصادية؛ لمعرفة العوامل الجاذبة في التنظيمات المتطرفة.

ثالثا: العمل على نشر ثقافة الوسطية وتحويلها إلى برامج تخاطب حاجات الشباب ومتطلباتهم؛ ليجدوا إشباعا لحاجاتهم داخل دينهم، وإجابة مقنعة لتساؤلاتهم في منهج الوسطية.

هذا وبالله التوفيق.


[1]رواه أحمد

[2]موسوعة المفاهيم الإسلامية، الإصدار الأول، إصدار المجلس الأعلى للشئون الإسلامية – جمهورية مصرالعربية 1421هـ – 2000م ص152

[3] أ. د . عبدالصبور مرزوق، السابق ص 152

[4] موسوعة المفاهيم الإسلامية، الإصدار الأول، إصدار المجلس الأعلى للشئون الإسلامية – جمهورية مصرالعربية 1421هـ – 2000م ص412

[5]

[6] (التطرف في الدين، دراسة شرعية ــ إعداد: د. محمد بن عبد الرزاق، بحث مقدم للمؤتمر العالمي عن موقف الإسلام من الإرهاب 2004م

[7] مدارك السالكين /496

[8] رواه أبوعقيل والبيهقي بسند ضعيف ولكن معناه صحيح

[9] اعلام الموقعين عن رب العالمين، لابن قيم الجوزية، تحقيق وتعليق عصام الدين الصبابطي،المجلد الأول ص14 دار الحديث – القاهرة ، سنة الطبع 1435هـ 2004م

[10] المرجع السابق نفس الصفحة

[11] رواه البخاري

[12] رواه أبودود

[13] رواه الدارقطني وحسنه النووي في الأربعين

[14] عوامل السعة والمرونة في الشريعة الإسلامية، دكتور يوسف القرضاوي، ص9 الطبعة الرابعة 1425هـ 2004م الطبعة الثانية لمكتبة وهبة ، القاهرة ، وأيضا راجع ، مدخل لدراسة الشريعة الإسلامية للقرضاوي ص152 الطبعة الخامسة، 142هـ 2005م مكتبة وهبة، القاهرة

[15] رواه أحمد ومسلم والنسائي وابن ماجة عن أبي هريرة.

[16] أخرجه أحمد والبخاري وابن حبان والحاكم

[17] أ. د. وهبة الزحيلي، قضايا الفقه والفكر المعاصر، الجزء الثاني ص495، دار الفكر – دمشق الطبعة الأولى 1429هـ 2008م

[18] راجع د أسماء بنت عبدالعزيز الحسيني، أسباب الإرهاب والعنف والتطرف –  دراسة تحليلية ، بحث قدم للمؤتمر العالمي بعنوان موقف الإسلام من الإرهاب الذي نظمته جامعة محمد بن سعود الإسلامية

[19] المرجع السابق

[20]مراجعة الكتاب القيم للدكتور راغب السرجاني بعنوان المشترك الإنساني .

[21] أخرجه أحمد ومسلم

[22] أخرجه البخاري ومسلم عن أبي هريرة

[23] راجع قضايا الفقه والفكر المعاصر للدكتور وهبة الزحيلي ، الجزء الثاني الصفحات 507-  516

المنتدى العالمي للوسطية

تركيا – اسطنبول

2 /7/ 2018م

مقاصد الشريعة والعيش المشترك

تقديم : د عبدالمحمود أبو

رئيس فرع المنتدى العالمي للوسطية – السودان

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة:

الشريعة الإسلامية جاءت محققة لمصالح الخلق الدنيوية والأخروية؛ وأحكامها مضمنة في نصوص تهدف إلى غايات فيها صلاح الإنسان وصلاح العمران، والإنسان المستخلف إذا تعمق في الكون والحياة، لوجد أن كل المخلوقات المبثوثة في الأرض والسماء، مسخرة له ليتمكن من القيام بأمر الاستخلاف الذي أنيط به. قال تعالى:” الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ” [البقرة:22] .

إنَّ من أهم أهداف الرسالة الإسلامية؛ تحقيق الأمن والسلام للإنسان؛ ليعيش مكرما في هذه الدنيا، يتمتع بكل موجبات الكرامة، من الحرية والعدل والمساواة، ويختار الطريق التي يسلكه بإرادته الحرة؛ ليكون الحساب عادلا يوم ينصب الموازين القسط؛ ومهمة الرسل لا تتعدى التبليغ والتبيين؛ قال تعالى:” وَقُلِ الحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ” [الكهف:29]

لقد بينت الشريعة معالم الحق ودعت إليه، ووضحت معالم الباطل وحذرت منه، وشرحت بتفصيل دقيق، صفات أهل الباطل، ومنهجهم، وأساليبهم في الإضلال، ولكنها في نفس الوقت بينت حقوقهم، ومنهج التعامل معهم في السلم والحرب؛ فهنالك تمييز بين بطلان معتقدهم ومنهجهم؛ وبين التعامل معهم كأشخاص وجماعات بشرية. قال تعالى مبينا حال الكافرين وطبعهم: ” إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ  لاَ  يُؤْمِنُونَ خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ”[البقرة:6-7] ولكنه في نفس الوقت، أمر بأن تُحْتَرم معتقداتهم؛ قال تعالى:” وَلاَ تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ”[الأنعام:108].

إنَّ علاقة المسلمين بالآخر المخالف، من أهم القضايا التي تستوجب البحث؛ بسبب الخلط بين موقف الإسلام من عقائدهم، وبين أسلوب المعاملة معهم، وبسبب إسقاطات الصراع التاريخي على الحاضر؛ ومن أهم الأسباب الداعية للبحث في هذه العلاقة؛ التحولات الكبيرة التي حدثت في العلاقات الإنسانية بزوال الحواجز، واختفاء التقسيم التاريخي للدار؛ بل إن الواقع المعاصر صارت فيه كثيرٌ من الدول تضم مواطنين تتعدد أديانهم، ولهم حقوق متساوية، بموجب عقد المواطنة، وكثير من المسلمين هاجروا من بلدانهم الأصلية لبلدان تدين بديانات مخالفة لمعتقدهم وأصبحوا مواطنين فيها؛ فالضرورة الحياتية تقتضي أن يعيش الجميع في سلام وأمان ؛ ومع أن العقل الفقهي الموروث يَعْرف مفاهيم الذِّمة، وعقد الأمان ودار العهدن ودار الحرب؛ إلا أن الدراسة المتعمقة توضح أن تلك المفاهيم كانت استثناء وليست أصلا ثابتا. إنها معاملات أملتها ضرورات واقعية في تلك الظروف الترايخية، ولكن الأصل هو أن يعيش الجميع في أمان وسلام باختلاف عقائدهم؛ ولا عدوان إلا الظالمين.

إنّ مقاصد الشريعة الإسلامية تبين بوضوح أنَّ الغاية الكلية التي جاء الإسلام لتحقيقها؛ تتمثل في المحافظة على ضرورات الإنسان الخمس، وحاجياته، وتحسين أساليب معيشته.

إنني أشارك في هذا المؤتمر بهذا البحث الذي يتضمن مقدمة وثلاثة محاور وخاتمة.

المحورالأول: تعريفات

المقاصد لغة: المقاصد جمعٌ، مفرده مقصد، ولها معانٍ متعددة، قال ابن منظور في اللسان:[قصد: القصد استقامة الطريق. قصد يقصد قصدا، فهو قاصد. قال تعالى:” وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ..”[النحل:9] أي على الله تبيين الطريق المستقيم والدعاء إليه بالحجج والبراهين الواضحة. وطريق قاصد: سهل مستقيم. وسفر قاصد: سهل قريب. وفي الحديث: “القصد القصد تبلغوا”[1] أي عليكم بالقصد من الأمور في القول والفعل، وهو الوسط بين الطرفين. وفي الحديث: “عليكم هديا قاصدا” أي طريقا معتدلا. والقصد: الاعتماد والأم. وهو قصدك: أي تجاهك.والقصد في الشيء خلاف الإفراط، وهو ما بين الإسراف والتقتير][2] لفظ المقاصد يرجع إلى الجذر اللغوي” قصد” وهو” أصول ثلاثة يدل أحدها على إتيان شيء وأمه، والآخر على اكتناز في الشيء… والأصل الآخر: قصدت الشيء كسرته”[3]. والذي يحتاجه الفقيه والأصولي من هذه الدلالات كلها هو ذلك المعنى الذي يدل على الغاية أو الغرض أو الهدف من مجمل سلوك الإنسان قولا وفعلا، وهو ما يسعى الشرع عموما إلى ضبطه، وتقويمه ليكون موافقا لما جاء به الوحي ، وهي وظيفة الفقيه العملية[4]

وقد توسع الدكتور طه عبدالرحمن في بيان معنى المقاصد ضمنها الإشارة إلى البواعث والنوايا. فقال محددا المعاني اللغوية للفظ “القصد” :

( يستعمل الفعل: “قصد” بمعنى هو ضد الفعل “لغا: يلغو” لما كان اللغو هو الخلو عن الفائدة أو صرف الدلالة، فإن المقصد يكون – على العكس من ذلك- هو حصول الفائدة أو عقد الدلالة؛ واختص المقصد بهذا المعنى باسم “المقصود” فيقال المقصود بالكلام ، ويراد به مدلول الكلام،وقد يجمع على مقصودات.

يستعمل لفظ “قصد” أيضا بمعنى هو ضد الفعل “سها: يسهو” لما كان السهو هو فقد التوجه أو الوقوع في النسيان، فإن المقصد يكون – على حلاف ذلك – هو حصول التوجه والخروج من النسيان؛ واختص المقصد بهذا المعنى باسم “القصد” وقد يجمع على قصود؛ فيكون “المقصد” بمعنى القصد هو المضمون الشعوري والإرادي.

يستعمل الفعل” قصد” كذلك بمعنى هو ضد الفعل: “لها : يلهو”. لما كان اللهو هو الخلو من الغرض الصحيح وفقد الباعث المشروع؛ واختص المقصد بهذا المعنى باسم ” الحكمة “؛ فيكون المقصد بهذا المعنى هو المضمون القيمي.. وعلى الجملة فإن الفعل “قصد” قد يكون بمعنى “حصل فائدة” ، أو “حصل نية” أو بمعنى “حصل غرضا”[5].

