البحوث

المؤتمر الدولي الإسلام في أفريقيا

المؤتمر_الدولي_الإسلام_في_أفريقيا

الوحدة الإسلامية بين الواقع والتطلع

الوحدة_الاسلامية_بين_الواقع_والتطلع

مركز الإمام (أبوعبدالله الشافعي) العلمي

                         الأردن ــ عمان

ندوة الحرية الدينية وتعزيز مبدئي الحوار والسلم

بتاريخ: 22/04/2017م

بحث بعنوان: مفهوم الحرية الدينية وموقف الشرع منها

تقديم الأستاذ/ عبد المحمود أبّو ابراهيم

الأمين العام لهيئة شؤون الأنصار للدعوة والإرشاد 

ــ السودان ــ

بسم الله الرحمن الرحيم

تمهيد:

التعمق في الإنسان المتصف بالخصائص التي منحها الله له، والمكلف بأمر الاستخلاف؛ يُبْرِز بعض الحكمة من قصة الخلق للمتأمل؛ وأقول بعض الحكمة لأنّ البشر إدراكهم محدود؛ واستيعابهم نسبي، لقد ارتبط خلق الإنسان بحوار بين الله والملائكة؛ حيث تساءلت الملائكة ما هو الغرض من إيجاد هذا المخلوق؟ والكون كله يسبح بحمد الله ويقدسه، ويتوقع من هذا المخلوق الجديد أن يخل بنظام الكون، وينحرف عن الصراط المستقيم؛ فاكتفى الرد الإلهي بالقول: ) إِنِّي أَعْلَمُ مَا  لاَ  تَعْلَمُونَ( [البقرة:30] ثم كان الاختبار الذي دخل فيه أبو البشرية آدم عليه السلام، وشعوره بالندم فتاب عليه ربه وهدى؛ وبين له أنه خلق للاستخلاف في الأرض مع تزويده بخصائص الحرية والعقل والاختيار؛ وأنه وذريته سيتعرضون للامتحان وأن المخالفات التي تقع منهم يمكن تداركها بالتوبة والحسنات التي تذهب السيئات؛ وبالمقابل أوجد الله سبحانه وتعالى إبليس وزوده بقدرات وطاقات غير مرئية للبشر، وطلب منهم أن يتخذوه عدوا فلا يقعوا في حبائله! هذا المشهد بكل تفاصيله يفتح الباب واسعاً للتأمل والتدبر في قصة الاستخلاف وطبيعته ودور الإنسان في هذه الحياة، إنني في هذه الورقة أبحث (مفهوم الحرية الدينية وموقف الشرع منها) عبر خمسة محاور وخاتمة، والله أسأل أن يوفقني لمعرفة الحق وإبرازه.

المحور الأول: تحرير المفاهيم

موضوع الحرية الدينية وجد اهتماما كبيرا في الحياة المعاصرة؛ وشكل حضورا في معظم المؤتمرات والندوات المتعلقة بالحوار الديني والثقافي والحضاري؛ ومصطلح الحرية الدينية مصطلحا حديثا ارتبط بالثورات الإصلاحية التي حدثت في أوروبا في القرن السابع عشر وما بعده، وتبلور في الثورة الفرنسية التي عبرت عن فلسفة الإصلاح في الغرب؛ استجابة لتطلعات الشعوب التي اكتوت بنيران الحروب الدينية، وتجاوزا لبيئة التعصب الديني وهيمنة رجال الدين على مقاليد الأمور؛ ثم جاء الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في نهاية النصف الأول من القرن العشرين؛ مقننا للحريات والحقوق الإنسانية ومن ضمنها الحرية الدينية. وسوف يحاول هذا المحور تحرير مصطلحات الحرية والدين والحرية الدينية والمواطنة ومفهومها.

الحرية: في اللغة: وردت الحرية في المعاجم اللغوية بمعاني متعددة؛ الحُرّ: نقيض العبد والأسير؛ وجمعها أحرار وحِرار. والحُرة نقيض الأَمَة وجمْعُها حرائر([1]). وتحرير الرقبة عِتقها؛ وتحرير الولد؛ أي تفرده لطاعة الله وخدمة المسجد أو المعبد، ومنه قوله تعالى : )إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ العَلِيمُ( [آل عمران: 35] والحُرُّ: الكريم، والحر من كل شيء؛ خياره وأعْتَقُه وطيِّبه؛ ومنه يقال فرس حُر: أي عتيق الأصل. وطين حر: أي لا رمل فيه. ورملة حرة: أي لا طين فيها. وحرية القوم أشرافهم([2]). والحرية : هي الخلاص من الشوائب أو الرق أو اللوم([3]).

الحرية في الاصطلاح: هي سلطة التصرف في الأفعال عن إرادة وروية، وهي الملكة الخاصة التي تميز الكائن الناطق عن غيره، ليتخذ قراره دون إكراه أو إجبار أو قَسْر خارجي، وإنما يختار أفعاله عن قدرة واستطاعة على العمل والاقتناع  فيه دون ضغط خارجي([4]) هذا التعريف تعريف قانوني، وهنالك تعريف للحرية قريب من هذا حيث عرَّف الحرية بأنها: (أن يملك الإنسان إصدار قراراته السلوكية في حق نفسه بمقتضى إرادته الشخصية، دون أن يعارضها أي قسر من أشخاص أمثاله)([5]) فالحرية إذا إرادة وسلطة واختيار بموجبها يمارس الإنسان حقه في الاعتقاد والفكر والعمل والمواقف دون تدخل من سلطة قاهرة تمنعه من استعمال هذا الحق.

الدين لغة: هو الطاعة والقهر والخضوع والذل والتعبد والمجازاة والملك والاقتراض([6]).

الدين اصطلاحاً: له تعريفات كثيرة وأشهر تعريف لعلماء المسلمين أنه (وضع إلهي يرشد إلى الحق في الاعتقاد، وإلى الخير في السلوك والمعاملات) أو أنه (وضع إلهي سائق لذي العقول السليمة باختيارهم إلى الصلاح في الحال، والفلاح في المآل)([7]) وهذا التعريف خاص بدين الإسلام الذي أنزله الله لهداية البشر عن طريق رسله وآخرهم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ولا يشمل الأديان غير المنزلة والعقائد البشرية التي هي من صنع البشر، وقد وصفها القرآن بأنها دين بدليل قوله تعالى: )لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ( [الكافرون:6] فالاعتقاد الديني خاصية فطر عليها الإنسان لا يمكن أن يعيش مستقرا في هذه الحياة بدونها، والاعتقاد الديني نشأ عن واحد من طريقين؛ إما عن مخاطبة الله للإنسان عن طريق الرسل؛ وإما عن طريق سعي الإنسان نحو المثل الأعلى.

الحرية الدينية: نص الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر في العام 1948م في المادة 18 أنه” لكل شخص الحق في حرية التفكير والضمير والدين ويشمل ذلك حرية تغيير ديانته أو عقيدته ، وحرية الإعراب عنها بالتعليم والممارسة، وإقامة الشعائر ومراعاتها، سواء كان ذلك سرا أم جماعة”([8]) وعرفت الحرية الدينية تعريفات عدة منها: “تعني حق الإنسان ابتداء في أن يختار العقيدة التي يراها وأن يلتزم بالدين الذي ترجح لديه صحته وأفضليته على غيره دون إكراه من الغير وأن يعبر عن ذلك بما يمليه عليه دينه من أنواع الطقوس والشعائر”([9]) ويقول الشيخ محمد الغزالي: “والعقيدة من خواص العقل ومكمنها النفس والفؤاد، فالإيمان الصحيح إنما يكون وليد يقظة عقلية واقتناع قلبي وفطرة سليمة يستبين بها الإنسان العاقل طريق الحق فيعتنقه ويرضى به فيكون له عقيدة”([10]) ويقول الدكتور سمير مراد: “ حرية التدين: ولها مفهومان: الأول: وذلك بالنظر إلى المتدين، فله حرية الاعتقاد والتدين، مع الإيمان ببطلان دينه وعقيدته، وهذا حكم أهل الذمة عند المسلمين، وهذا جائز لا بأس به بنص القرآن وواقع السنة والتاريخ الإسلامي. الثاني: بالنظر إلى الدين والتدين، فهذا مرفوض.ومن هنا فنحن نفرق بين:حوار الحضارات وتقارب الأديان من جهة، وبين توحيد الأديان من جهة أخرى، فالأول مقبول والثاني مرفوض”[11].

الحرية خاصية بشرية، ارتبطت بالإنسان منذ خلقه الأول؛ وهي شرط من شروط استخلافه وتكليفه؛ والحرية الدينية تمثل الجانب الأهم في حياة الإنسان؛ باعتبار أن العقيدة تمثل المشترك الإنساني الأسمى؛ والحرية الدينية التي أقرها الإسلام تؤكدها القيم المكفولة لكل إنسان؛ مثل الكرامة والحرية والعدالة التي منحها الله لكل الناس دون تمييز قال تعالى: ) كُلاًّ نُّمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا  كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً( [الإسراء:20] ولأن الحساب لا معنى له إذا لم المحاسب حرا.

المواطنة: “هي انتماء الإنسان إلى الدولة التي ولد بها وخضوعه للقوانين الصادرة عنها وتمتعه بشكل متساوي مع بقية المواطنين بمجموعة من الحقوق والتزامه بأداء مجموعة من الواجبات تجاهها”([12]) ومفهوم المواطنة له أبعاد متعددة تتكامل وتترابط في تناسق تام على النحو التالي:

  • بعد ثقافي حضاري؛ يعنى بالجوانب الروحية والنفسية والمعنوية للأفراد والجماعات؛ على أساس احترام خصوصية الهوية الثقافية والحضارية ويرفض محاولات الاستيعاب والتهميش والتنميط.
  • بعد اقتصادي اجتماعي؛ يستهدف إشباع الحاجات المادية الأساسية للبشر ويحرص على توفير الحد الأدنى اللازم منها ليحفظ كرامتهم وإنسانيتهم.
  • بعد قانوني؛ يتطلب تنظيم العلاقة بين الحكام والمحكومين استنادا إلى عقد اجتماعي يوازن بين مصالح الفرد والمجتمع([13]) .

وهي: “علاقة عضوية بين الفرد والوطن، تنهض على أساس مجموعة من القيم، وتستند إلى مجموعة من الشروط، والضمانات، وترتب مجموعة من الحقوق والواجبات المتبادلة على طرفيها؛ ومن ثم فهي تأخذ العديد من التطبيقات التي تختلف باختلاف المجتمعات والمراحل التاريخية”([14]).

فالمواطنة من تعريفها السابق؛ تعتبر رابطة قانونية؛ تنظم حقوق الأفراد والجماعات وواجباتهم في الدولة، وعلاقتهم بدولتهم، وحكامهم، وعلاقتهم مع بعضهم بعضا؛ وبموجب حق المواطنة فالجميع متساوون أمام القانون، فلا يجوز تمييز فئة على أخرى بسبب الدين أو النوع أو أي وصف آخر.

المحور الثاني: الحرية الدينية والمواطنة في الدولة الإسلامية

 تكونت الدولة الإسلامية؛ منذ نشأتها بالمدينة تحت قيادة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ من رعايا مختلف الديانات: المسلمون من المهاجرين والأنصار، وأهل الكتاب من اليهود، وبقايا مشركي المدينة؛ وقد أطلق عليهم رعايا الدولة الإسلامية([15])، وإن كان معنى “الرعية” كما جاء في الحديث الشريف([16])، ينطبق على عدة صور من المسئولية، إلا أن القدر المشترك؛ هو رعاية جميع حقوق الرعية.. ورعاية جميع الحقوق المشروعة هي لب كلمة “المواطنون” بحسب المصطلح المعاصر، فلا وجه للتفريق بين مدلول الرعايا والمواطنين في المجتمع الإسلامي([17]).

كان الفقهاء يطلقون على الدولة الإسلامية اسم (دار الإسلام)، كما كانوا يصفون الأفراد الذين يستوطنون فيها بأنهم (أهل دار الإسلام) أي من أتباع الدولة الإسلامية، وكان ارتباط الأفراد بالدولة ارتباطا خاصا، لا يشبه ارتباط الفرد بالفرد؛ لأن الدولة الإسلامية ليست فردا، وإنما هي منظمة سياسية، كما لا يشبه ارتباط الفرد بالأمة؛ لأن الأمة ليست منظمة سياسية كالدولة، فرابطة أفراد شعب (دار الإسلام) بهذه الدار رابطة سياسية وقانونية؛ لأن الدولة الإسلامية وهي منظمة سياسية طرف فيها، ولأن آثاراً قانونية تنتج عنها، ويلتزم بها الفرد والدولة، فهذه الآثار هي الحقوق التي يتمتع بها الفرد في ظل الدولة والواجبات التي يلتزم بها قِبَلَهَا، وهذه الرابطة هي الجنسية بمفهومها الحديث، وإن لم يسمها الفقهاء بهذا الاسم([18]). وسأحاول في هذا المحور بحث  أمرين:

الأول: مفهوم دار الحرب ودار الإسلام وعلاقته بالحريات الدينية:

لقد نشأ تعبير دار الإسلام منذ اعتبرت دار الهجرة – المدينة- في زمن النبي صلى الله عليه وسلم هي دار الإسلام “فلما أسلم أهل الأمصار صارت البلاد التي أسلم أهلها هي بلاد الإسلام، فلا يلزمهم الانتقال منها”([19]).

وبالمقابل ظهرت دار الحرب وهو ما عبر عنه ابن حزم بقوله. “وكل موضع سوى مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد كان ثغرا، ودار حرب ومغزى جهاد”([20])، السؤال المشروع؛ ما هو المعيار الذي تم التقسيم على ضوئه؟ فالأستاذ أبو الأعلى المودودي؛ يرى: (أن الدولة الإسلامية تقسم القاطنين بين حدودها إلى قسمين: قسم يؤمن بالمبادئ التي قامت عليها الدولة، وهم المسلمون، وقسم لا يؤمن بتلك المبادئ، وهم غير المسلمين)([21]).

ووافقه الدكتور عبدالكريم زيدان بقوله: (الشريعة تُقَسم البشر على أساس قبولهم للإسلام أو رفضهم له، بغض النظر عن أي اختلاف بينهم)، ويستخرج من بعض آيات القرآن الكريم: أن الناس أحد اثنين: إما مؤمن برسالة الإسلام، وهو المسلم، وإما كافر بها، وهو غير المسلم([22])، غير أن هذا المعيار العقيدي لقسمة الناس ليس هو الأوحد المأخوذ به.

فالأحناف والزيدية يرون أن القضية الفاصلة تَوَفُّر عنصر – الأمان – بالنسبة للمقيمين فيها. فإذا كان الأمن فيها للمسلم على الإطلاق، فهي دار إسلام. وإن لم يأمنوا فيها فهي دار حرب. ومن الباحثين من يذهب إلى القول بأنه إذا تحقق الأمان للمسلمين، وإذا أقيمت الشعائر الإسلامية أو غالبها كانت البلاد دار إسلام، حتى ولو غلب عليها حاكم  كافر([23])، والأستاذ الدكتور عبد الوهاب خلاف يؤيد الرأي القائل بأنه “ليس مناط الاختلاف الإسلام وعدمه، وإنما مناطه؛ الأمن والفزع”([24])، وهو ما يؤيده الدكتور: صبحي محمصاني، في قوله: إنّ الإسلام “لم يُمَيِّز بين المسلمين وغير المسلمين على اعتبار اختلاف الدين. كما لم يميز بين المواطنين والأجانب على أساس جنسيتهم أوتابعيتهم. فلذا، من الخطأ الناتج عن الجهل والتضليل، زعم بعض الكتاب أن صفة المواطن كانت للمسلمين وحدهم، وأن غير المسلمين كانوا جميعاً من الأجانب”([25])، ويقول في موضع آخر، أن الإسلام “لم يتعرف إلى فكرة الجنسيات، بل صنف الناس على أساس صفة المسالمة والمحاربة، ووزعهم من ثم بين مسالمين وهم الأصل، وحربيين وهم المستثنى، ثم اعتبر الحربيين وحدهم أجانب بطبعهم، واعتبر بلادهم بلاد العدو أو دار الحرب”([26]).

وهذا المعيار الثاني هو الأقرب إلى المنطق الذي عالج به الرسول صلى الله عليه وسلم مسألة الآخرين، فضلا عن أنه المنطق الأكثر قبولا حتى في لغة الواقع المعاصر. ودليلنا الأول على ذلك من السيرة النبوية ذاتها: فالرسول صلى الله عليه وسلم عندما وقّع أول معاهدة مع الآخرين، من قبائل العرب الأخرى واليهود، نصت المعاهدة التي تعد أول دستور للدولة في الإسلام، على “أن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم([27])، ودليلنا الثاني: أن تعريف دار الإسلام، وإن بدأ مرتبطاً بأرض هاجر إليها المسلمون الأُوَل، إلا أنه لافتة على كل بلد تطبق فيه الشريعة الإسلامية. وهو ما تقول به الأغلبية الساحقة من الفقهاء. وفي ذلك يقول الإمام السرخسي، – الذي يُعَد أبو القانون الدولي في التاريخ الإسلامي – إنّ دار الإسلام اسم للموضع الذي يكون تحت يد المسلمين، وعلامة ذلك أن يأمن فيه المسلمون”([28])، وقالها الكاساني بوضوح شديد”الذمي من أهل دار الإسلام”([29])، وعرفها بنفس الوضوح الأستاذ الدكتور عبد الوهاب خلاف بقوله إنها: “الدار التي تجري عليها أحكام الإسلام، ويأمن فيها بأمان المسلمين، سواء كانوا مسلمين أم ذميين”([30]).

هنالك عدة أمور ينبغي ملاحظتها في هذا المجال:

الأمر الأول: أن كل هذه الآراء، سواء منها ما يتعلق بتصنيف الخلق أو قسمة الأرض والديار، لا تستند إلى نصوص شرعية من كتاب أو سُنة، وإنما هي اجتهادات طرحها الفقهاء والباحثون في ضوء قراءتهم للواقع الذي عايشوه.

الأمر الثاني: أن أكثر هذه الآراء تخاطب عالما غير عالمنا الذي نعيشه الآن. إذ أنها تتحدث عن عصور غابت فيها فكرة الوطن الذي يضم بشرا متعددي الأديان والأصول العرقية، كما غاب فيها القانون الدولي، ولم تعرف المنظمات الدولية.

الأمر الثالث: أن دار الإسلام التي تحدث عنها الفقهاء السابقون؛ لم يعد لها وجود إلا في كتب التاريخ؛ وأن ديار المسلمين صارت موزعة بين أوطان عديدة أكثر من خمسين دولة؛ فضلا عن أن أسماءها باتت مرتبطة بالأجناس والقوميات، وأحيانا بأسماء الأسر والعائلات! (أربع دول فقط هي التي أضافت الصفة الإسلامية إلى اسمها الرسمي، اثنتان آسيويتان هما: باكستان وإيران، وواحدة أفريقية هي جزر القمر، وواحدة عربية هي موريتانيا)!

الأمر الرابع: أن دار الحرب لم تعد واقعة في مربع الآخرين من غير المسلمين بالضرورة، بل إن أكثر حروب المسلمين في زماننا باتت فيما بين ديار الإسلام ذاتها، وأقلها بين المسلمين وغير المسلمين([31]).

الأمر الخامس: إذا طبقنا مبدأ المصلحة الذي تلحظه أحكام الشرع؛ لوجدنا أن مصلحة المسلمين اليوم؛ تقتضي التعامل مع الواقع بالرجوع إلى الأصل في العلاقة بين المسلمين وبين غيرهم؛ وهو مبدأ السلم الذي تسنده نصوص شرعية كثيرة قطعية الورود والدلالة،وتسنده قاعدة تغير الفتوى بتغير الزمان والمكان والأحوال والعادات…الخ أي تغير الواقع.

الثاني: المواطنة كأساس للحقوق والواجبات في الدولة الإسلامية:

لقد عاش المسلمون مع غيرهم ممن يخالفونهم في العقيدة، يشاركونهم الحياة المجتمعية في رابطة إنسانية نابعة من الإسلام([32])، فدستور المدينة يقرر “أن المواطنة في الدولة الإسلامية تتسع لتشمل غير المسلمين من أبناء الوطن الأصليين، وأولئك الذين يختارون أن ينضموا إلى جماعة الإسلام السياسية”([33]).

فالمواطنة في الدولة الإسلامية الأولى؛ لم تنحصر في المسلمين وحدهم، بل امتدت لتشمل اليهود المقيمين في المدينة، واعتبرتهم “الوثيقة” من مواطني الدولة – أمة مع المؤمنين – وحددت مالهم من الحقوق وما عليهم من الوجبات، وهذا ما نراه في البند رقم (27) “وأن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين..” ولم يقف الأمر عند يهود بني عوف وحدهم، وإنما امتد لباقي قبائل اليهود، بل إن بعض بنود “الوثيقة” تنص على واجبات على المشركين من أهل المدينة، مما يشير إلى أنهم دخلوا في حكم الدولة الجديدة، وخضعوا لأسس تنظيمها؛ التي وردت في وثيقتها، وأوضح هذه البنود البند رقم (22) “وأنه لا يجير مشرك مالا لقريش ولا نفساً ولا يحول دونه على مؤمن” وهكذا يتبين أن عنصر الإقليم، “المدينة” والإقامة فيه عند نشأة الدولة هو الذي أعطى اليهود والمشركين حق المواطنة، وضمن لهم التمتع بالحقوق التي كفلتها “الوثيقة” بعد أن كان هذا الحق يقوم بين القبائل على أساس صلتها أو انحدارها من أصل مشترك، كما كان في الجاهلية([34]).

إن منهج الإسلام يحفظ للإنسان حقوقه وكرامته لمجرد كونه إنساناً يحمل بين جنبيه قبساً من روح الله؛ يعترف له بهذه الحقوق  بغض بالنظر عن نوعه، أو جنسه، أو لونه،أو معتقده؛ والنص القرآني: )وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي البَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً( [الإسراء:70]. يؤكد ذلك؛ ويعد قاعدة أساسية في التعاليم الإسلامية يجب الالتزام بها، وهو حق من حقوق الله واجب الصيانة والحماية.

بهذا اهتدى الفقيه الحنفي ابن عابدين في حاشيته عندما قرر وهو يعلن موقفه المنحاز لكرامة الإنسان بأنه: (إذا اختلف اثنان على طفل أحدهما مسلم والآخر غير مسلم؛ وادعى الأول أن الطفل عبد له، بينما ادعى غير المسلم أنه ابن له، أُلْحِق الطفل بالثاني، الذي ادعى البُنُوَّة حيث تُفَضّل حريته وأن ينشأ على غير الإسلام، على عبوديته في ظل الإسلام([35]).

كان مجتمع المدينة المنورة؛ هو المجتمع الذي يجسد نموذج المجتمع الإسلامي الأول، وكان يضُم اليهود بطوائفهم الثلاث: بني قريظة، وبني قينقاع، وبني النضير، والمسلمين بمجموعتيهم: المهاجرين والأنصار، وكانت مجموعة الأنصار تضم الأوس والخزرج، وهناك المشركون من العرب الذين كانوا أيضا يقيمون في المدينة؛ كل هؤلاء يتمنعون بكافة الحقوق الإنسانية. بل “في المجتمع الإسلامي المدني (في المدينة المنورة) ظهر صنف غير معهود من المخالفين، إنه المنافق؛ الذي تسَتَّر بالإسلام وتظاهر به، وانضوى في مجتمع الإسلام؛ ليتمكن من الكيد له ولدينه ولنبيه صلى الله عليه وسلم، وعلى الرغم من أنّ هذا المخالف يُعَدُّ أخطر صنف على الإسلام ودينه وبنيانه؛ لكونه آتيا من عمق المجتمع ومن صميمه؛ إلا أن الإسلام عمِل على استيعابه، واحتوائه، وتجنب الصدام معه، فأفسح له المجال للمشاركة في فعاليات حياة المجتمع المسلم؛ في العبادات، والمعاملات، والجهاد، والاطلاع على بعض بواطنه وأسراره، فلم يصدر عنه غير التثبيط، والإحباط، والفَتِّ في العَضُد، والطَّعن في الظهر؛! فقُوبل بالصبر، وسعة الصدر، قال عبدالله بن أُبَيْ زعيم المنافقين مُستغِلاًّ خلافاً بَيْن أحد المهاجرين ورجل أنصاري: والله لئن رجعنا إلى المدينة ليُخرِجنَّ الأعزُّ منها الأذلَّ، فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق، فقال صلى الله عليه وسلم: “دعه لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه”([36]).

هذا النهج الذي اتبعه الإسلام في إدارة التنوع، مكّن المجتمع الإسلامي؛ من الاستفادة من كل طاقات مكونات المجتمع، وتكوين رأي عام متسامح مع المختلف، مما شكَّل لوحةً متنوعةً في ظل الوحدة. قال خلف المثنى، لقد شهدنا عشرة في البصرة، يجتمعون في مجلس لا يُعرف مثلُهم في الدنيا علماً ونباهةً، وهم الخليل بن أحمد صاحب النحو وهو سُنِّي، والحِمْيَري الشاعر، وهو شيعي، وصالح بن عبد القدوس، وهو زنديق ثَنَوِي، وسفيان بن مجاشع، وهو خارجي صُفْري، وبشّار بن بُرد، وهو شُعوبي خليع ماجن، وحمّاد عجْرد، وهو زنديق شعوبي، وابن رأس الجالوت الشاعر، وهو يهودي، وابن نظير المتكلم، وهو نصراني، وعمر بن المؤيّد، وهو مجوسي، وابن سنان الحرّاني الشاعر، وهو صابئ؛ ..هؤلاء جميعا، كانوا يجتمعون فيتناشدون الأشعار ويتناقلون الأخبار، ويتحدثون في جوٍّ من الودّ لا تكاد تعرف منهم أن بينهم هذا الاختلاف الشديد في دياناتهم ومذاهبهم([37])، هذا المشهد يؤكد حجم التسامح الذي كان عليه المجتمع الإسلامي تاريخيا، وكيف أن الإسلام قد أسس لإدارة التنوع للاستفادة من كل الطاقات، وفي عصرنا الحاضر؛ بتعقيداته، وعلاقاته السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والإدارية؛ فإن المجتمع أحوج ما يكون لهذا التنوع وحسن إدارته. ما سبق يؤكد أن الإسلام كان سباقا بتجسيد مفاهيم الحرية الدينية، وتطبيق المبادئ التي تقوم عليها المواطنة.

المحور الثالث: الحرية الدينية وحرية التعبد

لقد حدد الإسلام منهجاً واضحاً للتعامل مع غير المسلمين، يقوم على الآتي:

أولاً: عدم الإكراه في العقيدة والشعائر: إنّ الأمر المطلوب إدراكه ابتداء هو: (أنّ المسلمين ليسوا أوصياء على العالم بأسره، خلافا لما يتوهّم الآخرون. وإنما هم أُمَناء على تبليغ مشتملات الدعوة الإسلامية، في العقيدة، والعبادة، والشريعة، والأخلاق، والآداب، وهذا الأساس واضح المعالم، في صريح القرآن الكريم، الذي وجه النبي محمدا صلى الله عليه وسلم إلى هذا المنهج في آيات كثيرة منها قوله تعالى: )لَسْتَ عَلَيْهِم بِمُسَيْطِرٍ( [الغاشية:22]، وقوله سبحانه: )وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الحَقُّ قُل لَّسْتُ عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ( [الأنعام:66]، وقوله تعالى: )نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا  أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ( [ق:45]، دلَت هذه الآيات على أن النبي عليه الصلاة والسلام لا سلطان له على أحد من الناس فكذلك أتباعه)([38]).

والنص القاطع في هذا المجال هو قوله تعالى: )لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الوُثْقَى لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ( [البقرة:256]، وقد يستغرب كثيرون أن نزول الآية التي تدعو إلى عدم الإكراه في الدين، كان ــ وقتئذ ــ في صالح اليهودية، وليس لصالح الإسلام. وإن اعتبرت الآية نقطة مضيئة ومشرّفة في تعاليم الدين وأدب الدعوة إلي الله، وفي تاريخ الأديان! يروي الطبري في تفسيره لهذه الآية أنه كان من عادة نساء قبيلة الأوس اللاتي يُنجبن أولادا قصار  العمر، في الجاهلية، أن تُنذر الواحدة منهن، إذا جاءها ولد، أن تُهَوِّده حتى يطول عمره. وكانت النساء يُرسلن أبناءهن إلى قبيلة بني النّضير اليهودية. وعندما جاء الإسلام، وأمر الرسول بإجلاء بني النضير، بعد رصيد الدَّس والتآمر الذي مارسوه ضد الدين الوليد، وضد نبي الإسلام الذي حاولوا قتله مرّتين، وقتئذ كان بعض أبناء الأوس الذين تَهَوَّدُوا بين القبيلة، فأراد آباؤهم أن يُجبروهم على الإسلام، والانضمام إلى مُعَسْكر الرسول، فنزلت الآية داعية إلى رفض الإكراه في الدين … وبقي هؤلاء على اليهودية([39]).

وينقل الطبري رواية أخرى، عن ابن عباس. تقول: إنّ رجلاً من بني سالم بن عوف يقال له الحُصين، كان له ولدان مسيحيان، وهو مسلم، فسأل الرسول عليه الصلاة والسلام، أن يُرغِم وَلَدَيه على اعتناق الإسلام، بعد أن أصَرَّا على التّمسُّك بالمسيحية، فنهاه الرسول عن ذلك، ونزل قوله تعالى: )لا  إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ( وقد بلغ من حرص المسلمين الأوائل، على الالتزام بهذه القاعدة، أن جاءت امرأة مشركة إلى الخليفة عمر بن الخطاب، في حاجة لها، فدعاها أمير المؤمنين إلى الإسلام، لكنها رفضت، فقضى لها حاجتها، ولكنه خشي أن يكون في مَسْلكه هذا ما يَنطوِي على استغلال حاجتها لمحاولة إكراهها على الإسلام؛ فاستغفر الله مما فعل، وقال: (اللهم إني أَرْشَدتُ وَلَمْ أُكْرِه)([40])، وقد استقر هذا المبدأ الشرعي العظيم، واحداً من أُسُس التفكير الإسلامي، حتى أَلْقَى بظله على الكثير من الاجتهادات الفقهية، في مختلف نواحي السلوك الإنساني. ومن القضايا الطريفة والمهمة – بهذا الصدد، ذلك الجدل الفقهي الذي أثير حول حق الزوج المسلم في مناقشة زوجته غير المسلمة، في مسألة إسلامها، وهل يُعدّ ذلك في ظل عقد الزواج القائم بينهما من قبيل الإكراه على اعتناق الإسلام أم لا؟. فقد رأى الشافعي ألاّ يُفاتِح الرجل زوجته في هذا الأمر، ولا يعرض عليها الإسلام، “لأن فيه تعرضا لهم، وقد ضَمِنَّا بِعَقْد ِالذِّمَّة ألاَّ نَتَعَرَّضَ لهم”. بينما يرد الأحناف بقولهم: يعرض الإسلام على الزوجة، لمصلحة من غير إكراه!([41]).

إن مبدأ عدم الإكراه يؤدي إلى النتائج الآتية:

  • أن الرسول صلى الله عليه وسلم مكلف بالبلاغ والتبشير وليس الإكراه.
  • أن على الدعاة أن يلتزموا بآداب معينة هي:
  • الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن.
  • عدم التعرض لعقائد الآخرين بالإساءة، وعدم الجهر بالسوء إلا في حالة الظلم.
  • دفع السيئة بالحسنة.
  • دعوة الآخرين إلي التمسك بالمشترَك.
  • حساب الذين لم يستجيبوا للدعوة على الله.
  • الاختلاف لا يلغي الحقوق.
  • إتاحة الفرصة لحرية الاختيار.
  • أن الحجة والبرهان هما سلاح المؤمن في الدعوة، وأن الحوار هو منهج الإسلام مع المخالفين([42]).

ثانياً: العدل حق للجميع وإن اختلفت العقائد:

الإسلام أقر الكرامة الإنسانية للجميع كما ورد في الآية (70) من سورة الإسراء وهذا التكريم يقتضي التعامل مع الإنسان بالأسلوب الذي يحفظ هذه الكرامة، ونهج الإسلام في هذا المجال يقوم على أسس تحقق في جملتها العدل في التعامل مع التنوع وذلك وفق الأسس الآتية:

الأساس الأول: المحافظة على البراءة الأصلية لكل الناس، مهما كانت عقائدهم، فاختلاف العقيدة لا يبيح ظلمهم، أو اتهامهم بما لم يفعلوا، وفي نصوص القرآن جاءت براءتهم عندما اتهموا ظلما من قبل أحد المسلمين؛ كما في قصة طعمة بن أُبَيْرق؛ التي وردت في سورة النساء، وفيها براءة اليهودي ومعاقبة المسلم([43]).

الأساس الثاني: قبول ما يأتي منهم إن كان حقا، ولا تحول العقيدة بينهم وبين الاعتراف لهم بالفضل، إذا صدر منهم، كما جاء في سورة المائدة: )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ( [المائدة:8]، وآية آل عمران: )وَمَا  يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَن يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ( [آل عمران:115].

الأساس الثالث: التسامح والتّراحُم، مهما اختلفت العقائد، فقد أجاز الإسلام للمسلم، أن يتزوج من نساء أهل الكتاب، وبالتالي تُصبح الكتابية زوجته، وأم أولاده، وإخوانها نَسَائِبُه، وأخوال أولاده، وأمها بمثابة والدته، وهي جدة لأولاده، وأبوها جد لهم، وهكذا، فيصبح بين المسلمين وأهل الكتاب مصاهرة وقرابة لها حقوق ونفقات وتكافل، وقد أمر القرآن الكريم بالإحسان إلى الوالدين حتى ولو جاهدا على إضلال أولادهما. فقال تعالى: )وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ( [لقمان:15].

الأساس الرابع: الالتزام بالآداب الراقية عند الجدال، حيث خصَّ الله تعالى الجدال مع أهل الكتاب؛ بأن يكون بالأحسن صورة، وشكلا، وأسلوبا، ولغة، ومنطقا، فقال تعالى:” وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ” [العنكبوت:46]، فقد طبق الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك في حواراته معهم، وفي تعامله معهم؛ حيث كان يزورهم، ويحسن إليهم، ويعود مرضاهم، بل يسمح لهم أن يصلوا صلاتهم في مسجده عرضا، فقد روى علماء السيرة بسندهم “أنه لما قدم وفد نجران على رسول الله صلى الله عليه وسلم  دخلوا عليه مسجده بعد صلاة العصر، فحانت صلاتهم، فقاموا يصلون في مسجده، فأراد الناس منعهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم دعوهم “فاستقبلوا المشرق فصلوا صلاتهم”([44])، وقد علق على ذلك ابن القيم فقال: (جواز دخول أهل الكتاب مساجد المسلمين، وفيها تمكينهم من صلاتهم بحضرة المسلمين، وفي مساجدهم أيضا إذا كان ذلك عارضا..([45]). وعلى هدي الرسول سار خلفاؤه من بعده. فإذا بنا نجد عمر بن الخطاب حين يدخل بيت المقدس فاتحاً يُجيب السكان المسيحيين إلى ما اشترطوه: من ألاّ يُساكنهم يهودي. وتحين صلاة العصر وهو في داخل كنيسة القدس الكبرى، فأبى أن يصلى فيها، كيلا يتخذها المسلمون من بعده ذريعة للمطالبة بها واتخاذها مسجدا.!) ونجد أمير المؤمنين وقد شكت إليه امرأة مسيحية من سكان مصر أن عمرو بن العاص قد أدخل دارها في المسجد كرها عنها. فيهتم خليفة المسلمين، ويسأل عمرا عن ذلك، فيخبره أن المسلمين كثروا، وأصبح المسجد يضيق بهم، وفي جواره دار هذه المرأة. وقد عرض عليها عمرو ثمن دارها، وبالغ في الثمن فلم ترض. مما اضطر معه عمرو إلى هدم دارها وإدخاله في المسجد، ووضع قيمة الدار في بيت المال، تأخذه متى شاءت. ومع أن هذا مما تبيحه القوانين المعاصرة، وهي حالة يُعذر فيها عمرو على ما صنع؛ فإن أمير المؤمنين لم يقبل ذلك، وأمر عمرا أن يهدم البناء الجديد من المسجد، ويعيد للمرأة المسيحية دارها كما كانت([46]).

ومما يدهش له أن العصور الإسلامية الأولى، كان تعاملها متفوقاً على كثير من الدول، وبعض المجتمعات الإسلامية المعاصرة، مما يقتضي ذكر بعض النماذج التي تعاملت بها الدولة الإسلامية التاريخية، حتى يتبيَّن المُعاصرون كيف يكون التَّعامُل ليقتدوا بسلفهم الصالح في هذا المجال. “لقد بلغ المجتمع الإسلامي حدودا تفُوقُ التَّصوُّر، في توفير حرية الاعتقاد للآخرين، في العصور المبكرة من التاريخ الإسلامي – وهو ما ينكره الباحثون غير المنصفين، وما تضيق به للأسف صدور بعض الدعاة الإسلاميين في عالم اليوم – “لقد مد المسلمون تلك الميزة (حرية الاعتقاد) التي منحها الله لليهود والمسيحيين والصابئين في القرآن، حتى شملت الزرادشتيين، والهندوسيين، والبوذيين، والموالين للديانات الأخرى عندما اتصلوا بهم”([47]). كما اعترف للمجوس بأنهم أهل ذمة، منذ قبلت منهم الجزية على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي القرن الرابع الهجري كان لهم – كاليهود والنصارى- رئيس يمثلهم في قصر الخلافة ودار الحكومة([48]).

واحترم الإسلام شرائع الملل الأخرى، حتى ولو تناقضت مع تعاليمه، كما هو معروف، في موضوع الخمر ولحم الخنزير، بالنسبة للمسيحيين. وامتد هذا الاحترام حتى شمل ممارسات المجوس، وهم ليسوا أهل كتاب. ففي المُغني لابن قدامة: أن مجوسيا تزوج ابنته، فأولدها بنتا، ثم مات عنها فكانت لها الثلثان مما ترك([49])، وهو الأمر الذي أثار حفيظة الخليفة عمر بن عبد العزيز، فكتب إلى الحسن يسأله: ما بال من مضى من الأئمة قبلنا، أقروا المجوس على نكاح الأمهات والبنات. فكتب إليه الحسن قائلا: أما بعد، فإنما أنت متبع ولست بمبتدع([50]) يعني أن الرسول عاملهم كأهل ذمة، لهم شرائعهم الخاصة التي أُقِرُّوا عليها. وهو ما نفهمه من إشارة أبي عبيد صاحب “الأموال” إلى قول عبدالله بن عون: سألت الحسن البصري عن نيران المجوس، لم تركت؟ قال: على ذلك صُولِحوا([51]).

بل أكثر من ذلك فإن الرسول صلى الله عليه وسلم قبل هدايا أهل الكتاب، واحترمهم حتى كان يقف عندما تَمُرُّ جنازة أحدهم، وعندما سُئِل عن ذلك قال: “أليست نفساً” فقد روى البخاري ومسلم بسندهما عن جابر بن عبدالله، قال: “مر َّبنا جنازة، فقام لها النبي صلى الله عليه وسلم فقمنا به، فقلنا: يا رسول الله: إنها جنازة يهودي، قال: “إِذَا رَأَيْتُم الجَنَازَةَ فَقُومُوا”([52])، ورويا كذلك، عن سهل بن حنيف، وقيس بن سعد: أن النبي صلى الله عليه وسلم مرت به جنازة فقام، فقيل له: إنها جنازة يهودي، فقال: “أَلَيْسَتْ نَفْسًا؟”([53])، قال الحافظ بن حجر: “ومقتضى التعليل بقوله “أليست نفْسا” أن ذلك يُسْتَحَبُّ لكل جنازة”([54]).

وهنالك شهادات من بعض الكتاب الغربيين تؤكد هذا المعنى. يقول المؤرخ الفرنسي “جوستاف لوبون([55]): “رأينا من آي القرآن أن مسامحة محمد لليهود والنصارى كانت عظيمة إلى الغاية، وأنه لم يقل بمثلها مؤسسو الأديان التي ظهرت قبله كاليهودية والنصرانية على وجه الخصوص”([56])، ويقول: “ول ديورانت”([57])، في موسوعته قصة الحضارة([58])، لقد كان أهل الذمة – المسيحيون، والزرادشتيون، واليهود، والصابئون – يستمتعون في عهد الخلافة الأموية بدرجة من التسامح لا نجد لها نظيرا في البلاد المسيحية في هذه الأيام، فلقد كانوا أحرارا في ممارسة شعائر دينهم، واحتفظوا بكنائسهم ومعابدهم”. ويقول: “وكان المسيحيون في بلاد آسيا الغربية، خارج حدود الجزيرة العربية، يمارسون شعائر دينهم بكامل حريتهم، وبقيت الكثرة الغالبة من أهل بلاد الشام مسيحيين حتى القرن السادس الإسلامي.

ويحدثنا المؤرخون أنه كان في بلاد الإسلام، في عصر المأمون، أحد عشر ألف كنيسة، كما كان فيها عدد كبير من هياكل اليهود، ومعابد النار، وكان المسيحيون أحرارا في الاحتفال بعيدهم علنا، والحجاج المسيحيون يأتون أفواجا آمنين لزيارة الأضرحة المسيحية في فلسطين. وأصبح المسيحيون الخارجون على كنيسة الدولة البيزنطية، الذين كانوا يَلْقون صورا من الاضطهاد على يد بطاركة القسطنطينية، وأورشليم، والإسكندرية، وأنطاكيا، أصبح هؤلاء الآن أحرارا آمنين تحت حكم المسلمين([59])، بل امتد منهج الإسلام للتعامل مع الآخر الذي تفصل بينه وبينه المسافات، مادام مسالما، واستطاع المسلمون أن ينقلون تجربتهم في التعامل مع التنوع إلى الغرب، من خلال تواصلهم مع الغرب، عبر نقاط التماس التي جمعتهم، وهنالك منصفون غربيون اعترفوا بفضل الإسلام على الغرب.

ويعد خطاب الأمير تشارلز ولي العهد البريطاني في هذا المضمار من أرقى وأنضج الخطابات الصادرة من الغرب، فقد قال كلمة ألقاها في مركز أكسفورد للدراسات الإسلامية عام 1993م جاء فيها: “إذا كان الغرب يُسيء فهم طبيعة الإسلام، فمازال هناك جهل كبير حول ما تَدين به حضارتنا وثقافتنا للعالم الإسلامي، إنه نقص نعانيه من دروس التاريخ الضيق الأفق، الذي ورثناه، فالعالم الإسلامي في القرون الوسطى إلى شاطئ الأطلسي، كان يعج بالعلماء ورجال العلم، ولكن بما أننا رأينا في الإسلام عدوا للغرب، وكثقافة غريبة بنظام حياتها ومجتمعها، فقد تجاهلنا تأثيره الكبير على تاريخنا. لم يعد باستطاعة العالمين الإسلامي والغربي البقاء بعيدين عن بعضهما البعض، وعدم الاشتراك في جهد مشترك لحل مشاكلهما المشتركة. إننا لا نستطيع العودة إلى الخلافات والتحديات الإقليمية، والسياسية الماضية. يجب أن نساهم معا في خبراتنا، وأن نشرح أمورنا كل للآخر، لنتفهم ونتسامح ونتحمل معا([60]).

في بداية الدعوة الإسلامية كانت المعايشة بين المسلمين وأهل الديانات الأخرى تقوم على التلقائية دون تعقيدات، وكان التداخل بين الناس بسيطا لا يخضع للقيود التي فرضتها الظروف الاستثنائية الطارئة. والتداخل بين أفراد المجتمع متاح بل كانوا يتبادلون الهدايا والمنافع كما يفعل الجيران في أي مجتمع. “لقد كان للرسول صلى الله عليه وسلم  جيران من أهل الكتاب. وظل يتعهدهم ببره، ويتبادل معهم الهدايا. حتى أن امرأة يهودية دست له السم في ذراع شاة أهدتها إليه، لما كان من عادته أن يتقبل هديتها ويحسن جوارها([61])، “ولما جاء نصارى الحبشة، أنزلهم رسول الله في المسجد، وقام بنفسه على ضيافتهم وخدمتهم، وكان مما قاله يومئذ: “إنّهم كانوا لأصحابنا مُكْرِمِين، فأُحِبُّ أنْ أُكْرِمَهم بنفسي”([62]).

المحور الرابع: الحرية الدينية وحرية السفر والتجارة

حقوق غير المسلمين، في الدولة الإسلامية، مكفولة لهم بموجب الكرامة الإنسانية والحرية الدينية وحرمة الدماء ولأموال، فلهم مطلق الحرية في الانتقال والسفر وممارسة التجارة داخل الدولة وخارجها، دون حجر ولا تقييد.

وبين الأستاذ الدكتور على محيي الدين القرة داغي([63]) في كتابه القيم “نحن والآخر “صورا من تعامل الدولة الإسلامية مع غير المسلمين منها قوله: “وقد ذكر العلماء هذه الحقوق قديما وحديثا، وفصلتها كتب الفقه، في المذاهب المعتبرة.. وممن ذكرها بالتّفصيل والتّأصيل من المعاصرين؛ الأستاذ الدكتور عبدالكريم زيدان، والعلامة الشيخ يوسف القرضاوي؛ مُعْتَمِدَيْن على نُصوصٍ كَثيرة، من الكتاب والسنة، نذكرها بإيجاز:

وجوب حماية الدولة لهم من الاعتداء الخارجي، والدفاع عنهم، ووجوب إنقاذ أسراهم.

  1. حماية ضرورياتهم السّت، وحاجياتهم: وعلى ذلك يجب توفير الحماية لنفوسهم، وأعراضهم وأموالهم، بل أكثر من ذلك، فإن الدولة يجب عليها حماية ما يعتبرونه مالا- مثل خمورهم، وخنازيرهم- مع أن ذلك لا يعتبر مالا، لو كان لدى المسلم؛ بل يجب إتلافه، بل لو قام مسلم بإتلاف خمورهم، وخنازيرهم، وجب عليه التعويض عند الحنفية([64]).
  2. التعامل معهم بالعدل، وحمايتهم من الظلم بجميع أنواعه وأشكاله: لقوله صلى الله عليه وسلم “أَلاَ مَن ظَلَمَ مَعَاهدا، أو انتقَصَهُ حَقّه، أو كَلّفه فوقَ طَاقته، أو أخذَ منه شيئاً بِغَير ِطِيبِ نَفْسٍ منهُ، فَأَنَا حَجِيجُهُ يومَ القِيامَة”([65]).
  3. تحقيق التكافل الاجتماعي لهم في حالة الفقر، والعجز والشيخوخة: فإذا أصبح المواطن غير المسلم فقيراً، أو عاجزاً أو شيخاً مُسِناً فإن الدولة لا تتركه يَتعرّض للاهانة والضياع، بل تُنصفه، وتَحميه، وتُقرر له العيش الكريم،  وليس هذا الحكم جديدا ومعاصرا، بل حدث ذلك في عصر أبي بكر الصديق رضي الله عنه، حيث كتب خالد بن الوليد لأهل الحِيرة بالعراق وكانوا نصارى ما نصه:” وجعلت لهم: أيُّما شيخ ضَعُفَ عن العمل، أو أصابته آفة من الآفات، أو كان غنيا فافتقر، وصار أهل دينه يَتصدّقون عليه طَرَحْت جِزيته، وعِيل من بيت مال المسلمين هو وعياله، ما أقام بدار الهجرة ودار الإسلام([66])، وروى أبو يوسف وغيره أن عمر رضي الله عنه مرّ بباب قوم وعليه سائل يسأل، شيخ كبير ضرير البصر، فضرب عضده من خلفه، فقال: (من أيّ أهل الكتاب أنت؟ قال: يهودي، قال: فما ألجأك إلى ما أرى؟ قال: أسأل الجزية، والحاجة والسن، فأخذ عمر بيده فذهب به إلى منزله ــ وأكرمه ــ بشيء، ثم أرسل إلى خازن بيت المال، فقال: انظر هذا وضرباءه، فوالله ما أنصفناه، إذ أكلنا شبيبته ثم نخذله عند الهرم…)([67]).

وقد تكرر ذلك في عصر عمر بن عبد العزيز، مما يمكن تسميته بالإجماع على أن الضمان الاجتماعي مبدأ عام يشمل أبناء المجتمع جميعا: مسلمين وغير مسلمين، فلا يجوز أن يبقى فيه إنسان محروماً من ضروريات الحياة وحاجاتها([68]) فقد نَصّ فقهاء الشافعية، على أن دفع الضرر عن المسلمين من فروض الكفاية، وأن ذلك يشمل أهل الذمة، حيث أن دفع الضرر عنهم واجب، وأن المراد بدفع الضرر هنا هو: تحقيق الكفاية، من المعيشة، والمسكن، والدواء، والغذاء، وليس ما يسُدُّ الرَّمَق على أصحّ القولين عندهم([69]).

5) احترام عهودهم وعقودهم مع المسلمين: فقد ذكر أبو يوسف(ت182هـ) أن أبا عبيدة رضي الله عنه، صالحهم بالشام على شروط في مقابل أن يوفر لهم الأمن والحماية من الأعداء، وحدث أن الروم قد جمعوا جمعا كبيرا خاف أبو عبيدة ألا يكون قادرا على حمايتهم، فكتب إلى ولاته على المدن يأمرهم: أن يردوا على أهل المنطقة ما جُبِيَ منهم من الجزية والخراج، وأن يقولوا لهم: إنما رَدَدْنا عليكم أموالكم؛ لأنه قد بلغنا ما جمع لنا من الجموع، وأنكم قد اشترطتم علينا أن نمنعكم، وإنا لا نقدر على ذلك… وإنا لكم على الشرط، وما كتب بيننا وبينكم إن نصرنا الله عليهم..([70]).

6) حماية حريتهم الدينية: كتب عمر بن الخطاب إلى عمرو بن العاص ـ عامله على مصر ـ كتاباً جاء فيه: ((..واعلم يا عمرو أن الله يراك ويرى عملك فإنه قال تبارك وتعالى في كتابه:)وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً([الفرقان:74]، يريد أن يقتدي بهم، وأن معك أهل ذمة وعهد، وقد أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم بهم وأوصى بالقبط، فقال: “استوصوا بالقبط خيراً فإن لهم ذمة ورحماً” ورحمهم أن أم إسماعيل منهم، وقد قال صلى الله عليه وسلم: “من ظلم معاهداً أو كلفه فوق طاقته فأنا خصمه يوم القيامة”([71]) احذر يا عمرو أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم  لك خصماً فإنه من خاصمه خصمه، والله يا عمرو لقد ابتليت بولاية هذه الأمة، وآنست من نفسي ضعفاً، وانتشرت رَعيّتي ورَقَّ عَظْمي، فأسأل الله أن يَقبِضَني إليه غير مُفرِّطٍ، والله إني لأخشى لو مات جمل بأقصى عملك، ضياعاً أن أسأل عنه يوم القيامة))([72]).

7) حرية العمل والمعاملات والعقود والأنكحة حسب معتقدهم: إن القاعدة العامة أن أهل الذمة في المعاملات، وحرية العمل والاكتساب مثل المسلمين، إلا أن لهم التعامل في بعض المحرمات في ديننا، يقول الجصاص الحنفي “إن الذِّمِّيِّين في المعاملات والتجارات، كالبيوع وسائر التصرفات كالمسلمين([73])، وصرح الكاساني بذلك بقوله: “كلُّما جاز من بُيوع المسلمين جاز منه بيوع أهل الذمة، وما يبطل، أو يفسد من بيوع المسلمين يبطل ويفسد في بيوعهم إلا الخمر والخنزير([74]).

8) تولّي وظائف الدولة: لأهل الذمة الحق في تولي وظائف الدولة إلا ما تغلب عليه الصبغة الدينية، أو ما يقتضيه دين الأغلبية([75])، هذه الحقوق أعلاه تكفل لكل الناس ومن بينها حرية الانتقال إلى أي مكان يريدون اللهم إلا تلك الأماكن التي تحمل صبغة دينية ويمنع منها صنف من الناس؛ كما منع المشركون من دخول المسجد بنص القرآن الكريم؛ كذلك فإن حرية التجارة مكفولة لكل الناس بغض النظر عن معتقداتهم وأديانهم؛ وكان اليهود يمارسون مهنة التجارة في المدينة المنورة حتى أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يتعامل معهم وتوفي ودرعه مرهونة عند يهودي! وعالم اليوم تطورت فيه أساليب السفر والتجارة وظهرت الشركات المتعددة للجنسيات والعابرة للقارات؛ حيث في الشركة الواحدة مساهمون وشركاء من كل الجنسيات ويدينون بديانات مختلفة؛ مما يؤكد تطور مفهوم الحريات الدينية وأثرها في المعاملات.

المحور الخامس: الحرية الدينية وحرية الصحافة

الحصول على المعلومات ونشرها؛ من الحقوق التي كفلتها المواثيق الدولية للإنسان، وصارت وسائط الإعلام هي الأدوات التي تنشر فيها الأخبار والأفكار حتى سميت الصحافة بالسلطة الرابعة؛ إشارة للسلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية في الدولة؛ وحرية الصحافة لاتتعارض مع الحريات الدينية؛ بل قال الفقهاء يجوز لغير المسلمين نقد الإسلام بقدر ماينقد عقائدهم؛ وهذا الحق تحكمه ضوابط حقوق المواطنة، وحدود الحرية، ومبادئ العيش المشترك.  

مع التطورات الكبيرة التي حدثت في حياة البشرية صار العالم يوصف بأنه أشبه بالقرية الكونية الواحدة ، بسبب علاقاته المتشابكة، ومصالحه المتداخلة، وأنشطته المشتركة ، ونتيجة لذلك أصبحت المعلومة تلعب دوراً كبيراً في العلاقات الإنسانية؛ لأن معظم القرارات والمواقف تتخذ بناء على المعلومات المتوفرة ، في هذا المناخ الكوني الجديد وجد الإعلام اهتماماً كبيراً؛ فعبره تروج السلع ، وعن طريقه تنشر الأخبار ، وعنده تتوفر المعلومات ، وتفنن الناس في تطوير وسائل الإعلام وتنوع برامجها لاستقطاب المشاهد والقارئ والسامع ، متعلماً أو باحثاً أو مستفتياً أو مستمتعاً فالكل يجد ضالته في وسائط الإعلام .

وعبر وسائل الإعلام تحققت فوائد كثيرة أذكر منها :

أولاً : التعرف على مختلف الآراء، وعناصر تماسكها، ونقاط قوتها وضعفها؛ بفضل إتاحة الفرصة لكافة الأطراف للتعبير عن رأيها بكل حرية مع دعمه بالأدلة التي يعتقد أنها تسنده، وفي نفس الوقت نقد الرأي المخالف ودحضه بحجج يتصور صاحبها أنها تهدم الفكرة التي هو ضدها، مع توفر الفرصة لصاحب الرأي المنتَقَد أن يرد على ناقده، وبهذا تعطي وسائط الإعلام رؤية متكاملة للمهتمين عن كل الأفكار والآراء؛ ليحكموا لها أو عليها؛ بناء على ما توفره لهم من معلومات تتعلق بالموضوع .

ثانياً : امتصاص النزعة العصبية القائمة على تضخيم الذات وتمييزها على الآخر؛ بسبب الجهل المتبادل، هذا الجهل ساهمت أجهزة الإعلام في إزالته بإتاحة الفرصة للمعرفة المتبادلة عن طريق الحوار المباشر بين المتناقضين أو من يعتقدون أنهم كذلك مما ساهم في تقليل حدة التعصب والتفاضل بين الناس .

ثالثاً : إيجاد مساحة في المجتمع لقيم التسامح والاعتدال والتعاون المشترك، مع محاصرة تيارات الغلو والتطرف أنى كان موقعها؛ فأصبحت شبه منبوذة في كثير من أنحاء العالم، مما يبشر بمستقبل أفضل للبشرية وللعوالم الأخرى إذا سارت الأوضاع على هذا النحو.

رابعاً : نشر مبادئ الشفافية وحقوق الإنسان وأهمية الحريات العامة التي كانت مغيبة في كثير من المجتمعات، وتسليط الضوء على أي حدث فيه تجاوز لهذه القيم في أي نقطة في أركان المعمورة ، وذلك بتوفير مناخ يسمح بتبادل الآراء بين كافة الأطراف في هذا الخصوص.

خامساً : تغطية المؤتمرات والمنتديات والملتقيات العلمية والفكرية والحوارية؛ ونشر الأوراق والوثائق المقدمة، مما ساهم في نشر الثقافة بأقل التكاليف، وبأسرع وقت ممكن، بصورة لم تكن متوفرة من قبل .

سادساً : إن إنشاء قنوات فضائية متخصصة في نشر ثقافة الوسطية ، أو إعطاء مساحة كبيرة للحوار في برامجها؛ يعتبر من أكبر الثمرات في مجال الإعلام.

غير أن حرية الصحافة والإعلام ينبغي أن تراعي الآتي:

  1. الالتزام بقيم المواطنة والعيش المشترك فتتجنب إثارة الفتنة وتشجيع التعصب.
  2. الابتعاد عن التعرض للمقدسات والرموز الدينية بالإساءة أو عدم الاحترام.
  3. استخدام الحرية الصحفية في تعزيز ثقافة الحوار واحترام الآخر.
  4. الالتزام بالمهنية ونشر المعلومة الصحيحة بعد التأكد من مصدرها والابتعاد عن الكذب.
  5. استخدام الحرية استخداما متوازنا بحيث لا يُلحق الضرر بحرية الآخرين.

الخاتمة

الحرية بكل فروعها تقوم في الإسلام على سبعة مبادئ هي:

الكرامة: قال تعالى: ) لاَ  إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ…( [البقرة:256].

الاستخلاف:  قال تعالى: ) وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً…( [البقرة:30].

تحمل أمانة التكليف:  قال تعالى: ) إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ إِنَّهُ     كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً( [الأحزاب:72].

عدم الإكراه: قال تعالى: )وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ( [يونس:99].

المسئولية: قال تعالى: ) وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ القِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنشُوراً  اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ اليَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً( [الإسراء:13-14].

العدل:  قال تعالى: ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِياًّ أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُوا الهَوَى أَن تَعْدِلُوا…( [النساء: 135].

المساواة أمام القانون: قال تعالى: ) إِنَّا أنزَلْنَا إِلَيْكَ الكِتَابَ بِالحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلاَ تَكُن لِّلْخَائِنِينَ خَصِيماً ( [النساء:105].

هذه المبادئ مكفولة لكل الناس؛ وعلى أساسها تصان حريتهم في تجلياتها المختلفة؛ الدينية، والفكرية، والثقافية، وحرية التنقل، والتجارة، وكل الحريات المنصوص عليها في مواثيق حقوق الإنسان الدولية. علينا أن نقرأ الميثاق العالمي لحقوق الإنسان بمنهج”… فَتَبَيَّنُوا وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً…[النساء: 94] ومنهج” كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى”[المائدة:8] فسنجد كثيرا من الحقوق والحريات التي نص عليها قد جاء بها الإسلام وطبقت في عهد النبوة وعهد الخلافة الراشدة؛ فنقول بكل ثقة: إنها بضاعتنا ردت إلينا.

التوصيات

أتقدم في ختام هذا البحث بالتوصيات الآتية:

أولاً: الحرية الدينية حق يمثل أسمى المشتركات الإنسانية وقد كفله الإسلام على أساس القاعدة القطعية “لا إكراه في الدين”.

ثانياً: المواطنة كأساس للحقوق والواجبات في الدولة الإسلامية وردت مضامينها في صحيفة المدينة عند تأسيسها للعلاقات. بين سكان المدينة المنورة؛ ومن هنا أكد الإسلام شرعية المواطنة قبل أن يتوصل إليها الفكر الإنساني بعدة قرون.

ثالثاً: الحرية الدينية تشمل كل مستلزمات الدين [العقائد والعبادات والشعائر والأفكار والممارسات والدعوة].

رابعاً: الحرية الدينية توفر كل الحقوق الإنسانية المدنية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية…الخ.

خامساً: حرية الصحافة والإعلام تكفلها الحرية الدينية مع مراعاة احترام المقدسات الدينية وقيم المواطنة.

هذا وبالله التوفيق ، ،

أهم المراجع:

  1. القرآن الكريم
  2. صحيح البخاري
  3. صحيح مسلم .
  4. فتح الباري
  5. لسان العرب لابن منظور
  6. مختار الصحاح للرازي
  7. السيرة لابن هشام
  8. البداية والنهاية لابن كثير
  9. التعصب والتسامح بين المسيحية والإسلام، الشيخ محمد الغزالي.
  10. مواطنون لا ذميون ، فهمي هويدي.
  11. نحن والآخر – دراسة فقهية تأصيلية ، أ.د. علي محيي الدين القرة داغي ، الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين – لجنة التأليف والترجمة.
  12. قصة الحضارة، ويل ديورانت.
  13. موسوعة الفقه الإسلامي المعاصر؛ أ.  د: وهبة الزحيلي.
  14. بحوث في الإسلام والمجتمع، د. علي عبد الواحد، القاهرة، 1977م.
  15. أحكام الذميين والمستأمنين في دار الإسلام ، د. عبدالكريم زيدان.
  16. العلاقات الدولية في الإسلام، د. وهبة الزحيلي .
  17. السياسة الشرعية، عبد الوهاب خلاف.
  18. القانون والعلاقات الدولية في الإسلام، د. صبحي محمصاني.
  19. مجموعة الوثائق السياسية للعهد النبوي والخلافة الراشدة، محمد حميد الله، دار النفائس للطباعة والنشر والتوزيع- بيروت الطبعة الثامنة 1430ه – 2009م.
  20. المواطنة في الإسلام ، أ. د. سعيد إسماعيل علي،. دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع والترجمة، الطبعة الأولى 1432ه -2011م – جمهورية مصر العربية – القاهرة
  21. التعايش السلمي بين المسلمين وغيرهم داخل دولة واحدة، هدايات سور حمن، الطبعة الأولى 1421هـ دار السلام للطباعة النشر – القاهرة.
  22. النظم السياسية، الدولة والحكومة، محمد حسين بكر.
  23. أحكام أهل الذمة، ابن القيم.
  24. 24-                       نظرية الإسلام وهديه، أبو الأعلى المودودي.
  25. الدولة المدنية؛ د سمير مراد ؛ مؤسس ومدير مركز الإمام الشافعي العلمي الأردن.
  26. التنوع في المجتمعات الإسلامية المعاصرة ودور الشورى في إدارته – رسالة ماجستير؛ عبد المحمود أبو

([1]) لسان العرب ومختار الصحاح

([2]) الحرية الدينية في الإسلام بين الشريعة والعقيدة؛ بحث منشور بقلم د/ نصر محمد الكيلاني في الفجر نيوز بتاريخ 2/10/ 2008م

([3]) المعجم الوسيط 1/165

([4]) الحرية الدينية في الشريعة الإسلامية أبعادها وضوابطها، الأستاذ الدكتور محمد الزحيلي، مجمع الفقه الإسلامي الدولي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي، الدورة التاسعة عشرة ، إمارة الشارقة – دولة الإمارات العربية المتحدة، اشتراكية الإسلام السباعي ص75، الإسلام وحقوق الإنسان، طبيعة، الحريات في النظام الإسلامي، ص21،

([5]) الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي، حرية الإنسان ص21

([6]) القاموس المحيط 4/225

([7]) الموسوعة الفقهية الميسرة1/890 نقلا عن الحرية الدينية في الشريعة ، مصدر سابق

([8]) المرجع السابق

(([9] الحرية الدينية وعقوبة الردة مناقشات وردود؛ د / عثمان علي حسن ، جامعة قطر

([10]) حقوق الإنسان ، الشيخ محمد الغزالي، ص 106

[11] الدولة المدنية، الدكتور سمير مراد ؛ مؤسس ومدير مركز الإمام الشافعي ؛ الأردن

(([12] مواضيع وأبحاث سياسية – دائرة المعارف البريطانية؛ منشور في موقع وزارة الأوقاف الكويتية

(([13] المرجع السابق

([14]) المواطنة في الإسلام ، أ. د. سعيد إسماعيل علي، صفحة 18 نقلا عن صلاح زرنوقة. دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع والترجمة، الطبعة الأولى 1432ه -2011م – جمهورية مصر العربية – القاهرة

([15]) أحمد قائد الشعيبي، وثيقة المدينة، مرجع سابق ص62

([16]) قال رسول الله e “كُلُّكُمْ رَاعٍ و كُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَن رَعِيَّتِهِ، الإمام رَاعٍ وَمَسْئولٌ عَن رَعِيَّتِهِ، والرَّجُلُ رَاعٍ فِي أَهْلِهِ وَهو مَسْئُولٌ عَن رَعِيَّتِهِ، والمَرْأةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا وَمَسْئُولَةٌ عَن رَعِيَّتِهاَ، وَالخَادِمُ رَاعٍ فَي مَالِ سَيِّدِهِ وَمَسْئُولٌ عَن رَعِيتِّهِ..”متفق عليه.

([17]) هدايات سور حمن، التعايش السلمي بين المسلمين وغيرهم داخل دولة واحدة، ص318 الطبعة الأولى 1421هـ دار السلام للطباعة النشر – القاهرة.

([18]) محمد حسين بكر، النظم السياسية، الدولة والحكومة، ص42، ط 1981 المصدر أحمد قائد الشعيبي، وثيقة المدينة، مرجع سابق.

([19]) ابن القيم، أحكام أهل الذمة، ج1 ص5.

([20]) ابن حزم، المحلى ج7 ص353.

([21]) نظرية الإسلام وهديه، أبو الأعلى المودودي ص331.

([22]) د. عبدالكريم زيدان، أحكام الذميين والمستأمنين ص10و11.

([23]) د. وهبة الزحيلي العلاقات الدولية في الإسلام ص106.

([24]) عبد الوهاب خلاف، السياسة الشرعية، ص77.

([25]) د. صبحي محمصاني، القانون والعلاقات الدولية في الإسلام ص12و25.

([26]) المرجع السابق: ص25.

([27]) محمد حميد الله، مجموعة الوثائق السياسية للعهد النبوي والخلافة الراشدة، ص 61، دار النفائس للطباعة والنشر والتوزيع- بيروت الطبعة الثامنة 1430ه – 2009م.

([28]) السرخسي، المبسوط 2/71.

([29]) الكاساني، بدائع الصنائع 5/181.

([30]) عبد الوهاب خلاف ص71. 

([31]) فهمي هويدي، مواطنون لا ذميون، ص 106-107.

([32]) أحمد قائد الشعيبي، وثيقة المدينة، ص64 مرجع سابق.

([33]) خالد صالح الحميدي، نشوء الفكر السياسي الإسلامي من خلال “صحيفة” المدينة، ص99 الطبعة الأولى 1994م دار الفكر اللبناني، بيروت.

([34]) محمد سليم العوا، في النظام السياسي للدولة الإسلامية، ص36 الطبعة الثانية 1987م المكتب المصري الحديث- القاهرة، انظر محمد ممدوح العربي، دولة الرسول r في المدينة (القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1988م) ص172-173 وأيضا: أحمد قائد الشعيبي، وثيقة المدينة- المضمون والدلالة، كتاب الأمة رقم (110) ص 65.

([35]) فهمي هويدي، حتى لا تكون فتنة، ص272، دار الشئون، الطبعة العاشرة2010، مصر القاهرة.

([36]) صحيح البخاري،  كتاب التفسير، باب سورة المنافقون، 4/1861 حديث رقم 4622.

([37]) د. مصطفى السباعي، من روائع حضارتنا 89 وكانت هذه المجالس العلمية الشعبية معروفة في عهد المأمون، الذي كانت له حلقة علمية يجتمع فيها علماء الديانات والمذاهب، وكان يقول لهم: ابحثوا ما شئتم من العلم من غير أن يستدل أحدكم بكتابه الديني حتى لا يؤدي ذلك إلى إثارة المشكلات الطائفية، كما يذكر الدكتور السباعي – المصدر مواطنون لا ذميون، فهمي هويدي ص74.

([38]) أ. د: وهبة الزحيلي، موسوعة الفقه الإسلامي المعاصر، 6/368.

([39]) رواه أبو داؤد والنسائي وابن أبي حاتم وابن جرير وغيرهم، راجع فهمي هويدي، مواطنون لا ذميون، ص 89-90.

([40]) د. علي عبد الواحد، بحوث في الإسلام والمجتمع، ص 73، القاهرة، 1977م.

([41]) د. عبدالكريم زيدان، أحكام الذميين والمستأمنين في دار الإسلام – ص 629.

([42]) راجع مواطنون لا ذميون الصفحات (93-95).

([43]) ابن كثير، تفسير القرآن العظيم المجلد الأول 528-531 دار كنوز اشبيليا للنشر والتوزيع، الطبعة الثانية 1430هـ 2009م.

([44]) أنظر ابن هشام 1/573، والسيرة لابن كثير4/100- 108.

([45]) زاد المعاد 3/638.

([46]) فهمي هويدي. مواطنون لا ذميون ص67.

([47]) د إسماعيل الفاروقي. الإسلام بين الديانات الآسيوية العظيمة، نيويورك- ماكميلان ص29 المصدر مواطنون لا ذميون – فهمي هويدي ص62، مرجع سابق.

([48]) آدم ميتز، الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري، ترجمة الدكتور محمد عبد الهادي أبوريده ص60 مرجع سابق ص62.

([49]) الشيخ محمد الغزالي، التعصب والتسامح بين المسيحية والإسلام، ص60

([50]) أبو عبيد القاسم، الأموال ص49.

([51]) فهمي هويدي، مواطنون لا ذميون ص 62 مرجع سابق.