المقاصد اصطلاحا: عرفها العلامة التونسي محمد الطاهر بن عاشور بقوله:” مقاصد التشريع العامة: هي المعاني والحكم الملحوظة للشارع في جميع أحوال التشريع أو معظمها؛ بحيث لا تختص ملاحظتها بالكون في نوع خاص من أحكام الشريعة، فيدخل في هذا أوصاف الشريعة وغايتها العامة، والمعاني التي لا يخلو التشريع من ملاحظتها، ويدخل في هذا أيضا معانٍ من الحِكَم ليست ملحوظة في سائر أنواع الأحكام، ولكنها ملحوظة في أنواع كثيرة منها”[6]

وعرفها العلامة المغربي علال الفاسي بقوله:”مقاصد الشريعة هي :الغاية منها، والأسرار التي وضعها الشارع عند كل حكم من أحكامها”[7].

وعرفها الدكتور أحمد الريسوني بقوله: ” إن مقاصد الشريعة هي الغايات التي وضعت الشريعة لأجل تحقيقها لمصلحة العباد”[8].

واختار البشير القنديلي التعريف التالي: “مقاصد الشريعة هي الغايات المستفادة من الوحي الكريم نصا أواستنباطا، ويتعين على المكلفين القصد إلى تحقيقها تحصيلا للمصالح في الدارين”[9] الدكتور محمد رأفت عثمان بقوله: ” مطلوباتها العامة لتحقيق مصالح الناس الدنيوية والأخروية من خلال تطبيق الناس لأحكامها”.

ويفهم من خلال التعريفات السابقة : أن مقاصد الشريعة هي جملة الغايات الأساسية والأهداف الكبرى التي أعلنتها الشريعة ، وتضافرت الأدلة في جملتها على تأكيدها ، وما يندرج تحتها من معاني وحكم وقواعد، سواء حكما جزئية ، أو مصالح كلية، أو سمات إجمالية، وما يتطلبه تحقيقها من عوامل معرفية، ووسائل تطبيقية لتفعيل الفقه الأكبر أي الفقه الحضاري الذي أشار إليه الرسول صلى الله عليه وسلم في حديثه: ” من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين”[10] باعتباره منظومة فقهية أصولية تكاملية فاعلة ومؤثرة في صناعة المجتمعات، وإنجاز التحولات الحضارية[11]

الشريعة لغة: الشريعة والشراع والمشرعة؛ المواضع التي ينحدر الماء منها، وهي مورد الشاربة يشرعها الناس فيشربون منها ويستقون، وربما شرعوها دوابهم حتى تشرعها وتشرب منها، والعرب لا تسميها شريعة حتى يكون الماء عدا لا انقطاع له، ويكون ظاهرا معينا[12]. والشريعة: الطريق المستقيمة، ومنه قول الله عز وجل: ” ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ  لاَ  يَعْلَمُونَ” [الجاثية:18] أي جعلناك على طريقة مستقيمة.

الشريعة اصطلاحا: تعرف الشريعة في الاصطلاح بأنها: ما شرعه الله سبحانه وتعالى لعباده من الأحكام التي جاء بها نبي من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، سواء كانت هذه الأحكام أحكاما اعتقادية أو أحكاما عملية؛ ليؤمنوا بها فتكون سعادتهم في الدنيا والآخرة، وبإضافة لفظ الإسلام إلى الشريعة كان معنى الشريعة الإسلامية: ما نزل به الوحي على محمد صلى الله عليه وسلم من الأحكام التي تصلح أحوال الناس في الدنيا والآخرة، سواء في ذلك الأحكام العقائدية، أو الأحكام العملية أو الأخلاق[13]

العيش المشترك:

العَيْشُ في اللغة: معناهُ الحياةُ، وما تكونُ به الحياةُ من المطعم والمَشْرَبِ والدَّخْل. قال تعالى: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْـحَيَاةِ الدُّنْيَا} والمعيشة والأرزاق مقسومة في هذه الدنيا لكل الناس. والتعايش على وزن “تفاعل” الذي يفيد العلاقة المتبادلة بين طرفين. ومصطلح “التَّعَايُشُ السِّلْمِيُّ” تَعْبِيرٌ يُرَادُ بِهِ خَلْقُ جَوٍّ مِنَ التَّفَاهُمِ بَيْنَ الشُّعُوبِ بَعِيدًا عَنِ الحَرْبِ وَالعُنْفِ.

وفي الاصطلاح: العيش المشترك: هو اجتماع مجموعة من الناس في مكان معين تربطهم وسائل العيش من المطعم والمشرب وأساسيات الحياة، بغض النظر عن الدين والانتماءات الأخرى، يعرف كل منهما بحق الآخر دون اندماج وانصهار. وقد يقصد بـ “التعايش” التفاعل ومشاركة الآخر بفعل العيش أي الحياة بتوفير مقومات الحياة التي تعين على العيشة الراضية.

يشمل مفهوم التعايش تعايش الإنسان مع ذاته هو، ومع الآخر داخل جماعته أو خارجها، وتعايش الجماعة مع الفرد العضو في نفس الجماعة أو في غيرها ومع الجماعات الأخرى، وتعايش الجماعات الأفقية والعمودية في المجتمع الواحد، وتعايش الأكثرية والأقلية، وتعايش بين الأغلبية من جهة، والأقلية أو الأقليات من جهة أخرى، وتعايش بين الشعوب أو الأمم أو الدول أو الحضارات المختلفة، وتعايش مع البيئة الطبيعة[14].

المحورالثاني: أهمية المقاصد في تحقيق العيش المشترك

المقاصد الكلية التي جاء التشريع الإسلامي لصيانتها وحفظها خمسة؛ وهي المقاصد التي اتفقت عليها كل الرسالات السماوية.

 قال الغزالي: “ومقصود الشرع من الخلق خمسة، وهو أن يحفظ عليهم دينهم، ونفسهم، وعقلهم، ونسلهم، ومالهم”[15] واعتبر كل ما يؤدي إلى حفظ هذه الأصول هو المصلحة، وما أدى إلى تفويتها هو المفسدة، ثم زاد في توضيحه لمعنى المصلحة بالقول: “ونعني بالمصلحة: المحافظة على مقصود الشارع”[16] وهي المقاصد التي بها صلاح الإنسان في الدنيا والآخرة، وبها نماء العمران، وأهم ما يساعد على تحقيق تلك المقاصد هو استقرار الإنسان وأمنه، قال تعالى: ” فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا البَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ”[ قريش:3-4] والأحكام الشرعية التي جاء بها الإسلام غايتها تحقيق مصالح الخلق في المعاش والمعاد ودرء الفساد عنهم؛ يقول الشاطبي:” إن الأحكام الشرعية ، إنما شرعت لجلب المصالح أو درء المفاسد”[17]

وقال رحمه الله “الأعمال الشرعية ليست مقصودة لأنفسها، وإنما قصد بها أمور أخر هي معانيها، وهي المصالح التي شرعت لأجلها”[18].

ومقاصد الشرع في تحقيق العيش المشترك، تدرك من مجموع النصوص الشرعية الواردة في الكتاب والسنة، ومن استنباطات العلماء الذين فهموا روح التشريع والأغراض التي جاء لتحقيقها.

والتي عبر عنها الشاطبي بقوله: ” وبعث الله… سادة فهموا عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم فاستنبطوا أحكاما فهموا معانيها من أغراض الشريعة في الكتاب والسنة ، تارة من نفس القول، وتارة من معناه، وتارة من علة الحكم، حتى نزلوا الوقائع التي لم تذكر على ما ذكر، وسهلوا لمن جاء بعدهم طريق ذلك”[19].

وبين العلماء أن شرعة الله لم تأت عبثا وإنما جاءت لتحقيق أهداف سامية، تدركها العقول السليمة؛ فكل حكم شرعي يهدف إلى غاية . قال ابن القيم: “الشريعة مبناها وأساسها على الحِكَمِ ومصالح العباد في المعاش والمعاد. وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها. فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث، فليست من الشريعة وإن أدخلت فيها بالتأويل. فالشريعة عدل الله بين عباده ورحمته بين خلقه…”[20] هذا الكلام النفيس الذي قاله ابن القيم، يبين المقاصد الشرعية للأحكام الإسلامية، وهي بمجملها تحقق مصالح العباد باختلاف عقائدهم وثقافاتهم وألوانهم، وتبين المنهج الذي يبنغي أن يتبعه المسلمون لفهم غايات الأحكام الشرعية، والمعاني التي تحدث عنها الإمام ابن القيم تساهم في تحقيق العيش المشترك وصيانته؛ فالعدل، والرحمة، ومراعاة المصالح، والحكمة؛ قيم ومبادئ مكفولة لجميع الناس في شريعة الإسلام.

إن المقاصد الشرعية في الإسلام تضبطها ثلاث قواعد هي: التعليل، والاستصلاح، واعتبار المآلات. وإذا طبقنا هذه القواعد في مجال العلاقة بين المسلمين وغيرهم، وربطنا الأحكام بمقاصدها؛ لتبين لنا بوضوح؛ أنَّ العيش المشترك بين المسلمين وغيرهم، مقصد شرعي معتبر في شريعة الإسلام.