([52]) صحيح البخاري مع الفتح، 3/179، ومسلم، كتاب الجنازة 2/659 الحديث رقم 960.

([53]) صحيح البخاري 3/179- 180، ومسلم 2/661، الحديث رقم: 961.

([54]) فتح الباري 3/181 أنظر : نحن والآخر – دراسة فقهية تأصيلية ، أ.د. علي محيي الدين القرة داغي ص 97 -100، الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين – لجنة التأليف والترجمة.

([55]) مؤرخ فرنسي مشهور (1841- 1931م) يعد من المستشرقين المنصفين، دافع عن حقوق المسلمين ضد الدول المستعمرة، وعني بالحضارات الشرقية.  من آثاره: حضارة العرب، الحضارة المصرية، وحضارة العرب في الأندلس. يراجع د. شوقي أبو خليل: جوستاف لوبون في الميزان، الطبعة الأولى، بيروت، دار الفكر المعاصر، دمشق، (1990م)، ص13.

([56]) حضارة العرب، ترجمة عادل زعيتر، القاهرة، مطبعة الحلبي، (1366هـ) ص128.

([57]) ويليام جيمس ديورانت (1885- 1981م) فيلسوف مؤرخ وكاتب أمريكي، من أشهر مؤلفاته كتاب قصة الحضارة والذي شاركته زوجته أريل ديورانت في تأليفه.

([58]) ترجمة : محمد بدران: الإدارة الثقافية في جامعة الدول العربية12/132.

([59]) قصة الحضارة، ويل ديورانت، مرجع سابق

([60]) انظر، مجلة الحرس الوطني ، المملكة العربية السعودية، العدد164/165ص99 نقلا عن بحث الأستاذ محمد مراح بعنوان “نحو رؤية إسلامية لتعارف الحضارات”

([61]) د مصطفى السباعي – من روائع حضارتنا ص84- 87.

([62]) البيهقي، دلائل النبوة.

([63]) أستاذ ورئيس قسم الفقه والأصول بجامعة قطر، والخبير بمجمع الفقه الإسلامي بمكة المكرمة، وجدة، وعضو المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث، وعضو مجلس الأمناء، والمكتب التنفيذي، ورئيس لجنة قضايا الأقليات الإسلامية بالاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.

([64]) يراجع بدائع الصنائع 5/143، وجواهر الإكليل 1/470، وحاشية الجمل 3/481، والأحكام السلطانية للماوردى ص145.

([65]) رواه أبوداود في سننه 3/437، الحديث رقم3052 قال العراقي: إسناده جيد، كما في تنزيه الشريعة 2/182، ط. مكتبة القاهرة، ورواه البيهقي في السنن الكبرى 5/205.

([66]) أبو يوسف، الخراج، بتحقيق الدكتور محمد إبراهيم البنا، ط. دار الإصلاح ص290.

([67]) المرجع نفسه، ص259.

([68]) د يوسف القرضاوي. فقه الزكاة ص17.

([69]) نهاية المحتاج شرح المنهاج 8/46.

([70]) أبو يوسف، الخراج ص282-283.

([71]) أخرجه أبوداود في السنن 3052، وفي روايته زيادة [..أو انتقصه أو كلفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئا بغير طيب نفس منه فأنا حجيجه يوم القيامة].

([72]) أخرجه ابن سعد في الطبقات الكبرى 3/299.

([73]) الجصاص، الأحكام 2/346، وحاشية ابن عابدين 3/276.

([74]) البدائع 4/174.

([75]) أ د على محيي الدين القرة داغي. نحن والآخر, ص89-94، الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين

مركز الإمام أبوعبدالله الشافعي العلمي

(عمان – الأردن)

ندوة إقليمية افتراضية

مكافحة “رفض” التكفير إرادة الأمة

ورقة بحثية بعنوان:

((تنمية الأخلاق من خلال ربط المجتمع بالسيرة النبوية السمحة))

تقديم: د. عبدالمحمود أبُّو إبراهيم

المدير العام لمركز المقاصد للتدريب – السودان

11/11/2020

بسم الله الرحمن الرحيم

المقدمة:

قضية التكفير أصبحت من أخطر الظواهر المقلقة في العصر الحديث للدول وللمجتمعات وللأفراد، فالتكفيريون لم يقفوا عند حد قناعاتهم الشخصية وتصوراتهم، وإنما سعوا لحمل الآخرين لاتباعهم فيما ذهبوا إليه من فهم وتصور؛ وبناء على ذلك اتبعوا الأقوال بالأفعال فعاثوا في الأرض فسادا يقتلون من يكفرونه ويقتلون من لم يكفر من كفروه!!!

لم تقف الدول مكتوفة الأيدي؛ بل عملت بكل ما أوتيت من قولة لملاحقة دعاة التكفير وأتباعهم مستخدمة الأجهزة الأمنية والقضائية والإعلامية وغيرها مما هو من اختصاص الدولة لبسط أمن شعوبها؛ ولكن قضية التكفير قضية فكرية تحتاج إلى تصحيح الأفكار المنحرفة وبث الأفكار الصحيحة التي تلائم وظيفة الاستخلاف التي خلق من أجلها الإنسان.

إن مركز الإمام “أبوعبدالله” الشافعي ومؤسسه فضيلة الشيخ الدكتور سمير مراد الشوابكة في الأردن قد جعل من نشر الوعي بالمفاهيم الصحيحة من أهم أهدافه منذ تأسيسه؛ فعقد الندوات المتخصصة، وأقام الدورات التدريبية في العلوم الشرعية للدعاة وطلاب العلم الشرعي ونظم الدروس المنتظمة في أفرع العلوم الشرعية وغير ذلك من الأنشطة التي استفاد منها عدد كبير من المسلمين في داخل الأردن وفي عدد من البلدان الإسلامية ومنها السودان.

لقد قللت جائحة كورونا من الأنشطة المباشرة ولكن بفضل الله استفاد المركز من وسائل التواصل المتاحة لنشر أنشطه ومنها هذه الندوة الافتراضية التي شارك فيها أربعة من العلماء والمفكرين فضلا عن الشيخ سمير بأوراق بحثية متخصصة في محاصرة التكفير من زوايا مختلفة.

هذه الورقة معنية بربط المجتمع بالقيم الخلقية من خلال السيرة النبوية السمحة، وقد لخصتها في أربعة محاور وخاتمة.

والله أسأل أن يجعلها خالصة لوجهه الكريم، وأن ينفع بها كل من قرأها أو سمعها، مع التطلع للدعاء لكاتبها بظهر الغيب؛ عسى أن تكون زادا له في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من الله بقلب سليم.

المحور الأول: مفهوم أمانة التكليف

قبل أن يخلق الله سبحانه وتعالى الإنسان حدد وظيفته في الحياة، وخاطب الملائكة بذلك، قال تعالى:” وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ”[سورة البقرة:30]. وهذا الاستخلاف يعني أمانة التكليف التي عرضت على السموات والأرض والجبال فلم تستطع حملها وحملها الإنسان؛ قال تعالى:” إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً”[سورة الأحزاب:27] وهي أمانة تتحقق   بتكامل ثلاثة مفاهيم هي: الاستخلاف والتزكية والاستقامة.

 فالاستخلاف تنظيم حركة الحياة بين مستخلِف ومستخلَف ومكان الاستخلاف، ويقوم الاستخلاف على أربعة أبعاد:

  1. البعد الإيماني: وصل الإنسان بربه تعقلا وتعبدا وتخلقا، ووصله بأخيه الإنسان تعارفا وتراحما واستحسانا، ووصله بمفردات الكون انتفاعا واستثمارا وائتمانا.” قُل لِّلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً لَّهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ”[سورة الزمر:44]
  2. البعد الغائي: ” قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ”[سورة الأنعام:162]
  3. البعد الأخلاقي: “ وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً”[سورة الفرقان [63]
  4. البعد السنني:” إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ”[سورة الرعد:11]

والتزكية تعني التخلية من الرذائل والتحلية بالفضائل بالمجاهدة وسياسة النفس وتمام التخلق بتحسين الخُلق مع الله بأن يعلم المسلم بأن كل ما يأتي منه يوجب عذرا، وأن كل ما يأتي من الله يوجب شكرا. وتحسين الخُلق مع الخلق، وذلك ببذل المعروف لهم، وكف الأذى عنهم، وهذا يقتضي أمن الخلق منه، ومحبة الخلق له، ونجاة الخلق به.

والاستقامة هي انضباط حركة المسلم في هذه الحياة وفق منهج الله وشرعه منطلقة من معارف الوحي ومنضبطة بمقاصده[1].

فبتكامل الاستخلاف بمفهومه الواسع، وبتحقيق التزكية في تجلياتها المختلفة، وبالالتزام بالاستقامة في كل مجالات الحياة.

المحور الثاني: محورية الأخلاق في الإسلام

الأخلاق هي المبادئ والقواعد المنظمة للسلوك الإنساني؛ وهي في الإسلام تستمد من قيم الوحي ومن التصور العام الذي حدده الإسلام للكون والحياة والأحياء؛ والنظام الأخلاقي في الإسلام يقوم على مرجعية الوحي وعلى عطاء الإنسان المهذب بقيم الوحي. قال صلى الله عليه وسلم: “إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق”[2]. الأخلاق في الإسلام تعتبر قضية محورية لا يكتمل تدين المسلم إلا بالتحلي بها؛ قال صلى الله عليه وسلم: “أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا “[3]وورد الحديث عن أهمية الأخلاق في كثير من سور القرآن الكريم ومنها ماورد تفصيلا في آخر سورة الأنعام، وفي سورة الإسراء وسورة الفرقان، وقد فصلت في سورة الحجرات. والسنة النبوية شرحت ما جاء مجملا في القرآن الكريم، والسيرة النبوية جسدت القيم الأخلاقية في أرض الواقع.

إن مجالات الأخلاق واسعة تغطي كل ضروب الحياة، وفيما يتعلق بالعلاقات الإنسانية هنالك أصول أخلاقية حث عليها الإسلام منها الآتي:

أولا: السماحة:

السين والميم والحاء أصلٌ يدل على سلاسة وسهولة، يقال: سمح له بالشيء، ورجل سَمْحٌ، أي: جواد، وقوم سُمَحَاءُ ومَسَامِيحُ([4]).

وسامحه بكذا: أعطاه، وتسامح وتسمح، وأصله الاتساع، ومنه يقال في الحق: مسمح، أي متسع ومندوحة عن الباطل، وعود سَمْحٌ مِثْلُ سهل، وزناً ومعنى”([5]).

“وسمح له: أعطاه، وسَمُحَ -من باب ظَرُفَ- صار سَمْحاً -بسكون الميم-، وقوم سُمَحَاء -بوزن فقهاء-، وامرأة سمحة -بسكون الميم-، ونسوة سماح -بالكسر-، وتسامحوا: تساهلوا”([6]).

ولا نجد فرقاً بين المعاني اللغوية والمعاني الاصطلاحية للفظ السماحة ومشتقاته، أو يمكن أن نقول: لا نجد لهذا اللفظ معنى اصطلاحيّاً خاصّاً مغايراً لمعناه وأصله اللغوي([7]).

فمعاني السماحة تتضمن صفات التسهيل والتوسعة والسخاء والعفو ونحوها، مما يكون مبعثه كرم النفس وسعة الصدر وطيب القلب، فالإنسان السمح هو الذي ييسر على غيره في حال يمكنه فيها التعسير عليهم، ويلين معهم حيث تسوغ له الشدة، ويعفو عنهم حيث يحق له اللوم والعقاب، ويحسن ظنه عند مثارات سوء الظن بالناس، ويعمل بالإحسان متجاوزاً حقه في العدل والانتصاف، ويتنازل حيث يستطيع المشاحة والتعنت، ويتعامل بالإيثار وهو قادر على الاستئثار([8]).

وفي بيان مغزى الآية الكريمة: وَأَن تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلاَ تَنسَوُا الفَضْلَ بَيْنَكُمْ”[سورة البقرة:237] ومعنى كون العفو أقرب للتقوى أن العفو أقرب إلى صفة التقوى من التمسك بالحق؛ لأن التمسك بالحق لا ينافي التقوى، لكنه يؤذن بتصلب صاحبه وشدته، والعفو يؤذن بسماحة صاحبه ورحمته، والقلب المطبوع على السماحة والرحمة أقرب إلى التقوى من القلب الشديد؛ لأن التقوى تقرب بمقدار قوة الوازع، والوازع شرعي وطبيعي، وفي القلب المفطور على الرأفة والسماحة لين يَزَعُهُ عن المظالم والقساوة، فتكون التقوى أقرب إليه؛ لكثرة أسبابها فيه([9]).

فالسماحة تندمج فيها صفات كريمة حميدة، وتنزاح بفضلها صفات ذميمة نكدة، مما يجعل حياة الناس وعلاقاتهم تنساب في يسر وألفة ومودة وسعادة.

ولم تذكر السماحة بلفظها في القرآن الكريم، ولكن مضامينها مبثوثة في آيات كثيرة، منها على سبيل المثال قوله تعالى: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ”[سورة آل عمران:133-134] فصفات المتقين المذكورة -التي استحقوا بها مغفرة الله وجناته الواسعة- هي الإنفاق في السراء والضراء وكظم الغيظ والعفو عن الناس من المخطئين والمسيئين والإحسان في المعاملة، كلها من صفات السماحة وآثارها وتوابعها([10]).

وهي صفات مطلوب أن يعامل بها المسلم كل الناس، مهما كانت عقائدهم؛ رجاء الثواب من الله.

وقوله تعالى: وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُوا الفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُوْلِي القُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا  أَلاَ تُحِبـُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ “[سورة النور:22] هذه الآية نزلت في الصديق حين حلف أن لا ينفع مسطح بن أثاثة بنافعة أبداً، بعدما قال في عائشة ما قال، فلما نزلت هذه الآية إلى قوله: أَلاَ تُحِبـُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ ” قال الصديق: “بلى -والله- وإنا نحب أن تغفر لنا يا ربنا”، ثم رجع إلى مسطح ما كان يصله من النفقة، وقال: “والله لا أنزعها منه أبداً”([11])، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، كما يقول الأصوليون.

وفي السنة النبوية وردت أحاديث كثيرة تحث على السماحة، منها قوله : “أحب الأديان إلى الله الحنيفية السمحة”([12]).

وفي صحيح البخاري: باب: الدين يسر، قول النبي : “أحب الدين إلى الله الحنيفية السمحة”([13]).

ولهذا الأصل -خلق السماحة- آثار جليلة جميلة في حياة الناس وعلاقاتهم ومعاملاتهم، وقد يكون أهل السماحة أنفسهم أوَّلَ المستفيدين والمستمتعين بهذا الخلق، بما منحهم من طمأنينة وسعادة بسماحتهم وجميل أفعالهم، وبما يكتب لهم في الأرض من محبة وقبول.

والسماحة -بعد ذلك- خلق وسلوك اجتماعي تنعكس آثاره الإيجابية على كافة جوانب الحياة الخاصة والعامة، السياسية والاجتماعية والاقتصادية، فحيثما وُجِدَتِ السماحة وسادت بين الناس فالمشاكل والخسائر أقل، والمكاسب والأرباح أكثر([14]).

ثانيا: البر

قال الراغب الأصفهاني: “البَرُّ خِلافُ البحر، وتصور منه التوسع، فاشتق منه البر، أي: التوسع في فعل الخير، وينسب ذلك إلى الله تعالى:” إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ البَرُّ الرَّحِيمُ”[سورة الطور:28] وإلى العبد تارة، فيقال: “بر العبد ربه”، أي توسع في طاعته، فمن الله تعالى الثواب، ومن العبد الطاعة.

والبر في اللغة الخير والفضل، ومن معانيه الصدق والتقى وإحسانُ الطاعةِ والرفقُ والقبولُ([15]).

وقد وردت كلمة (بر) ومشتقاتها في القرآن في عشرين موضعاً، منها قوله تعالى:” لَن تَنَالُوا البِرَّ حَتَّى تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ”[سورة آل عمران:92] وقوله -جل شأنه-: وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ”[المائدة:2].

ويقول المفسرون: “إن البر كلمة جامعة لكل أعمال الخير، فبر الإنسان بنفسه تزكيته لها، وتغذية الإنسان لنفسه بر ببدنه، وحسن معاملة الوالدين والتوسع في الإحسان إليهما بر بهما، والبر ثلاثة أنواع جامعة لكل خير: بر في العقيدة وبر في العمل وبر في الخلق”([16]).

والبر اسم للخير ولكل فعل مَرْضِيّ([17]).

وفي تفسير قوله تعالى: لَن تَنَالُوا البِرَّ حَتَّى تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ”[سورة آل عمران:92]

قال الواسطي([18]): “الوصول إلى البر بإنفاق بعض المحاب، وإلى الرب بالتخلي عن الكونين”.

وقال أبو بكر الوراق([19]): “لن تنالوا بِرِّي بكم إلا ببركم بإخوانكم، والحاصل أنه لا وصول إلى المطلوب إلا بإخراج المحبوب”([20]).

وفي قوله تعالى: وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ”[المائدة:2]. “وتعاونوا على العفو والإغضاء، ولا تعاونوا على الانتقام والتَّشَفِّي، أو البر هو فعل المأمور، والتقوى ترك المحظور، والإثم ترك المأمور، والعدوان فعل المحظور، ويجوز أن يراد العموم لكل بر وتقوى، ولكل إثم وعدوان، فيتناول بعمومه العفو والانتصار”([21]).

والبر في الإسلام بمفهومه الواسع ليس وقفاً للتعامل مع المسلمين، بل هو تعامل مع كل الناس، قال تعالى: لاَ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوَهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ”[سورة الممتحنة:8]

والمقصود أن تكرموهم وتحسنوا إليهم قولاً وفعلاً ([22]).

وإذا كان الناس أمة واحدة، فإن الأُخُوَّة الإنسانية ثابتة، يجب وصلها، ولا يصح قطعها، وقد أمر الله تعالى بأن توصل القلوب بالمودة، والإسلام لا ينهى عن بِرِّ كُلِّ من لا يعتدي على المسلمين، ويصرح القرآن الكريم بذلك في كثير من آياته -كما في الآية السابقة-، فالبر ثابت للمسلم ولغير المسلم([23]).

ثالثا: الإحسان

قال الراغب الأصفهاني: “الإحسان يقال على وجهين، أحدهما: الإنعام على الغير، يقال: “أحسن إلى فلان”، والثاني: إحسان في فعله، وذلك إذا علم علماً حسناً أو عمل عملاً حسناً، وعلى هذا قول أمير المؤمنين علي : “الناس أبناء ما يحسنون”، أي منسوبون إلى ما يعملون وما يعملونه من الأفعال الحسنة”([24]).

فالمراد من الإحسان في الإسلام أن نتخذ من السماحة شعاراً في دفع حقوق الآخرين، فنجمع الرأفة والإشفاق إلى جانب العدل والإنصاف، ونذهب أبعد من إطار المقتضيات القانونية، ونبني موقف الفضل والعطف والكرم، وتسمو همتنا، بحيث نرضى لأنفسنا بأقل مما نستحقه، ونحاول أن نعطي لغيرنا أكثر مما يستحقه([25]).

فإذا كان معيار العدل أن يراعي العبد حق الغير، معاملةً وحكماً كما يراعي حق نفسه، فإن الإحسان هو تقديم حق الغير على حق النفس، أو على حد تعبير الإمام الشاطبي: “إسقاط حظوظ النفس والقيام على قدم العبودية”([26]).

وأدنى ذلك ملاحظة الخير في أفعال الغير، وأعلاه التضحية بالنفس من أجل الغير، وأوسطه الصبر على الأذى والتماس العذر له والعفو عن مساءته ومكافأة الإساءة بالإحسان([27]).

الإحسان خلقٌ لا يكون معه تعامل الإنسان مع أخيه الإنسان مجرد تحصيل خدمات منه، أو توصيلها إليه، وإنما جلب صلاح له أو استجلابه منه، ودفع فساد عنه أو استدفاعه به([28]).

وهذا مقتضى قول النبي : “إن الله كتب الإحسان على كل شيء”([29]).

يقول القرطبي في شرح هذا المعنى: “فإنه تعالى يحب من خلقه إحسان بعضهم إلى بعض، حتى إن الطائر في سجنك، والسنور في دارك لا ينبغي أن تقصر تعهدك بإحسانك”([30]).

ويقول الغزالي: “وقد أمر الله تعالى بالعدل والإحسان جميعاً، والعدل سبب النجاة فقط، وهو يجري من التجارة مجرى رأس المال، والإحسان سبب الفوز ونيل السعادة، وهو يجري من التجارة مجرى الربح، ولا يعد من العقلاء من قنع في معاملات الدنيا برأس ماله، فكذا في معاملات الآخرة، فلا ينبغي للمتدين أن يقتصر على العدل واجتناب الظلم ويدع أبواب الإحسان.

فالإحسان في التعامل يؤسس لفقه شغوف باصطناع المعروف بوجه عام، ويؤسس لفقه شغوف بخلق الإيثار، وهو فقه يقوم على وجهين، ذكرهما الإمام الشاطبي:

الوجه الأول: إسقاط الاستبداد والدخول في المواساة على سواء، وذلك بأن يرى العبد غيره مثل نفسه، وكأنه أخوه أو ابنه أو قريبه أو يتيمه، أو غير ذلك ممن طلب بالقيام عليه ندباً أو وجوباً، وأنه قائم في خلق الله بالإصلاح والنظر والتسديد، فهو على ذلك كواحد منهم.

عن أبي سعيد قال: “بينما نحن في سفر مع النبي إذ جاء رجل على راحلة له”، قال: “فجعل يصرف بصره يميناً وشمالاً “، فقال رسول الله : “من كان معه فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له، ومن كان له فضل من زاد فليعد به على من لا زاد له”، قال: “فذكر من أصناف المال ما ذكر، حتى رأينا أنه لا حق لأحد منا في فضل”([31]).

الوجه الثاني: الإيثار على النفس، وهو أعرق في إسقاط الحظوظ، وذلك أن يترك حظ نفسه لحظ غيره؛ اعتماداً على صحة اليقين، وإصابةً لعين التوكل، وتحملاً للمشقة في عون الأخ في الله على المحبة من أجله([32]).

وهو من محامد الأخلاق وزكيات الأعمال، وهو ثابت من فعل رسول الله ، ومن خُلُقِه المَرْضِيّ، وقد كان أجود بالخير من الريح المرسلة.

وقالت له خديجة: “إنك تحمل الكَلَّ، وتُكسِب المعدوم، وتعين على نوائب الحق”.

وحُمِلَ إليه تسعون ألف درهم، فوضعت على حصير، ثم قام إليها يقسمها، فما رد سائلاً، حتى فرغ منه، وجاءه رجل فسأله، فقال: “ما عندي شيء، ولكن ابتع علي، فإذا جاءنا شيء قضيناه”، فقال له عمر: “ما كلفك الله ما لا تقدر عليه”، فَكَرِهَ النبيُّ ذلك، فقال رجل من الأنصار: “يا رسول الله، أنفق، ولا تخف من ذي العرش إقلالاً “، فتبسم النبي ، وعُرِفَ البشرُ في وجهه، وقال: “بهذا أمرت” ذكره الترمذي([33]).

المحور الثالث: السيرة النبوية وتجسيد مكارم الأخلاق

لا يستغرب المرء إذا وجد مصلحا حقق نجاحا في مجال من مجالات الحياة، فكثير من المصلحين حققوا نجاحات سارت بذكرها الركبان وخلدها التاريخ؛ ولكن المدهش أن يغير أميٌّ الحياة كلها ويترك بصماته شاهدة على نجاحاته؛ بل تتجدد اصلاحاته مع تطور الحياة ويقر اللاحقون له بالتفرد والقدرة على حل المشاكل التي لم تحدث في زمانه!

إنه رسول الإنسانية سيدنا محمد النبي الأمي الذي علم المتعلمين، واليتيم الذي بعث الأمل في قلوب اليائسين، والهادي الذي قاد سفينة الإنسانية الحائرة إلى ملكوت رب العالمين.

نقرأ سيرته ونحن نعيش في وسط تحيط به الأزمات إحاطة السوار بالمعصم، وترسم صورة قاتمة للواقع تكاد كل الحلول تقف عاجزة عن معالجتها، وفي هذه الحالة فإن الواجب يحتم علينا أن ننقب في سيرته العطرة لنهتدي إلى منهج معالجة الأزمات التي برع فيها صلى الله عليه وسلم، أولم يصفه خالق الكون بالنعمة التي يجب علينا أن نتذكرها دائما عندما تدلهم الخطوب؟ قائلا:” وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ”.

فالمصطفى صلى الله عليه وسلم وحد الكلمة، وألف بين القلوب، وأنقذ الإنسانية من ظلمات الجهل والشرك، وبين طريق الهداية لمن يريد النجاة؛ بل علمنا كيف نتعامل مع الدنيا وتقلباتها ولفت نظرنا إلى أن مظاهر الحياة خادعة ينبغي ألا تصرفنا عن حقيقة الوجود، فليس للإنسان في هذه الحياة إلا أن يعيش آمنا في مجتمعه، معافى في بدنه، يمتلك قوت يومه؛ وما زاد على ذلك فهو ترف.

إن معظم الأزمات التي نعيشها صنعتها أيدينا! فالموارد تضاعفت مئات المرات وكثير منا يمتلك أكثر من حاجاته وحاجات أسرته، وهنالك أشياء في داخل منازلنا لم نستخدمها منذ امتلاكنا لها وستظل هكذا إلى أن نغادر الحياة ونتركها لمن يرثها، والجشع والشح يحيطان بنا فصرنا نخشى ألا نجد قوت غدنا ونحن لم نستهلك بعد ما في أيدينا!! وصدق الله القائل:” إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً” لقد غابت الطمأنينة وذهب اليقين وصرنا نتوجس من كل شيء مع أننا درسنا منذ الصبا وحفظنا أن من أركان الإيمان أن نؤمن بالقدر خيره وشره.

إن الانحراف الفكري الذي تلبس به التكفيريون لا علاج له إلا بترسم سيرة النبي القدوة صلى الله عليه وسلم، فالسيرة جسدت القيم التي تبين هويتنا.

 يبدو أن آثار العولمة الخبيثة لحقت بمجتمعاتنا وأثرت على أبجديات تميزنا؛ فهل من سبيل لاستعادة الحياة إلى نفوسنا لنتشبع بالطمأنينة ونستأنف مسيرة الحياة على نهج من قال: “اللهم اجعلنا من العارفين لحسن قَدَرِك، الصابرين عليه رجاء لوعدك، ورغبة في الصلوات، والرحمة مع هدايتك، واجعلنا ممن آثر المسكنة لحسن الوعد الدائم عندك، ولا تجعلنا ممن آثر الشئون الفانية مع ذمِّك، والشهوات الزائلة مع تبعيدها عنك، واجعلنا ممن آثر التقوى والوفاق، والصبر على الشدائد والمشاق، رغبة في دوام القرب والتلاق، وقوِّ نورنا ليهون علينا ذلك، واجعل لنا قوة منك على تحمل ما يرضيك”[34].

إن في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم بلسما يضمد جراحاتنا، ومنهجا يبصرنا بالطريق المستقيم الذي علينا أن نسلكه، وعلاجا ناجعا لأمراض النفوس وصولا إلى القلب السليم الذي تكون به النجاة. أولم يقل الله سبحانه وتعالى: ” لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً”؟ فلنذهب إلى صيدلية السيرة النبوية العطرة لنجد الوصفة الآتية:

أولا: الارتقاء بمفاهيم سكان الجزيرة العربية من الافتخار بالقبيلة والحروب لأتفه الأسباب إلى مفاهيم الكرامة الإنسانية؛ فتحولوا من قيم قصيدة عمرو بن كلثوم التي جاء فيها:

ألا لا يجهلن أحد علينا          فنجهل فوق جهل الجاهلينا

إلى قيم قوامها العفو والتسامح والإيثار، ” وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ”[سورة الحشر:9]

ثانيا: إدارة التنوع بمنهج يعزز التعايش السلمي ويجعل الاختلاف سبيلا لإثراء الحياة لا طريقا للتفاضل والتباغض،” أيها الناس إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، كلكم لآدم وآدم من تراب، أكرمكم عند الله أتقاكم، وليس لعربي فضل على عجمي إلا بالتقوى”[35].

ثالثا: تزكية النفوس بالتخلي من الرذائل والتحلي بالفضائل؛ فتحققت في المجتمع أخلاق المدينة الفاضلة، وصار الجميع كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى، فلا شح ولا جشع ولا استغلال لحاجة الناس؛ بل تقديم ما زاد عن الحاجة وتكافل وتراحم. “ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء”[36]

رابعا: ترسيخ مفاهيم المسئولية وترقية الرقابة الذاتية ومحاسبة النفس وغرس تجويد العمل وتعزيز قيمة العمل الصالح الذي يعود نفعه على الجميع “إن الله يحب من أحدكم إذا عمل عملا أن يتقنه”

خامسا: تصحيح مفهوم العبادة وتوسيعه ليشمل كل أعمال البر وليس وقفا على الشعائر فكل عمل مشروع إذا أخلص صاحبه يكون عبادة يؤجر عليها” لَيْسَ البِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ المَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ البِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى المَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي القُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي البَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ البَأْسِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُتَّقُونَ”.

سادسا: الاحتفاء بكل مصادر المعرفة (الوحي والالهام والعقل والتجربة) ودعوة المؤمنين للأخذ بها تحقيقا للوظيفة التي خلقوا من أجلها.

سابعا: التأكيد بأن هنالك تمييز بين الدين المعصوم والتدين الاجتهادي، فكل نفس بما كسبت رهينة وأن ليس للإنسان إلا ما سعى، وأن أخطاء الممارسة تنسب لأصحابها وليس للإسلام.

المحور الرابع: السيرة النبوية وتعزيز القيم الخلقية في الواقع المعاصر

وصف الله سبحانه وتعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بأنه ذو خلق عظيم وأنه بالمؤمنين رؤوف رحيم بل ذكر أنه أرسله رحمة للعالمين وتجلت رحمته صلى الله عليه وسلم في كثير من المواقف التي وردت في السيرة النبوية منها:

  • عندما ضاقت مكة بالدعوة ذهب رسول الله إلى الطائف يدعو أهلها للإسلام ولكنهم قابلوه بصدود أشد بل سلطوا عليه سفاءهم وغلمانهم فقذفوه بالحجارة حتى جرحوا ساقه الشريف! فجاءه ملك الجبال لينصره بتدمير من عذبوه فرفض وقال:” إني لأرجوا أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله لا يشرك به شيئا”[37].
  • في معركة أحد أصيب رسول الله صلى الله عليه وسلم فكسرت رباعيته وشج في جبهته فجعلت الدماء تسيل على وجهه فقيل له يا رسول الله ادع عليهم فقال:” إن الله تعالى لم يبعثني طعانا ولا لعانا ولكن بعثني داعية ورحمة، الله اهد قومي فإنهم لا يعلمون”[38].
  • عندما قتل عمه حمزة ومثل به وقف رسول الله على أشلائه وذرفت عيناه من بشاعة المشهد وأقسم لئن ظفر بهم ليمثلن بسبعين، فنزل عليه قوله تعالى:” وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرِينَ” فقال صلى الله عليه وسلم:” نصبر” وكفر عن يمينه.
  • نزل قوله تعالى:” خُذِ العَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الجَاهِلِينَ”[الأعراف:199] سأل رسول الله جبريل عليه السلام فقال لا أدري حتى أسأله ثم رجع فقال يا محمد إن ربك يأمرك أن تصل من قطعك، وتعطي من حرمك، وتعفوا عمن ظلمك”[39] فكان نهجه صلى الله عليه وسلم تطبيقا لهذا التوجيه على طول حياته.
  • وقع شجار بين واحد من المهاجرين وآخر من الأنصار فقال المهاجري يا للمهاجرين وقال الأنصاري يا للأنصار فسمع النبي صلى الله عليه وسلم فقال ما بال دعوى الجاهلية.. دعوها فإنها منتنة. فقال عبد الله بن أبي أوقد فعلوها والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل! فقال عمر يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق فقال النبي صلى الله عليه وسلم “دعه لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه”[40]
  • فتح رسول الله مكة ومعه جيش جرار فنادى أهل مكة الذي آذوه وأخرجوه منها قائلا:” يا معشر قريش ما تظنون أني فاعل بكم” قالوا خيرا أخ كريم وابن أخ كريم. قال: “اذهبوا فأنتم الطلقاء”[41].
  • منهجه في تعامله مع الناس باختلاف طبائعهم مع المشركين واليهود ومع الذين ارتكبوا الأخطاء من أمته وجاءوا تائبين، وتعامله مع البدو وجفائهم وتعامله مع النساء والأطفال؛ كل هذه النماذج ينظمها منهج أكده القرآن الكريم: “ وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ”[سورة القلم:4]

إن السيرة النبوية تشتمل على منظومة الأخلاق التي جاء الرسول صلى الله عليه وسلم ليتممها، وقد طبقها في أرض الواقع وأقام بها مجتمعا تحلى بالفضائل وتخلى عن الرذائل، فكان نموذجا واقعيا للمجتمع الفاضل؛ ونحن اليوم أحوج ما نكون لترسم خطاه والاقتداء به صلى الله عليه وسلم لتنظيم حياتنا وضبط علاقتنا مع الناس وفق القيم الخلقية التي جاء بها الإسلام لنتمكن من مواجهة خطاب التكفيريين بمنهج محكم جامع يكون ترياقا لضلالهم ويفند خطابهم بالمنهج الآتي:

أولا: تكفيرهم للمسلمين بسبب مخالفتهم لتصورهم؛ يبطله قوله صلى الله عليه وسلم: “مَنْ صَلَّى صَلَاَتَنَا، وَاِسْتَقْبَلَ قِبَلَتُنَا، وَأَكْلَ ذَبيحَتِنَا، فَذَلِكَ الْمُسْلِمِ الَّذِي لَهُ ذِمَّةُ اللهِ وَذِمَّةِ رَسُولِهِ، فَلَا تَخْفِرُوا اللهَ فِي ذِمَّتِهِ “[42]

ثانيا: تكفيرهم للمسلمين بسبب ارتكاب الكبائر: يبطله تعامله صلى الله عليه وسلم مع مرتكبي الكبائر:” عَنْ أَبِي أُمَامَةَ رضي الله عنه بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْمَسْجِدِ وَنَحْنُ قُعُودٌ مَعَهُ، إِذْ جَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي أَصَبْتُ حَدًّا فَأَقِمْهُ عَلَيَّ!! فَسَكَتَ عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ أَعَادَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي أَصَبْتُ حَدًّا، فَأَقِمْهُ عَلَيَّ!! فَسَكَتَ عَنْهُ وَأُقِيمَتِ الصَّلَاةُ، فَلَمَّا انْصَرَفَ نَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ أَبُو أُمَامَةَ: فَاتَّبَعَ الرَّجُلُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ انْصَرَفَ، وَاتَّبَعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْظُرُ مَا يَرُدُّ عَلَى الرَّجُلِ، فَلَحِقَ الرَّجُلُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أَصَبْتُ حَدًّا فَأَقِمْهُ عَلَيَّ!! قَالَ أَبُو أُمَامَةَ: فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أَرَأَيْتَ حِينَ خَرَجْتَ مِنْ بَيْتِكَ، أَلَيْسَ قَدْ تَوَضَّأْتَ فَأَحْسَنْتَ الْوُضُوءَ؟»، قَالَ: بَلَى، يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: «ثُمَّ شَهِدْتَ الصَّلَاةَ مَعَنَا؟» فَقَالَ: نَعَمْ، يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ غَفَرَ لَكَ حَدَّك أَوَ قَالَ: ذَنْبَكَ[43]

ثالثا: تشددهم في تطبيق الأحكام وحملهم الناس على التزام حكم واحد؛ يبطله منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم في تعامله مع هذا الأمر “ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عنهُ ، قَالَ: أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ فَقَالَ: هَلَكْتُ، قَالَ: ” وَمَا أَهْلَكَكَ؟ ” قَالَوَقَعْتُ عَلَى امْرَأَتِي فِي رَمَضَانَ ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ” أَعْتِقْ رَقَبَةً ” قَالَ : لَا أَجِدُ ، قَالَ : ” صُمْ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ ” قَالَ : لَا أُطِيقُ ، قَالَ : ” أَطْعِمْ سِتِّينَ مِسْكِينًا ” قَالَ : لَا أَجِدُ ، قَالَ : ” اجْلِسْ ” فَجَلَسَ ، فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ أُتِيَ بِمِكْتَلٍ ، يُدْعَى الْعَرَقَ ، فَقَالَ : ” اذْهَبْ ، فَتَصَدَّقْ بِهِ ” قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ ، مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا أَهْلُ بَيْتٍ أَحْوَجُ إِلَيْهِ مِنَّا ، قَالَ : ” فَانْطَلِقْ فَأَطْعِمْهُ عِيَالَك [44]

رابعا: رفضهم التعامل مع غير المسلمين حتى غير الحربيين يبطله منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم في التعامل معهم:” ألَا مَن ظلَم مُعاهَدًا أو انتقَصه أو كلَّفه فوق طاقتِهِ أو أخَذ منه شيئًا بغَيرِ طِيبِ نَفْسٍ، فأنا حَجيجُهُ يومَ القِيامةِ”[45]

وكان غُلَامٌ يَهُودِيٌّ يَخْدُمُ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فَمَرِضَ، فأتَاهُ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَعُودُهُ، فَقَعَدَ عِنْدَ رَأْسِهِ، فَقالَ له: أسْلِمْ، فَنَظَرَ إلى أبِيهِ وهو عِنْدَهُ فَقالَ له: أطِعْ أبَا القَاسِمِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فأسْلَمَ، فَخَرَجَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وهو يقولُ: الحَمْدُ لِلَّهِ الذي أنْقَذَهُ مِنَ النَّارِ[46]

هنالك مواقف كثيرة يمكن استنباطها من السيرة تبين القيم الأخلاقية التي عمل بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وحث على العمل بها تساعد على تنمية الأخلاق عند المسلمين ليواجهوا بها تحديات العصر الحاضر.