وتفصيل ذلك كالآتي:

أولا: التعليل: القول بالتعليل هو بداية البداية في القول بمقاصد الشريعة أي هو الأساس الأول لمشروعية القول بالمقاصد والخوض فيها جملة وتفصيلا[21] قال الشاطبي رحمه الله:”وأما العلة فالمراد بها الحِكَم والمصالح، التي تَعَلقت بها الأوامر أو الإباحة، والمفاسد التي تعلقت بها النواهي، أي الحكمة والمصلحة التي لأجل رعايتها وتحقيقها وضع الحكم”[22] فمن الأوامر التي شرعها الإسلام لعلة الاستقرار؛ دعوته للسلم الذي هو الأساس الأول لتحقيق العيش المشترك؛ قال تعالى:” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً”[البقرة:208] فالسلم هو الحالة الأصلية التي تهيء للتعاون والتعارف وإشاعة الخير بين الناس عامة. وهو بهذا الأصل لا يطلب من غير المسلمين إلا أن يكفوا شرهم عن دعوته وأهله وأن لايثيروا عليه الفتن والمشاكل[23] لقد نظر الإسلام لهذا الوجود وهذه الحياة نظرة شمولية على أنها وحدة منسجمة بناموس رباني واحد. والعلاقة بين العوالم علاقة التناسق والتكامل لا علاقة التباغض والعداء.. فيتحدد تعامل الإنسان بسائر المخلوقات في إطار الصداقة لا العداوة أو الغلبة، ومن ثم يحرم عليه الاعتداء على حيوان أو جماد، بإفساد في التصرف أو تبذير في الاستعمال، أو تجاوز في القتل. وإذا كان هذا قانون العلاقات بين الإنسان امة وبين الحيوانات والجمادات، فالعلاقة بين إنسان وإنسان لن تكون بالتأكيد أدنى مستوى منها بين إنسان وسائر المخلوقات[24]

ومن الأحكام التي جاءت معللة؛ النهي عن سب المشركين والتعرض لمعتقداتهم، قال تعالى:” وَلاَ تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ”[الأنعام:108] فالعلة في المنع هي خشية رد الفعل بسب الله مما يؤدي لتعكير العيش المشترك بين المسلمين وبين غيرهم، مما يؤكد اهتمام الإسلام باستقرار المجتمعات وصيانة وجودها الآمن.

ثانيا: الاستصلاح: تعتبرقاعدة الاستصلاح امتدادا لقاعدة التعليل؛ وبناء عليه نستطيع أن نقول إن قاعدة التعليل وقاعدة الاستصلاح تُشَكِّلان معا “قاعدة القواعد” في الشريعة ومقاصدها وأصولها وفقهها. والمراد بالاستصلاح في استعمالات أهل العلم؛ هو: طلب الصلاح والمصلحة والقصد إليهما، واتخاذ الأسباب المؤدية إلى جلبهما وحفظهما. ويدخل في ذلك كله درء الفساد، واقعا كان أو متوقعا. فدرء المفاسد وجهٌ من وجوه حفظ المصالح، ونوع من الاستصلاح[25]

وهذا الاستصلاح الشرعي يتجلى في عدة شعب، أهمها ثلاث جامعةهي:

  • الاستصلاح الإلهي في شؤون الخلق والتشريع.
  • الاستصلاح في فهم نصوص الشرع وتطبيقها.
  • الاستصلاح فيما لانص فيه[26]

ومن تجليات الاستصلاح الإلهي في شؤون الخلق، تكريمه للإنسان وتفضيله على كثير من المخلوقات. قال تعالى: ” وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي البَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً”[الإسراء:70] وهذا التكريم عام لجنس الإنسان دون النظر إلى نوعه ومعتقده وثقافته.

ويتجلى الاستصلاح في فهم النصوص وتطبيقها في الالتفات إلى المصلحة أثناء النظر في فهم النصوص وعند تنزيلها التطبيقي، وهو مبني على أساس أن الشريعة وجميع أحكامها إنما هي جلب لمصالح العباد ودرء للمفاسد عنهم، في دينهم ودنياهم، وليس فيها شيء من تفويت المصالح او جلب للمفاسد إلا في العقول القاصرة[27] ونلحظ ذلك بجلاء فيما يتعلق بموضوعنا في استنباطات الخليفة عمر بن الخطاب وتعامله مع أهل الذمة؛ حيث أسقط الجزية عن الشيخ الكبير من اليهود عندما وجده يتسول، وقبله كتب الخليفة أبوبكر كتابا إلى نصارى نجران جاء فيه:”بسم الله الرحمن الرحيم.هذا ما كتب به عبدالله أبوبكر خليفة محمد النبي رسول الله لأهل نجران: أجارهم بجوار الله وذمة محمد النبي رسول الله صلى الله عليه وسلم، على أنفسهم، وأرضهم، وملتهم، وأموالهم، وماشيتهم، وعبادتهم، وغائبهم، وشاهدهم، وأساقفتهم، ورهبانهم، وبيعهم، وكل ماتحت أيديهم من قليل أو كثير. لا يخسرون ولا يعسرون، ولايغير أسقف من أسقفيته، ولا راهب من رهبانيته”[28].

وأما مايتعلق بالاستصلاح فيما لانص فيه؛ فقد عبر عنه الفقهاء بالمصلحة المرسلة التي تكون ملائمة للشرع ومقاصده، قال الغزالي:” كل معنى مناسب للحكم مطرد في أحكام الشرع، لا يرده أصل مقطوع به مقدم عليه – من كتاب أو سنة أو إجماع – فهو مقول به وإن لم يشهد له أصل معين”[29] وقال ابن القيم: ” إن الله سبحانه وتعالى أرسل رسله وأنزل كتبه ليقوم الناس بالقسط، وهو العدل الذي قامت به الأرض والسموات، فإذا ظهرت أمارات العدل وأسفر وجهه بأي طريق كان، فثم شرع الله ودينه “[30]

ثالثا: قاعدة اعتبار المآل: إن اعتبار المآل في الاصطلاح الفقهي الأصولي ، يعني استشراف التطورات والتداعيات التي يمكن أن يؤول إليها الفعل مستقبلا، ثم إدخالها في حيثيات الاجتهاد والحكم على ذلك الفعل. أي أن الاجتهاد يأخذ بعين الاعتبار الحال والمآل، والحاضر والمستقبل . فمراعاة ما تؤول إليه الأمور في مستقبلها المتوقع وعدم الاقتصار على واقعها وحاضرها ونتائجها الفورية، هو المقصود بقاعدة(اعتبار المآل)[31]

ومن الأحاديث الهادية في هذا الاتجاه، الحديث المتفق عليه ، عن معاذ بن جبل رضي الله عنه؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له يوما: ” يا معاذ ، أتدري ما حق الله على عباده وما حق العباد على الله؟ قلت الله ورسوله أعلم. قال: فإن حق الله على العباد أن  يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، وحق العبادعلى الله عز وجل أن لا يعذب من لا يشرك به شيئا ” فقلت يا رسول الله أفلا أبشر به الناس؟ قال: ” لاتبشرهم فيتكلوا”[32]

وما ذهب إليه الخليفة عمر من عدم تقسيم سواد العراق فيه مراعاة للمآلات. بل إن الجهاد في الإسلام غايته مراعاة المآل . قال تعالى: ” أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ”[الحج:39-40] فغاية الجهاد منع الفساد في الأرض ومواجهة الطغيان والظلم، وحماية دور العبادة لجميع المتدينين باختلاف عقائدهم.

المحور الثالث : أسس العيش المشترك

برزت في هذا العصر أهمية العيش المشترك بصورة غير مسبوقة؛ فالعالم صار قرية واحدة، والتداخل بين الشعوب أصبح السمة الغالبة، والتأثير المتبادل سهلته وسائل التواصل، ولا تخلو دولة واحدة  من تعدد الأديان والثقافات إلا ما ندر.

هذا الواقع الجديد؛ فضلا عن التطور الذي حدث في العلاقات الإنسانية، بإقامة نظام عالمي تحكمه مواثيق ومعاهدات دولية، مع وجود مجالات كثيرة للتعاون بين الدول والشعوب؛ محافظةً على البيئة، ودرءًا للكوارث الطبيعية، ومحافظةً على السلم والأمن الدوليين؛ هذا الواقع أوجب أن يعيش الجميع في أمن وسلام واستقرار.

إن الإسلام باعتباره دينا خاتما ومكملا وعالميا؛ جاءت تشريعاته منظمة للعلاقات الإنسانية بين جميع البشر، وأحكامه وقواعده ومقاصده في هذا الجانب واضحة وإن أثرت فيها بعض المواقف الاستثنائية في بعض الأحيان . فالصراع التاريخي بين الإسلام وبين المشركين واليهود والنصارى؛ غطى على الجانب السلمي الذي جاء به الإسلام وهو الأصل.

وبالاستقراء الموضوعي لمرحلة الصراع يجد الباحث المنصف أن المسلمين في كل تلك المواقف كان معتدى عليهم وهم في موقف الدفاع عن النفس. والآيات المشرعة للجهاد تؤكد ذلك؛ قال تعالى: ” أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ..”[الحج: 39- 40] فعلة الجهاد العدوان وليس الكفر، وقال تعالى: ” وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ  لاَ  يُحِبُّ المُعْتَدِينَ”[البقرة:190] وهو نص واضح في سبب القتال والنهي عن العدوان.

إن فقه العلاقة مع الآخر، الذي كتب في ظل أجواء الصراع والتوتر، ينبغي أن لا نسقطه على الحاضر، فلكل عصر ظروفه، ولكل حكم علّته، تلك الأحكام فرضتها الظروف التي كانت تحيط بالدولة الإسلامية. فعندما جاء الإسلام كانت قريش تسيطر على مكة سلطوياً، وعلى كل أرض الحجاز معنوياً، فقد اكتسبت مكانة في نفوس العرب لسدانتها للكعبة، وإشرافها على شئون البيت الحرام، وفي يثرب كان لليهود نفوذ على الأوس والخزرج، بسيطرتهم على التجارة، والصناعة، المتاحة في ذلك الزمان، وتفردهم بإتباع شريعة موسى، وكانت الإمبراطورية الرومانية والفارسية، تمثلان القوى العظمى في ذلك التاريخ، وكانت المفارقة أن الدعوة الجديدة استطاعت أن تهدم المفاهيم الجاهلية في جزيرة العرب، وتتهاوى أمام جحافلها الفاتحة معاقل الإمبراطوريتين، وبسطت سلطانها في أقل من قرن على مناطق نفوذهما.

    هذا النجاح أثار حفيظة المستفيدين من النظام العالمي القديم، بجاهليته وإمبراطورياته، فسعوا لاستئصال الدعوة منذ البداية، والقضاء عليها في مهدها: فأهل مكة ما تركوا وسيلة إلا واستعملوها ضد الإسلام والمسلمين، مثل: [التشكيك، والتشويه، والتهديد، والإغراء، والتعذيب، والقتل، والإبعاد، والحرب ] واليهود لم يراعوا عهود المواطنة، التي قام عليها المجتمع الجديد في المدينة، فغدروا بالمسلمين، وانتهكوا عرضهم، وتحالفوا مع أعدائهم، وحاولوا قتل النبي صلى الله عليه وسلم بالسم والغدر، والغربيون قادوا الحملة الصليبية، للقضاء على المسلمين، وعندما تمكنوا منهم في الأندلس انتقموا منهم فهدموا حضارتهم وأبادوا من تمكنوا منهم! تلك هي الخلفية التاريخية لصراع المسلمين مع الآخر[33].