خاتمة:

قراءة السيرة النبوية بقصد الاقتداء والتأسي تمكن الأمة من الوعي بمنهجه صلى الله عليه وسلم وتوضح القيم الأخلاقية التي جسدها لتلتزم بها الأمة في مواجهة الظروف التي تحيط بها.

توصيات:

  1. الأخلاق تعتبر قضية محورية في الإسلام؛ يؤكد ذلك ما قاله رسولنا صلى الله عليه وسلم: “إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق”. على مناهجنا الدراسية والتربوية أن تركز على قيمة الأخلاق
  2. السيرة النبوية جسّدت القيم الخلقية في الواقع، وقد أمرنا الله سبحانه وتعالى أن نتأسى برسول الله صلى الله عليه وسلم صاحب الخلق العظيم، فلنعط السيرة النبوية حقها من الاهتمام لتكون لنا نبراسا للاقتداء
  3. في ظل طغيان الماديات في هذا العصر، فإنه لن يتحقق الإصلاح إلا بالرجوع إلى منهج النبوة المبيَّن في السيرة النبوية، مع استصحاب فقه السيرة لتتمكن الأمة من تحويله إلى برامج يمكن تنفيذها، وعليه فإنه مطلوب من العلماء مخاطبة المجتمعات بالأسلوب الملائم لأوضاعها وباللغة التي يفهمونها.

((رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانصُرْنَا عَلَى القَوْمِ الكَافِرِينَ)) [سورة البقرة:286]


[1] القيم الحضارية في الإسلام؛ الدكتور محمد عبد الفتاح الخطيب؛ الصفحات ()

[2] رواه الإمام أحمد؛ وفي رواية “صالح الأخلاق”

[3] رواه ابن حبان في صحيحه عن أبي هريرة.

([4]) مقاييس اللغة لابن فارس (3/99).

([5]) المصباح المنير للفيومي (ص109).

([6]) مختار الصحاح للرازي (ص312).

([7]) معلمة زايد للقواعد الفقهية والأصولية، مؤسسة زايد بن سلطان آل نهيان للأعمال الخيرية والإنسانية ومجمع الفقه الإسلامي الدولي، ط(1)، 1434هـ، (3/140).

([8]) معلمة زايد للقواعد الفقهية والأصولية، (3/140).

([9]) التحرير والتنوير لابن عاشور، الدار التونسية للنشر، 1984م، (2/464).

([10]) معلمة زايد للقواعد الفقهية والأصولية (3/142).

([11]) مختصر تفسير ابن كثير (ص734).

([12]) أخرجه أحمد في المسند برقم (2107)، مسند بني هاشم، مسند عبد الله بن العباس، (4/17)، وحسن المحققون إسناده.

([13]) صحيح البخاري (1/43).

([14]) معلمة زائد للقواعد الفقهية والأصولية (3/144، 145).

([15]) موسوعة مصطلحات الحضارة الإسلامية- مصطلحات علوم القرآن، رئيس التحرير أ. د. عبد الحليم عويس، دار الوفاء-مصر، ط(1) 1428هـ، (1/334).

([16]) موسوعة مصطلحات الحضارة الإسلامية- مصطلحات علوم القرآن (1/334).

([17]) مدارك التنزيل وحقائق التأويل للنسفي، تحقيق الشيخ مروان محمد الشعار، دار النفائس، بيروت، ط(4) 1439هـ، (1/147).

([18]) أبو عبد الله محمد بن زيد بن علي بن الحسين الواسطي: من كبار علماء الكلام، معتزلي، توفي عام 307 هـ. ينظر: الأعلام للزركلي (6/132).

([19]) محمد بن عمر الوراق البلخي: له الكتب في المعاملات، أسند عنه الحديث أبو بكر بن أحمد بن سعيد وأحمد بن مزاحم وغيلان السمرقندي ومحمد بن محمد بن حاتم وغيرهم.

ينظر: حلية الأولياء لأبي نعيم (10/235).

([20]) تفسير النسفي (1/255).

([21]) تفسير النسفي (1/391).

([22]) تفسير النسفي (4/364).

([23]) العلاقات الدولية في الإسلام لمحمد أبو زهرة، دار الفكر العربي، القاهرة، 1438هـ، (ص44).

([24]) المفردات في غريب القرآن (ص126).

([25]) التذكير القويم في تفسير القرآن الحكيم للعلامة وحيد الدين خان، دار الوفاء، مصر، ط(1)، 1429هـ، (2/264، 265).

([26]) الموافقات للشاطبي (4/240).

([27]) القيم الحضارية في الإسلام.. نحو حداثة إنسانية جديدة (ص 187، 188).

([28]) الحق الإسلامي في الاختلاف الفكري لطه عبد الرحمن، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، ط(4) 2017م، (ص16).

([29]) سبق تخرجه ص 6.

([30]) تفسير القرطبي (10/166).

([31]) أخرجه مسلم برقم (1278)، كتاب اللقطة، باب استحباب المواساة بفضول المال، (3/1354).

([32]) الموافقات للشاطبي (2/353-355) بتصرف.

([33]) نفسه، والحديث أخرجه الترمذي في الشمائل برقم (338)، باب ما جاء في خلق النبي، (ص201)، وضعف المحقق إسناده.

[34] من كتاب الأذكار التي يقرؤها المسلم بعد الفجر وبعد العصر، جمعها الإمام المهدي في كتاب سماه “الراتب”

[35] رواه الطبراني

[36] رواه أبوداود والترمذي وصححه تفرد به سفيان.

[37] رواه البخاري عن عائشة أم المؤمنين

[38] رواه البيهقي في شعب الإيمان.

[39] أخرجه ابن أبي الدنيا وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن الشعبي

[40] أخرجه البخاري ومسلم عن جابر بن عبدالله.

[41] رواه الألباني في سلسلة الأحاديث الضعيفة

[42] أخرجه البخاري عن أنس بن مالك.

[43] صحيحأخرجه مسلم (2765)، وأبو داود (4381)، وأحمد (5/251، 262، 263، 265)، والنسائي في «الكبرى» (7313 – 7316)، والطبراني (7623، 7624)، وابن خزيمة (311) ـ، والواحدي في «الوسيط» (2/594، 595)، والروياني (1252)، والإشبيلي في «الأحكام الكبرى» (4/132)، والطبري في «تفسيره» (14378)، وابن مردويه كما في «الدر المنثور» للسيوطي (3/638)، والبيهقي في «الشعب» (6680)، وغيرهم.

[44] أخرجه البخاري

[45] أخرجه أبوداود وصححه الألباني

[46] رواه البخاري

المنهج الإسلامي وإدارة التنوع

دراسة مقارنة

تأليف: د: عبد المحمود أبُّو 

بسم الله الرحمن الرحيم

استهلال

قال الله جل جلاله في محكم تنزيله: “ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ”

سورة الحجرات الآية 13

صدق الله العظيم

إهداء

أهدي هذا البحث صدقة جارية لرح والدتي؛ التي حملتني في بطنها تسعة أشهر، وأرضعتني حولين كاملين، وعانت في تربيتي ما عانت؛ من شغب الطفولة، وجهالات التصرف؛ فصبرت وثابرت، وآثرت على نفسها؛ لتوفر لنا البيئة الهادئة الآمنة؛ لنمارس حياتنا دون كدر ولا من ولا أذى؛ أسأل الله أن يرحمها، ويكرم نزلها، وينزلها مع الصديقين والشهداء والصالحين؛ اللهم إنها مفتقرة إلى رحمتك، وأنت غَنِيٌّ عن عذابها، فارحمها وارحمنا إذا صرنا إلى ما صارت إليه.

آمين 

وأتوجه ثانيا بهذا البحث

  للدعاة والمهتمين بقضايا التنوع عموماً…

عسى أن يجدوا فيه ما يجيب على تساؤلاتهم في هذا المجال …

والله أسأل أن يتقبله خالصاً لوجهه الكريم.

وما التوفيق إلا من عند الله

مستخلص البحث

هذا البحث هو في الأصل رسالة ماجستير أُجيزت في جامعة أم درمان الإسلامية في كلية الدراسات العليا قسم الفقه المقارن بعنوان: “التنوع في المجتمعات الإسلامية المعاصرة ودور الشورى في إدارته دراسة مقارنة ” تحت إشراف البروفيسور إبراهيم عبد الصادق؛ غير أني رأيت تغيير عنوانه ليكون؛ إدارة التنوع في المنهج الإسلامي؛ لأن المنهج الإسلامي أوسع من الشورى، ولأن البحث تناول قضايا تدخل في الإطار العام للمنهج الإسلامي، وقد اشتمل على مقدمة وخمسة فصول وخاتمة.

تناول الفصل الأول؛ أبعاد التنوع وحكمته، ودور الشورى في إدارته، وقد تضمن تعريف التنوع، والمجتمعات الإسلامية المعاصرة، والشورى، وما ورد عنها في القرآن الكريم، والسنة النبوية الشريفة، والممارسة التاريخية لها؛ في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، وعهد الخلفاء الراشدين، وتضمن مفهومها، وحكمها الشرعي، كما تناول أيضاً تعريف كل من الديمقراطية، والإدارة، كذلك تناول الحكمة من التنوع، وأهمية الشورى في إدارته، أما الفصل الثاني فقد تناول مخاطر التنوع وفوائده، ودور الشورى في إدارته؛ مستعرضاً المخاطر في عدة مجالات؛ منها ما يتعلق بصراع الوجود، ومنها ما يتعلق بخدش الكرامة، ومنها ما يتعلق بانتهاك الحقوق، ومنها ما يتعلق بالتعصب، كما تناول فوائد التنوع من خلال منهج الشورى، وذكر من فوائده؛ الاستفادة من كل الطاقات في خدمة المجتمع، وترسيخ ثقافة التسامح التي تحقق الاستقرار في المجتمع من خلال التداخل بين الأفراد والجماعات. أما الفصل الثالث خُصص لكل من الديمقراطية والشورى ودورهما في إدارة التنوع؛ من خلال ثلاثة مباحث، تناولت مفهوم كل من الشورى والديمقراطية، ونقاط الاتفاق ونقاط الاختلاف بينهما، كما أفرد مبحثاً لمنهج الشورى، ومبحثاً آخر لمنهج الديمقراطية في إدارة التنوع. وخُصص الفصل الرابع للتنوع في السودان كحالة، مستعرضاً التنوع في المجتمع السوداني، ودور نظم الحكم المختلفة في إدارته، ونماذج لممارسة الشورى في المجتمع السوداني. ثم الفصل الخامس والأخير الذي كان موضوعه؛ المشترك الإنساني ودور الشورى في إدارته؛ تناول هذا الفصل القواسم المشتركة بين بني آدم، وأنواع المشترك الإنساني، والمشترك بين أتباع الأديان السماوية، والمشترك بين المذاهب الإسلامية، والشورى ودورها في تحقيق الوحدة في ظل التنوع، وصحيفة المدينة نموذجاً لإدارة التنوع، وبعض المعاهدات التي أبرمتها الدولة الإسلامية، ومفهوم دار الحرب ودار الإسلام.

  وأخيراً جاءت خاتمة البحث مخصصة للنتائج التي توصل إليها البحث، ومن أهمهما؛ أن التنوع ظاهرة كونية موجودة في كافة مجالات الحياة، وأن الشورى هي أساس الحكم الصالح، وهي السبيل إلى تَبْيِين الحق، ومعرفة الآراء السديدة؛ التي يسهم بها أفراد المجتمع، من خلال التَّشاوُر الحُر قبل اتخاذ القرارات، ومن أهم التوصيات؛ أنّ على قادة العمل الإسلامي؛ أن يعملوا على ترسيخ ثقافة قبول الآخر، والتسامح معه؛ ليساهموا في تعزيز العيش المشترك والعمل على صيانته.

جعله الله عملاً متقبلاً وخالصا لوجهه الكريم. وصلى الله على نبينا محمد وآله وأصحابه الأخيار وسلم تسليماً كثيراً.

مقدمة

خلق الله سبحانه وتعالى هذا الكون قائما على التَّنَوُّع والاختلاف، وجعل الاختلاف والتَّنَوُّع في المجتمع الإنساني؛ مجالاً للتَّدَبُّر والتأمُّل قال تعالى: “ وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ [الروم:22]، فالتَّنَوُّع إرادة إلهية، وواقع كوني وإنساني محسوس، وضرورة اجتماعية.

إنَّ مجتمعات المسلمين المعاصرة؛ قائمة على التنوع في كافة المجالات: فهنالك تنوُّع مذهبي، وهنالك تنوُّع ثقافي، وتنوُّع فكري، وآخر سياسي، وتنوُّع إثني. ويندر وجود مجتمع يخلو من التعدد والتنوُّع. ولا ريب أنَّ مجتمعاً هذا شأنه من الطبيعي أن تتجاذبه اختلافات المصالح، وتضارب الأفكار، وتناقض القيم؛ التي تؤدي إلى نزاعات وصراعات تُهَدِّد الاستقرار فيه. هذه الظاهرة أضحت واقعاً ملموساً ومشاهداً في عالم اليوم. ولا شك أنَّ هذا الواقع المتَنَوِّع، يتطلب أن يُدار بمنهج يراعي الخصوصيات بأسلوب يجنِّبُه الشقاق والتناحر، ويستلهم عوامل الوحدة ليُنَمِّيها.

محددات البحث وحدوده:

هذا الموضوع كبير ومتشعب، لا يمكن استقصاؤه في بحث محصور، عليه سيقتصر هذا البحث على دراسة إدارة التنوع من خلال منهج الشورى في الإسلام، مقارنة مع الديمقراطية كآلية للحكم والإدارة، مع التركيز على إدارة التنوع في المجتمع الإسلامي؛ من خلال التعامل مع العقائد، والأفكار، والثقافات، ولوازمها. لم يتناول البحث كل أقسام التنوع، وإنما اقتصر على بعضها؛ مثل التنوع الديني، والتنوع المذهبي، والتنوع الفكري – السودان كحالة. باعتبار هذه المجالات هي الأبرز في الصراع داخل أطرافها.

أسباب اختيار الموضوع:

لقد وقع الاختيار على هذا الموضوع لعدة أسباب أهمها الآتي:

أولاً:   انتشار ظاهرة التَّطَرُّف والغُلُوّ في المجتمعات الإسلامية؛ بصورة شَوَّهَت صورة الإسلام، وأَضْعَفَت دور المسلمين في العالم المعاصر.

ثانياً: غياب الشورى كقيمة إسلامية لإدارة أمور المجتمع؛ مما أدي إلي خلل في التربية، تَمثَّل في رفض الآخر وتجريده من أيَّة مشروعية أو استحقاق.

ثالثاً: المخالفات الشرعية؛ المتمثلة في حرمان المخالف من حقوقه الإنسانية، والوطنية، وانتهاك حرياته العامة.

أهمية البحث:

تأتي أهمية البحث كمحاولة لرصد وتحليل مظهر من مظاهر الواقع الاجتماعي، وتشخيص علله والمساهمة في علاج أمراضه.

أهداف البحث:

أولاً: إبراز وجه الحكمة من هذا التنوع في الحياة الإنسانية.

ثانياً: كيفية إدارة التنوع وفق منهج الشورى الذي جاء به الإسلام.

ثالثاً: رفد الفكر الإسلامي برؤية إسلامية تأصيلية في أسلوب إدارة التنوع مقارنة مع الديمقراطية.

رابعاً: المساهمة في ترسيخ ثقافة إدارة التنوع في المجتمعات الإسلامية؛ للتقليل من التطرف والنزاعات.

خامساً: تقديم رؤية للمهتمين تساعد على تحقيق الوحدة في ظل التنوع.

فرضيات البحث:

الفرضية الأولى: أنّ التنوع ضرورة اجتماعية؛ لاستمرار الحياة البشرية واستقرارها، ولا شك أنّ هنالك حكمة إلهية من ورائه.

الفرضية الثانية: أنّ المنهج الإسلامي في إدارة التنوع؛ متفوق على المناهج الوضعية، باعتبار أنّ خالق الإنسان ومُنزل المنهج؛ هو الله سبحانه وتعالى العليم الخبير.

الفرضية الثالثة: هنالك إمكانية لإدارة التنوع بصورة ترسخ الجوانب الايجابية للمجموعات، وتعزز القواسم المشتركة لبني آدم، وتحقق النهضة للمجتمعات الإسلامية، وتساهم في الاستقرار، من خلال تفعيل القيم المتفق عليها إنسانيا ودينيا.

منهج البحث:

المنهج المتبع في هذا البحث هو المنهج الوصفي، الاستنباطي، الفقهي المقارن. ومنهجي في ذلك سيكون باستقراء أهم الوقائع ذات الصلة؛ والنظر في مجرياتها، وبيان أحكامها، وذكر بعض الآراء الواردة في الموضوع؛ ومناقشتها، وتحليلها، والترجيح بينها، مع ذكر أسباب الرأي الراجح وأدلته.

الدراسات السابقة:

  1. مواطنون لا ذميون، للأستاذ فهمي هويدي، الطبعة الأولى، 1410هـ، 1990م، وهو كتاب يعالج وضعية غير المسلمين في الدولة الإسلامية منذ نشأتها؛ مروراً بكل مراحلها حتى سقوط الخلافة العثمانية في 1924م، ثم يتناول علاقة المسلمين مع غير المسلمين في كافة الحقب؛ مُرَكِّزاً على العلاقة مع الأقباط خاصة؛ منذ فتح مصر وإلى يومنا هذا، وهو كتاب عالج الموضوع بمنهجية علمية، وتأصيل محكم؛ يُبَيِّن عدالة الإسلام وَسَبقه لنشر ثقافة التسامح والتعايش.
  2. البيانات المسيحية الإسلامية المشتركة؛ من 1954-1992م جمعتها جوليت حداد؛ ونشرها معهد الدراسات الإسلامية والمسيحية؛ التابع لجامعة القديس يوسف في بيروت، الطبعة الأولى 1995م، وهو كتاب توثيقي؛ اشتمل على كافة البيانات التي صدرت عن المسلمين والمسيحيين في هذه المرحلة؛ في كل من آسيا، وأفريقيا، وأوروبا، وأمريكا، وهي بيانات تؤكد على التسامح، والعيش المشترك، والتعاون بين الديانتين.
  3. الشورى في الإسلام تناصح وتعاون، تأليف الدكتور محمود محمد بابلِّي، الطبعة الأولى، 1416هـ-1999م، وهو كتاب أصَّل للشورى، ومجالاتها، وطبيعتها، وأهلها، وشروطهم، وحاجة المجتمع إلى تطبيقها.
  4. شرعية الاختلاف بين المسلمين  – إسلام واحد وتعددية فقهية، وعقدية، وسياسية؛ في الاجتهاد والشورى والدولة – تأليف عمران سميح نزال، الطبعة الأولى، 1425هـ-2004م. وهو كتاب تناول مصطلحات التواصل في القرآن الكريم؛ المتمثلة في الحوار، والتوصية، والنصيحة، والشورى، والأمر، مُعَرِّفا الشَّرعية، والاختلاف، وأقسام الاختلاف، وطبيعته، ومفرقاً بين الإيمان والعقيدة؛ مبيناً مراحل تطور العقائد الإسلامية، وأسباب الاختلاف التاريخية والموضوعية؛ وهو كتاب يعالج موضوع الاختلاف بمنهجية تأصيلية؛ تساعد على تجفيف منابع التعصب.
  5. فقه التعايش غير المسلمين في المجتمع الإسلامي؛ حقوقهم وواجباتهم- تأليف: روح الله شريعتي، تعريب على آل دهر الجزائري، الطبعة الأولى 2009م، وهو كتاب تناول التصنيفات المختلفة لغير المسلمين، وأصول العلاقة مع غير المسلمين، وحقوق أهل الكتاب، وحقوق غير أهل الكتاب، وعقود الذمة، والتجنيس، والأمان، والعهد، والميثاق، وجرائم غير المسلمين وعقوباتها، وتعامل المسلمين مع غير المسلمين في المجتمع الإسلامي؛ وهو كتاب يبين وجهة النظر الشيعية؛ في التعامل مع غير المسلمين في ظل الدولة الإسلامية والمجتمع المسلم.

الفصل الأول

التنوع – أبعاده وحكمته

ودور الشورى في إدارته

المبحث الأول

مدخل تعريفي

وفيه خمسة مطالب:

المطلب الأول: تعريف التنوع

المطلب الثاني: تعريف المجتمعات الإسلامية المعاصرة

المطلب الثالث: تعريف الشورى وأبعادها وفيه فروع

المطلب الرابع: تعريف الديمقراطية

المطلب الخامس: تعريف الإدارة

المطلب الأول

تعريف التَّنَوُّع

التَّنَوُّع والتَّعَدُّد والتَّمَايُز، ألفاظ متقاربة المعنى. ففي اللغة تنَوَّعَت (الأشياء) تتنوَّع، تنوُّعاً: تصَنَّفَت وصارت أنواعاً، قال صفي الدين الحِلِّي

وتنوَّعتْ بُسُطُ الرّياض فَزهْرُها              متباين الأشكال والألوان().

وفي تعريفات الجرجاني: (النوع) اسم دال على أشياء كثيرة مختلفة بالأشخاص.

وتمايَز القوم: تفرقوا وتحزَّبوا () وهنالك مظاهر كثيرة للتنوع في الكون والحياة والأحياء، قال تعالى: ” أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا وَمِنَ الجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ (27) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُور“ٌ (فاطر:27-28).

غير أنّ البحث سينحصر على التنوع في الحياة البشرية؛ وفي المجالات التي يمكن أن تُحْدِث صراعات في العلاقات الإنسانية. فالتنوع بهذا المعنى هو “التعدد والتباين والاختلاف بين البشر في ألوانهم وجنسياتهم وآرائهم ومعتقداتهم وقيمهم وثقافاتهم وأديانهم ومناهج حياتهم”() وأما التَّعَدُّدِية فإنها تعني في أي شكل من أشكالها “مشروعية التعدد، وحق جميع القوى والآراء المختلفة في التعايش، وفي التعبير عن نفسها، وفي المشاركة على صعيد تسيير الحياة في مجتمعها”(). فهنالك فرق بين التنوع والتعددية كمصطلح، ويتفق التنوع مع التعددية كمفهوم.

“فالتعددية كمفهوم وصف لظاهرة محسوسة ومشاهدة، أَلاَ وهِي التَّنَوع، والتباين، والاختلاف بين البشر، في ألوانهم وجنسياتهم، وآرائهم ومعتقداتهم، وقيمهم، وثقافاتهم، وأديانهم، ومناهج حياتهم”()، وأما التعددية ” كمصطلح؛ فتتناول أمرا آخر، ألا وهو منهج التعامل مع ظاهرة التَّبايُن والتنوع في حياة الناس. فالتعددية بوجهها الأول: وصف لظاهرة طبيعية، قائمة وواقعة في كل المجتمعات، والتعددية بوجهها الثاني: نظرية وتصور لحقيقة حدود التباين، والتنوع، وضوابط الاتفاق والافتراق، وكيفية تنظيم المجتمع على أساس ذلك”().

وجاء في المادة الأولى للإعلان الثقافي لليونسكو “ التنوع الثقافي بوصفه تراثا مشتركا للإنسانية: تتخذ الثقافة أشكالا متنوعة عبر المكان والزمان. ويتجلى هذا التنوع في أصالة الهويات المميزة للمجموعات والمجتمعات التي تتألف منها الإنسانية وتعددها. والتنوع الثقافي، بوصفه مصدرا للتبادل والتجديد والإبداع، هو ضروري للجنس البشري ضرورة التنوع البيولوجي بالنسبة إلى الكائنات الحية. وبهذا المعنى يكون التنوع الثقافي هو التراث المشترك للإنسانية، وينبغي الاعتراف به والتأكيد عليه لصالح الأجيال الحالية والأجيال القادمة”.فحسب تعريف منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو)، فإنّ “عبارة تنوع”: يُقصد بها عَديد الطُّرق المُعَبِّرة عن ثقافات الفئات الاجتماعية والمجتمعات. ويتم تناقل أشكال التعبير عن هذه الثقافات؛ من خلال السلع والخدمات الثقافية داخل المجتمعات وفيما بينها، ولا تنحصر بالضرورة داخل نطاق الحدود الوطنية…ولا تقتصر تجليات التنوع الثقافي على تنوع أساليب التعبير عن التراث الثقافي للبشرية، وأساليب حمايته وإثرائه ونقله إلى الأجيال المقبلة، بل تشمل كذلك تنوع أشكال التعبير الثقافي التي تحملها السلع والخدمات الثقافية في جميع أنحاء العالم، وشتى أنماط الإنتاج والنشر والتوزيع والاستهلاك، أيا كانت الوسائل والتكنولوجيات المستخدمة. ().

ويتضح من تعريف اليونسكو للتنوع أنه يشير إلى الأسلوب الذي يدار به التنوع، وبالجملة فإن التنوع مصطلح يطلق على تعدد الطرق والأساليب المختلفة؛ التي يمارس بها الناس حياتهم العقائدية والفكرية والسياسية والثقافية، وبصورة أوضح تلك الممارسات الإنسانية المتعددة في كافة مناحي الحياة.

المطلب الثاني

تعريف المجتمعات الإسلامية المعاصرة

تعريف المجتمع: المجتمع “هو كيان جماعي من البشر، بينهم شبكة من التفاعلات والعلاقات الدائمة والمستقرة نسبيا، وتسمح باستمرار هذا الكيان وبقائه وتجدده في الزمان والمكان”() والمعاصرة يقصد بها الفترة الزمنية الآنية التي تشكلت فيها الدولة القطرية الحديثة، وبالنسبة لمجتمعات المسلمين؛ فإن بعض الباحثين المسلمين قدموا تعريفات للمجتمع المسلم؛ تنسجم مع مبادئ الشريعة الإسلامية وقواعدها، حيث أكد الإسلام في مواضع كثيرة من القرآن والسنة، بأن المسلم أخو المسلم، والمؤمن أخو المؤمن، وأنه لا فضل لعربي على عجمي، ولا فضل لأبيض على أسود إلا بالتقوى، قال تعالى:” يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ” (الحجرات:13)، هذه الآية حددت أن التقوى هي مقياس التفاضل عند الله سبحانه وتعالى، فأكرم الناس عند الله أكثرهم تقوى. ومن هنا يتضح لنا أن من أهم مميزات المجتمع الإسلامي: أنه قائم على الأخوة الإيمانية () وهنالك بعض المفردات التي لها صلة بمصطلح “المجتمع” وهي الأمة،والقوم، والجماعة، والحزب، والطائفة، والرهط:

الأمة في اللغة: تعني الجيل والجنس من كل حيّ () وردت كلمة الأمة في القرآن والسنة للدلالة على جميع المسلمين في كل مكان أو زمان قال تعالى:” إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِّلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ المُشْرِكِينَ” [النحل:120]. وقد يطلق لفظ الأمة ويراد به جميع المسلمين في وقت معين ()، كما في قوله : (ستكون هنات()، وهنات، فمن أراد أن يفرق أمر هذه الأمة وهي جميع فاضربوه بالسيف كائناً من كان)().

القوم في اللغة: تعني الجماعة من الناس تجمعهم جامعة يقومون لها
وتطلق لفظة القوم ويراد بها الجماعة، وقد تطلق ويراد بها جماعة من الرجال دون النساء() كما في قوله تعالى:” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا  لاَ  يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْراً مِّنْهُمْ وَلاَ نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ وَلاَ تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلاَ تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاسْمُ الفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ” الحجرات:11). وقد تطلق ويراد بها جماعة من الرجال والنساء، كما في قوله تعالى:” إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ” [نوح:]

وقد وردت للدلالة على المجتمع المسلم، كما في قوله تعالى:” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ…”  [المائدة:54]().

الجماعة في اللغة: تعني عدد كل شيء وكثرته. وتعني أيضاً طائفة من الناس يجمعها غرض واحد () ورد لفظ الجماعة للدلالة على المجتمع المحدود بإقليم معين أو زمن معين، ويدل على هذا حديث حذيفة رضي الله عنه حينما سأل رسول الله ما يفعل إن أدركه الشر من بعض الناس؟ قال: رسول الله : (تلزم جماعة المسلمين وإمامهم..)().

الحزب في اللغة: يطلق على الجماعة التي فيها قوة وصلابة. كما يطلق على كل قوم تشاكلت أهواؤهم وأعمالهم () وقد وردت هذه اللفظة في القرآن والسنة للدلالة على كل طائفة يجمعها الاتجاه إلى غرض واحد قال تعالى: وَمَن يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الغَالِبُونَ” [المائدة:56]، وتطلق أيضاً ويراد بها جنود الكفار الذين تألبوا على النبي وأصحابه وتظاهروا عليه().

الطائفة في اللغة: هي الجماعة والفرقة، أو هي الجماعة من الناس، وتقع على الواحد إلى الألف ().

وقد وردت اللفظة في القرآن والسنة للدلالة على المجتمع ()، قال تعالى: وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ” (الحجرات:9).

وقال :”لا تزال طائفة من أمتي على الحق”().

الرهط في اللغة: ما دون العشرة من الرجال ()، وقد ورد ذكر لفظة الرهط في القرآن الكريم للدلالة على العشيرة والقبيلة قال تعالى: “ قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِّمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفاً وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا  أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ (91) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِياً إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ” (هود:91-92).

المجتمع المسلم: هو ذاك المجتمع الذي تميز عن المجتمعات الأخرى بنظمه الخاصة، وقوانينه القرآنية وأفراده الذين يشتركون في عقيدة واحدة، ويتوجهون إلى قبلة واحدة، ولهذا المجتمع – وإن تَكَوَّن من أقوام متعددة، وألسنة متباينة – خصائص مشتركة، وأعراف عامة، وعادات ().

وعرفه آخرون بأنه: خلائق مسلمون في أرضهم مستقرون، تجمعهم رابطة الإسلام، وتدار أمورهم في ضوء تشريعات إسلامية وأحكام، ويرعى شئونهم ولاة أَمْر منهم وحكام ().

مكونات المجتمع الإسلامي المعاصر:

المجتمع الإسلامي المعاصر يتكون من التنظيمات الآتية:

  1. الأمة؛ وهي في اللغة: تعني الجيل والجنس من كل حي، وقد وردت كلمة الأمة في القرآن والسنة للدلالة على جميع المسلمين في كل مكان أو زمان، ولفظ الأمة قد يطلق ويراد به الجماعة، وقد يراد به الدين والملة، وقد يراد به الذي يُقتدى به في الخير، وقد يراد به جميع المسلمين في وقت معيّن.
  2. القوم؛ والقوم في اللغة: هم الجماعة من الناس، وتطلق لفظة القوم ويراد بها الجماعة، وقد تطلق ويراد بها جماعة من الرجال دون النساء، وقد تطلق ويراد بها جماعة من الرجال والنساء.
  3. الجماعة؛ وهي في اللغة: تعني عدد كل شيء وكثرته، وتعني أيضاً طائفة من الناس يجمعها غرض واحد، وقد ورد لفظ الجماعة للدلالة على المجتمع المحدود بإقليم معين أو زمن معين.
  4. الحزب؛ وهو في اللغة: يطلق على الجماعة التي فيها قوة وصلابة، وقد وردت هذه اللفظة في القرآن والسنة للدلالة على كل طائفة يجمعها الاتجاه إلى غرض واحد، وتطلق أيضاً ويراد بها جنود الكفار الذين تألبوا على النبي وأصحابه.
  5. الطائفة؛ وهي في اللغة: تعني الجماعة والفرقة، أو هي الجماعة من الناس، وتقع على الواحد إلى الألف وقد وردت اللفظة في القرآن والسنة للدلالة على المجتمع.
  6. الرهط؛ وهو في اللغة: ما دون العشرة من الرجال، وقد ورد ذكر لفظة الرهط في القرآن الكريم للدلالة على العشيرة والقبيلة.
  7. المجتمع؛ وهو في اللغة: اسم مشتق من جَمَعَ، فالجمع ضم الأشياء المتفقة، أما اصطلاحاً، فقد اختلف علماء الاجتماع في العصر الحديث؛ في تحديد مفهوم المجتمع بالمعنى العام والخاص، والنماذج التي يصح إطلاق اسم المجتمع عليها ولهم تعريفات عديدة للمجتمع.
  8. المجتمع المسلم؛ هو مجتمع حُدِّدت أهدافه ورُسمَت ملامحُه، ويستمد تنظيمه من نصوص الشريعة الإسلامية السمحة وأحكامها، التي جاء بها القرآن الكريم والسنة النبوية، ويرتبط أفراد هذا المجتمع برابطة الإيمان بالله، وهي رابطة الفكرة، وليست رابطة الدم ولا النسب ولا العصبية، وهي أشرف الروابط وأوثقها ().

ورابطة المجتمع المسلم لا تلغي الروابط الأخرى، الرحمية والقومية والإنسانية، بل تستصحبها وتمنعها من الانزلاق نحو العصبية.

المطلب الثالث

تعريف الشورى

وفيه ستة فروع:

الفرع الأول: الشورى في اللغة:

الشورى في اللغة: مأخوذة من قول العرب: شرت العسل يعني أخذته من مواضع النحل، ومعنى هذا أن استخراج الرأي الصائب من مواضعه، يشبه استخراج العسل، كما قال الفيومي، شبه حسن النصيحة بشرب العسل() جاء في “المصباح المنير”: “شُرْت العسل (أشوره) (شورا) من باب قال جنيته ويقال شربته، وشرت الدابة (شورا) عرضتها للبيع بالإجراء ونحوه. وأشار إليه بيده إشارة، وشوّر لو استأذنه في شيء فأشار بيده أو رأسه أن يفعل أو لا يفعل، فيقوم مقام النطق، وشاورته في كذا واستشرته، راجعته لأرى رأيه فيه، فأشار عليّ بكذا، أراني ما عنده فيه من المصلحة فكانت إشارة حسنة، والاسم المشورة وفيها لغتان: سكون الشين وفتح الواو، والثانية ضم الشين وسكون الواو.. وتشاور القوم واشتوروا، والشورى اسم منه”()، قال ابن منظور (ت 711هـ) في لسان العرب “الشورى والمشورة بضم الشين، مفعُله، ولا تكون مفعولة لأنها مصدر وتقول منه: شاورته في الأمر واستشرته بمعنى. وفلان خير شير، أي يصلح للمشاورة، وشاوره مشاورة وشواراً ، واستشارة: طلب منه المشورة… ويقال فلان وزير فلان وشيره، أي مشاوره. وجمعه شوراء”() قال تعالى:” فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظاًّ غَلِيظَ القَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُتَوَكِّلِينَ” )آل عمران:159)، والشورى: الأمر الذي يتشاور فيه، قال تعالى:” وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ” (الشورى:38)، والخلاصة: فالشورى تعني الإظهار، والاستخراج

الفرع الثاني: الشورى في الاصطلاح:

جاء في كتاب المفردات في غريب القرآن للراغب الأصفهاني: “التشاور والمشاورة والمشورة: استخراج الرأي بمراجعة البعض للبعض”(). وجاء في كتاب “أحكام القرآن” لابن العربي: “المشاورة هي الاجتماع على الأمر ليستشير كل واحد منهم صاحبه ويستخرج ما عنده”().

ويقول الدكتور: وهبة الزحيلي “التشاور والمشاورة والمشورة: استخراج الرأي من المستشارين”() ويفسر قوله تعالى:” وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ” بقوله” تعرف على آرائهم في سياسة الأمة في الحرب والسلم وشؤون الحياة الدنيوية تطييباً لقلوبهم وليستن بك، وكان صلى الله عليه وسلم كثير المشاورة لهم ().

فالتعاريف تتفق على معنى واحد للشورى، خلاصته: تبادل الآراء؛ للتوصل إلى الرأي الأصوب. “ويمكن أن نعرف الشورى بأنها: “النظر في الأمور من أرباب الاختصاص والتخصص لاستجلاء المصلحة المفقودة شرعا ً وإقرارها”. وهذا التعريف يعم وينسحب على كل أمر تجري بشأنه مشاورة؛ سواء على مستوى الأسرة، أو الدولة, أو المنظمات الداخلية, أو المنظمات الدولية التي تجعل النظام العام الإسلامي نبراساً لها. مثل المؤتمر الإسلامي، وجامعة الدول العربية, وجامعة الشعوب الإسلامية ؛ إلى غير ذلك وينسحب – من باب أولي- على سلطة التشريع والرقابة”().

الفرع الثالث: الشورى: في القرآن الكريم:

جاءت مادة الشورى في القرآن الكريم في مواطن ثلاثة. أحدها خاص بالحديث عن الأسرة ومشكلاتها، فجعل القرآن (التشارو) وسيلة من وسائل الفصل في هذه المشكلات. وذلك عندما قال عن الرضاعة ونظامها ومسئوليتها: ” وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى المَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ  لاَ  تُكَلَّفُ نُفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا  لاَ  تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُّمْ أَن تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُم مَّا آتَيْتُم بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ” (البقرة:233)، فلا جناح عليهما في الفصال إذا كان عن تراض وتشاور.. فالإسلام يهتم بالشورى حتى في الأمور العادية؛ ليربي المجتمع على هذه القيمة؛ لتكون سلوكا وثقافة للمسلمين في كل أحوالهم.

ففي تفسير قوله تعالى: “ عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ ” أورد الطبري أقوال بعض العلماء منهم حبر الأمة ابن عباس حيث قال: عن ابن عباس “ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا ” أن يفطماه قبل الحولين وبعده. وأما قوله: “ عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ ” فإنه يعني عن تراض منهما وتشاور فيما فيه مصلحة المولود لفطمه” وقول مجاهد حيث قال: ” التشاور فيما دون الحولين، ليس لها أن تفطمه إلا أن يرضى، وليس له أن يفطمه إلا أن ترضى” وقول: “التشاور ما دون الحولين إذا اصطلحا دون ذلك. وذلك قوله: “ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا ” فإذا قالت المرأة أنا أفطمه قبل الحولين، وقال الأب لا. فليس لها أن تفطمه قبل الحولين، وإن لم ترض الأم، فليس له ذلك حتى يجتمعا، فإن اجتمعا قبل الحولين فطماه، وإذا اختلفا لم يفطماه قبل الحولين. وذلك قوله تعالى” فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا ().

ومن المعاصرين الدكتور وهبة الزحيلي يقول في قوله تعالى:” فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا” دليل على جواز الاجتهاد في الأحكام بإباحة الله تعالى للوالدين؛ التشاور فيما يؤدي إلى صلاح الصغير، وذلك موقوف علي غالب ظنونهما لا على الحقيقة واليقين. وإذا أرشد القرآن إلى التشاور في أدني الأعمال لتربية الولد، فهو مطلوب بالأولى في أجَلّ الأعمال خطرا وأعظمها فائدة وهي مشورة الحكام في مصالح الأمة لذا أمر الله رسوله بمشاورة أصحابه قائلا: “ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ ” ومدح المؤمنين بقوله: “ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ أما الموطن الثاني؛ فيتعلق بإدارة الأمور العامة. ففي الحديث عن غزوة أحد، ونتائج القتال فيها،  وكان الرسول صلى الله عليه وسلم  قد رغب البقاء بالمدينة ولقاء عدوه فيها، فأشار عليه أصحابه بالخروج، كما أنهم خالفوا أمره الذي رتب به بعض مواقع الرماة، كما هو مشهور.

عن هذه الأحداث يتحدث القرآن، ثم يخلص إلى القول متحدثا إلى الرسول عليه الصلاة والسلام “فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظاًّ غَلِيظَ القَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُتَوَكِّلِينَ” (آل عمران:159)، لقد اختلف أهل التأويل كما يقول الطبري()– في المعنى الذي من أجله أمر تعالى ذكره نبيه صلى الله عليه وسلم أن يشاورهم، وما المعنى الذي أمره أن يشاورهم فيه. فقال بعضهم: “أمر الله نبيه بقوله: “ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ” بمشاورة أصحابه في مكايد الحرب، وعند لقاء العدو؛ تطييباً منه بذلك لأنفسهم، وتألفا لهم على دينهم، وليروا أنه يسمع منهم ويستعين بهم، وإن كان الله عز وجل قد أغناه بتدبير أموره، وسياسته إياه، وتقويمه أسبابه عنهم. ذكر من قال ذلك، حدثنا بشر قال: ثنا يزيد قال: ثنا سعيد عن قتادة قوله “ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ ” أمر الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم أن يشاور أصحابه في الأمور وهو يأتيه وحي السماء لأنه أطيب لأنفس القوم، وأن القوم إذا شاور بعضهم بعضا وأرادوا بذلك وجه الله عزم لهم على رشده”().

وقال آخرون: “بل أمره بذلك وإن كان له الرأي وأصوب الأمور في التدبير لما علم في المشورة تعالى ذكره- من الفضل ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن وكيع قال ثنا أبي عن سلمة بن نبيط عن الضحاك بن مزاحم قوله: “ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ ” قال ما أمر الله عز وجل نبيه  صلى الله عليه وسلم بالمشورة إلا لما علم فيها من الفضل”. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال ثنا معتمر بن سليمان، عن إياس بن دغفل، عن الحسن: ما تشاور قوم قط إلا هدوا لأرشد أمورهم، وقال آخرون إنما أمره الله بمشاورة أصحابه فيما أمره بمشاورتهم فيه مع إغنائه بتقويمه إياه وتدبيره أسبابه عن آرائهم؛ ليتّبِعه المؤمنون من بعده فيما حزبهم من أمر دينهم، ويستنوا بسنته في ذلك، ويتخذوا المثال الذي رأوه يفعله في حياته في مشاورته في أموره، مع المنزلة التي هو بها من الله؛ ليقتدي أصحابه وأتباعه في الأمر ينزل بهم من أمر دينهم ودنياهم، فيتشاوروا بينهم ثم يصدروا عما اجتمع عليه ملؤهم، لأن المؤمنين إذا تشاوروا في أمور دينهم متبعين الحق في ذلك، لم يخلهم الله عز وجل من لطفه وتوفيقه للصواب من الرأي والقول فيه”().

ويبين محمد فتح الله كولن() الحكمة من عدم تراجع النبي صلى الله عليه وسلم عن قرار الأغلبية بالخروج إلى أحد، بعدما خرج لابساً لباس الحرب، وقال له الصحابة” يا رسول الله إن شئت فاقعد”، فرفض النكوص عن القرار لأنه:

أولاً:   كان يعني إجراء ضغط على أفكار الآخرين، وهذا يعني الدخول إلى دائرة مفرغة، ثم إن الرجوع عن قرار متخذ حسب أفكار ومشاعر الأفراد ليس من شيمة أي قائد اعتيادي، ويعد خطأ كبيرا، فكيف برسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن الطبيعي أن يتَنزّه الرسول عن مثل هذا الخطأ.

ثانياً: لو تم الدخول في حرب دفاعية، وحدث شيء غير متوقع، أو ضرر غير منتظر، لارتفعت أصوات بعض الذين عارضوا هذه الحرب. كان هذا احتمالا واردا على الدوام.

ثالثاً: النجاح والسمعة والغنائم التي تكتسب في أي حرب دفاعية؛ لا يمكن قياسها بما يتم الحصول عليه في الحرب الميدانية، وكان من الممكن استغلال هذا الأمر من قبل غير الراضين.

لكل هذه الأسباب وما يشابهها، فقد قال الرسول : “لا ينبغي لنبي يلبس لامته فيضعها حتى يحكم الله”() ذلك لأن الله تعالى عندما يقول: “ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ” إنما يأمره بأن يكون شخصاً غير متردد ثابت القرار. أجل فأي تردد سيقذف في قلوب تابعيه الخوف والقلق والتردد، وكل تحرك جديد سيؤدي إلى تشتت الآراء ويسوق الجمهور إلى أفكار مختلفة، وهذا يؤدي إلى التحلل والتَّبَثُّر. صحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ كان يود البقاء في المدينة والدخول في حرب دفاعية. ولكن عندما رجحت كفة الحرب الميدانية في أثناء إجرائه الشورى؛ قرر تنفيذ ما استقرت عليه نتيجة المشورة، ولم يكن من المناسب الرجوع عن هذا القرار مهما كانت النتائج. فلو كلفه تثبيت أسلوب الشورى سبعين ألفا وليس سبعين شخصا؛ لما تردد في سلوك هذا الطريق().

والموطن الأخير الذي تحدث فيه القرآن، باللفظ. عن الشورى جاء في معرض تعداد أوصاف المؤمنين.. فقال الله سبحانه وتعالى في تعداد أوصافهم: وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ(الشورى:38)، ففي الجانب الديني استجابوا لله فآمنوا به، ثم أقاموا الصلاة التي صدقت ودلت على هذا الإيمان.. وفي أمورهم وسياستهم وشئونهم الدنيوية التزموا الشورى كفلسفة وسلوك.. وفي الأموال سلكوا طريق الإنفاق بعد أن اقتصروا في الكسب على “ما رزقناهم” أي الكسب المشروع والحلال. ذلك هو موقف القرآن من (الشورى) كفلسفة وسلوك. “().

الفرع الرابع: الشورى في السنة:

عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (المستشار مؤتمن)(). وعنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : “من تقوَّل عليَّ ما لم أقلْ، فليتبوّأ مقعدَه من النار. ومن استشاره أخوه المسلم فأشار عليه بغير رْشد فقد خانه. ومن أفتى بفتيا غير ثبت، فإنما إثمه على من أفتاه”(). وعن علي رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “لو كنت مؤمِّراً أحدا من غير مشورة منهم، لأمرت عليهم ابن أم عبد”()، يعني عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. فدل هذا على استمساك النبي بالشورى، ودقة التزامه بها، وأنه لا يقضي في أمر من أمور المجتمع الإسلامي بلا شورى، وبخاصة إذا كان هذا الأمر يتعلق بالإمارة أو الولاية علي الناس().

الفرع الخامس: الشورى ممارسة ونطاقا:

قال أبو هريرة رضي الله عنه فيما رواه الترمذي “لم يكن أحد أكثر مشاورة من رسول الله صلى الله عليه وسلم . وسجلت السيرة كثيرا من المواقف التي استشار فيها منها:

  • شاورهم يوم بدر عندما استجد الموقف وكان من المحتم أن يلتقوا بالنفير الذي خرج من مكة.
  • استمع إلى رأيهم بعد أن طلب منهم النزول يوم بدر وغير موقفه عندما أشار الحباب بمنزل آخر.
  • شاورهم فيما يفعل بأسرى بدر.
  • شاورهم يوم أحد هل يخرج لملاقاة العدو أو يتحصن في المدينة.
  • شاورهم يوم الخندق في مصالحة غطفان للخروج من حلف الأحزاب على أن يأخذوا ثلث ثمار المدينة.
  • شاورهم يوم الحديبية في أن يميل على ذراري المشركين فقال الصديق: إنا لم نأت لقتال أحد وإنما جئنا معتمرين فأجابه إلى ما قاله.
  • وفي قصة الإفك قال: “أشيروا عليّ معشر المسلمين في قوم أبنوا أهلي() ورموهم وأيْم الله ما علمت على أهلي من سوء، وأبنوهم بمن والله ما علمت إلا خيرا”().
  • واستشار عليًّا وأسامة في فراق عائشة رضي الله عنها().
  • وبالجملة فما من غزوة غزاها النبي ، ولا حادثة ذات بال، إلا واستشار أصحابه فيها وأخذ برأيهم().

الفرع السادس: مفهوم الشورى():

الشورى مبدأ من مبادئ الإسلام السياسية، وهي صفة للمؤمنين ضمن صفات أخرى ذُكِرت في القرآن الكريم. والتزاما بفلسفة الشورى، شاور رسول الله أصحابه في مختلف المواطن، وبصدد معضلات متنوعة.. وفضلا عما سبق شاور أصحابه في اتخاذ وسيلة للإعلام بأوقات الصلاة. وفي حدَّي الزنا والسرقة قبل أن ينزل في حدَّيهما قرآن.. حتى أن الإجماع قد استقر على أن جميع أمور الدنيا ومصالح الناس قد خضعت، على عهد الرسول، لمبدأ الشورى وسلطانها، وذهب بعضهم إلى أن الشورى قد امتد نطاقها فشمل كذلك بعضا من أمور الدين…

وأيٍّا كان الصواب في هذا الخلاف فإن المقطوع به أن أمور الدنيا وكل ما لم يخضع لقرار صريح من وحي السماء، فهو مادة للشورى وموضوع لها.” وعندما شاور الرسول أهل المدينة يوم غزوة الأحزاب شاورهم “في أمرين: أحدهما، في حفر الخندق، حتى اتفقوا عليه، والثاني: في صلح الأحزاب على ثلث ثمار المدينة، فقالوا: “إن كان الله أمرك بهذا فالسمع والطاعة لأمر الله، وإن كان غير ذلك فلا تطمعهم فينا. فإنهم في الجاهلية لم يكونوا يصلون إلى ثمره إلا بشراء أو قِرى “فامتنع رسول الله عما كان ذهب إليه من مصالحتهم على ثلث ثمر المدينة”().

وللشورى فوائد كثيرة أهمها: تقدير المستشارين، وإنضاج بحث الرأي المقترح بعد تقليب وجهات النظر، واتحاد الناس على مسعى واحد، واختيار الرأي الأصوب()، فالرسول قد استمع إلى مشورة أصحابه في أُحُد فتحقق الضرر، ولكن القرآن يُنَبِّه أن هذا الضرر، رغم فداحته هو أخف الضررين، لأنه لو لم يستجب لرأيهم ومشورتهم لتفرقوا وانفضوا من حوله، وهذا ضرر أعظم، فالشورى، إذن هي سبيل الألفة والوحدة، وهذا هو الكسب الجوهري والأعظم بصرف النظر عن الأضرار التي تحدث في الطريق إلي نيل هذا الهدف العظيم. إنها فلسفة في الإصلاح والتطور والتقدم؛ ترفض اختيار الطريق الأقصر، والزمن الأقل، والمكسب العاجل، وتضع عينها على الهدف الأسمى، وتربط بين شرف الوسائل وشرف الغايات.

إنها قيمة من قيم المجتمع الإسلامي الأساسية، وقد حرص عليها رسول الله في أكثر من موقف، واقتدى به صحابته الكرام. يقول الدكتور عمادالدين خليل() في كتابه – الوحدة والتنوع في تاريخ المسلمين: “لقد أكد كتاب الله أكثر من مرة فكرة الشورى؛ أسلوبا للتوصل إلي القرارات الخطيرة التي تهم الجماعة المسلمة، ومارسها الرسول  صلى الله عليه وسلم خلال قيادته للدولة الإسلامية الناشئة أكثر من عشر سنين، في عديد من المواقف الحاسمة. وهاهم صحابته رضي الله عنهم يواصلون الطريق.. لم يعهد أحد منهم بالمهمة لابن أو أخ أو قريب، ولم يخطر بباله قط أن يقف بمواجهة إجماع المسلمين ومشيئتهم”()، ويذهب الأستاذ فريد عبدالخالق(): إلى أن الشورى فريضة إسلامية ومبدأ دستوري فيقول: “يضع جمهور علماء الشريعة وفقهاء القانون الدستوري الشورى- كفريضة إسلامية ومبدأ دستوري أصيل على رأس المبادئ العامة والأصول الثابتة التي قررتها نصوص قرآنية وأحاديث نبوية، فهي في ذلك ملزمة لا حجة لأحد في تركها…

وقد ذهب جمهور الفقهاء والباحثين إلى أن الشورى هي أساس الحكم الصالح، وهي السبيل إلى تبين الحق، ومعرفة أسد الآراء والرؤى”()، وأصوبها -كما يراها الأستاذ الدكتور توفيق الشاوي()– أنها: إسهام أفراد المجتمع وتعاونهم من خلال التشاور الحر قبل اتخاذ القرارات. ومفهوم الشورى وفق هذا التعريف ثريّ جداً، ويمكن من خلال منهج التوليد تشغيل التعريف على مستوى الفكر السياسي، بما يمكننا من أن ننتج مفهومًا كاملاً ومتكاملاً للشورى التي جعل الله أمر المسلمين وقفًا عليها، بل كانت أحد صفات المسلمين أن “ أَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ” ().

الفرع السابع: حكم الشورى:

تستمد الشورى مشروعيتها وسندها من المصدرين الرئيسين للتشريع الإسلامي: القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، بالإضافة إلى إجماع علماء الأمة واجتهاد فقهائها().

اختلف العلماء قديما وحديثا حول حكم الشوري ما بين الوجوب والندب والإباحة. فمن الذين قالوا بالندب الإمام الشافعي؛ فقد أورد في “الأم” أن الأمر في قوله تعالى: “ أَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ ” لتطييب القلوب، وابن حزم كذلك يميل إلى إدخالها في دائرة الندب، فهي عنده غير ملزمة. يقول:” فرد الأمر إلى النبي صلى الله عليه وسلم لا إليهم” ويسأل من زعم لزوم المشاورة، فإن قالوا لا يصح شيء من الشرع إلا بمشاورتهم كلهم أتوا بالمحال والحرج، وإن قالوا يصح بمشاورة البعض قلنا فلماذا البعض؟ وكم؟ فصح أن الآية ندب”().

ومن المعاصرين الذين قالوا بأن الشورى مندوبة: الدكتور صابر طعيمة؛ الذي يقول: “الشورى سنة مؤكدة، ومن هدي النبي صلى الله عليه وسلم  ، وعلى ولي الأمر أن يتخير من الآراء ما فيه الخير والمصلحة للرعية حسب القواعد الفقهية()، ونقل عن النووي وابن حجر وابن تيمية وابن القيم والجويني أنهم اتفقوا جميعا على أن الشورى مستحبة غير واجبة”()، وحجتهم في ذلك أن الأمر بالشورى الوارد في سورة آل عمران هو لتطييب خواطر المسلمين وليس ملزما للرسول صلى الله عليه وسلم ولا لولاة الأمر من بعده، ” فهو أمر للرسول صلى الله عليه وسلم ثم لمن يكون وليا من بعده أن يستعرض آراء أصحابه الذين يراهم موضع الرأي، الذين هم أهل الأحلام والنهى، في المسائل التي تكون موضع تبادل الآراء وموضع الاجتهاد في التطبيق، ثم يختار من بينها ما يراه حقا أو صواباً أو مصلحة، فيعزم على إنفاذه، غير متقيد برأي فريق معين، ولا برأي أكثرية، ولا برأي أقلية، فإذا عزم توكل على الله، وأنفذ العزم على ما ارتآه”()، وأما القائلون بالوجوب فمنهم الفخر الرازي؛ حيث قال: “وشاورهم يقتضي الوجوب”() والأمر يدل على الوجوب ما لم ترد قرينة تصرفه من الإيجاب إلى الندب. وقال ابن عطية: “الشورى من قواعد الشريعة وعزائم الأحكام. ومن لا يستشير أهل العلم والدين فعزله واجب. وأضاف القرطبي: هذا لا خلاف فيه”().

ويرد الجصاص الحنفي على من زعم بأن الشورى ليست واجبة فيقول: “وغير جائز أن يكون الأمر بالمشاورة على جهة تطييب نفوس الصحابة ورفع أقدارهم، كما ذهب بعض الفقهاء؛ لأنه لو كان معلوما عند المستشارين أنهم إذا استفرغوا جهدهم في استنباط الحكم الذي يستشارون فيه، لا يكون معمولا به ، ولا يتلقى بالقبول، فلم يكن في ذلك تطييب لنفوسهم ولا رفع أقدارهم، بل فيه إيحاشهم وإعلامهم بأن آراءهم غير مقبولة ولا معمول بها، فهذا تأويل ساقط لا معنى له”()، فالقول بوجوب الشورى هو الأرجح للاعتبارات التي ذكرها الجصاص ولعمل النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين، حيث مارسوا الشورى في مواقف متعددة تتعلق بشؤون الأمة. والحق أن الرأي الصحيح وهو الذي ارتضاه جل المفسرين والعلماء هو أن الشورى واجبة وجوبا عينيا على الحاكم، وأن الأمر في قوله تعالى:” وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ ” [آل عمران:159]، يفيد الوجوب، مادام أنه لا توجد قرينة تصرفه إلى الندب، كما يقول علماء الأصول. والذي يقوي هذا، أن الأمر إنما كان في أعقاب غزوة أحد، فإنه لما كانت مشورة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؛ قد أسفرت إلى الهزيمة في غزوة أحد، ظن بعض المسلمين أن النبي  صلى الله عليه وسلم ؛ سيتخلى عن الشورى، فنزلت هذه الآية تأكيدا على وجوبها مهما كانت نتيجتها().

يقول الشيخ أبو زهرة: “وخير للجماعات أن تخطئ في رأي تبديه وهي حرة من أن تفرض عليها آراء صائبة، فإن صوابها يكون مقترنا بإرهاق نفسي وضغط للإرادة وذلك أشد ضررا في تكوين الأمم”()،

ويقول الشيخ حسنين مخلوف: “ولم يرد في السنة ما يدل على أنه  صلى الله عليه وسلم شاور أهل الشورى ثم أعرض عما أشاروا إليه به”. ولم تقتصر مشاورته صلى الله عليه وسلم على الرجال فحسب، فقد صح أنه دخل يوم صلح الحديبية على زوجه أم سلمة يشكو إليها أنه أمر أصحابه بنحر هديهم وحلق رؤوسهم، فوجموا ولم يفعلوا، فقالت: يا رسول الله! أتحب ذلك؟ أخرج ولا تكلم أحدا منهم كلمة حتى تنحر بُدْنك وتدعو حالقك فيحلقك. فخرج رسول الله  صلى الله عليه وسلم وفعل ما قالته أم سلمة(). وفي رده على الذين يرفضون رأي الأغلبية؛ بحجة أن الحق ليس خاضعا لرأي الأغلبية! يقول الدكتور محمد عبدالله العربي: “يتضح أن التفسير الصحيح لقوله تعالى: ” وَعْدَ اللَّهِ  لاَ  يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ  لاَ  يَعْلَمُونَ [الروم:6] ينصرف إلى شؤون الدين والعقيدة وشؤون الآخرة ويوم الحساب، ولا ينصرف إلي شؤون الدنيا كمرافقهم ومصالحهم الدنيوية التي يحتاجون إليها في حياتهم اليومية، والتي لا يمكن الوفاء بها إلا عن طريق حاكم يختارونه، ويستشيرهم في تنظيمها”، بدليل أن الآية التي جاءت بعدها مباشرة تقول:” يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ”  [الروم:7]، أي أن غفلتهم عن الآخرة لا تنفي معرفتهم بالدنيا وشؤونها.

يقول الشيخ محمد الغزالي: “وليس عبثا صبيانيا، استشر الناس ثم خذ رأيا بعد ذلك لا تلتفت فيه إلى آراء الناس”. ويضيف: “الشورى التي لا تلزم من ينفذونها؛ شورى لا قيمة لها، وهي نوع من العبث، أو اللعب، فالشورى الناقصة شورى مرذولة، مرفوضة”. ويقول الشيخ محمد عبده: “فما معنى الشورى؟ ولماذا أمرنا الله بها إذا كان الحاكم لا يتبعها ولا يلتزم بها”().

يقول الإمام الصادق المهدي(): في أطروحة بعنوان الشورى والديمقراطية مقاربة ومقارنة: “الشورى هي: إشراك الآخرين في الأمر الخاص والعام، إنها مبدأ المشاركة، وهي مبدأ خلقي سياسي كالعدالة، وهما ضمن مبادئ أخرى.. يمثلان منظومة مبادئ الإسلام السياسية”().

ولا معنى للشورى إذا لم تتوافر معها ثلاثة أسس مساندة لها هي:

  • الحرية: إذ لا فائدة من شورى مكرهين مرعوبين. الحرية التي تكفلها نصوص إسلامية ناصعة: مثل قوله تعالى:” لاَ  إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الوُثْقَى  لاَ  انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ” [البقرة:256].
    • وَقُلِ الحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ…” [الكهف:29].
  • منع الانفراد بالسلطة أو باتخاذ القرار والتزام وليُّ الأمر بتداول الأمر بينه وبين الآخرين.. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ثَلاثَةٌ لا تَرْتَفِعُ صَلاتُهُمْ فَوْقَ رُءُوسِهِمْ شِبْرًا” منهم “رَجُلٌ أَمَّ قَوْمًا وَهُمْ لَهُ كَارِهُونَ)(). وتدل السيرة النبوية على أنه كان أكثر الناس استشارة لأصحابه (وَكَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ يَقُولُ مَا رَأَيْتُ أَحَدًا قَطُّ كَانَ أَكْثَرَ مَشُورَةً لأَصْحَابِهِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم)(). ويروي الإمام أحمد(): أن النبي  صلى الله عليه وسلم قال لصاحبيه أبي بكر وعمر رَضِي اللَّهم عَنْهمَا (لَوِ اجْتَمَعْتُمَا فِي مَشُورَةٍ مَا خَالَفْتُكُمَا)().
  • الاعتراف بمشروعية تعدد الآراء والتعددية الاجتهادية. قال صلى الله عليه وسلم: “َاسْتَفْتِ نَفْسَكَ” إلى أن قال: (وَإِنْ أَفْتَاكَ النَّاسُ وَأَفْتَوْكَ)()، وقال (إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ)().

الخلاصة: أن ولاية الأمر العام في الإسلام تقوم على الشورى على نحو ما قال عمر رضي الله عنه: (مَنْ بَايَعَ رَجُلا عَنْ غَيْرِ مَشُورَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَلا يُبَايَعُ هُوَ وَلا الَّذِي بَايَعَهُ تَغِرَّةً أَنْ يُقْتَلا)(). وأن على الحاكم أن يمارس الشورى في كل أمره. قال أبوبكر رضي الله عنه: “وُلِّيت عليكم ولست بِخيركم فإن أحسنت فأعينوني وإن أخطأت فقَوِّمُوني”().. هذا مُناخ فيه المُخَاطَبون أحرار()، ويرى الدكتور: محمد عمارة() أن: “الشورى مُصطلح إسلاميٌّ خالصٌ وأصيل.. وهو اسم من المشاورة التي تعني في اصطلاح العربية: استخراج الرأي.. فهي فعل إيجابي، لا يقف عند حدود التطوع بالرأي بل يزيد على التطوع إلى درجة العمل على استخراج الرأي استخراجا واستدعائه قصدا.. والشورى في الفكر السياسي الإسلامي، هي فلسفة نظام الحكم.. والاجتماع.. والأسرة.. لأنها تعني إدارة أمر الاجتماع الإنساني، الخاص والعام، بواسطة الائتمار المشترك والجماعي، الذي هو سبيل الإنسان للمشاركة في تدبير شؤون هذا الاجتماع”().

والذي يرجح إلزامية الشورى الآتي:

  1. إلزامية الشورى تتفق مع ما قرره الفقهاء من تسمية أعضاء مجلس شورى المسلمين “أهل الحل والعقد” فإذا كان رأيهم غير ملزم، فماذا يحلون وماذا يعقدون؟!
  2. إن القول بأن الشورى غير ملزمة، يؤدي إلى استبداد الحاكم، وظلم الرعية، وقتل شخصيتها.
  3. الحاكم في الأصل وكيل عن الأمة، وتقتضي الوكالة أن يعمل بإرادتها ورغبتها وتوجيهها، لا برغبته وإرادته، ورأي الأمة ممثلة في أهل الشورى، أقرب إلى الصواب، وأبعد عن الخطأ من رأي الحاكم إذا ما اختلف رأيه مع رأيها()، وأضيف أن الممارسة العملية أثبتت بما لا يدع مجالا للشك أن الأمر الذي يبرم عن طريق الشورى؛ تقل فيه نسبة الخطأ، ويحقق التماسك في المجتمع وتكون نسبة الجودة فيه أكثر من غيره.

المطلب الرابع

تعريف الديمقراطية

الديمقراطية كلمة يونانية تتركب من لفظين هما: (Demos) ومعناها الشعب، و(Kratos) ومعناها حكم، وهنالك أكثر من تعريف للديمقراطية، والقاسم المشترك لتعريفات الديمقراطية هو: حكم الشعب أو الحكم بالشعب أو الحكم الشعبي().

والديمقراطية، مذهب من المذاهب الفلسفية، كما أنها نظام من أنظمة الحكم، فهي مذهب يقوم على أن الأمة هي مصدر السلطات، وأن إرادتها هي أصل السيادة ومصدرها في الدولة، وهي كنظام للحكم؛ يراد بها ذلك النظام الذي يقوم على أساس إرادة الشعب، وتهدف إلى تحقيق الحرية والمساواة السياسية()، ويمكن القول أن الديمقراطية هي أسلوب للحكم في دولة ما، وهي نظرية لإدارة المجتمعات سياسيا وفقا لقيم ومبادئ معينة وذلك بهدف تحقيق أهداف محددة().

ويشرح معناها الدكتور محمد عابد الجابري() بقوله: “إن اللفظة يونانية، واعتقد أن الذي استعملها أول مرة، كان يقصد منها التعبير عن “فكرة مثالية” أكثر من التعبير عن واقع حي، أو عن تجربة ممارسة أو تمكن ممارستها” وأضاف:” اعتقد أنه ما تم ولن يتم في أي عصر من العصور: إن فكرة “الشعب” لا تستدعي مقابلا لها وهو فكرة الدولة. فمن الصعوبة تصور شعب دون نوع من التنظيم يربط هذا الشعب. ومن الصعب كذلك تصور تنظيم دون نوع من الجهاز الرابط المنسق. وكيفما كان هذا الجهاز، فإنه لا يمكن إلا أن يكون “دولة” أو مؤسسة قريبة الشبه بها. ثم إن كلمة حكم نفسها لا يتحدد معناها إلا إذا كان هناك طرفان: أحدهما حاكم، والآخر محكوم. هذا علاوة على الأداة أو الوسيلة التي تجسد العلاقة الضرورية بين هذين الطرفين”().

وفي قاموس المفاهيم السياسية “يقصد بالديمقراطية حكم الشعب لنفسه بنفسه، وأن السيادة للشعب، ومن ثم فإن كافة المؤسسات السياسية، والسلطات المختلفة مثل التشريعية والتنفيذية والقضائية تحكم نيابة عن الشعب، ولقد بدأت الديمقراطية المباشرة في “دولة المدينة” أثينا باليونان؛ حيث يجتمع جميع البالغين من سكان المدينة بغرض التصويت على القرارات الرئيسية، ومنها قرارات الحرب والسلام. وحينما زاد عدد السكان، تقرر انتخاب نواب أو ممثلين لهم في هيئة تشريعية تتخذ القرارات بالإنابة عنهم، وهو ما أدى إلى إنشاء ما يسمى بالديمقراطية النيابية أو التمثيلية. ويقوم مفهوم الديمقراطية على فكرة الحرية في التعبير والاختيار بين مختلف البدائل واحترام الرأي الآخر، هذا فضلا عن المساواة الكاملة بين المواطنين في الحقوق السياسية، بصرف النظر عن انتماءاتهم الطبقية أو السياسية أو العرقية أو الجغرافية. وفي النظم الديمقراطية، يصدر القرار بالأغلبية، وهو ما يتطلب احترام الأقلية؛ لأنها من الممكن أن تتحول إلى أغلبية في المستقبل”()، فالديمقراطية نظام للحكم لم يُتَّفَق على تعريفه تعريفا جامعا مانعا، فهنالك الديمقراطية اللبرالية، وهنالك الديمقراطية الاشتراكية، وهنالك الديمقراطية الإسلامية، فكل حضارة وضعت تعريفا للديمقراطية يتلاءم مع قيمها ومعتقداتها.