 وبالبحث التاريخي المجرد؛ نجد أن الإسلام كان هو الضحية، والآخر هو المعتدي، فحروب المسلمين كانت دفاعية وليست هجومية، فالآخر عجز عن مواجهة الدعوة الجديدة بالحجة، فسعى لاستئصالها، والقضاء عليها قضاء مبرماً، وهكذا وُجِدت الظروف، التي تشكلت في ظلها ثقافة العلاقة مع الآخر، وهي ظروف استثنائية، بزوالها يعود الأصل لتنظيم العلاقة بالآخر، وهو [ عدم الإكراه، والتسامح، والوفاء بالعهد، والتعاون على البر]([34]).

إن التعايش السلمي ضرورة من ضرورات الاستخلاف؛ ويقوم التعايش على عدة دعائم لخصها سورحمن هدايات في كتابه التأصيلي بعنوان ” التعايش السلمي بين المسلمين وغيرهم داخل دولة واحدة ” في عشر دعائم هي: (التكريم، والرحمة، والعدل، والمساواة، والمعاملة بالمثل، والتمسك بالفضيلة، والحرية، والتسامح، والتعاون، والوفاء بالعهد)[35] واستدل لكل دعامة بنصوص من الكتاب والسنة ومواقف الخلفاء الراشدين . وهذه الدعائم تلخصها آيات قرآنية محكمة تنظم علاقة المسلمين بالآخر؛ تلك الآيات هي:

  1. قال تعالى: “ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي البَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً”[الإسراء:70]
  2. وقال تعالى:” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ”[المائدة:8]
  3. وقال تعالى: ” وَلاَ تَسْتَوِي الحَسَنَةُ وَلاَ السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ”[فصلت:34].
  4. وقال تعالى:” يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ”[الحجرات:13]
  5. وقال تعالى: ” لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الوُثْقَى  لاَ  انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ”[البقرة:256]

هذه الآيات المذكوره تبين منهج التعايش السلمي وتؤسس له، وهي بمجملها تحدد مقاصد الشرع في علاقة المسلمين بغيرهم؛ وهي مقاصد جسدتها السيرة النبوية في أرض الواقع وسار عليها الخلفاء الراشدون.

لقد حدد الإسلام منهجا واضحا للتعامل مع غير المسلمين، يقوم على الآتي:

أولاً: عدم الإكراه في العقيدة والشعائر: إنّ الأمر المطلوب إدراكه ابتداء هو: ” أنّ المسلمين ليسوا أوصياء على العالم بأسره، خلافا لما يتوهّم الآخرون. وإنما هم أُمَناء على تبليغ مشتملات الدعوة الإسلامية، في العقيدة، والعبادة، والشريعة، والأخلاق، والآداب، وهذا الأساس واضح المعالم، في صريح القرآن الكريم، الذي وجه النبي محمد صلى الله عليه وسلم إلى هذا المنهج في آيات كثيرة منها قوله تعالى:” لَسْتَ عَلَيْهِم بِمُسَيْطِرٍ” [الغاشية:22]، وقوله سبحانه:” وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الحَقُّ قُل لَّسْتُ عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ” الأنعام:66]، وقوله تعالى:” نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا  أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ” [ق:45]، دلت هذه الآيات على أن النبي عليه الصلاة والسلام لا سلطان له على أحد من الناس فكذلك أتباعه”([36]).

والنص القاطع في هذا المجال هو قوله تعالى:” لا  إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الوُثْقَى  لاَ  انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ” [البقرة:256]، وقد يستغرب كثيرون أن نزول الآية التي تدعو إلى عدم الإكراه في الدين، كان – وقتئذ- في صالح اليهودية، وليس لصالح الإسلام. وإن اعتبرت الآية نقطة مضيئة ومشرّفة في تعاليم الدين وأدب الدعوة إلي الله، وفي تاريخ الأديان! يروي الطبري في تفسيره لهذه الآية أنه كان من عادة نساء قبيلة الأوس اللاتي يُنجبن أولادا قصار  العمر، في الجاهلية، أن تُنذر الواحدة منهن، إذا جاءها ولد، أن تُهَوِّده حتى يطول عمره. وكانت النساء يُرسلن أبناءهن إلى قبيلة بني النّضير اليهودية. وعندما جاء الإسلام، وأمر الرسول بإجلاء بني النضير، بعد رصيد الدَّس والتآمر الذي مارسوه ضد الدين الوليد، وضد نبي الإسلام الذي حاولوا قتله مرّتين، وقتئذ كان بعض أبناء الأوس الذين تَهَوَّدُوا بين القبيلة، فأراد آباؤهم أن يُجبروهم على الإسلام، والانضمام إلى مُعَسْكر الرسول، فنزلت الآية داعية إلى رفض الإكراه في الدين … وبقي هؤلاء على اليهودية([37]).

وينقل الطبري رواية أخرى، عن ابن عباس. تقول: إنّ رجلاً من بني سالم بن عوف يقال له الحُصين، كان له ولدان مسيحيان، وهو مسلم، فسأل الرسول عليه الصلاة والسلام، أن يُرغِم وَلَدَيه على اعتناق الإسلام، بعد أن أصَرَّا على التّمسُّك بالمسيحية، فنهاه الرسول عن ذلك، ونزل قوله تعالى:” لا  إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ “وقد بلغ من حرص المسلمين الأوائل، على الالتزام بهذه القاعدة، أن جاءت امرأة مشركة إلى الخليفة عمر بن الخطاب، في حاجة لها، فدعاها أمير المؤمنين إلى الإسلام، لكنها رفضت، فقضى لها حاجتها، ولكنه خشي أن يكون في مَسْلكه هذا ما يَنطوِي على استغلال حاجتها لمحاولة إكراهها على الإسلام؛ فاستغفر الله مما فعل، وقال “اللهم إني أَرْشَدتُ وَلَمْ أُكْرِه”([38])، وقد استقر هذا المبدأ الشرعي العظيم، واحداً من أُسُس التفكير الإسلامي، حتى أَلْقَى بظله على الكثير من الاجتهادات الفقهية، في مختلف نواحي السلوك الإنساني. ومن القضايا الطريفة والمهمة – بهذا الصدد، ذلك الجدل الفقهي الذي أثير حول حق الزوج المسلم في مناقشة زوجته غير المسلمة، في مسألة إسلامها، وهل يُعدّ ذلك في ظل عقد الزواج القائم بينهما من قبيل الإكراه على اعتناق الإسلام أولا؟. فقد رأى الشافعي ألاّ يُفاتِح الرجل زوجته في هذا الأمر، ولا يعرض عليها الإسلام، “لأن فيه تعرضا لهم، وقد ضَمِنَّا بِعَقْد ِالذِّمَّة ألاَّ نَتَعَرَّضَ لهم”. بينما يرد الأحناف بقولهم: يعرض الإسلام على الزوجة، لمصلحة من غير إكراه!([39]).

إن مبدأ عدم الإكراه يؤدي إلى النتائج الآتية:

  • أن الرسول صلى الله عليه وسلم مكلف بالبلاغ والتبشير وليس الإكراه.
  •  أن على الدعاة أن يلتزموا بآداب معينة هي:
  • الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة.
  • المجادلة بالتي هي أحسن.
  • عدم التعرض لعقائد الآخرين بالإساءة.
  • عدم الجهر بالسوء إلا في حالة الظلم.
  • دفع السيئة بالحسنة.
  • دعوة الآخرين إلي التمسك بالمشترَك.
  • حساب الذين لم يستجيبوا للدعوة على الله.
  • –         الاختلاف لا يلغي الحقوق.
  • إتاحة الفرصة لحرية الاختيار.
  • أن الحجة والبرهان هما سلاح المؤمن في الدعوة.
  • –         الحوار هو منهج الإسلام مع المخالفين([40]).

ثانياً: العدل حق للجميع وإن اختلفت العقائد:

الإسلام أقر الكرامة الإنسانية للجميع كما ورد في الآية “70” من سورة الإسراء وهذا التكريم يقتضي التعامل مع الإنسان بالأسلوب الذي يحفظ هذه الكرامة، ونهج الإسلام في هذا المجال يقوم على أسس تحقق في جملتها العدل في التعامل مع التنوع وذلك وفق الأسس الآتية:

الأساس الأول: المحافظة على البراءة الأصلية لكل الناس، مهما كانت عقائدهم، فاختلاف العقيدة لا يبيح ظلمهم، أو اتهامهم بما لم يفعلوا، وفي نصوص القرآن جاءت براءتهم عندما اتهموا ظلما من قبل أحد المسلمين؛ كما في قصة طعمة بن أبيرق؛ التي وردت في سورة النساء، وفيها براءة اليهودي ومعاقبة المسلم([41]).

الأساس الثاني: قبول ما يأتي منهم إن كان حقا، ولا تحول العقيدة بينهم وبين الاعتراف لهم بالفضل، إذا صدر منهم، كما جاء في سورة المائدة:” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ”[المائدة:8]، وآية آل عمران، “ وَمَا  يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَن يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ” آل عمران:115].

الأساس الثالث: التسامح والتّراحُم، مهما اختلفت العقائد، فقد أجاز الإسلام للمسلم، أن يتزوج من نساء أهل الكتاب، وبالتالي تُصبح الكتابية زوجته، وأم أولاده، وإخوانها نَسَائِبُه، وأخوال أولاده، وأمها بمثابة والدته، وهي جدة لأولاده، وأبوها جد لهم، وهكذا، فيصبح بين المسلمين وأهل الكتاب مصاهرة وقرابة لها حقوق ونفقات وتكافل، وقد أمر القرآن الكريم بالإحسان إلى الوالدين حتى ولو جاهدا على إضلال أولادهما. فقال تعالى:” وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ” [لقمان:15].

الأساس الرابع: الالتزام بالآداب الراقية عند الجدال، حيث خصَّ الله تعالى الجدال مع أهل الكتاب؛ بأن يكون بالأحسن صورة، وشكلا، وأسلوبا، ولغة، ومنطقا، فقال تعالى:” وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ” [العنكبوت:46]، فقد طبق الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك في حواراته معهم، وفي تعامله معهم؛ حيث كان يزورهم، ويحسن إليهم، ويعود مرضاهم، بل يسمح لهم أن يصلوا صلاتهم في مسجده عرضا، فقد روى علماء السيرة بسندهم “أنه لما قدم وفد نجران على رسول الله صلى الله عليه وسلم  دخلوا عليه مسجده بعد صلاة العصر، فحانت صلاتهم، فقاموا يصلون في مسجده، فأراد الناس منعهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم دعوهم” فاستقبلوا المشرق فصلوا صلاتهم”([42])، وقد علق على ذلك ابن القيم فقال: “جواز دخول أهل الكتاب مساجد المسلمين، وفيها تمكينهم من صلاتهم بحضرة المسلمين، وفي مساجدهم أيضا إذا كان ذلك عارضا..([43]).

بل أكثر من ذلك فإن الرسول صلى الله عليه وسلم قبل هدايا أهل الكتاب، واحترمهم حتى كان يقف عندما تَمُرُّ جنازة أحدهم، وعندما سُئِل عن ذلك قال: “أليست نفساً” فقد روى البخاري ومسلم بسندهما عن جابر بن عبدالله، قال: “مر َّبنا جنازة، فقام لها النبي صلى الله عليه وسلم فقمنا به، فقلنا: يا رسول الله: إنها جنازة يهودي، قال: “إِذَا رَأَيْتُم الجَنَازَةَ فَقُومُوا”([44])، ورويا كذلك، عن سهل بن حنيف، وقيس بن سعد: أن النبي صلى الله عليه وسلم مرت به جنازة فقام، فقيل له: إنها جنازة يهودي، فقال: “أَلَيْسَتْ نَفْسًا؟”([45])، قال الحافظ بن حجر: “ومقتضى التعليل بقوله “أليست نفْسا” أن ذلك يُسْتَحَبُّ لكل جنازة”[46]

ثالثاً: المسئولية الفردية:

هذا المبدأ يعني أن حقوق غير المسلمين، في الدولة الإسلامية، لا تتأثر بمعاملة الدول غير الإسلامية للمسلمين المقيمين فيها؛ لأن الحقوق الإنسانية، مقررة في الإسلام للإنسان لذاته، بغضّ النظر عن عقيدته، أو مواقف الذين يشاركونه في المعتقد، ضد الإسلام والمسلمين؛ إنه مبدأ نصّت عليه الآية الكريمة:” مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا  كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً” [الإسراء:15]، إن “هذه الحقوق والواجبات لا تتأثر مطلقا، بسوء معاملة الأقليات المسلمة في الدول غير الإسلامية. فلا يجوز لدار الإسلام أن تُسيء مُعاملة الأقليات غير المسلمة في إقليمها، بحجة الأخذ بقاعدة المعاملة بالمثل. لأن هذه القاعدة تُوقَف ولا يُعمل بها ما دامت تَتَضَمَّن ظُلما لِحقوق غير المسلم، التي قررتها له الشريعة الإسلامية([47])، وإذا حدث إهدار ٌلتلك الحقوق، فإنه لا يُصيب الآخرين وحدهم بظلم، إنما الظلم الأكبر واقع بالدرجة الأولى على كتاب الله وحقه عزّ وجلّ([48]).

وبين الأستاذ الدكتور على محيي الدين القرة داغي([49]) في كتابه القيم “نحن والآخر “صورا من تعامل الدولة الإسلامية مع غير المسلمين منها قوله: “وقد ذكر العلماء هذه الحقوق قديما وحديثا، وفصلتها كتب الفقه، في المذاهب المعتبرة.. وممن ذكرها بالتّفصيل والتّأصيل من المعاصرين؛ الأستاذ الدكتور عبدالكريم زيدان، والعلامة الشيخ يوسف القرضاوي؛ مُعْتَمِدَيْن على نُصوصٍ كَثيرة، من الكتاب والسنة، نذكرها بإيجاز:

  1. وجوب حماية الدولة لهم من الاعتداء الخارجي، والدفاع عنهم، ووجوب إنقاذ أسراهم.
  2. حماية ضرورياتهم السّت، وحاجياتهم.. وعلى ذلك يجب توفير الحماية لنفوسهم، وأعراضهم وأموالهم، بل أكثر من ذلك، فإن الدولة يجب عليها حماية ما يعتبرونه مالا- مثل خمورهم، وخنازيرهم- مع أن ذلك لا يعتبر مالا، لو كان لدى المسلم؛ بل يجب إتلافه، بل لو قام مسلم بإتلاف خمورهم، وخنازيرهم، وجب عليه التعويض عند الحنفية([50]).
  3. التعامل معهم بالعدل، وحمايتهم من الظلم بجميع أنواعه وأشكاله، لقوله صلى الله عليه وسلم “أَلاَ مَن ظَلَمَ مَعَاهدا، أو انتقَصَهُ حَقّه، أو كَلّفه فوقَ طَاقته، أو أخذَ منه شيئاً بِغَير ِطِيبِ نَفْسٍ منهُ، فَأَنَا حَجِيجُهُ يومَ القِيامَة”([51]).
  4. تحقيق التكافل الاجتماعي لهم في حالة الفقر، والعجز والشيخوخة، فإذا أصبح المواطن غير المسلم فقيراً، أو عاجزاً أو شيخاً مُسِناً فإن الدولة لا تتركه يَتعرّض للاهانة والضياع، بل تُنصفه، وتَحميه، وتُقرر له العيش الكريم،  وليس هذا الحكم جديدا ومعاصرا، بل حدث ذلك في عصر أبي بكر الصديق رضي الله عنه، حيث كتب خالد بن الوليد لأهل الحِيرة بالعراق وكانوا نصارى ما نصه:” وجعلت لهم: أيُّما شيخ ضَعُفَ عن العمل، أو أصابته آفة من الآفات، أو كان غنيا فافتقر، وصار أهل دينه يَتصدّقون عليه طَرَحْت جِزيته، وعِيل من بيت مال المسلمين هو وعياله، ما أقام بدار الهجرة ودار الإسلام([52])، وروى أبويوسف وغيره أن عمر رضي الله عنه مرّ بباب قوم وعليه سائل يسأل، شيخ كبير ضرير البصر، فضرب عضده من خلفه، فقال: “من أيّ أهل الكتاب أنت؟ قال: يهودي، قال: فما ألجأك إلى ما أرى؟ قال: أسأل الجزية، والحاجة والسن، فأخذ عمر بيده فذهب به إلى منزله – وأكرمه- بشيء، ثم أرسل إلى خازن بيت المال، فقال: انظر هذا وضرباءه، فوالله ما أنصفناه، إذ أكلنا شبيبته ثم نخذله عند الهرم…”([53]).

وقد تكرر ذلك في عصر عمر بن عبدالعزيز، مما يمكن تسميته بالإجماع على أن الضمان الاجتماعي مبدأ عام يشمل أبناء المجتمع جميعا: مسلمين وغير مسلمين، فلا يجوز أن يبقى فيه إنسان محروما من ضروريات الحياة وحاجاتها([54]) فقد نَصّ فقهاء الشافعية، على أن دفع الضرر عن المسلمين من فروض الكفاية، وأن ذلك يشمل أهل الذمة، حيث أن دفع الضرر عنهم واجب، وأن المراد بدفع الضرر هنا هو: تحقيق الكفاية، من المعيشة، والمسكن، والدواء، والغذاء، وليس ما يسُدُّ الرَّمَق على أصحّ القولين عندهم([55]).

5) احترام عهودهم وعقودهم مع المسلمين: فقد ذكر أبو يوسف(ت182هـ) أن أبا عبيدة رضي الله عنه، صالحهم بالشام على شروط في مقابل أن يوفر لهم الأمن والحماية من الأعداء، وحدث أن الروم قد جمعوا جمعا كبيرا خاف أبو عبيدة ألا يكون قادرا على حمايتهم، فكتب إلى ولاته على المدن يأمرهم: أن يردوا على أهل المنطقة ما جُبِيَ منهم من الجزية والخراج، وأن يقولوا لهم: إنما رَدَدْنا عليكم أموالكم؛ لأنه قد بلغنا ما جمع لنا من الجموع، وأنكم قد اشترطتم علينا أن نمنعكم، وإنا لا نقدر على ذلك… وإنا لكم على الشرط، وما كتب بيننا وبينكم إن نصرنا الله عليهم..([56]).

6) حماية حريتهم الدينية:، كتب عمر بن الخطاب إلى عمرو بن العاص ـ عامله على مصر ـ كتاباً جاء فيه “.. واعلم يا عمرو أن الله يراك ويرى عملك فإنه قال تبارك وتعالى في كتابه:” وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً“[الفرقان:74]، يريد أن يقتدي بهم، وأن معك أهل ذمة وعهد، وقد أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم بهم وأوصى بالقبط، فقال: “استوصوا بالقبط خيراً فإن لهم ذمة ورحماً” ورحمهم أن أم إسماعيل منهم، وقد قال صلى الله عليه وسلم : “من ظلم معاهداً أو كلفه فوق طاقته فأنا خصمه يوم القيامة”([57]) احذر يا عمرو أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم  لك خصماً فإنه من خاصمه خصمه، والله يا عمرو لقد ابتليت بولاية هذه الأمة، وآنست من نفسي ضعفاً، وانتشرت رَعيّتي ورَقَّ عَظْمي، فأسأل الله أن يَقبِضَني إليه غير مُفرِّطٍ، والله إني لأخشى لو مات جمل بأقصى عملك، ضياعاً أن أسأل عنه يوم القيامة([58]).

7) حرية العمل والمعاملات والعقود والأنكحة حسب معتقدهم: إن القاعدة العامة أن أهل الذمة في المعاملات، وحرية العمل والاكتساب مثل المسلمين، إلا أن لهم التعامل في بعض المحرمات في ديننا، يقول الجصاص الحنفي “إن الذِّمِّيِّين في المعاملات والتجارات، كالبيوع وسائر التصرفات كالمسلمين([59])، وصرح الكاساني بذلك بقوله: “كلُّما جاز من بُيوع المسلمين جاز منه بيوع أهل الذمة، وما يبطل، أو يفسد من بيوع المسلمين يبطل ويفسد في بيوعهم إلا الخمر والخنزير([60]).