المطلب الخامس

تعريف الإدارة

إن كلمة “الإدارة” لم ترد في أي آية من آيات القرآن الكريم، ولكن وردت كلمة “تديرونها” في الآية الكريمة:” …إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ… [البقرة:282]، وقد أورد المعجم المفهرس مجموعة من الآيات فيها مشتقات الفعل الثلاثي “دار” تحت مادة “دور”() ومن خلال مراجعة كتب فهارس الحديث تبين أن الكلمة لم ترد في أي حديث من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ()، وذكرت معاجم اللغة كلمة “دور” ومشتقاتها، ولكنها لم تذكر كلمة “إدارة” إلا أن الرازي (ت666هـ) في “الصحاح”() وابن منظور(ت711هـ) في “اللسان”() والفيروز أبادي (ت816هـ) في القاموس المحيط()، والزبيدي (ت1205هـ) في “تاج العروس”() ذكروا كلمات قريبة منها ولم يذكروها بلفظها() أما دوزي فقد ذكر كلمة “أدار” وقال: “أدار السياسة: أي دبر أمورها وساس الرعية، وكذلك ” أدار” بمعنى جهد في العمل”()، وهذا يؤكد أنها حديثة الاستعمال بلفظها، ولذلك فقد عرفها علماء الإدارة المحدثون بقولهم: “الإدارة تتكون من جميع العمليات التي تستهدف تنفيذ السياسة العامة”()، وهذا التعريف يشمل جميع الميادين المدنية والاقتصادية والعسكرية والقضائية وغيرها()، يقول الأستاذ يوسف عبدالقدير(): “عُرفت الإدارة بمصطلحات ومعان عدة، وجاءت في الأصل من الفعل “يدير” ويدير الشيء أي يحركه من مكان لمكان آخر، وتأتي بمعان عدة مختلفة حسب المكان والزمان، فتعتبر الإدارة خدمة للغير ومساعدة لهم، لأنه من يعمل بالإدارة يقوم بخدمة الآخرين أو يصل عن طريق الإدارة إلى أداء الخدمة ، وهي العملية التي يمكن بواسطتها تنفيذ غرض معين، والإشراف عليه، وتنفيذ الأشياء عن طريق الآخرين، والإدارة في أساسها تنظيم وتخطيط وتوجيه وجهود شخصية في تحقيق الأهداف، باستغلال الموارد المتاحة عن طريق الجهود الجماعية، وتنسيقها بشكل يحقق الأهداف المحددة بكفاءة وفعالية، وهو نشاط خاص بقيادة وتوجيه الجهود البشرية وتخطيط وتنظيم أدوات وعناصر الإنتاج، وتحقيق الرقابة الذاتية عليها بقصد الوصول إلى الأهداف التي تسعى إليها المؤسسة”()، وفي مجال بحثنا فإن الإدارة معنية بفن التعامل مع المجتمع بكل مكوناته؛ العقائدية والثقافية والفكرية… وغيرها،  بصورة تحقق الانسجام وتقلل من عوامل الصراع والصدام. فضلا عن توظيف الطاقات والإمكانيات بصورة متوازنة لتحقيق الأهداف العامة للمجتمع المعني.

المبحث الثاني

التنوع وأبعاده

وفيه أربعة مطالب

المطلب الأول: تنوع مظاهر الحياة

المطلب الثاني: الوحدة في ظل التنوع

المطلب الثالث: مجالات التنوع

المطلب الرابع: التنوع في الحياة الإنسانية

المطلب الأول

تنوع مظاهر الحياة

التنوع والتعدد والتباين والاختلاف والتمايز، مصطلحات تصف الفروق بين الأشياء. ولكل عبارة معنى سبق وروده، ولذلك ما يرد في هذا البحث من ذكر لواحد من تلك المصطلحات أعني به التنوع الذي يحمل عنوان هذا البحث. والعبارة الأكثر استخداماً في اللغة المعاصرة هي “التعددية” وهي تشير إلى التنوع الثقافي والديني والإثني.. الخ كما تشير من ناحية أخرى إلى كيفية إدارة التنوع.

إن التعدد والتنوع والتباين والاختلاف والتمايز، مصطلحات تشير إلى عدم التشابه بين المخلوقات، وفي كل المظاهر التي تملأ الفضاء الكوني أرضا وسماء، فالحياة الدنيا بكل مكوناتها قائمة على التعدد والتنوع. ويرى الدكتور محمد عمارة أن التعددية مثلها كمثل المصطلحات الأخرى- التنوع والتمايز.. الخ “فكل صنف من أصناف الأحياء المخلوقة يتنوع ويتعدد إلى أمم وجماعات، فتقوم التعددية في إطار هذا النوع من الأحياء، كما قامت التعددية في إطار الخلق الحي الذي خلقه الله: “وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ“[الأنعام:38]. وهذه الأرض التي خلقها الله وسواها؛ فيها ألوان وألوان من التعددية والتنوع والتمايز والاختلاف.. فهي سبع أرضين:” اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً[الطلاق:12]، وفي هذه الأرض تعدد وتنوع لا يعلم عدده إلا الله تنوع في الجبال الرواسي والأوتاد التي تحفظها أن تميد.. وتنوع في الأنهار. تنوع بواسطة البرازخ التي تخالف وتمايز مياه كل بحر من البحار ونهر من الأنهار.. وتنوع في طبائع قطع الأرض المتجاورات.. وتنوع في الثمرات التي تثمرها ذات الأرض الواحدة التي خلقها الله”()، فالتنوع ليس وقفا على الإنسان فهو موجود في كل المخلوقات. إنه مجال للتفكر والتعقل والتذكر قال تعالى:” وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَاراً وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (3) وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ” (الرعد: 3-4)، وقال تعالى: وَمَا  ذَرَأَ لَكُمْ فِي الأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (النحل: 13).

إن ظاهرة التعدد واضحة في كل المخلوقات، ومظاهر التنوع بارزة في الساحة الكونية. وما يهمنا في هذا البحث؛ هو التنوع في حياة الإنسان؛ لأنه المخلوق المستخلف في عمارة الأرض، وقد تميز بالخصائص التي تجعله يتصرف في الحياة وفق أهداف وغايات. والتنوع في حياة الإنسان مظاهره متعددة، تشمل اللون والحجم واللسان والبصمة والاعتقاد والتفكير…الخ وهي اختلافات جعلها الله آية للتفكر والتدبر. قال تعالى:” وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ”  [الروم:22]. ومن مظاهر التنوع تعدد حاجات الإنسان ومطالبه الضرورية للحفاظ على حياته في هذا الكوكب، وهي مطالب يشاركه غيره من بني جنسه في السعي للحصول عليها. و”منذ اللحظات الأولى للإنسان على هذه الأرض وهو يعيش ظروفا صعبة، فلابد من كد وتعب حتى يأكل ويشرب، ولابد من جهد ونصب حتى يلبس ويسكن، ولابد من حذر وترقب حتى يأمن ويطمئن.. إنه الكفاح منذ اللحظة الأولى، وقد جرت سنة الله عز وجل أن السماء لا تمطر ذهباُ ولا فضة فكان لزاما على الإنسان أن يكدح من أول أيام الدنيا وحتى آخرها، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ[الانشقاق:6]، ولم يجد الإنسان نفسه وحيدا في هذه الأرض، بل وجد غيره من البشر يسكن إلى جواره على الكوكب نفسه، حتى آدم عليه السلام كانت معه امرأته، وسرعان ما أصبح له ذرية، وكل منهم يبحث عما يصلح حياته، وله مصالح وطلبات، ومن ثم كان على الإنسان أن يحرص على ما ينفعه، وهو يعلم أن غيره يطمع الطمع نفسه، ويرجو عين الرجاء. وقد لاحظ الإنسان أنه على الرغم من اتفاقه مع من حوله من البشر في أشياء كثيرة، إلا أنه يختلف عنهم في أشياء كثيرة كذلك، وأن هذا الاختلاف ليس في الشكل والمظهر فقط، ولكن في العادات والسلوك، فالبيئات التي نشأ فيها البشر مختلفة، والظروف التي ترعرعوا فيها متباينة” والخصائص الفردية انتقلت إلى المجتمع بحكم أن المجتمع يتكون من عدة أفراد تتفاوت اهتماماتهم وتتنوع مظاهر حياتهم.

المطلب الثاني

الوحدة في ظل التنوع

إن هذا التنوع المشار إليه في المطلب السابق لا ينفي الوحدة، ففي ظل التنوع توجد مظاهر للوحدة، كما نراها في تكوين الإنسان وبقية المخلوقات. فجسد الإنسان الواحد يحمل عدة أعضاء تختلف أشكالها، وتتعدد وظائفها، والمجتمعات البشرية تعيش في وحدات جغرافية لها خصائص الوحدة؛ مع أنها تقوم على مجموعات متنوعة ومتعددة “إن الوحدة والتعددية أو التنوع؛ قائمان في صميم العلاقات البشرية، إنهما وجهان لعملة واحدة؛ إذا صح التعبير، والوحدة في وجوهها كافة لا تنفي التنوع، كما أنه بدوره لا ينفي الوحدة. إنهما يتداخلان، ويؤثر أحدهما في الآخر، بل قد يرفده بعناصر القوة والخصب والنماء. قد تحدث حالات تقاطع تقود أحيانا إلى النفي والتعارض، لكن الخط الأكثر عمقا وامتدادا هو أن التجربة البشرية منذ لحظات تشكلها الأولى وحتى يوم الحساب؛ إنما هي تجربة تتعدد فيها الانتماءات، وتتغير العلاقات وتتنوع القناعات. وإن هذا التغاير في حدوده المعقولة، ومن خلال تعامله مع الثوابت التوحيدية، هو الذي يمنح التاريخ البشري ليس فقط تفرده وخصوصيته؛ وإنما قدرته على الفعل والصيرورة().

إن جمال الحياة يبرز في تنوع مظاهرها، والحيوية تكون مع التدافع والتنافس، وتتحقق بصورة أفضل في ظل التنوع والتباين والتمايز، فما معني أن يتنافس الإنسان مع من يماثله في كل شيء؟ إن المجتمعات البشرية يتوقف نجاحها؛ على تعدد أنشطتها، وتنوع خياراتها، وتفاوت قدراتها واهتماماتها، لأن الإنسان بطبيعة تكوينه؛ خلق محتاجا إلى غيره، فتطلعاته تتجاوز قدراته، واحتياجاته لا يستطيع الحصول عليها بمفرده، لذلك قيل إن الإنسان مدني بطبعه، لأنه يحتاج إلى غيره ليتبادل معه المصالح والمنافع والاهتمامات. فالمجتمعات البشرية أنى كانت وحيث كانت؛ تحمل في تكوينها مظاهر التنوع والتعدد والتمايز.

عليه فإن “التعددية تنوع مؤسس على تميز.. وخصوصية.. ولذلك فهي لا يمكن أن توجد وتتأتى بل ولا حتى تتصور إلا في مقابلة وبالمقارنة- مع الوحدة.. والجامع، ولذلك لا يمكن إطلاقها على التشرذم، والقطيعة التي لا جامع لآحادهما، ولا على التمزق، الذي انعدمت العلاقة بين وحداته..”() والمجتمعات الإسلامية المعاصرة كغيرها من المجتمعات البشرية – قائمة على التنوع والتعدد في كافة المجالات. فهنالك تعدد ثقافي، وتعدد عرقي، وتعدد فكري، وتعدد سياسي، وتعدد ديني. وحتى تلك المجتمعات التي لا يوجد فيها إلا دين واحد الإسلام – فإنها تقوم على التعدد الفكري والمذهبي والسياسي. إن التعدد والتنوع لا يمكن إلغاؤه في هذه الحياة، فالإنسان بطبيعة تكوينه يحمل بذرة التنوع، وتميز بخصائص – العقل والحرية والإرادة- والتي من شأنها أن تجعل مخرجاته العقدية والفكرية وفي كل ساحات الأنشطة متباينة.

المطلب الثالث

مجالات التنوع

إن للتنوع مظاهر كثيرة وقد أجملها بعض المفكرين في تسعة مظاهر جاءت عناوين لفصول كتاب الإسلام والتعددية. للدكتور محمد عمارة على النحو التالي:

إله واحد له صفات الكمال والأسماء الحسني.

وخلق واحد وتعددية في المخلوقات.

ودين واحد وتعددية في الشرائع والمناهج والسياسات.

وشريعة واحدة وتعددية في الأحكام والإفتاء.

وإيمان واحد … وحقيقة واحدة وتعددية في مراتب التصديق ومستويات الخطاب والمخاطبين.

ونزوع إنساني إلى المعرفة وتعددية في نظرياتها.

وإنسانية واحدة وتعددية في الأمم والشعوب والأجناس.

وأمة واحدة وتعددية في الملل والأقوام والمذاهب والأحزاب.

وتحضر إنساني وتعددية في الحضارات الإنسانية().

        إنه تقسيم جيد يغطي فضاء التنوع بصورة عامة، ويؤكد أن التعددية والاختلاف جبلة فُطِر عليها الإنسان، ولن تجد لسنة الله تبديلا. هذا التنوع بأصنافه المختلفة؛ أصبح واقعا في كل المجتمعات الإنسانية، والمجتمعات الإسلامية المعاصرة تعيش أنماطا من التنوع متفاوتة، فهنالك مجتمعات ينتشر فيها التنوع الديني، وأخرى تعيش تنوعا ثقافيا، وقد توجد كل أصناف التنوع في مجتمع واحد، وهكذا.. فالهند مشهورة بالتنوع مع القدرة على إدارته بصورة لافتة! وكذلك كثير من الدول الآسيوية مثل إندونيسيا وماليزيا. والسودان من البلدان المعروفة بالتنوع العرقي والثقافي والديني. فالتعددية ظاهرة كونية وضرورة اجتماعية “وكل إنسان يولد على الفطرة، أي على براءة الخلقة الأولى، مجبولاً ومطبوعاً على الإيمان الفطري بخالق صانع هو الله. وفي الإسلام تبلغ التعددية – المؤسسة على طبع وسجية التنوع والاختلاف مبلغ الفطرة التي فطر الله الناس عليها.. قد تكبت أو تقهر، لكنها سنة من سنن الله لا تبديل لها ولا تحويل”().

المطلب الرابع

التنوع في الحياة الإنسانية

مجيء الإنسان أتى على خلفية حوار بين الله سبحانه وتعالى والملائكة. والملاحظ أن الملائكة أبدوا دهشتهم وتساءلوا مشفقين من مصير الكون إذا جاء هذا المخلوق الذي يختلف عن الموجودات! فمادام الكون كله منسجما وخاضعا لله, فما الحكمة من ظهور مخلوق وسط الكائنات يأتي بأساليب تتناقض مع الانسجام الكوني؟ قال تعالى: ” وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ …”[البقرة:30]. وإبليس تبرم من مجيء الإنسان بل رفض الانصياع لأمر الله لاعتقاده أنه الوحيد الذي يستحق التكريم لأنه حسب اعتقاده انفرد بنقاء العنصر مما يؤهله لمعرفة الحق وأنه أحق بالتكريم. قال تعالى: ” إِلاَّ إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الكَافِرِينَ (74) قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ العَالِينَ (75) قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ” [ص: 74-76]، وهذه الحياة الدنيا بكل مكوناتها قائمة على التعدد والتنوع في كل مظاهرها, يظهر ذلك في الجمادات كما يظهر في الحيوانات وكذلك المناخ والفصول… ومع تطور الحياة وأساليبها وتداخل المجتمعات والحضارات ظهرت أنواع مختلفة من أساليب الحياة وممارساتها، وصار هنالك وعي بالتعدد والتنوع في المجتمعات الإنسانية… قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ”[الحجرات:13].

وقال صلى الله عليه وسلم: (إن الله قد أذهب عنكم عُبيّة الجاهلية وفخرها بالآباء؛ مؤمن تقي وفاجر شقي، أنتم بنو آدم وآدم من تراب. ليدعن رجال فخرهم بأقوام إنما هـم من فحم جهنم أو ليكونن أهون على الله من الجعلان التي تدفع بأنفها النتن)().

ومن المواضيع التي تشكل اهتماما دوليا في العصر الحديث، موضوع التنوع الثقافي، وهو حسب تعريف منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو)، يقصد به عديد الطرق المعبرة عن ثقافات الفئات الاجتماعية والمجتمعات كما سبقت الإشارة إليه، والفكر الحديث حاول أن يحدد كلاً من معنى التنوع الثقافي والتعددية: لقد استخدم التنوع وتعدد الثقافات للإشارة إلى حقيقة التنوع وإدارته. ولكن التعددية والتنوع الثقافي يختلف كلاهما عن الآخر فبينما تهتم التعددية باحترام التنوع في المجتمعات. فإن التنوع الثقافي يشترط نمط التكييف الذي يحتوي أو يضم مبادئ الاعتراف والتمثيل والتوزيع. وعادة ما يشار إلى أن التعددية لا تشكك أو تطرح للتساؤل عن الهيكل البنائي للمجتمع حتى ولو كان مبني على عدم المساواة، في هذه الحالة فإن قيمة التعددية تعد وسيلة للحفاظ على التنوع حتى لو كانت تضم بين طياتها عدم المساواة في التمثيل.

من الجانب الآخر نجد التنوع الثقافي أكثر وضوحاً فيما يتعلق بالوضع المناسب للجماعات في المجتمع. ومن الجدير بالذكر أن التنوع الثقافي ليس بالنظرية الموحدة والمتماسكة.

فالتنوع الثقافي استخدم ليشير إلى ثلاثة مضامين مختلفة:

  • كنظام حقيقي يصف مدى وطبيعة التنوع.
  • كأيديولوجية.
  •  كسياسة اجتماعية().

ويتم تناقل أشكال التعبير عن هذه الثقافات من خلال السلع والخدمات الثقافية داخل المجتمعات وفيما بينها، ولا تنحصر بالضرورة داخل نطاق الحدود الوطنية. ومن الأشكال المبدية للثقافة عبر الزمان والمكان، تنبع خصوصية وتعدد الهويات وأشكال التعبير الثقافي لكافة شعوب المعمورة ومجتمعاتها. ولا تقتصر تجليات التنوع الثقافي على تنوع أساليب التعبير عن التراث الثقافي للبشرية وأساليب حمايته وإثرائه ونقله إلى الأجيال المقبلة. بل تشمل كذلك تنوع أشكال التعبير الثقافي التي تحملها السلع والخدمات الثقافية في جميع أنحاء العالم وشتى أنماط الإنتاج والنشر والتوزيع والاستهلاك، أيا كانت الوسائل والتكنولوجيات المستخدمة().

وخلاصة القول في هذا المبحث:أن التنوع ظاهرة كونية توجد في جميع المخلوقات، وهذا التنوع يشكل لوحة جمالية للمشهد الكوني، ويحفظ التوازن في الحياة، ويحقق احتياجات كل المخلوقات في هذه الدنيا قال تعالى:” إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ الَليْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَتِي تَجْرِي فِي البَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا  أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ المُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ” [البقرة:164].

الإنسان يحمل خصائص تجعل التنوع ضرورة في حياته، فالحرية تنشئ تعددا في العقائد، والإرادة تفترض وجود خيارات ليتمكن الإنسان من الاختيار بين البدائل، وأحكام العقل تتفاوت حسب المعلومات المتوفرة، والخلفيات الثقافية والمقدرات العقلية، ويتنافس الناس في الحياة بعطائهم حسب مقدراتهم الجسمانية وإمكانياتهم المادية واهتماماتهم.

المجتمعات الإنسانية عبر التاريخ قامت على التنوع العرقي والثقافي والديني…الخ.

هنالك مجتمعات إسلامية كثيرة قائمة على التنوع الديني، والتنوع المذهبي، والتنوع السياسي، والتنوع الثقافي، والتنوع اللغوي… الخ.

هنالك وعي عالمي بموضوع التنوع واهتمام دولي به وبكيفية إدارته.

المبحث الثالث

التنوع البشري حكمته

وأهمية الشورى في إدارته

وفيه مطلبان:

المطلب الأول: التنوع والحكمة منه

المطلب الثاني: أهمية الشورى في إدارة التنوع

المطلب الأول

التنوع والحكمة منه

منذ أن خاطب الله الملائكة بأنه يريد أن يجعل في الأرض خليفة بدأ التحول في مسيرة الحياة، فقد كان الكون منسجما في توجهه بالرغم من وجود المخلوقات المتنوعة، فالسموات وما تحمل، والأرض وما فيها، وكل المخلوقات خاضعة لله. قال تعالى:”أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابّ…)[الحج:18]. ولكن الله سبحانه وتعالى أراد للإنسان أن يكون مخلوقا مغايرا؛ يشترك مع المخلوقات الأخرى في بعض الصفات ويتميز عليها بالإرادة وحرية الاختيار. وهنا جاء الرد الإلهي على تساؤل الملائكة بقوله تعالى: ” …قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا  لاَ  تَعْلَمُونَ...” [البقرة:30]. لقد جاء الإنسان إلى الوجود وهو يحمل خصائص التنوع والاختلاف كما ورد في المبحث السابق، والسؤال الذي نسعى للإجابة عليه في هذا المبحث؛ ما هي الحكمة وراء هذا التنوع والتعدد؟

إن الساحة البشرية تظللها بوضوح “عشرات الأديان، ومئات العرقيات، عدد هائل من الدويلات والعشائر والقبائل… مذاهب وأفكار، ومدارس وفرق.. أغنياء وفقراء، وأقوياء وضعفاء .. رأسماليون غربيون وشيوعيون شرقيون.. ومترفون شماليون، ومعدمون جنوبيون.. مختلفون.. مختلفون.. مختلفون(). هل هذا التنوع لا هدف له؟ اللهم لا. قال تعالى:” أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا  لاَ  تُرْجَعُونَ” [المؤمنون:115]، والفارق بين التنوع والنسق الواحد في الحياة البشرية؛ هو فرق بين الفاعلية والرتابة، فرق بين الجمود والتطور. “تخيل أن هناك لوحة بها ألف شجرة وليس فيها شيء آخر.. ولوحة أخرى بها ثلاث شجرات وجدول رقراق منساب، وسماء زرقاء، وقليل من السحب هنا وهناك، وشلال بديع من بعيد، وطائر أو طيور، وكوخ أو أكواخ، وسهل منبسط، وراءه جبل سامق، وفي قمته جليد، وتحت سفحه راع يرعى عشرة أغنام! أي اللوحتين أبدع؟ وفي أيهما ترغب؟” إن النفس السوية تختار اللوحة الثانية.. قد تكون الأشجار في اللوحة الأولى أجمل من شجرات اللوحة الثانية، لكن السر في جمال اللوحة الثانية كان في تنوع مظاهر الإبداع فيها! وكذلك البشر! إن العالم بحضاراته المختلفة، وتنوعاته الهائلة، وأعراقه، وأجناسه، وأفكاره ولغاته، ليمثل منظومة رائعة متكاملة، تعطي ثراء لانهاية له، وروعة لا حد لها.. ولو كان البشر كلهم على شاكلة واحدة لعانى الناس من السآمة والملل، والكآبة والإحباط() ما تقدم يؤكد أهمية التنوع وضرورته للحياة البشرية، ويمكن أن نستخلص الحكم الآتية:

الحكمة الأولى: تبادل المنافع: الإنسان مطالبه متعددة، وحاجاته متزايدة، وعطاؤه متجدد، واحتياجاته أكبر من قدراته، وطاقته أقل من تطلعاته، وقد ينتج أشياء أكبر من حاجاته، فالتنوع يتيح مجالا لتبادل المنافع بين بني الإنسان، وهي منافع متنوعة في ذاتها؛ فتبادل الخبرات فيه منفعة، واكتشاف الأخطاء منفعة، والوعي بالقصور منفعة، ومظاهر الحياة مليئة بالأنشطة الإنسانية القائمة على تبادل المنافع بين البشر في كافة المجالات…

الحكمة الثانية: التعارف قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا…” [الحجرات:13].

والتعارف يكسب الإنسان خبرة بالحياة وتعقيداتها، خاصة في اختلافات طبائع البشر وتنوع رغباتهم وأهدافهم وعاداتهم وتقاليدهم وأعراقهم، فيتمكن من التعامل معهم كل حسب طبيعته وأسلوب حياته، وبذلك يدرك أن الحياة أوسع في معارفه واهتماماته، وهذا من شأنه أن يرسخ عنده ثقافة قبول المخالف والتسامح معه.

الحكمة الثالثة: التدافع والتفاعل قال تعالى:“… وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ…” [البقرة:251]، يقول الإمام الرازي “لا تتم مصلحة الإنسان الواحد إلا عند اجتماع جمع في موضع واحد، ولهذا قيل الإنسان مدني بالطبع، ثم إن الاجتماع يسبب المنازعة المفضية إلى المخاصمة أولا، والمقاتلة ثانيا، فلابد في الحكمة الإلهية من وضع شريعة بين الخلق..”()، ثم ذكر من هؤلاء الذين يدفع بهم الظلمة والطغاة إما أهل الحق، وإما غيرهم، كما ذكر أن التدافع بهذا المعنى لا يقع بين أهل الحق(). وقد بين الله تعالى حكما أخرى من هذا الدفع حيث يقول الله تعالى:”… وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً…” [الحج:40] حيث دل على أنه بهذا الدفع تحمى الشرائع وأهل الحق، وأماكن العبادة() إن فلسفة الإسلام في الحضارات تقوم على أساس الدفع نحو الأحسن، وبالتالي فإن هذا يترتب عليه عملية التوارث، والتفاعل الحضاري، وليس صراع الحضارات.

وإذا نظرنا إلي النصوص الشرعية لوجدناها صريحة في الدلالة على ضرورة الأخذ بكل ما هو نافع وصالح.. ويؤكد الإسلام على ضرورة التفاعل الحضاري من خلال العلم والقراءة ومن خلال السير في الأرض والنظر فيها، وفي أهلها، وأممها للوصول إلى فقه سنن الله تعالى في هذا الكون، وفي الأمم والحضارات، من سنن التقدم والنصر والتمكين، وسنن الهزيمة والتخلف، فقال تعالى:” قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المُكَذِّبِينَ[آل عمران:137]، وقد ورد في الحديث موقوفا، أو مرفوعا أن: “الحكمة ضالة المؤمن فهو أحق بها أنى وجدها”()، فمن خلال العلم والقراءة والتاريخ يحدث التفاعل الحضاري حيث تستفيد الحضارة اللاحقة من الحضارة السابقة وتبني عليها().

الحكمة الرابعة: معرفة قيمة الخير والشر: الإنسان العاقل لديه مقاييس يدرك من خلالها ما يضره وما ينفعه، وهنالك أشياء لا تظهر قيمتها إلا بمعرفة نقيضها مثل الظلمات والنور والحق والباطل والصحة والمرض.. الخ فمن حكم الله تعالى أن جعل الحياة متنوعة ليعرف الإنسان من خلالها مظاهر الخير فينميها ومظاهر الشر فيتخلص منها.

المطلب الثاني

أهمية الشورى في إدارة التنوع

        التنوع من صنع الله، فهو سبحانه وتعالى خلق الإنسان مفطوراً على التنوع للحكم التي سلف ذكرها وغيرها من الحكم، والشورى منهج الله الذي شرعه لإدارة التنوع، ومن هنا تأتي أهمية الشورى في إدارة التنوع، فالخالق هو نفس المشرع، قال تعالى:” أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ” (الملك:14). وأهمية الشورى في إدارة التنوع تأتي في عدة جوانب:

الجانب الأول: الاعتراف بالتنوع كواقع اجتماعي ملموس، إن منهج الشورى يعترف بالتنوع في كل مظاهره ويؤكد شرعية وجوده ووضع أحكاماً تنظم العلاقة مع كافة أطراف التنوع، قال تعالى:” لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ” (الكافرون:6). وقال تعالى:” وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنتُم بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ  (20) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ  (21) وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ”(الروم:20-22). في هذه الآيات الكريمة المكية الكثير من المعاني نذكر منها:

الأول: تفسير معنى الكثرة البشرية علماً أن الأصل من ذكر وأنثى كما في قوله تعالى في سورة الحجرات المدنية (الحجرات:13).

الثاني: تفسير معنى كلمة الاختلاف بالتعدد والكثرة في الألسن والألوان، فقد وصف المولى عز وجل التنوع والتباين والتعدد بكلمة الاختلاف، فقال: (اختلاف ألسنتكم وألوانكم). وهذا يفسر معنى الاختلاف بمعنى إيجابي، فيه إقرار لواقع معروف وغير منكر، بل هو آية من آيات الله تبارك وتعالى وهو الاختلاف الواقعي بين البشر().

الجانب الثاني: كفالة حقوق جميع الأفراد والمجموعات على اختلاف معتقداتهم وتنوع ثقافاتهم وأفكارهم، وحتى أولئك الذين يدينون بمعتقدات تتناقض مع أحكام الإسلام فإن منهج الشورى ينهي عن الإساءة لمقدساتهم قال تعالى:” وَلاَ تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (الأنعام:108). ونهى الإسلام عن ظلم المخالفين والخصوم قال تعالى:” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ” (المائدة:8).

إن منهج الإسلام يحفظ للإنسان حقوقه وكرامته لمجرد كونه إنساناً يحمل بين جنبيه قبساً من روح الله؛ يعترف له بهذه الحقوق بغض بالنظر عن اعتباره أو جنسه أو لونه، والنص القرآني:”وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي البَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً” (الإسراء:70).

يظلل كل البشر بغير استثناء؛ وبالتالي فالحفاظ على كرامة البشر يعد قاعدة أساسية في التعاليم الإسلامية يجب الالتزام بها، وهو حق من حقوق الله واجب الصيانة والحماية.

بهذا اهتدى الفقيه الحنفي ابن عابدين في حاشيته عندما قرر وهو يعلن موقفه المنحاز لكرامة الإنسان بأنه: (إذا اختلف اثنان على طفل أحدهما مسلم والآخر غير مسلم؛ وادعى الأول أن الطفل عبد له، بينما ادعى غير المسلم أنه ابن له، ألحق الطفل بالثاني، الذي ادعى البنوة حيث تفضل حريته وأن ينشأ على غير الإسلام، على عبوديته في ظل الإسلام ().

يتضح مما تقدم أهمية الشورى في إدارة التنوع لاعترافها بالتنوع، ولكفالتها لحقوق أفراد المجتمع وحمايتها مهما اختلفت عقائدهم وألوانهم وأجناسهم.

الفصل الثاني

التنوع مخاطره وفوائده

ودور الشورى في احتواء المخاطر

وفيه مبحثان

المبحث الأول: مخاطر التنوع في غياب الشورى

المبحث الثاني: فوائد التنوع من خلال منهج الشورى

المبحث الأول

مخاطر التنوع في غياب الشورى

وفيه خمسة مطالب:

المطلب الأول: مخاطر تتعلق بصراع الوجود

المطلب الثاني: مخاطر تتعلق بخدش الكرامة

المطلب الثالث: مخاطر تتعلق بالتمييز بسبب التنوع

المطلب الرابع: مخاطر تتعلق بانتهاك الحقوق

المطلب الخامس: مخاطر تتعلق بالتعصب

المطلب الأول: مخاطر تتعلق بصراع الوجود

التنوع له فوائد كثيرة تتمثل في تعدد الخيارات، وتبادل المنافع، وإثراء الحياة، وإضفاء حيوية في فضاءاتها. وللتنوع أيضا مضار جسيمة إذا فقد حسن الإدارة، وتكمن مضاره: في التعصب، والتمييز السلبي، القائم على المحاباة، والمحسوبية، وتفضيل أصحاب الولاء على غيرهم؛ مما يستدعي العنف والنزعة الإقصائية. وعوامل النزاع كثيرة في المجتمعات المتنوعة التي تفتقد العدل في إدارة التنوع، وأهم عوامل النزاع، ومسبباته، تتعلق بخدش الكرامة، والظلم، ومحاولات الإقصاء، والتي تؤدي إلى الصراع حول الهوية، وتوزيع الثروة والسلطة.

فالتنوع واقع اجتماعي؛ موجود في معظم الدول، وتعيشه كل المجتمعات تقريبا، غير أن بعض السياسات تتعامل معه بعدم الاعتراف، وتنكر وجوده، وتحاول فرض ثقافة واحدة، وعقيدة واحدة، وفكر واحد، ونمط واحد للحياة. هذا النهج المُنكر لوجود الآخر، من شأنه أن يؤدي إلى نزاع حول الوجود، فمعظم الحروب التي وقعت في تاريخ الإنسان، سببها محاولات استئصال الآخر ومحوه من الوجود، وترجع محاولات الإزاحة من الوجود والإفناء لعدة أسباب، منها: الحسد، وتوهَّم نقاء العنصر، وادعاء احتكار الحقيقة، والطمع في الثروات، وغير ذلك. فابني آدم قتل أحدُهما أخاه؛ لأن الله سبحانه وتعالى قبل عمل أخيه، ولم يقبل عمله، فحسده على هذا العطاء الإلهي، وقام بقتله. قال تعالى: [المائدة:” وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ المُتَّقِينَ (27) لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ العَالَمِينَ (28) إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (29) فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الخَاسِرِينَ” [27-30] . قال البيضاوي: “توعّده بالقتل لفرط الحسد له على تقبل قربانه”()، فكلاهما بحث عن المصلحة، وكان الفيصل في تحقيق هذه المصلحة الالتجاء لله تعالى، ولما اختار الله قربان أحدهما وهو هابيل()، اغتاظ الآخر، وسعى بكل ما أوتي من قوة إلى تحقيق المصلحة الذاتية من خلال التقاتُل والتحايُل، وبالفعل قتل أخاه من أجل مبتغاه! تلك التجربة الإنسانية الأولى إنما ذكرتها الكتب السماوية دليلا على أن طريق الغاشمين الفاسدين واحد منذ بداية الخلق ووجود الإنسان على الأرض“().

وكثير من المصلحين والأنبياء قوبلوا بالصدود، والإعراض، والمقاومة، من أقوامهم بسبب الحسد؛ لأن استقامة المصلحين، ودعوتهم المتكررة للإيمان والاستقامة، والتفاف الناس حولهم، توغِر صدور المعارضين وذوي السلطان؛ فيعملون بكل الوسائل لإزاحتهم؛ لأنهم يشكلون خطورة على مطامعهم وأهوائهم، فيحسدونهم على استقامتهم، ويحسدونهم على تقبُّل الناس لدعوتهم. قال تعالى: أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكاً عَظِيماً (54) فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُم مَّن صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً” النساء:54-55]، يقول الحافظ ابن كثير في تفسير ذلك “يعني بذلك حسدهم للنبي صلى الله عليه وسلم على ما رزقه الله من النبوة العظيمة، ومنعهم من تصديقهم إياه حسدهم له؛ لكونه من العرب وليس من بني إسرائيل”().