8) تولّي وظائف الدولة: لأهل الذمة الحق في تولي وظائف الدولة إلا ما تغلب عليه الصبغة الدينية، أو ما يقتضيه دين الأغلبية([61])، ويبين الأستاذ الدكتور وهبة الزحيلي في موسوعة الفقه الإسلامي المعاصر منهج التعامل الإسلامي مع غير المسلمين في الآتي:

توفير حرية ممارسة مقتضيات عقائدهم، من مراسم، وشعائر، وطقوس في كنائسهم، واحترام عاداتهم وأعرافهم، واللجوء إلى مجالسهم الملية، في مسائل الأحوال الشخصية.

تركهم وما يدينون، ولهم مالنا وعليهم ما علينا، وترك جدالهم إلا بالتي هي أحسن.

إقامة جسر عملي في الحياة العملية، عن طريق مصاهرة المسلم أهل الكتاب، وأكل ذبائحهم، والأكل معهم، وموادتهم، ومجاملتهم في أفراحهم، وأحزانهم، وعيادة مرضاهم، والتعزية في موتاهم.

المساواة في تولي الوظائف العامة؛ فقد كان بعض غير المسلمين يشغلون وظائف إدارية وسياسية ومالية في الدولة الإسلامية، منذ عهد الخليفة عمر ابن الخطاب رضي الله عنه … وهذا يؤكد أن غير المسلمين متساوون مع غيرهم في حق المواطنة والتوظف والعمل والتملك.

احترام الكرامة الإنسانية، والأعراض، والحرمات، والأموال، وتحريم إيذاء غير المسلمين، والمواطنين لقول النبي صلى الله عليه وسلم: “مَن آذَى ذِمِّيًّا فَأَنَا خَصْمُهَ وَمَن كُنتُ خَصْمُهُ خَصَمْتُهُ يوم القيامة”([62])، وفي حديث آخر (أَلاَ مَن ظلمَ مُعَاهَداً أو انتقصه، أو كلفه فوقَ طاقته، أو أخذَ منه شيئاً بغير طِيبِ نفسٍ فَأنَا حَجِيجُهَ يوم القيامة)([63])([64]).

مشاركة غير المسلمين في أنشطة المجتمع المسلم:

في بداية الدعوة الإسلامية كانت المعايشة بين المسلمين وأهل الديانات الأخرى تقوم على التلقائية دون تعقيدات، وكان التداخل بين الناس بسيطا لا يخضع للقيود التي فرضتها الظروف الاستثنائية الطارئة. والتداخل بين أفراد المجتمع متاح بل كانوا يتبادلون الهدايا والمنافع كما يفعل الجيران في أي مجتمع. “لقد كان للرسول صلى الله عليه وسلم  جيران من أهل الكتاب. وظل يتعهدهم ببره، ويتبادل معهم الهدايا. حتى أن امرأة يهودية دست له السم في ذراع شاة أهدتها إليه، لما كان من عادته أن يتقبل هديتها ويحسن جوارها([65])، “ولما جاء نصارى الحبشة، أنزلهم رسول الله في المسجد، وقام بنفسه على ضيافتهم وخدمتهم، وكان مما قاله يومئذ: “إنّهم كانوا لأصحابنا مُكْرِمِين، فأُحِبُّ أنْ أُكْرِمَهم بنفسي”([66]).

وجاء مرة وفد من نصارى نجران، فأنزلهم في المسجد وسمح لهم بإقامة صلاتهم فيه. فكانوا يصلون في جانب منه، ورسول الله والمسلمون يصلون في جانب آخر! وعلى هدي الرسول سار خلفاؤه من بعده. فإذا بنا نجد عمر بن الخطاب حين يدخل بيت المقدس فاتحاً يُجيب السكان المسيحيين إلى ما اشترطوه: من ألاّ يُساكنهم يهودي. وتحين صلاة العصر وهو في داخل كنيسة القدس الكبرى، فأبى أن يصلى فيها، كيلا يتخذها المسلمون من بعده ذريعة للمطالبة بها واتخاذها مسجدا.!” ونجد أمير المؤمنين وقد شكت إليه امرأة مسيحية من سكان مصر أن عمرو بن العاص قد أدخل دارها في المسجد كرها عنها. فيهتم خليفة المسلمين، ويسأل عمرا عن ذلك، فيخبره أن المسلمين كثروا، وأصبح المسجد يضيق بهم، وفي جواره دار هذه المرأة. وقد عرض عليها عمرو ثمن دارها، وبالغ في الثمن فلم ترض. مما اضطر معه عمرو إلى هدم دارها وإدخاله في المسجد، ووضع قيمة الدار في بيت المال، تأخذه متى شاءت. ومع أن هذا مما تبيحه القوانين المعاصرة، وهي حالة يُعذر فيها عمرو على ما صنع؛ فإن أمير المؤمنين لم يقبل ذلك، وأمر عمرا أن يهدم البناء الجديد من المسجد، ويعيد للمرأة المسيحية دارها كما كانت([67]).

ومما يدهش له أن العصور الإسلامية الأولى، كان تعاملها متفوقاً على كثير من الدول، وبعض المجتمعات الإسلامية المعاصرة، مما يقتضي ذكر بعض النماذج التي تعاملت بها الدولة الإسلامية التاريخية، حتى يتبيَّن المُعاصرون كيف يكون التَّعامُل ليقتدوا بسلفهم الصالح في هذا المجال. “لقد بلغ المجتمع الإسلامي حدودا تفُوقُ التَّصوُّر، في توفير حرية الاعتقاد للآخرين، في العصور المبكرة من التاريخ الإسلامي- وهو ما ينكره الباحثون غير المنصفين، وما تضيق به للأسف صدور بعض الدعاة الإسلاميين في عالم اليوم- “لقد مد المسلمون تلك الميزة (حرية الاعتقاد) التي منحها الله لليهود والمسيحيين والصابئين في القرآن، حتى شملت الزرادشتيين، والهندوسيين، والبوذيين، والموالين للديانات الأخرى عندما اتصلوا بهم”([68]). كما اعترف للمجوس بأنهم أهل ذمة، منذ قبلت منهم الجزية على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي القرن الرابع الهجري كان لهم- كاليهود والنصارى- رئيس يمثلهم في قصر الخلافة ودار الحكومة([69]).

واحترم الإسلام شرائع الملل الأخرى، حتى ولو تناقضت مع تعاليمه، كما هو معروف، في موضوع الخمر ولحم الخنزير، بالنسبة للمسيحيين. وامتد هذا الاحترام حتى شمل ممارسات المجوس، وهم ليسوا أهل كتاب. ففي المُغني لابن قدامة: أن مجوسيا تزوج ابنته، فأولدها بنتا، ثم مات عنها فكانت لها الثلثان مما ترك([70])، وهو الأمر الذي أثار حفيظة الخليفة عمر بن عبدالعزيز، فكتب إلى الحسن يسأله: ما بال من مضى من الأئمة قبلنا، أقروا المجوس على نكاح الأمهات والبنات. فكتب إليه الحسن قائلا: أما بعد، فإنما أنت متبع ولست بمبتدع[71] يعني أن الرسول عاملهم كأهل ذمة، لهم شرائعهم الخاصة التي أُقِرُّوا عليها. وهو ما نفهمه من إشارة أبي عبيد صاحب “الأموال” إلى قول عبدالله بن عون: سألت الحسن البصري عن نيران المجوس، لم تركت؟ قال: على ذلك صُولِحوا([72]).

وكان غير المسلمين يساهمون في الشئون العامة ويشتركون حتى في الحرب مع المسلمين. روى الخطيب البغدادي([73])، عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قاتل معه قوم من اليهود في بعض حروبه، فأسهم لهم مع المسلمين. وعندما أجاز الإمام الشافعي اشتراك أهل الذمة في جيوش المسلمين، استدل بأن الرسول صلى الله عليه وسلم استعان في غزوة خيبر بعدد من يهود بني قينقاع، واستعان في غزوة حنين بصفوان بن أمية وهو مشرك([74]).

وفي الموقف من الكتب السابقة فإن موقف الإسلام هو التصديق والتصويب لبعض الانحرافات التي أُلحقت بها، بل واستصحاب بعض الأحكام التي تتماشي مع الواقع الجديد، وقد جاءت هذه المبادئ في عدة نقاط هي:

أولاً: إعلان وحدة الدين الإلهي.

ثانياً: وحدة المصير والحساب.

ثالثاً: وحدة الوحي الإلهي.

رابعاً: وحدة الإنسانية.

خامساً: وحدة المقاصد “الأصول الخمسة والكليات”

سادساً: وسطية الإسلام وكونه دين الفطرة واليسر والسماحة.

سابعاً: عدم التنافي والتعارض بين العالمية والتعايش الديني.

ثامناً: الجسور المشتركة مع أهل الكتاب.

تاسعاً: الحفاظ على الأمن والسلم الدوليين ” وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ” [الأنفال61].

عاشرا: ضرورة الاندماج المعيشي، والانفتاح الحضاري([75]).

نحن مطالبون أن نلتزم بأحكام الإسلام القطعية، التي تُحَدِّد، أن أساس العلاقة يقوم على عدم الإكراه، والاحترام المتبادل، إتباعاً لتوجيه الآية القرآنية الكريمة:” لاَ  يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوَهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ” [الممتحنة:8]. أقول هذا وفي ذهني ما وصل إليه الغرب من تطور في إدارة التنوع ؛ أبهر كثيرا من الناس في العصر الحديث، فالفارق هنا، هو أن الغرب توصل لهذا الأسلوب، بعد معاناة مع الصراع داخل المجتمعات الغربية. أما الإسلام فقد اعترف بالتعدد وشرَّع له كواقع ضروري في العلاقات الإنسانية، قبل أن تنشأ وتظهر عوامل الصراع. و”إذا كان الغرب قد توصل إلى الإيمان بالتعددية، كنظرية تعالج الاختلاف والتباين والتنوع داخل مجتمعاته، فإنه إنما توصل إليها بعد جهاد عنيف مع مفهوم – الحق المطلق – الذي تبنته الكنيسة، ولم تستطع التغلب على هذا المفهوم السائد إلا بعد طول زمان.