إن تاريخ الإنسانية مليء بالمظالم التي ارتكبها الإنسان ضد أخيه الإنسان من شاكلة العبودية والاستعمار، وحروب الاستئصال التي قادها التتار والصليبيون ضد الخلافة الإسلامية في بغداد وبيت المقدس والأندلس، وتعتبر تجربة الاستعمار الأوربي من أسوأ الظواهر المُهدرة للكرامة الإنسانية، فالأوربيون الذين اكتشفوا أمريكا، أسسوا دولتهم الجديدة على جثث السكان الأصليين الذين رحبوا بمقدمهم. “وقد قتل المستعمرون والمستوطنون حتى عام 1900م ما يقرب من 112 مليون هندي، ولم يتبقّ إلاّ ما يقرب من 400 ألف هندي فقط، ما يدلّل على وحشية ودموية الحروب التي اشترك فيها الجيش الأمريكي مع المستوطنين البيض في إبادة السكان الأصليين، ولو استعاض المستوطنون ثقافة الحرب بثقافة الحوار والتعارف، ومحاولة تعليم هذه القبائل سبل التقدم والرقي المدني، وعملوا على اندماجهم في المجتمع الجديد؛ لأدى ذلك إلى تعددية رائعة تفخر بها أمريكا الجديدة، التي نادت في عقودها الماضية بالحرية والسلام ونشر قيم الديمقراطية، وتناست أن ميراثها التاريخي مليء بالدم والنار”().

إن تاريخ أوروبا الحديث شاهد على مآسٍ لا تكاد تحصى، من حيث إقصاء الآخر، وعدم الاعتراف به في تلك المجتمعات، وأبرز مثال على ذلك ما فعله هتلر() في ألمانيا قبل الحرب العالمية الثانية، فضلا عما ارتكبه في تلك الحرب العالمية من قتل لآلاف البشر، وإبادة كل من لم يقبل الفكر النازي الوحدوي في أوروبا كلها، وكانت جرائمه فاجعة، ولقد أجبَر الألمان على قبول الفلسفة النازية العجيبة، ولم يجرؤ أحدهم على أن يرفع رأسه محتجًّا، ولقد طبع كل شيء بالطابع النازي الإقصائي، لدرجة أن أحد الزعماء النازيين ويدعى هرمان جورنج قال: “إن الألماني الحقيقي يفكر بدمه”() تلك الرؤية المخزية التي نلمسها في تلك القرون الغابرة، لم تتغير- للأسف في واقعنا وعصرنا الحاضر؛ فكثير من الصراعات العرقية، والاضطرابات التي نشبت في عصرنا، سواء بين الصرب والمسلمين، أم بين الهوتو والتوتسي()، ليست في جوهرها حروبا دينية، كما أنها ليست صراعات بين ثقافات أو حضارات، وليست ناتجة -أيضا- عن أحقاد قومية قديمة، إنها في واقع الأمر حروبٌ غذّاها رجال العصابات، الباحثون عن مصالحهم الذاتية، وأهل الجهل الذين لا يعترفون بالآخر، ولا يقبلون به().

يقول الشيخ محمد الغزالي “هذه العصبيات برغم ما يساندها من قوانين وتقاليد- هي في نظر الدين حماقة كبرى، والاعتراف بها هدم للأركان الأولى من الرسالات التي أنزل الله هداية للعالمين، إذ قوام هذه الرسالات أن الإنسان مسئول بنفسه عن نفسه، يقدمه ما اكتسب من خير فحسب، ويؤخره ما اكتسب من شر فحسب. ولا مكان في هذا الميزان القسط لتدخل بشر، كبير أو حقير. ولا حساب في تقويم شخص ما لوطنه أو نسبه. ولا اعتبار البتة لما تواضع الناس عليه من شارات الرفعة أو الخسة. ابن النبي أو البغي سيان. إن تأخر الأول في سباق الصالحات لم ينفعه حسَبُه. قال تعالى:” وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الحَاكِمِينَ (45) قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الجَاهِلِينَ” [هود:45-46]، وإن تقدم الأخير لم يضره نسبه. وقد أوضح الله هذه المبادئ لا في قرآن محمد فحسب، بل في كتب الأنبياء الأولين كذلك:” أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى (36) وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37) أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (38) وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (40) ثُمَّ يُجْزَاهُ الجَزَاءَ الأَوْفَى (41) وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ المُنتَهَى” [النجم:36-42]، وتلك قاعدة تمليها العدالة المجردة().

المطلب الثاني

مخاطر تتعلق بخدش الكرامة

طبيعة الإنسان تأبى أن تُنتهك حرماته، أو تُصادر ممتلكاته، أو تُغتصب أرضه، أو يُطرد من بيته، وموطنه، أو يتعرض جسده للتعذيب والامتهان في غياهب السجون والمعتقلات، أو يتعرّضه أحد بظلم أو عدوان؛ لذلك لا يختلف اثنان- مهما اختلف طبعهم ولونهم وعقيدتهم على أن كرامة الإنسان هي أعز ما يملكه()، والكرامة تتمثل في مجموع الصفات التي تتميز بها الشخصية الإنسانية، وتتعلق بالفطرة التي جعلها الله سبحانه وتعالى خصيصة إنسانية. قال تعالى:”وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي البَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً” [الإسراء:70].

إن تحقيق متطلبات الفطرة يؤدي إلى صون الكرامة، التي هي من المعنويات، ويمكن تلخيص عواملها في مجموع الخصائص الإنسانية المتمثلة في: الحرية، والإرادة، والعقل. هذه الثلاثية هي التي ميزت الإنسان عن بقية المخلوقات، فصونها يحقق الاحترام للكرامة، وانتهاكها يؤدي إلى عواقب وخيمة.

 إن كثيراً من الحروب التي وقعت بين بني البشر كان سببها الدفاع عن الكرامة: فحرب البسوس التي وقعت بين بكر وتغلب، كان سببها انتهاك الكرامة، والحروب الدينية التي وقعت في كثير من بلاد العالم، كانت بسبب العدوان على العقائد، والعقيدة تمثل قمة الكرامة للإنسان، وحروب التحرير ضد المستعمرين والمحتلين، دافعها الشعور بإهانة الكرامة.

إن التعاليم الإسلامية حثت على المحافظة على كرامة الإنسان، وحذرت من المساس بها. والعوامل التي تخدش الكرامة كثيرة منها: الإساءة اللفظية، وانتهاك الخصوصية، والاعتداء على الحرمات الشخصية، والغمز، واللمز، إلى غير ذلك.. قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا  لاَ  يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْراً مِّنْهُمْ وَلاَ نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ وَلاَ تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلاَ تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاسْمُ الفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلاَ تَجَسَّسُوا وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ” [الحجرات:11-12]، وذهب المفسرون إلى أن السخرية، معناها: الاستهزاء. يقول الحافظ ابن كثير: ينهى الله تعالى عن السخرية بالناس، وهو احتقارهم، والاستهزاء بهم، كما ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: “الكبر بطر الحق وغمص الناس”، ويروى “وغمط الناس”(). والمراد من ذلك: احتقارهم، واستصغارهم، وهذا حرام، فإنه قد يكون المحتقر أعظم قدراً عندالله، وأحب إليه من الساخر منه المحتقر له؛ ()، وذكروا أسباباً متعددة لنزولها منها: ما قاله الضحاك: أنها نزلت في وفد بني تميم، استهزءوا بفقراء الصحابة؛ مثل عمار وخباب وابن فهيرة وبلال وصهيب وسلمان وسالم مولى أبي حذيفة وغيرهم؛ لما رأوا من رثاثة حالهم. فنزلت في الذين آمنوا منهم. وقال مجاهد: هو سخرية الغني من الفقير.

        وقال ابن زيد: لا يسخر من ستر الله عليه ذنوبه ممن كشفه الله؛ فلعل إظهار ذنوبه في الدنيا خير له في الآخرة. وقيل نزلت في عكرمة ابن أبي جهل حين قدم المدينة مسلماً؛ وكان المسلمون إذا رأوه قالوا ابن فرعون هذه الأمة. فشكا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت.

يقول القرطبي: “وبالجملة فينبغي ألا يجترئ أحد على الاستهزاء بمن يقتحمه بعينه إذا رآه رثّ الحال، أو ذا عاهة في بدنه، أو غير لبيق () في محادثته؛ فلعله أخلص ضميرا، وأنقى قلبا، ممن هو على ضد صفته؛ فيظلم نفسه بتحقير من وقّره الله، والاستهزاء بمن عظّمه الله. ولقد بلغ بالسلف إفراط توقّيهم وتصوّنهم من ذلك، أنْ قال عمرو ابن شرحبيل: لو رأيت رجلاً يرضع عنزاً فضحكت لخشيت أن أصنع مثل الذي صنع. وعن عبد الله بن مسعود: البلاء موكل بالقول؛ لو سخرتُ من كلبٍ لخشيتُ أن أحوّل كلبا”()، فدل ذلك على أن صيانة الكرامة الإنسانية، قيمة اتّفقتْ عليها الشرائع السماوية، والمواثيق الدولية.

لقد وردت النصوص السابقة في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة المصدرين الأساسيين للتشريع في الإسلام.

وفي العصر الحديث؛ نصت المواثيق الدولية، على الكرامة الإنسانية، وضرورة صيانتها، والمحافظة عليها؛ حيث نصت المادة الأولى للإعلان العالمي لحقوق الإنسان على الآتي: “يولد جميع الناس أحرارا، متساوين في الكرامة، والحقوق. وهم قد وُهبوا العقل والوجدان، وعليهم أن يعاملوا بعضهم بعضا بروح الإخاء”()، ولكن الممارسات العملية جاءت في كثير من الأحيان مخالفة لهذا النص العالمي.

فدل ذلك على أن صيانة الكرامة الإنسانية قيمة اتّفقتْ عليها الشرائع السماوية، والمواثيق الدولية؛ بل إنها تعلوا عند بعض الشعوب حتى تربوا على الاحتياجات الأساسية من طعام وشراب، وقديما قال العرب: “تجوعُ الحُرَّة ولا تأكل بثَديَيِها”()، فألمُ الجوع أهْونُ ألفَ مرَّة من ألم خَدْش الكرامة، بل الموتُ أحياناً يُصبح مرغوباً إذا كان دفاعاً عن الكرامة، وما أروع ما قاله عنترة بن شداد وهو يصف تقديره لهذا المشترك الإنساني العام:

لا تَسقني ماءَ الحياة بِذِلَّةٍ            بلْ فاسقِني بالعِزِّ كأس الحنظَل ().

فالحياة الذليلة ليست في واقع الأمر حياة، ومن لم ينظر إلى هذا المشترك بعين الاعتبار فهو يبحث عن صدام لانهاية له! ().

المطلب الثالث

مخاطر تتعلق بالتمييز بسبب النوع

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” يا أيّها النّاسُ؛ إنَّ ربَّكم واحدٌ، وإنَّ أباكم واحدٌ، ألاَ لاَ فضْلَ لعربيٍّ على أعجميٍّ، ولا لعجميٍّ على عربيٍّ، ولا لأحمرَ على أسودَ، ولا أسودَ على أحمرَ، إلاَّ بالتَّقوى:”… إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ…” [الحجرات:13]، ألاَ هل بلَّغت؟” قالوا: بلى يا رسول الله، قال:” فليبلِّغ الشَّاهد الغائب”().

فاتضح من خلال الحديث عن التنوع وأهميته أنه إرادة إلهية، وضرورة إنسانية، وواقع ملموس، فلا يجوز التفاضل بين الناس لمجرد اختلاف النوع، أو الصفة التي ولدوا بها دون أن يكون لهم دور أو كسب في اختيارها، فالتكريم حق مكفول للإنسان لمجرد كونه إنساناً، والحقوق الإنسانية يجب أن تُكفل له، بغض النظر عن لونه، أو جنسه، أو لغته، أو دينه. وبالمقارنة نجد أن المواثيق الدولية قد أكدت ما سبق إليه الإسلام؛ فنصت المادة الثانية للإعلان العالمي لحقوق الإنسان على أنه: “لكل إنسان حق التمتع بجميع الحقوق والحريات المذكورة في هذا الإعلان، دونما تمييز من أي نوع، ولاسيما التمييز بسبب العنصر، أو اللون، أو الجنس، أو اللغة، أو الدين، أو الرأي سياسيا وغير سياسي، أو الأصل الوطني، أو الاجتماعي، أو الثروة، أو المولد، أو أي وضع آخر”()، وهذا هو ما جاء في أحكام الشريعة الإسلامية؛ التي كفلت حقوق الإنسان كافة؛ حيث نصت أحكامها على الحرية الدينية، قال تعالى:“… لاإِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ…” [البقرة:256]. ونصت على الحرية الفكرية، قال تعالى:قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلاً ” [الإسراء:84]. “والتفكير فطرة الإنسان، وعمل العقل ورسالته، كما أن التفكير فريضة إسلامية أمر بها القرآن وحض عليها، قال تعالى:” أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لاَ  تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى القُلُوبُ الَتِي فِي الصُّدُورِ” [الحج:46]. وكفلت تعاليم الإسلام الحرية المدنية، ويراد بها أن يكون للإنسان حرية التصرف في أموره الشخصية، والمالية، وقد أرسى الإسلام دعائم هذه الحرية، وجعل لكل فرد سيادة ذاتية منضبطة، بأن (يملك، ويرث، ويبيع، ويشتري، ويرهن، ويكفل، ويهب، ويوقف، ويوصي، ويتصدق، ويتزوج، ويتصرف بكل أنواع التصرفات والعقود التي تحقق المصلحة الفردية، والمصلحة الجماعية)()، وتأتي قمة صيانة حقوق الإنسان في التكريم الذي منّ الله سبحانه وتعالى به على الإنسان، على نحو ما ورد في المطلب الثاني من هذا المبحث، فلا تمييز بسبب الاختلافات القائمة على التنوع؛ إذ أن التمييز بسبب النوع له آثار كارثية على المجتمع. ففي دراسة نشرتها جامعة الموصل عن إدارة التنوع في المجتمعات الجمعية جاء فيها: “إن القيام بمسح واسع لحالات التوترات، وصراعات العنف العرقي؛ نجدها تشير إلى أنماط مسبباتها؛ فهي عموماً تدور حول ثلاث مسائل رئيسة:

الاعتراف بالهوية: حمايتها والمحافظة عليها وتطويرها ليس فقط على أساس أنها حياة خاصة وإنما كقضية عامة أيضاً.

التوزيع والاشتراك العادل في الثروة بين المجاميع والطوائف.

التمثيل وتقاسم السلطة في هيكلية الحكم ().

جاء مصطلح الهوية في اللغة العربية من كلمة “هو”، والهوية هي مجمل السّمات التي تُميّز شيئا عن غيره أو شخصاً عن غيره أو مجموعة عن غيرها، كلّ منها يحمل عدة عناصر في هويته. عناصر الهوية هي شيء متحرك يمكن أن يبرز أحدها أو بعضها في مرحلة معينة وبعضها الآخر في مرحلة أخرى. يقول الدكتور محمد عمارة: فالهوية في عرف حضارتنا العربية الإسلامية مأخوذ من “هو.. هو” بمعنى: جوهر الشيء وحقيقته.. فهوية الإنسان.. أو الثقافة.. أو الحضارة.. هي: جوهرها وحقيقتها.. ولما كان في كل شيء من الأشياء إنسانا أو ثقافة أو حضارة الثوابت، والمتغيرات.. فإن هوية الشيء هي ثوابته، التي تتأصل ولا تتغير، تتجلى وتُفصح عن ذاتها، دون أن تُخلي مكانها لنقيضها، طالما بقيت الذات على قيد الحياة!.. إنها كالبصمة بالنسبة للإنسان، تتجدد فاعليتها، ويتجلى وجهها كلما أُزيلت من فوقها طوارئ الغبار وعوامل الطمس والحجب، دون أن تخلي مكانها لغيرها من البصمات! ().

هنالك نوعان من الهوية: الهوية الشخصية، والهوية الجمعية. فالهوية الشخصية تعرّف شخصا بشكله واسمه وصفاته وجنسيته وعمره وتاريخ ميلاده. الهوية الجمعية (وطنية أو قومية) تدلّ على ميزات مشتركة أساسية لمجموعة من البشر، تميّزهم عن مجموعات أخرى. أفراد المجموعة يتشابهون بالميزات الأساسية التي كوّنتهم كمجموعة، وربما يختلفون في عناصر أخرى لكنها لا تؤثر على كونهم مجموعة. فما يجمع الشعب الهندي مثلاً هو وجودهم في وطن واحد ولهم تاريخ طويل مشترك، وفي العصر الحديث لهم أيضا دولة واحدة ومواطنة واحدة، كل هذا يجعل منهم شعبا هنديا متمايزا رغم أنهم يختلفون فيما بينهم في الأديان واللغات وأمور أخرى”().

برزت مسألة الهوية باعتبارها عنصراً رئيسياً للتوتر العرقي، الذي أدى إلى صراعات عنيفة في أجزاء مختلفة من العالم، خصوصاً خلال العقدين الماضيين. إن ظهور الاتجاهات المحافظة (القومية العرقية في مواجهة الهوية الوطنية)، (الإحياء الديني والسلفية – العودة للأصول) والحركات الوطنية العرقية؛ من أجل الاعتراف بالهوية والحكم الذاتي، هي حقائق واضحة في العالم المعاصر، ولها تأثيرات بعيدة المدى في زيادة تحديات التنوع في المجتمعات الجمعية ().

فالخصائص التي تُميّز شعباً مَّا عن غيره، تُمثل هويته التي يعتز بها، ويدافع عنها، ويضحِّي حتى بروحه في سبيل بقائها، والرابط العرقي من أبرز هذه الروابط، “ومع أن دور الرابط العرقي قد قلّ كثيراً مع حياة المدنية الحديثة؛ حتى صار معظم الناس لا يعرفون أصولهم، ولا يكترثون بالبحث عن أعراقهم؛ إلا أنه مازال له دورٌ مهِمٌ في بعض المناطق، وخاصة إذا كان أصحاب العرق الواحد يشعرون بالغبن والاضطهاد في البلد الذي يعيشون فيه؛ ومن ثم فإنهم يبحثون عن رابطة أخرى غير رابطة الوطن تجمعهم، وقد تكون هذه الرابطة هي رابطة العرق، ولعل من أبرز الأمثلة على ذلك مثال: العرق الكردي، فالأكراد يبحثون عن رابط العرق ليربطهم، وينظرون إلى حلم يترقبونه، وهو تكوين دولة لم يشهد التاريخ مولدها حتى هذه اللحظة، وهي دولة “كردستان”، ولم يتنام عندهم هذا الشعور إلا لشعورهم بالتهميش في الدول الخمس التي يعيشون فيها؛ وهي: العراق، وسوريا، وتركيا، وإيران، وأرمينيا، فصار العرق بذلك مجمعا لهم، ومجددا لآمالهم().

إنَّ الإقصاء، والاضطهاد، ومحاولة إلغاء الآخر؛ نهج يؤدي إلي ظهور التعصُّب للأعراق، ومن ثمَّ يدفع إلي حروب مُدمِّرة، “وكما أنّه مازال للعِرق دور في تجميع وتعارف مجموعات من البشر، فإنه مازال كذلك سبباً كارثياً من أسباب الصّدام؛ فالحروب التي تقوم على أساس العِرق حُروب شرسة يمتد أثرها لعقود، وهي جريمة بكل المقاييس، وصار العالم يتعارف الآن على هذا التجريم لهذه الحروب، والتي تعرف بجرائم “التطهير العرقي”؛ لأن البشر لا يدَ لهم في أعراقهم، ولا يملكون تغييرها، ولا يختارونها أو يستبدلونها؛ ومن ثم فهي حروب لا جدوى لها، وليس هناك مبرر عقلي ولا أخلاقي مقبول وراءها، وما أبلغ الوصف الذي وصف به رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل هذه الحرب العرقية، حين وصفها بأنها: “دعوى أهل الجاهلية”() فمن الجهل حقاً أن نتصادم لأن أعرقنا مختلفة، مع أنه لم يختر أحدنا هذا العرق أو غيره”()، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: “دعوها فإنها منتنة”().

إن الأقليات، والمجاميع المهمشة، وغير المشاركة، تثير تساؤلات؛ حول حيادية الدولة، وضمان الإيمان بمبادئ عدم التمييز في حقوق المواطنين. طرح الحوار حول نظرية الأمة الدولة اللاعرقية، وطريقة تمثيلها، وعملياتها الحقيقية، تقدم محتوى وأخلاقية الأكثرية، وبالتالي فهي في الحقيقة تهمل، وتهمِّش هوية الأقلية، وعناصر دلالاتها، مثل: اللغة، والرموز، والطقوس.. الخ. حتى سياسة الدولة المتعلقة باللغة، والتعليم؛ مرتبطة بأخلاقيات ثقافة الأكثرية، وشعائرها الدينية، في البناء المهيمن للأمة ، هذا المنطق، آخذ بالتوسع، والامتداد، فنتج عنه مسألتان رئيسيتان للانقسام، مما يتيح المجال أمام بروز الحركات المحلية العرقية: (1) الصراعات، و(2) المطالبة بالحكم الذاتي؛ ابتداءً بالحكم المحلي (الإقليمي) إلى الحركات الانفصالية.

إن المطالبة بالاعتراف بالهوية من قبل الأقليات والمجاميع المهمشة؛ له تأثيران: الأول: توسع الفجوة بين الدولة والمجتمع، والثاني: الفجوة بين مكونات ذلك المجتمع. وهذا ينتج من خلال حقيقتين رئيستين:

الأولى: لامبالاة الدولة للتطلعات المجتمعية.

الثانية: عدم تكييف موقف الأكثرية تجاه الأقليات والمجاميع غير المشاركة.

تجد مسألة الاعتراف بالهوية، مرتبطة جداً بمسألة التوزيع والاشتراك العادل للموارد في المجتمع المتنوع. وهذه المسألة تؤدي إلى زيادة حدة التوتر؛ بين المجاميع العرقية، والدينية، واللغوية، والإقليمية، وفي الحالة الهندية، حتى بين الفئات الدينية، داخل الديانة الواحدة، كما في نظام الـ(Cast)() في الهندوسية، وبالرغم من أن هذا الأمر غالباً ما يرتبط بالمطالب الاقتصادية؛ فإنها تجد لها تعبيرات اجتماعية، وعرقية، ودينية، ولغوية، اعتماداً على خصوصية الإطار الذي تظهر به().

لقد أشار تقرير التنمية البشرية الذي أصدره برنامج الأمم المتحدة الإنمائي لعام 2000 حول حقوق الإنسان والتنمية البشرية، ملاحظة خطيرة، حول حالات الإقصاء للأقليات، تتطلب حماية المجاميع من تهديدات القرارات التي تتَّخِذُها الأكثرية، والتي تتضمن الإقصاء من المشاركة في صنع القرار، وتجاوُز حكم القانون، والتَّعَسُّف في فَرْضِ الممارسات الاجتماعية للأكثرية، وعدم التسامح الديني، والفقر، كنتيجة لرغبة الأكثرية؛ بمراعاة مصالحها الاقتصادية، على حساب الأقليات؛ من خلال ممارسات، تتمثل: في إبعاد الأقليات عن المناطق الغنية بالموارد. يشير التقرير أيضاً إلى فشل الدولة في ضم وتوحيد الأقليات، مما يؤدي إلى حرب أهلية؛ كما في حالة يوغسلافيا السابقة، وسيريلانكا، وهذه بعض النماذج القليلة، التي تضع علامات استفهام على فاعلية المواطنة العامة، كقاعدة للادعاء بالحقوق والعدالة. والشيء ذاته أشار له (التقرير العالمي لحرية الدين والمعتقدات)؛ بأن الاضطهاد الديني، لمعتقدات الأقلية، والتغيير القسري للديانة، والإساءة إلى دور العبادة، والتمييز، والتعذيب، والقتل على أسس دينية؛ يمثل المخالفات الرئيسة لحقوق الإنسان، في جميع أنحاء العالم، مهما كان مستوى التنمية، والإدراك لفكرة الأمة الدولة والإطار العام لحقوق المواطنة ().

لقد سبقت التشريعات الإسلامية التشريعات الوضعية في تحريمها للظلم بكافة أنواعه: ظلم الأفراد، وظلم المجموعات، والظلم الاجتماعي؛ ودعت إلى التزام العدل مع الجميع. وحرمت التمييز بسبب النوع أو اللون، أو المعتقد؛ بل الجميع متساوون في الحق الإنساني العام؛ الذي يتضمنه التكريم الإلهي لبني آدم، في ضوء هذا الاعتبار، وباستثناء الحالات في آسيا، وأفريقيا، وأميركا اللاتينية؛ على أنها البؤر الرئيسة لمخالفات حقوق الإنسان، وخصوصاً حقوق الأقليات الإثنية، والدينية؛ فإن سجل العالم المتقدم ليس أفضل. حيث قضايا التمييز الإثني، في ألمانيا، وفرنسا، والمملكة المتحدة، والولايات المتحدة الأمريكية، بشكل معروف لدى الكثيرين، بالرغم من أن القانون في تلك البلاد، يمنع التمييز العرقي، والديني، ولكن حقيقة الأمر، تشير إلى عكس ذلك. ففي فرنسا، يلاحظ أن عدم الاعتراف بالاختلاف، يعد المصدر الرئيس لعدم الاستقرار بين الأقليات، وقد أشار التقرير العالمي؛ بأن مجاميع الأقليات، تنظر إلى فكرة الوطنية الفرنسية، على أنها فكرة استيعاب وهيمنة، فهناك على سبيل المثال؛ مطالب المسلمين، بالسماح للطالبات المسلمات، بلبس الحجاب في المدارس، كذلك فإن الأقليات المحلية، المنتشرة على الساحة الفرنسية؛ مثل الباسيك، والكاتولونين() أبدوا شكوكهم حول البناء الآحادي الثقافة، للمواطنة، والوطنية الفرنسية، فهم في الحقيقة؛ يطالبون الدولة بتبني تعريف جمعي تعددي للمواطنة.

وفي الولايات المتحدة الأمريكية؛ فإن بوتقة الانصهار الأمريكية، لم تقدم الكثير؛ لثقافات الأقليات، فالتمييز العرقي، والديني، واضح هناك، فضلا عن الأقليات الإثنية المهاجرة، فإن السكان المحليين، والسود؛ يعانون من الممارسات التمييزية الاقصائية كذلك().

هناك دراسة بعنوان “مشروع الأقلية في خطر” تقدر؛ بأن حوالي 900 مليون مواطن، ينتمون إلى مجاميع متعددة؛ يتعرضون إلى مختلف أشكال التمييز؛ كالتهميش، في السكن، أو الإقصاء.

إن كافة تلك القضايا، تؤكد، الافتراض القائل: بأن الفكرة النوعية للمساواة، محدودة جداً. ولهذا فلا يمكن الاعتماد عليها بوصفها كنظرية رئيسة لحماية الحقوق والهويات الإثنية الدينية للأقليات. على كل حال، فإن هذا النمط يبدو غير مفيد للأقليات؛ ضمن الهوية السياسية لبناء الأمة الدولة، فمن ناحية تبدو كآليات للاستعباد الثقافي، يتم بها تهميش المحتوى الثقافي والمعرفي والأخلاقي للأقليات، من قبل المحتوى الثقافي المهيمن للأمة الدولة ().

المطلب الرابع

مخاطر تتعلق بانتهاك الحقوق

ينطلق الإسلام من اعتقاد راقٍ في نظرته للإنسان، حيث جعل الله عز وجل الإنسان خليفة في الأرض لعمارتها بمنهج الله، وإقامة أحكام الشريعة فيها. قال تعالى: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً…) [البقرة:30]، ويرى الإسلام لذلك أن الإنسان موضع التكريم من الله عز وجل، الذي حباه بذلك التكريم ومنحه إياه فضلا منه سبحانه وتعالى. ويتساوى بهذا التكريم جميع البشر بصفتهم الإنسانية مهما اختلفت ألوانهم ومواطنهم وأنسابهم، كما يتساوى في ذلك الرجال والنساء، ويؤكد التصور الإسلامي أن ميزان التكريم يعتمد على الارتباط العقائدي للإنسان حيث أن منزلة التكريم تحددها تقوى الإنسان وقبوله هداية الرسل ومنهج الوحي وفي ذلك يقول تعالى:” لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ التين4-6]، والارتباط العقائدي يختاره الإنسان بإرادته ورغبته، وليس أمرا طبيعيا مفروضا لازما للإنسان لا يستطيع عنه فكاكاً. قال تعالى:” قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ أَعْمَى” [طه:123-124]، ومن هذا الاعتقاد تنطلق حقوق الإنسان في الشريعة الإسلامية()، ويعتبر علم حقوق الإنسان فرعاً من العلوم الاجتماعية، يختص بدراسة العلاقات بين الناس استنادا إلى كرامة الإنسان، بتحديد الحقوق والرخص الضرورية لازدهار كل كائن إنساني().

 وتتلخص تلك الحقوق في مجموعة الاحتياجات، أو المطالب التي يلزم توافرها لعموم الأشخاص حتى تصبح حياتهم ممكنة ومحتملة، في أي مجتمع دون أي تمييز بينهم سواء لاعتبارات الجنس، أو النوع، أو اللون، أو العقيدة السياسية، أو الأصل الوطني، أو لأي اعتبار آخر ().

تمثل حقوق الإنسان مساحة وسطا، أو موضوعاً مشتركا بين أكثر من فرع من فروع العلوم الاجتماعية، وبخاصة العلوم القانونية والعلوم السياسية، إلى جانب طائفة العلوم التي اصطلح على تسميتها العلوم الشرعية.

فحق الشعوب في تقرير مصيرها، وحق الإنسان في الحياة والمساواة دون تمييز بسبب الجنس أو اللغة أو الدين، هي حقوق إنسانية؛ عنيت بها المواثيق الدولية، وأكدتها بالنص عليها وحمايتها.

وحق الإنسان في الحرية وسلامته الشخصية، وحمايته من التعذيب، حقوق أساسية دستورية وتشريعية وطنية في معظم الدول.

وفي الدول الإسلامية التي تعتبر القرآن الكريم، والسنة النبوية الشريفة مصدرها الرسمي الدستوري والتشريعي- فإن الحقوق سالفة الذكر تعتبر حقوقا أساسية للإنسان نابعة من مصدري الشريعة الإسلامية.

وتُعني قوانين العقوبات أو التشريعات الجنائية بحقوق الإنسان من زوايا عدة، تتمثل في التوكيد على جملة المبادئ الحاكمة ذات الصلة المباشرة بحماية هذه الحقوق، وما يرتبط بها أو ينبثق عنها من حريات؛ كمبدأ شرعية الجرائم والعقوبات، ومبدأ تطبيق القانون الأصلح للمتهم، ومبدأ الحق في الدفاع الشرعي، ومبدأ شخصية العقوبة، ومبدأ التفسير الضيق للنصوص الجنائية، ومبدأ عبء الإثبات على المدعي، عملا بالقاعدة “البينة على من ادعى واليمين على من أنكر”().

كذلك أكدت القوانين الخاصة بالإجراءات الجنائية، في قواعدها العامة على الضمانات الكفيلة بالمحافظة على حقوق الإنسان، كالحق في الدفاع، واعتبار البراءة الأصلية في الإنسان، وضمانات التحقيق وغيرها.

أما القانون الدستوري، وعلم السياسة بفروعه المختلفة، فقد جاءت عنايتهما بحقوق الإنسان متمثلة في وضع الإطار المرجعي لطائفة مهمة من هذه الحقوق، ونعني بها طائفة الحقوق السياسية، كالحق في الانتخاب، والحق في الترشيح لشغل الوظائف العامة، والحق في المشاركة في الحياة السياسية عموما، والحق في حرية الرأي والتعبير ().

كذلك تدخل ضمانات مراعاة حقوق الإنسان في قوانين العمل والتشريعات الاجتماعية كتقرير مبدأ الحق في العمل، والحق في الحصول على أجر متساوٍ في مقابل العمل المتساوي، والحق في إنشاء تنظيمات نقابية، والحق في المفاوضة الجماعية ().

هذه الحقوق بمجملها، مؤشر لتتحقق كرامة الإنسان، وهذا ما اتفقت عليه الشرائع السماوية، والمواثيق الدولية، والقوانين الوضعية؛ فشريعة موسى عليه السلام نصت على مبدأ المماثلة كما ورد في القرآن الكريم، قال تعالى:” وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ” [المائدة:45]، وفي الإسلام انطلقت فكرة حقوق الإنسان في الشريعة الإسلامية منذ نزول الوحي وبدء الرسالة، على مبدأ واحد هو أن الحقوق ليست مجرد حقوق تتيح لصاحبها مكنة الانتفاع أو التمتع بها وفقا لأهوائه الشخصية أو لسلطته التقديرية في حدود الضوابط التشريعية المقررة، وإنما تتجاوز ذلك في بعض الأحوال- إلى مرتبة الواجبات التي يتعين الالتزام بها والالتزام بمقتضياتها، حتى من جانب صاحب الحق نفسه(). فالإسلام يحصن هذه الحقوق تحصينا شديداً باعتبارها صادرة من الخالق سبحانه وتعالى، وبهذا المفهوم يرتقي بها إلى معنى:

  1. يعطيها من جهة، حرمة تخرج بها عن سيطرة ملكٍ أو حزبٍ يتلاعب بها كيفما شاء.
  2. جعلها أمانة في عنق كل المؤمنين، يحاسبون على الذود عنها، وإقرارها في دنيا الناس ومدافعة الطواغيت عنها، بحسبان ذلك واجبا دينياً يثاب على فعله ويعاقب على تركه.
  3. يعطيها أبعادها الإنسانية بمنأى عن كل الفوارق الجنسية والعرقية والإقليمية والاجتماعية، إذ إن الله رب العالمين وليس لقوم أو أمة فحسب.
  4. يعطيها شمولا وإيجابية وقوة نفاذ تخرج بها عن الشكلانية والجزئية، لأن الله خالق الإنسان وهو أعلم بالحاجات الحقيقية لمخلوقاته.
  5. يعزز سلطة القانون الحامي لتلك الحقوق بسلطة الضمير الديني الممثّل في شعور المؤمن برقابة الله الدائمة.

إن ارتباط الحق بالشارع الحكيم يضيق من فرص ظهور سلطة مطلقة أو ثيوقراطية، فليس في الإسلام كهنوت يملك أن يُحلّ أو يُحرِّم، وإنما الذي يحل ويحرم هو الله الذي لا يحابي ولا يتحامل، وهو الغني عن العالمين الذي لا تنفعه طاعة ولا تضره معصية، مما يعطي الحقوق صفة العدل المطلق ويجند كل مؤمن للدفاع عنها كلما انتهكت، سواء كان العدوان موجها إليه شخصيا، أو إلى غيره، مؤمنا كان أو كافراً، فالظلم واجب دفعه، والمعروف واجب تحقيقه ().