ويقوم التاريخ شاهداً على تنزيل هذه المبادئ والقيم إلى واقع ملموس، إذ ضم العالم الإسلامي في أراضيه على امتدادها وفساحتها، كمًّا هائلاً من الجنسيات والأعراق، واللغات، والمذاهب، والآراء، والمعتقدات والأديان، وتفاعلت فيما بينها وتلاقحت، وتحاورت، وتجادلت، وشاركت كلها في صنع الحضارة الإسلامية، في علومها وفنونها ونظمها ومؤسساتها المختلفة، وإن ظهرت فيما بينها بين الحين والآخر نزاعات وصراعات وحروب، فهي استثناء لا أصل”([76])،

وهنالك شهادات من بعض الكتاب الغربيين تؤكد هذا المعنى. يقول المؤرخ الفرنسي “جوستاف لوبون([77]): “رأينا من آي القرآن أن مسامحة محمد لليهود والنصارى كانت عظيمة إلى الغاية، وأنه لم يقل بمثلها مؤسسو الأديان التي ظهرت قبله كاليهودية والنصرانية على وجه الخصوص”([78])، ويقول “ول ديورانت”([79])، في موسوعته قصة الحضارة([80])، لقد كان أهل الذمة – المسيحيون، والزرادشتيون، واليهود، والصابئون – يستمتعون في عهد الخلافة الأموية بدرجة من التسامح لا نجد لها نظيرا في البلاد المسيحية في هذه الأيام، فلقد كانوا أحرارا في ممارسة شعائر دينهم، واحتفظوا بكنائسهم ومعابدهم”. ويقول: “وكان المسيحيون في بلاد آسيا الغربية، خارج حدود الجزيرة العربية، يمارسون شعائر دينهم بكامل حريتهم، وبقيت الكثرة الغالبة من أهل بلاد الشام مسيحيين حتى القرن السادس الإسلامي.

 ويحدثنا المؤرخون أنه كان في بلاد الإسلام، في عصر المأمون، أحد عشر ألف كنيسة، كما كان فيها عدد كبير من هياكل اليهود،  ومعابد النار، وكان المسيحيون أحرارا في الاحتفال بعيدهم علنا، والحجاج المسيحيون يأتون أفواجا آمنين لزيارة الأضرحة المسيحية في فلسطين. وأصبح المسيحيون الخارجون على كنيسة الدولة البيزنطية، الذين كانوا يلقون صورا من الاضطهاد على يد بطاركة القسطنطينية، وأورشليم، والإسكندرية، وأنطاكيا، أصبح هؤلاء الآن أحرارا آمنين تحت حكم المسلمين([81])، بل امتد منهج الإسلام للتعامل مع الآخر الذي تفصل بينه وبينه المسافات، مادام مسالما، واستطاع المسلمون أن ينقلون تجربتهم في التعامل مع التنوع إلى الغرب، من خلال تواصلهم مع الغرب، عبر نقاط التماس التي جمعتهم، وهنالك منصفون غربيون اعترفوا بفضل الإسلام على الغرب.

ويعد خطاب الأمير تشارلز ولي العهد البريطاني في هذا المضمار من أرقى وأنضج الخطابات الصادرة من الغرب، فقد قال كلمة ألقاها في مركز أكسفورد للدراسات الإسلامية عام 1993م جاء فيها: “إذا كان الغرب يُسيء فهم طبيعة الإسلام، فمازال هناك جهل كبير حول ما تَدين به حضارتنا وثقافتنا للعالم الإسلامي، إنه نقص نعانيه من دروس التاريخ الضيق الأفق، الذي ورثناه، فالعالم الإسلامي في القرون الوسطى إلى شاطئ الأطلسي، كان يعج بالعلماء ورجال العلم، ولكن بما أننا رأينا في الإسلام عدوا للغرب، وكثقافة غريبة بنظام حياتها ومجتمعها، فقد تجاهلنا تأثيره الكبير على تاريخنا. لم يعد باستطاعة العالمين الإسلامي والغربي البقاء بعيدين عن بعضهما البعض، وعدم الاشتراك في جهد مشترك لحل مشاكلهما المشتركة. إننا لا نستطيع العودة إلى الخلافات والتحديات الإقليمية، والسياسية الماضية. يجب أن نساهم معا في خبراتنا، وأن نشرح أمورنا كل للآخر، لنتفهم ونتسامح ونتحمل معا([82]).

فلم يعرف الإسلام يوما ما العنصرية، والتمييز بين البشر على أساس الدين والمعتقد، أو الشكل واللون، أو القبيلة والعشيرة أو اللغة واللهجة، وذلك على قاعدة الأصل الواحد لبني آدم وأن اختلاف للتعارف وليس للتفاضل ، ومبدأ “إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا أسود على أحمر إلا بالتقوى([83])، “إنَّ الله قَدْ أَذْهَبَ عَنكُم عُبِيَّة الجَاهِليَّة وفَخْرَها بالآباء، مؤمنٌ تقي، وفاجر شَقِيّ، أَنتُم بنو آدم وآدم من تراب. ليَدَعَنَّ رجال فَخْرَهُم بِأقْوَام، إنَّما هُم فَحَمٌ من فحم جهنم، أو ليَكُونُنَّ أَهْوَنُ على الله من الجعلان([84])، “وإذا كان هذا هو الجانب النظري في تاريخ الحضارة الإسلامية، فإن الجانب العملي يسير في كنفه لا يفارقه أو يبتعد عنه، اللهم إلا في القليل النادر أو الشاذ الضئيل، ولا يكون هذا سوى في فترات انحدار الأمة وبعدها عن المنهج القويم”([85]).

الخاتمة : خلاصات ونتائج

يتبين مما تقدم، أن مقاصد الشريعة تحقق التعايش السلمي  بصورة لا تتعارض مع روح المبادئ، التي عرفها الإنسان المعاصر، في حماية حقوق الإنسان، غير أن الفكر الإسلامي يحتاج إلى مراجعة كثير من المواقف، التي يستشهد بها دعاة القطيعة مع الآخر؛ لتوضيح ظروفها وأسبابها، حتى لا تتخذ أحكاماً عامة، لا تقبل التغيير مهما تغيرت الظروف والأحوال، وللوصول إلى الموقف الصحيح لابد من إيضاح عدة أشياء منها:

أولاً:       الاتفاق على حدود أطراف العلاقة وطبيعة الميزان الذي يحكمها، وكيفية ضبط الميزان بالصورة التي تُحقق مصلحة المجتمع في مجموعه. وإذا كان الفرض المطروح أمامنا، هو كونها علاقة بين أغلبية مسلمة وأقلية غير مسلمة، فما هو الإطار الذي تُصاغ به علاقة أي أغلبية بأي أقلية في المجتمع المعاصر.

ثانياً:       إسقاط الشبهات التي تشوب التصور العام لموقف الإسلام من غير المسلمين، سواء جاءت تلك الشبهات عن طريق الدس والاختلاق، أو عن طريق القراءة غير الصحيحة للنصوص والوقائع التاريخية.

ثالثاً:       إعادة النظر في بعض الاجتهادات الفقهية التي تعالج هذا الموضوع، وإسقاط ما لم يعد ملائما لظروفنا المعاصرة، أو ذلك الذي صدر في ظروف وملابسات خاصة في الماضي. ثم- من ناحية أخرى- تطوير ما يمكن العمل به من تلك الاجتهادات في ضوء القراءة المتفهمة للحاضر والمستقبل([86]).

المراجع والمصادر:

  1. القرآن الكريم
  2. كتب السنة
  3. السيرة النبوية لابن هشام
  4. الخرج لأبي يوسف
  5. تفسير القرآن العظيم لابن كثير
  6. الأم للشافعي
  7. الأحكام للجصاص
  8. المستصفى للغزالي
  9. إعلام الموقعين لابن القيم
  10. الموافقات للشاطبي
  11. لسان العرب ؛ لابن منظور
  12. مقاييس اللغة؛ ابن فارس
  13. بحوث في الإسلام والمجتمع؛ علي عبدالواحد وافي
  14. أحكام الذميين والمستأمنين عبدالكريم زيدان
  15. التعصب والتسامح بين المسيحية والإسلام؛ محمد الغزالي
  16. موسوعة الفقه الإسلامي المعاصر؛ وهبة الزحيلي
  17. نحن والآخر؛ علي محي الدين القرة داغي
  18. التعايش السلمي بين المسلمين وغيرهم؛ سورحمن هدايات
  19. القواعد الأساس لعلم مقاصد الشريعة؛ أحمد الريسوني
  20. مواطنون لا ذميون ؛ فهمي هويدي
  21. قصة الحضارة ؛ ول ديورانت
  22. بحوث ندوة تطور العلوم الفقهية ؛ وزارة الأوقاف والشؤون الدينية سلطنة عمان
  23. الحوار في الإسلام حقائق ونتائج؛ عبدالمحمود أبو
  24. منهج الشورى في إدارة التنوع؛ عبدالمحمود أبو

[1] صحيح البخاري، أبوعبدالله محمد بن إسماعيل البخاري الجعفي؛ تحقيق مصطفى الديب البغا، (ط3) دار ابن كثير ؛ اليمامة(1987م) كتاب الرقاق؛ بالب القصد والمداومة

[2] لسان العرب مادة (قصد) 5/96

[3] ابن فارس؛ مقاييس اللغة تحقيق عبدالسلام هارون، (بيروت؛ دار الفكر 1979م ) ج5 ص95

[4] د معتز الخطيب؛ منهجية المقاصد والوسائل ودوره في الاجتهاد الفقهي؛ بحث مقدم في ندوة الفقه الإسلامي في عام متغير المنعقدة في سلطة عمان في(1433هـ – 2011م) منشورات وزارة الأوقاف والشؤون الدينية- سلطنة عمان ص(163)

[5] تجديد المنهج في تقويم التراث؛ راجع الاجتهاد المقصدي عند الأئمة المجددين ، من خلال مراعاتهم لقصد المكلف وأثر ذلك في استنباط الأحكام وتنزيلها، تأليف البشير القنديلي؛ ص(115-116) مركز نماء للبحوث والدراسات ، الطبعة الأولى (2017م) بيروت – لبنان

[6] الاجتهاد المقاصدي؛ ص251

[7] مقاصد الشريعة ومكارمها، ص3

[8] نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي ص 7

[9] الاجتهاد المقصدي عند الأئمة المجددين؛ البشير القنديلي ، ص(127) سابق

[10] رواه البخاري ومسلم.

[11] الشيخ عبدالله بن حمود العزي؛ مقاصد الشريعة وفروض الكفاية؛ بحث مقدم في ندوة الفقه الإسلامي في عالم متغير، التي نظمتها وزارة الأوقاف والشؤون الدينية بسلطنة عمان عام (1433هـ – 2011م) ص(305)

[12] ابن منظور مادة” ش ر ع”

[13] إسحاق بن عبدالله السعدي؛ دراسات في تمييز الأمة الإسلامية وموقف المستشرقين منه، الطبعةالأولى(2013م) وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية – قطر.

[14] جميل عودة إبراهيم؛ حق العيش المشترك في الإسلام؛شبكة النبأ المعلوماتية 23 تشرين 2017م

[15] المستصفى، (1/417)

[16] المستصفى، (1/416)

[17] الموافقات، (3/62)

[18] الموافقات، (2/192)

[19] الموافقات، (2/46-47)

[20] ابن القيم؛ إعلام الموقعين عن رب العالمين. (3/1)

[21] أحمد الريسوني؛ القواعد الأساس لعلم مقاصد الشريعة، ص(17) سابق

[22] الموافقات، (1/265)

[23] الإمام الأكبر محمود شلتوت – الإسلام عقيدة وشريعة- ص(47)

[24] سورحمن هدايات؛ التعايش السلمي بين مسلمين وغيرهم داخل دولة واحدة، ص(80) دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع والترجمة، الطبعة الثانية(1433هـ – 2012م9جمهورية مصر العربية – القاهرة

[25] أحمد الريسوني؛ القواعد الأساس لعلم مقاصد الشريعة، ص(53) سابق

[26] السابق

[27] السابق ص(62)

[28] سورحمن هدايات؛ التعايش السلمي بين المسلمين وغيرهم؛ ص(145) سابق

[29] من شرح القاعدة رقم 119 في ( معلمة زايد للقواعد الفقهية) نقلا عن أحمد الريسوني، القواعد الأساس لعلم مقاصد الشريعة . ص(69)

[30] ابن القيم ، الطرق الحكمية ؛ ص(14)

[31] أحمد الريسوني؛ القواعد الأساس لعلم مقاصد الشريعة؛ ص(77) سابق

[32] متفق عليه

[33] منهج الشورى في إدارة التنوع؛ رسالة ماجستير حصل عليها الباحث من جامعة أم درمان الإسلامية 2013م

([34]) راجع عبدالمحمود أبو. الحوار في الإسلام حقائق ونتائج،  ص 173-174الطبعة الثانية(2014م) دارالرافدين – بيروت – لبنان.

[35] راجع سورحمن هدايات ؛ التعايش السلمي بين المسلمين وغيرهم داخل دولة واحدة. ص(23-34)

([36]) أ. د: وهبة الزحيلي، موسوعة الفقه الإسلامي المعاصر، 6/368.

([37]) رواه أبو داؤد والنسائي وابن أبي حاتم وابن جرير وغيرهم، راجع فهمي هويد، مواطنون لا ذميون، ص 89-90.

([38]) د. علي عبدالواحد، بحوث في الإسلام والمجتمع، ص 73، القاهرة، 1977م.

([39]) د. عبدالكريم زيدان، أحكام الذميين والمستأمنين في دار الإسلام – ص 629.

([40]) راجع مواطنون لا ذميون الصفحات (93-95).

([41]) ابن كثير، تفسير القرآن العظيم المجلد الأول 528-531 دار كنوز إشبيليا للنشر والتوزيع، الطبعة الثانية 1430هـ 2009م.

([42]) أنظر ابن هشام 1/573، والسيرة لابن كثير4/100- 108.

([43]) زاد المعاد 3/638.

([44]) صحيح البخاري مع الفتح، 3/179، ومسلم، كتاب الجنازة 2/659 الحديث رقم 960.

([45]) صحيح البخاري 3/179- 180، ومسلم 2/661، الحديث رقم: 961.

([46]) فتح الباري 3/181 أنظر : نحن والآخر – دراسة فقهية تأصيلية ، أ.د. علي محيي الدين القرة داغي ص 97 -100، الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين – لجنة التأليف والترجمة.

([47]) د عبدالكريم زيدان – من بحث قدم إلى مؤتمر حقوق الإنسان الذي دعت إليه جامعة الكويت في شهر ديسمبر عام 1980م.

([48]) فهمي هودي،  مواطنون لا ذميون ص100 مرجع سابق.

([49]) أستاذ ورئيس قسم الفقه والأصول بجامعة قطر، والخبير بمجمع الفقه الإسلامي بمكة المكرمة، وجدة، وعضو المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث، وعضو مجلس الأمناء، والمكتب التنفيذي، ورئيس لجنة قضايا الأقليات الإسلامية بالاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.

([50]) يراجع بدائع الصنائع 5/143، وجواهر الإكليل 1/470، وحاشية الجمل 3/481، والأحكام السلطانية للماوردى ص145.

([51]) رواه أبوداود في سننه 3/437، الحديث رقم3052 قال العراقي: إسناده جيد، كما في تنزيه الشريعة 2/182، ط. مكتبة القاهرة، ورواه البيهقي في السنن الكبرى 5/205.

([52]) أبو يوسف، الخراج، بتحقيق الدكتور محمد إبراهيم البنا، ط. دار الإصلاح ص290.

([53]) المرجع نفسه، ص259.

([54]) د يوسف القرضاوي. فقه الزكاة ص17.

([55]) نهاية المحتاج شرح المنهاج 8/46.

([56]) أبويوسف، الخراج ص282-283.

([57]) أخرجه أبوداود في السنن 3052، وفي روايته زيادة [..أو انتقصه أو كلفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئا بغير طيب نفس منه فأنا حجيجه يوم القيامة].

([58]) أخرجه ابن سعد في الطبقات الكبرى 3/299.

([59]) الجصاص، الأحكام 2/346، وحاشية ابن عابدين 3/276.

([60]) البدائع 4/174.

([61]) أ د على محيي الدين القرة داغي. نحن والآخر, ص89-94، الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين

([62]) أخرجه ابن ماجه، 16- كتاب الرهون، 4- باب اجر الأجراء،  2/816 حديث رقم 2442. 

([63]) أبوداؤد في سننه، كتاب الخراج، باب في تعشير أهل الذمة إذا اختلفوا بالتجارات 2/678 حديث رقم 3052.

([64]) أ.د. وهبة الزحيلي، موسوعة الفقه الإسلامي المعاصر المجلد السادس صفحة(316- 319).

([65]) د مصطفى السباعي – من روائع حضارتنا ص84- 87.

([66]) البيهقي، دلائل النبوة.

([67]) فهمي هويدي. مواطنون لا ذميون ص67.

([68]) د إسماعيل الفاروقي. الإسلام بين الديانات الآسيوية العظيمة، نيويورك- ماكميلان ص29 المصدر مواطنون لا ذميون – فهمي هويدي ص62، مرجع سابق.

([69]) آدم ميتز، الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري، ترجمة الدكتور محمد عبدالهادي أبوريدة ص60 مرجع سابق ص62.

([70]) الشيخ محمد الغزالي، التعصب والتسامح بين المسيحية والإسلام، ص60

([71]) أبوعبيد القاسم، الأموال ص49.

([72]) فهمي هويدي، مواطنون لا ذميون ص 62 مرجع سابق.

([73]) تاريخ بغداد 4 /160.

([74]) الشافعي، الأم  4/177.

([75]) د. وهبة الزحيلي. موسوعة الفقه الإسلامي المعاصر 6/390 -399، مرجع سابق.

([76]) د. بسطامي سعيد. رؤية إسلامية لمشكلة التعددية، مجلة البيان، لندن، المنتدى الإسلامي العدد(216) شعبان 1426هـ ص9.

([77]) مؤرخ فرنسي مشهور (1841- 1931م) يعد من المستشرقين المنصفين، دافع عن حقوق المسلمين ضد الدول المستعمرة، وعني بالحضارات الشرقية.  من آثاره: حضارة العرب، الحضارة المصرية، وحضارة العرب في الأندلس. يراجع د. شوقي أبو خليل: جوستاف لوبون في الميزان، الطبعة الأولى، بيروت، دار الفكر المعاصر، دمشق، (1990م)، ص13.

([78]) حضارة العرب، ترجمة عادل زعيتر، القاهرة، مطبعة الحلبي، (1366هـ) ص128.

([79]) ويليام جيمس ديورانت (1885- 1981م) فيلسوف مؤرخ وكاتب أمريكي، من أشهر مؤلفاته كتاب قصة الحضارة والذي شاركته زوجته أريل ديورانت في تأليفه.

([80]) ترجمة : محمد بدران: الإدارة الثقافية في جامعة الدول العربية12/132.

([81]) قصة الحضارة، ويل ديورانت، مرجع سابق

([82]) انظر، مجلة الحرس الوطني ، المملكة العربية السعودية، العدد164/165ص99 نقلا عن بحث الأستاذ محمد مراح بعنوان “نحو رؤية إسلامية لتعارف الحضارات”

([83]) مسند الإمام أحمد بن حنبل، 5/411/حديث 23536.

([84]) سنن أبي داود، كتاب الآداب، باب في التفاخر بالأحساب (2/752/ح5116). سنن البيهقي الكبرى (10/232/ح20851) مسند أحمد (2/ 361/ح8721). ومعنى عبية: نخوتها وكبرها وفخرها وتعاظمها، والجعلان: جمع جعل وهي دويبة سوداء يأنفها البشر، وهو كالخنفساء، يكثر في المناطق الندية. العظيم أبادي، محمد شمس الحق: عون المعبود شرح سنن أبي داود، الطبعة الثانية، بيروت، دار الكتب العلمية، (1415هـ).

([85]) المرجع نفسه ص (38).

([86]) فهمي هويدي. مواطنون لا ذميون, ص73.

زر الذهاب إلى الأعلى