إن انتهاك هذه الحقوق مجتمعةً، أو واحداً منها يهدّد استقرار المجتمعات، ويدفع المُعتدَى عليهم دفعا للعنف الذي لا يمكن ضبطه؛ فيصيب المخطئ والبرئ؛ وهي الفتنة التي حذر منها القرآن الكريم. قال تعالى:” وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ العِقَابِ” [الأنفال:25]، وإن أسوأ اعتداء على حقوق الإنسان يتمثل في ممارسة الاستبداد بكل صوره، لأنه اعتداء على الإنسانية، فالقهر يولد التطرف الذي يتعدى الفرد إلى المجتمع قال تعالى:” وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ  لاَ  يُحِبُّ الفَسَادَ” [البقرة:205].

إن الإنسان المقهور المعتدَى على حريته؛ هو دائماً إنسان قابل للاشتعال، وهو اشتعال لا يلتزم بالقوانين ولا يعترف بها، ومن العبث أن نتوقَّع أن يُخاطَب مثل هذا الإنسان بثقافة السلام والتعايش والمحبة، ذلك لكونه لم يَرَ ولم يذُقْ شيئًا من هذا على وجه الحقيقة؛ لقد حذر الإسلام من الاعتداء على هذه الحقوق. بل لعن الله الذين تتفشّى فيهم الأفعال السيئة، ثم لا يبذلون محاولة لتغييرها والعمل على القضاء عليها قال تعالى: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا  لاَ  يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ” [المائدة: 78-79]، وكتب الله في القرآن الكريم أن الذي قتل نفسًا واحدة بظلم كان كمن قتل كلَّ الناس، قال عز وجل:” مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً…” [المائدة:32] وعبَّر النبي صلى الله عليه وسلم عن خطورة القتل في الدِّين بأن المرء ما يزال متعلّْقاً بأمل شديد في الله أن يغفر له ذنوبه ما لم يرتكب جريمة القتل، فقال:”لا يزال المؤمن في فَسحَةٍ من دينه ما لَمَ يُصِبْ دماً حراماً”()، فالتشنيع بجريمة القتل هنا والتحذير منها عامٌ؛ يشمل نفوس المسلمين وغير المسلمين؛ إذ العدل في الشريعة مطلقٌ لا يتجزَّأْ؛ ومن ثَمَّ فلِكُلِّ إنسان حقه في الحياة الحرة الكريمة، وفي صيانة العرض والأموال وجميع الحقوق من أي عدوان().

إنَّ الشرَّ لن ينتهي من الدنيا، وسيظل هناك أناس يُقَدِّمون مصلحَتَهُم الفرديَّة على مصالح العالمين، وسيظلُّ هناك من يَسعى للتَّصَادُم، ويزرع الكراهية، مهما تكلَّم الوُعَّاظُ والمُصْلِحون، ومهما اجتهد المفكرون والمنظِّرون.. إن الطمع والجشع يعمي الأبصار، فلا يكترث هؤلاء بمصالح الناس، ولا بآمالهم، ولا بآلامهم، ومن ثم يعتدون على المشتركات الإنسانية، وهي أمور فائقة الأهمية لكل إنسان ولكل أمة، ولكل حضارة، فعند التعدي عليها لابد أن تنشأ حرب، ولابد أن يحدث صدام ().

إن الاعتداء على الحقوق يهدد السلام الاجتماعي ويؤدي إلى صراع مقيت بين مكونات المجتمع مما يتعارض مع مقاصد استخلاف الإنسان.

المطلب الخامس

مخاطر تتعلق بالتعصُّب

“ابتداء من منتصف القرن الرابع الهجري، بدأ التعصب بين المسلمين والنصارى يظهر بصورة أصبحت مهددة للأمن؛ والسبب في ذلك، هبوط المستوى المعيشي، والثقافي للناس جميعا، وسيطرة الجهلاء، والرعاع، وأدعياء الدين. وفي ذلك أيضا ظهر تعصب الجماهير كلٌّ لمذهبه، وكثرت مهاجمتهم لغير أهل مذهبهم؛ من المسلمين، فضلا عن النصارى، حتى اختلّْ الأمن في بغداد، وأصبحت ميدانا للفوضى، والسلب والنهب. وكلما زادت الحالة السياسية والاقتصادية والثقافية سوء، زادت البلية حتى كان ذلك من أسباب خراب بغداد.. وكان خرابها مقدمة لسقوطها” يعلق الأستاذ فهمي هويدي () على ذلك قائلا: “وتلك شهادة، على أهميتها، فإنها تؤرخ لاستفحال الظاهرة، في أواخر القرن الرابع الهجري، والفترة التي انتهت بسقوط بغداد، في القرن السابع الهجري (656هـ-1258م) إلا أنه من الثابت؛ أن التعصب ظل مقترنا دائما بمراحل التدهور السياسي، والانحطاط الثقافي والاجتماعي. وأن جرثومة التدهور إذا حلت، فإن الوباء يصيب الجميع، المسلمين فيما بينهم، وفي علاقتهم بغير المسلمين.

 إن التفسخ السياسي الذي أصاب الأمة الإسلامية، في أعقاب فتنة علي ومعاوية، قد أصاب بعض فرق المسلمين، مثل الخوارج، بهوس أفقدهم القدرة على تمييز الحق من الباطل”()، ويورد نموذجاً لفهمهم السقيم للإسلام؛ متمثلا في موقفهم من الصحابي الجليل عبدالله بن خباب. حيث لقيه الخوارج وهو يعلق مصحفا على عنقه، فبادروه قائلين: “إن هذا الذي في عنقك ليأمرنا بقتلك! فقال لهم: ما أحياه القرآن فأحيوه، وما أماته فأميتوه! قالوا له: ما تقول في علي بعد التحكيم والحكومة؟ قال: إن عليا أعلم بالله، وأشد تَوَقّياً لدينه، وأنفذ بصيرة. قالوا له: إنك لست تتبع الهدى، إنما تتبع الرجال على أسمائهم. ثم قتلوه، ودعوا بامرأته الحبلى فبقروا عمَّا في بطنها” “والمدهش أن هؤلاء رأوا نصرانيا ساعتئذ، يملك نخلة أرادوا شراء ثمرها، فقال: هي لكم، فأجابوه في شموخ: ما كنا لنأخذها إلا بثمن. فقال النصراني: واعجباه! تقتلون مثل عبد الله بن خباب ولا تقبلون جنا نخلة إلا بثمن؟ والأغرب أنهم أصابوا في بعض طريقهم مسلما على خلاف معتقدهم، ونصرانيا، فقتلوا المسلم لأنه عندهم كافر، وخلوا سبيل النصراني لأنه من أهل الذمة!”().

وفي عهد الدولة البُوَيْهِيَّة () في العراق نشبت الفتنة واستحكمت بين الأتراك والدَّيلَم وهم سُنِّيُّون، وبين الفرس وهم شيعة” وقد ذهب في سبيل ذلك ضحايا كثيرون من الكتَّاب والعلماء .. وشملت العصبية – فوق السنة والشيعة- فرق السنة ذاتها: من ذلك ما رواه ابن الأثير في حوادث سنة323هـ إذ قال: وفيها عظُم أمر الحنابلة (ببغداد)، وقَوِيت شَوكتُهم. فصاروا يَكْبِسُون دُورَ القُوَّاد والعامّة.. وكانوا إذا مر َّبهم شافعيّ المذهب، أغروا به العُميان، حتى يكاد يموت.. ثم الخلاف الشديد بين الحنفية والشافعية، حتى كاد يؤول الأمر في بعض الأحيان إلى خراب البلد. يقول ياقوت الحَموي عند الكلام على “أصفهان” بعد أن ذكر مجدها القديم: ” وقد فشا فيها الخراب في هذا الوقت وقبله في نواحيها؛ لكثرة الفتن، والتعصب بين الشافعية والحنفية، والحروب المتصلة بين الحزبين. فكلما ظهرت طائفة نهبت محلة الأخرى وأحرقتها وخربتها، لا يأخذهم في ذلك إلٌّ ولا ذمة”. وعند الكلام على بلدة الرَّي، يقول الحَمَوِي.. وقعت العصبية بين السنة والشيعة، فتضافر عليهم الحنفية والشافعية وتَطَاوَلَتْ بهم الحروب، حتى لم يَترُكوا من الشِّيَعة من يُعرف. فلما أفنوهم وقعت العصبية بين الحنفية والشافعية، ووقعت حروب كان الظفر في جميعها للشافعية، هذا مع قلة عددهم.. – وكان أهل الرُّستاق()– وهم حنفية يجيئون إلى البلد بالسلاح الشّاك، ويساعدون أهل نحلتهم، فلم يغنهم ذلك شيئا حتى أفنوهم() في تلك المرحلة التعسة، يذكر أن أحد المتعصبين من الشافعية سئل عن حكم طعام وقعت فيه قطرة نبيذ، فقال: يرمى لكلب أو لحنفي! وسئل متعصب حنفي: هل يجوز للحَنَفِي أن يتزوج امرأة شافِعِيَّة؟ فكان رده: لا يجوز؛ لأنها تَشُكُّ في إيمانها()! وقال آخر: يجوز الزواج بها قياسا على الكتابية ().

هذا التعصب يعكس الواقع الذي أفرزه سوء إدارة الدولة، نتيجة لغياب الشورى وتحُّكم سلطة المتغلِّب بعد عهد الخلافة الراشدة، فقد غابت الشورى من ولاية الأمر، وصارت السلطة للمتغلب على شفرات السيوف، وأسنة الرماح، فقتل الأخ أخاه؛ كما فعل المأمون بالأمين ()، وقتل الابن أباه؛ كما فعل المنتصر() بالمتوكل()، وقتلت الأم ابنها؛ كما فعلت الخيزران() بالهادي(). إلى آخره. حتى قال الشهرستاني صاحب الملل والنحل: “وأعظم خلاف بين الأمة خلاف الإمامة، إذ ما سُلَّ سيف في الإسلام على قاعدة دينية؛ مثلما سل على الإمامة”().

تكاثر الفتن وسفك الدماء جعل بعض العلماء يقولون بالاستغناء عن الإمامة نفسها.

قال هشام بن عمرو الغوطي (): “إن الإجماع ضروري لهذا الأمر(). وما دام الإجماع محالاً. فلا داعي أن نحتكم لأمر مثير للفتنة”. وتمنى أبو بكر الأصم أمنية مماثلة قائلا: “إذا تكافَّ الناس عن التَّظَالُمِ استَغْنَوْا عن السلطان”().

هذا التعصب، يرجع سببه إلى عدم القدرة على فهم طبيعة التنوع في الاجتهاد، وبالتالي العجز عن التعامل معه.

إنَّ كثيراً مِن المُتَعصِّبِين الذين تَصَدَّوْا للفتوى في عصرنا هذا يُمكن وصفهم بحفظة النصوص، ولكنهم ليسوا فقهاء، فالفقيه من يمتلك القدرة على استنباط الأحكام من النصوص، مع اعتبار الواقع ومراعاة المقاصد والمآلات. فاستخراجُ الحُكم مجرداً دون مُراعاةِ الواقع وتعقيداته؛ يُوقِعُ صاحِبَه في دائرة التَّعَصُّب، ومن المُنكَرات في هذا العصر إطلاق التُّهَم والأحكام جُزافاً؛ فهذا كافر لأنّه أدلى بتصريح يُخالف هَوى المُفتي، وذاك زِندِيقٌ؛ لأنّه تَبَنَّى فكرة لا يعرف المُفتي كُنْهَها، وآخر مرتدّ لأنّه اتخَذ موقفاً يتعارض مع موقف المفتي. هذه الفتاوي التَّكْفيريّة تدخل في إطار البدعة؛ لأنّه لم يُعرف عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه أطلق مثل هذه الأحكام بهذه الصورة؛ بل كان نهجُهُ النَّهْي عن التّكفير، قال صلى الله عليه وسلم: “سباب المسلم فسوق وقتاله كفر”().

 إنّ دراسة سيرة الرسول القدوة بِعُيون باصرة، ستُعطي نبراساً يُضئ الطريق للسالكين، وتُبَيِّن سماحةَ الإسلام؛ لأنها ترجمت أحكامه ومقاصده لواقع ملموس ، وسوف تساعد المسلمين أن يصرفوا أنظارهم عن نهج التَّشَدُّد والتَّكفير والتَّضييق على الناس، فالإسلام دين الرحمة والتيسير ورفع الاصْر والحرج عن الناس، وهو لا يتصادم مع الفطرة مطلقاً قال تعالى:” فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا  لاَ  تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ  لاَ  يَعْلَمُونَ” [الروم:30]، إنّ فهم الرأي الآخر، والفكر الآخر، والاجتهاد المخالف في إطار التنوع، يُعتبر أول خطوة في منهج الإصلاح الداخلي، وتوفير الطاقات المهدرة في الصِّراعات لتوظيفها للنهضة في كافة مجالاتها ، المطلوب إسقاط عبارات [كافر وملحد وزنديق وخائن وعميل ومهزوم وخارج .. الخ] من قاموسنا في مجال الاختلاف الفكري والسياسي، والفقهي، ومطلوب إيجاد مساحة في المجتمع المسلم لقبول الاجتهاد المخالف أو تفهمه على أقل تقدير ().

المبحث الثاني

فوائد التنوع من خلال منهج الشورى

وفيه مطلبان:

المطلب الأول: التنوع في المجتمع الإسلامي

المطلب الثاني: فوائد التنوع

المطلب الأول

التنوع في المجتمع الإسلامي

إن أخطر ما يواجه المجتمعات القائمة على التعدد والتنوع؛ هو التَّمْيِيز بين المواطنين، لا بمهاراتهم وقدراتهم، وإنما بانتمائهم، فإن هذا من شأنه أن يُثير النّعرات العرقية، والعصبية؛ مِمَّا يُؤدي إلى تَدَهْوُر العلاقة بين المواطنين، وبالتالي؛ يُؤدي إلى انهيار الدولة. إن الشُّعور بالانتماء حاجة فطرية للإنسان، وقد أثبتت كثير من الدراسات “استحالة حياة الفرد بلا انتماء، ذلك الانتماء الذي يبدأ صغيرا، بهدف إشباع حاجة الإنسان الضرورية منذ ميلاده، وينمو هذا الانتماء بنُمُوِّ الفرد ونُضْجِه، إلى أن يصبح انتماءً للمجتمع الكبير، وللوطن الجامع لكل المواطنين”().

        لقد جاء النهج الإسلامي القائم على الشورى مُحقِّقا للعدالة والمساواة في الحقوق والواجبات بين جميع أفراد المجتمع، والعطاء الإلهي متاح للجميع كلٌّ حسب اجتهاده قال تعالى:” كُلاًّ نُّمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا  كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً” [الإسراء:20]، وتعتبر صحيفة المدينة نُموذجاً لإدارة المجتمع القائم على التنوع؛ “فبمقتضاها أصبح جميع المقيمين في دولة المدينة المنورة – مهما اختلفت معتقداتهم وجنسياتهم – مواطنين فيها، لهم حقوق وعليهم واجبات. وهذا أهم تأسيس لمفهوم المواطنة في الإسلام”() لأنها ترجمة للمبادئ والتعاليم التي جاء بها الإسلام، وعلى رأسها: المحافظة على كرامة الإنسان، مهما كان مُعْتَقَدُهُ أو لونه أو ثقافته. “لقد أسست هذه الوثيقة- صحيفة المدينة للتَّعَايُشِ والتفاهم بين أهل المدينة، وحدَّدَت الحقوق والالتزامات المتبادلة بين أهل المدينة، فبمُراجعة نصوصها وتحليل بُنودها؛ نجد أنها قامت على أساس قبول كلِّ طرف وجود الأطراف الأخرى معه؛ كجزءٍ من مجتمعه وحياته، وقامت كذلك على أساس عدم ممارسة أي ضغط عليها وقبولها كما هي().

المطلب الثاني

فوائد التنوع

للتنوع فوائد كثيرة يستفيد منها الأفراد والجماعات والدول، فالمهارات المتعددة، والتخصصات، والعلوم والطاقات؛ فوائدها مشاهدة وملموسة على كافة الأصعدة، وفي هذا المطلب يتم استعراض الفوائد وفق الفروع الآتية:

الفرع الأول: الاستفادة من كل الطاقات في خدمة المجتمع:

        مجتمع المدينة؛ هو المجتمع الذي يجسد نموذج المجتمع الإسلامي الأول، وكان يضُم اليهود بطوائفهم الثلاثة: بني قريظة، وبني قينقاع، وبني النضير، والمسلمين بمجموعتيهم: المهاجرين والأنصار، وكانت مجموعة الأنصار تضم الأوس والخزرج، وهناك المشركون من العرب الذين كانوا أيضا يقيمون في المدينة؛ لديهم كافة الحقوق الإنسانية. بل “في المجتمع الإسلامي المدني (في المدينة المنورة) ظهر صنف غير معهود من المخالفين، إنه المنافق؛ الذي تسَتَّر بالإسلام وتظاهر به، وانضوى في مجتمع الإسلام؛ ليتمكن من الكيد له ولدينه ولنبيه صلى الله عليه وسلم، وعلى الرغم من أن هذا المخالف أخطر صنف على الإسلام ودينه وبنيانه؛ لكونه آتيا من عمق المجتمع ومن صميمه؛ إلا أن الإسلام عمِل على استيعابه واحتوائه وتجنب الصدام معه، فأفسح له المجال للمشاركة في فعاليات حياة المجتمع المسلم؛ في العبادات والمعاملات والجهاد والاطلاع على بعض بواطنه وأسراره، فلم يصدر عنه غير التثبيط والإحباط والفتِّ في العَضُد، والطَّعن في الظهر، فقُوبل بالصبر وسعة الصدر، قال عبدالله بن أُبَيْ زعيم المنافقين مُستغِلاًّ خلافاً بَيْن أحد المهاجرين ورجل أنصاري: والله لئن رجعنا إلى المدينة ليُخرِجنَّ الأعزُّ منها الأذلَّ، فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق، فقال صلى الله عليه وسلم: “دعه لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه”().

هذا النهج الذي اتبعه الإسلام في إدارة التنوع، مكّن المجتمع الإسلامي؛ من الاستفادة من كل طاقات مكونات المجتمع، وتكوين رأي عام متسامح مع المختلف، مما شكَّل لوحةً متنوعةً في ظل الوحدة. قال خلف المثنى، لقد شهدنا عشرة في البصرة، يجتمعون في مجلس لا يُعرف مثلُهم في الدنيا علماً ونباهةً، وهم الخليل بن أحمد، صاحب النحو وهو سُنِّي، والحِمْيَري الشاعر، وهو شيعي، وصالح بن عبد القدوس، وهو زنديق ثَنَوِي، وسفيان بن مجاشع، وهو خارجي صفري، وبشّار بن بُرد، وهو شُعوبي خليع ماجن، وحمّاد عجْرد، وهو زنديق شعوبي، وابن رأس الجالوت الشاعر، وهو يهودي، وابن نظير المتكلم، وهو نصراني، وعمر بن المؤيّد، وهو مجوسي، وابن سنان الحرّاني الشاعر، وهو صابئي، ..هؤلاء جميعا، كانوا يجتمعون فيتناشدون الأشعار ويتناقلون الأخبار، ويتحدثون في جوٍّ من الودّ لا تكاد تعرف منهم أن بينهم هذا الاختلاف الشديد في دياناتهم ومذاهبهم()، هذا المشهد يؤكد حجم التسامح الذي كان عليه المجتمع الإسلامي تاريخيا، وكيف أن الإسلام قد أسس لإدارة التنوع للاستفادة من كل الطاقات، وفي عصرنا الحاضر؛ بتعقيداته، وعلاقاته السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والإدارية؛ فإن المجتمع أحوج ما يكون لهذا التنوع وحسن إدارته.

وفي مجال الفتوى؛ فإن المعلومة في هذا العصر توفرت بصورة غير مسبوقة، فهناك ضرورة إلى قيام مؤسسات للفتوى؛ تضُمُّ كل التَّخُصُّصَات الشّرعية والمدنية والتطبيقية، يشترك فيها علماء السياسة، وعلماء الاقتصاد، وعلماء العلوم الطبيعية، وعلماء الاجتماع، وعلماء الفلسفة، وعلماء العلاقات الدولية، وعلماء القانون؛ حتى تتمّكن من إصدار فتاوى تقلُّ فيها نسبة الخطأ وتكون جامعةً مانعةً قدر الطاقة، وبالتالي يستفيد المجتمع من كل عطاء إنساني مفيد.

الفرع الثاني: ترسيخ ثقافة التسامح التي تحقق الاستقرار:

ثقافة المسلم تنبع من العقيدة الإسلامية والأصول الشرعية والقواعد الكلية، والأخلاق الحميدة، وهي تتميّز بخصائص تتمثّل: في أنها تعتبر أن وحدة الأمة هي الأصل:” ِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ” [الأنبياء:92]، وهي تعبر عن هوية الأمة وتقاليدها؛ في المأكل، والمشرب، والملبس، وطريقة المشي، وهي أشياء يشترك فيها كل الناس؛ غير أن المسلمين يتحرَّون في هذه العادات الأحكام الشرعية، ويمارسونها مقرونة بأهداف سامية قال تعالى:” الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ المُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ” [الأعراف:157]، وقال تعالى:” هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ” [الملك:15]،  وفي ظروف معينة يؤثر المسلم غيره على نفسه تطلعاً لهدف أسمى: “ وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ  لاَ  نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلاَ شُكُوراً” [الإنسان:8-9]. ومن خصائص الثقافة الإسلامية أنها ربَّانية المصدر والغاية: وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (40) ثُمَّ يُجْزَاهُ الجَزَاءَ الأَوْفَى (41) وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ المُنتَهَى” [النجم:39-42].

ومن خصائصها أنها ثقافة عربية إسلامية، وهما فرعان متصلان في جذورهما، وملتقيان في غُصونهما، وفي ثَمرهما، وهي ثقافة عربية؛ لأنّها بالِّلسان العربي بدأت، وبه استمرت، وعلى أساسه ستدوم إلى يوم القيامة، والعُروبة في الإسلام تتجاوز المفهوم العِرقي الضيِّق إلى المفهوم الثقافي العام، وهي كما يقول الشاعر محمد غنيم :

هي العُرُوبة لفظٌ إن نَطَقتَ به                 فَالشَّرقُ والضَّادُ والإسلام مَعناهُ()

والثقافة الإسلامية ثقافة أخلاقية يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: “إنَّ مِنْ أحَبِّكم إليَّ وأقْرَبِكم مِنِّي مَجلساً يومَ القِيَامةِ؛ أحَاسِنكُم أخلاقاً، وإنَّ أبغَضَكُم إليّ، وأبعَدَكُم مِنِّي يومَ القيامةِ؛ الثَّرْثَارُون، والمُتَشَدِّقُون، والمُتَفَيْهِقُون “قلنا يا رسول الله قد علمنا الثَّرْثَارُون والمتَشَدِّقُون فما المُتَفَيْهِقُون؟ قال:” المُتَكَبِّرُون().

ومن خصائص الثَّقافة الإسلامية أنّها عالميةٌ؛ تخاطب الكون كله، يقول العلاَّمة محمد مهدي شمس الدين(): إنَّ سورة الكافرون مِنْ أَعْقد السُّوَر في القرآن الكريم؛ لأنَّها جَمَعَت بين مُنْتَهَي التَّشَدُّد: لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ” الكافرون:2-3] ثم مُنتهى اليُسْر:” لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ الكافرون:6]، فلكم أيُّها المُشركون من آل مكة، عبدة الأوثان دين، وسمَّاهُ ديناً وجعل الإسلام بإزائه ديناً لمحمد صلى الله عليه وسلم والذين اتبعوه ، فهي إذن ثقافة إنسانية () .

هذه الخصائص نتيجتها الطبيعيَّة إيجاد ثقافةٍ تسامُحِيَّة تَتَعايَش مع الثَّقافات المختلفة، ومرنة تُواكب التَّطوُّر في المجتمع الإنسانيِّ، ومنفتحة تتجاوبُ مع المفيد من العطاء الإنساني، وتقتبس منه وتستصحبه. خصائص الثقافة الإسلامية ونتائجها رسَّخت ثقافة التسامح في كثير من المجتمعات الإسلامية؛ تَتجلَّى في المظاهر الآتية:

أولا: النُّصوص الشَّرعية في القرآن والسنة الداعية للشورى، والبر، والتعاون، والمجادلة بالتي هي أحسن، والعفو، وكظم الغيظ، وكبْحُ جِماح الأنفُس الميَّالة للانتقام والعنف، ونشر ثقافة الرِّفق، واللين، وفض النزاعات؛ عن طريق التَّفاوُض، بل حتى عندما يتجاوز بعض الناس الحدودَ؛ لضعف يعتريهم فإنَّ رسول الإسلام يترفَّق بهم ليُعلِّم أمَّته أن الإسلام يدعو للالتزام الصارم بِأحكامه، وفي نفس الوقت يراعي الطبيعة البشريَّة التي يعتريها الضعف أحياناً, عن سلمة بن صخر البياضي: أنه جعل امرأتَه عليه كَظَهْر أمِّه حتَّى يَمْضِي رمضان، فَسَمِنَتْ وَتَرَبَّعَتْ، فوقع عليها في النِّصف من رمضان، فأتى النبيَّ كَأنَّه يُعَظِّمُ ذلك فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: “أَتَسْتَطِيع أنْ تَعْتِق رقبة؟ ” فقال : لا. قال : ” أوَ تَسْتَطيع أنْ تصومَ شهْرَيْن مُتتَابِعَيْن؟ ” فقال: لا. قال:” أفَتستطيع أنْ تُطْعِمَ سِتِّينَ مِسْكِيناً؟ ” فقال: لا. فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: “يا فَرْوَةُ بن عمرو أعْطِه ذلك الفرق – وهو مِكْتَل يأخذ خَمْسةَ عشر صاعاً أو ستة عشر صاعاً – فلْيُطعمه سِتِّين مسكيناً” فقال: على أَفْقَرَ مِنِّي؟ فَوَالذي بعثك بالحق ما بَيْنَ لاَبَتَيْهَا أهلُ بَيْتٍ أَحْوَجُ مِنَّا! فَضَحِكَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم ثم قال: “اذهب به إلى أهلك”().

ثانيا: السيرة العملية التي جسَّدها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه في مُعاملَتِهم مَع أصحاب الدِّيانات الأُخرى من احترام العقائد، وكفالة الحقوق والحريـات، وصيانة أماكن العبادة، وحماية الأنفس والممتلكات، كان لها أثرٌ كبيرٌ في تحقيق ثقافة التَّسامُح على أَرْض الواقع، ومن الطَّبِيعِيّ أنْ يَسُودَ الحُوار في العَلاقات الإنْسانيَّةِ لأنَّهُ عنصرٌ مِن عَناصر التَّسامُح.

ثالثا: كان الرسول صلى الله عليه وسلم يُعالج كثيراً مِن القَضايا بأُسلوبِ الحُوار وينقلُ أَصْحابه من الانفعال الغاضِب إلى الحوار الهادي، وأشير هنا إلى واحد مِن هذه النَّماذج: جاء شابٌ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: أريد منك أنْ تأذنَ لِي في الزنا! فغضب الصحابةُ وكادوا أنْ يَفتِكُوا به فقال لهم رسول الله: “على رسلكم ، أدْنُ مِنِّي ” فلمَّا دنا الشاب قال له رسول الله:” أتُحِبُّه لأُمِّك ؟”قال لا. قال:” ولا الناس يُحبُّونه لأُمَّهاتِهم”، ” أتُحِبُّه لابنتك ؟” قال: لا. قال:” ولا الناس يُحِبُّونَهُ لِبَناتِهم” ثم أخذَ يُعَدِّدُ عليه: أَفَتُحِبُّه لأُختك، لعمّتك ، لخالتك… والشاب يقول:” لا والله، جعلني الله فداك “فوضع النبي صلى الله عليه وسلم يده الشريفة عليه وقال: “اللَّهُم اغفر ذَنبه ، وطَهِّر قَلبه، وحَصِّنْ فَرْجَهُ”().

إنّ مُجَرَّد الوعْي بِخُطُورة التَّعَصُّب، والإقصاء، والعنف، وغيرها من مظاهر التَّطرُّف يُعتبر ثمرة معتبرة، لأنّ إدراك خُطورة الشيء خطوة في طريق التَّخَلُّص منه، ويُلاحظ أن القاموس الثقافي المعاصر؛ تَنْتَشِرُ فيه مصطلحات: التَّسامُح، والتعَّايُش، والرأي الآخر، والتحاور، والاعتدال ـ بِصُورَةٍ كبيرةٍ مِمَّا يُشير إلى اهتمام المُجتمع بِهذه الأُمور؛ حتّى أصْبحت لغة سائدة في ثقافته.

ولم تَتَوَقَّف الثّقافة عند حد التَّنظير؛ بل خَطَت خُطواتٍ عمليةً في بعض البُلدان؛ بقيام بَرامج مُشْتركة، تُساهم في تنفيذها جماعاتٌ، تنتمي إلى ديانات مختلفة، وثقافاتٍ مختلفة؛ ففي بعض المناطق تَرَسَّخت ثقافةُ التَّسامح لتَتَعَدَّى التَّعايُش؛ إلى قيام مُؤسساتٍ مشتركةٍ، تَضُمُّ مُنتمين إلى الإسلام، والمسيحية، يعملون سوياً؛ لتنفيذ برامج مُشتركة؛ “ففي أندونيسيا تُوجَد هيئة تُدْعَى: التَّعاوُن المُشترَك دينيّاً من أجل تنظيم الجماعة، وهي هيئة يُديرها مُسلمون ومَسيحيُّون دافعُها المُواجهة المُباشرة للحاجات الإنسانية؛ تعمل في المُدن الكُبرى مثل: جاكرتا، وسورابايا، وسمارانغ، ومن الحاجات التي تُحاول تَلْبيَتها؛ نجد: تنظيم الأسرة، والمشاكل السكنية، والصحة، وتعليم المهارات المختلفة لسائقي العربات العاطلين عن العمل؛ بسبب وسائل النقل العصرية، التي عمَّت المدينة، وفي ماليزيا هناك منظمة تُسمَّى – المنظمة الماليزية المُتعددة الدِّيانات أهدافُها : العمل لأجل السلام في ماليزيا خاصةً وفي العالم عامةً. وممارسة احترام القِيمة الإنسانية والأُخوَّة ونشرَها بين الشُّعوب، في تجاوُزِ الاختلافات على صعيد العِرْق والقوميَّات والجنس واللُّغة والمُعْتَقد. ومُمارسة التَّفاهُم والتَّعاوُن ونشرِهما بين جميع الديانات. وفي سنغافورة توجد مُنظمات مُشتركة مثل: المنظمة المُشتركة السنغافورية، والجمعية السنغافورية للثقافة الروحية”().

وفي السودان يوجد مجلس التعايُش الديني؛ الذي يضم مسلمين، ومسيحيين، لنشر ثقافة قبول الآخر وصيانة العيش المشترك، هذا التطوُّر في العلاقات؛ لا شك أنّه جاء نتيجة لحواراتٍ مُتكرِّرة، ومُستفيضة، أدت لهذه الثمار، ولولا أنّ ثقافة المجتمع تتقبل مثل هذا النشاط لتعذر قيامه.

لقد اعترف كثير من الكتاب الغربيين، بتفوّق الإدارة الإسلامية للتنوع واحترام الخصوصيات، يقول العالم الألماني الشهير: آدم ميتز () أكبر فرق بين الإمبراطورية الإسلامية، وبين أوروبا التي كانت كلّها على المسيحية، في العصور الوسطى؛ يتمثل في وجود عدد هائل من أهل الديانات الأخرى بين المسلمين” ويضيف أن” وجود النَّصارَى بيْن المسلمين، كان سبباً لِظُهور مبادئ التَّسَامُح التي يُنادي بها المُصلحون المحدثون. وكانت الحاجة إلى المَعِيشَة المُشتركة، وما ينبغي أن يكون فيها من وفاق، نوعاً من التَّسامُح الذي لم يكن معروفاً في أُورُوبا في العصور الوسطى. ومَظهرُ هذا التَّسَامُح نُشُوء عِلمِ مُقارنة الأَدْيان، أي دِرَاسة المِلَلِ والنِّحَلِ على اختلافها، والإقبال على هذا العلم بشغف عظيم ().

غير أن ما يستوقفنا في هذا السياق حقا هو تلك الشهادة التي سجلها الأستاذ أدمون رباط() في بحثه المهم “المسيحيون في الشرق قبل الإسلام” وفيها يقول: إنه” للمرة الأولى في التاريخ انطلقت دولة، هي دينية في مَبدئها، ودينية في سَبب وُجودها، ودينية في هدفها، ألاَ وهو نشرُ الإسلام، عن طريق الجهاد، بأشْكاله المُختلفة من عسكرية، وتبشيريّة، إلى الإقرار في الوقت ذاته بأنّ من حق الشُّعُوب الخاضعةِ لسُلْطانِها أن تُحافظَ على مُعتقداتها وتقاليدها وطراز حياتها- وذلك في زمن كان يقضي المبدأُ السائدُ بإكراهِ الرَّعايا على اعتناق دين مُلوكهم، بل وحتى الانتماء إلى الشَّكل الخاص الذي يرتديه هذا الدين، كما كان الأمر عليه في المملكتين العُظْمَيين اللَّتين كان يتألَّفُ منهما العالم القديم”().

فالوعي بالتنوع يرسخ ثقافة التسامح ويبرز فوائده التي ستعود بالخير على الجميع.

الفصل الثالث

الديمقراطية والشورى في إدارة التنوع

ويتكون من ثلاثة مباحث:

المبحث الأول: مفهوم الشورى والديمقراطية وتحديد نقاط الاتفاق والاختلاف

المبحث الثاني: الشورى ومنهجها في إدارة التنوع

المبحث الثالث: الديمقراطية ومنهجها في إدارة التنوع

المبحث الأول

مفهوم الشورى والديمقراطية

وتحديد نقاط الاتفاق والاختلاف

وفيه ثلاثة مطالب:

المطلب الأول: الشورى وأبعادها

المطلب الثاني: الديمقراطية وأبعادها

المطلب الثالث: مقاربة بين الديمقراطية والشورى:

المطلب الأول

الشورى وأبعادها

سبق أن بينا في الفصل الأول تعريف الشورى والديمقراطية، والجامع بينهما أن كليهما يُعنى بإدارة المجتمع، وأن كليهما يُنظّم أُمور الحكم والدولة، وكليهما يتَضَمَّن قِيَماً ومبادئ تراعى عند التطبيق. والفوارق بين الشورى والديمقراطية؛ تتمثل في اختلاف مصدريهما، وفي فلسفتهما، وفي غاياتهما؛ كما سنبين في وقت لاحق.

الفرع الأول: الشورى في مجال الحكم:

 الشورى هي دعامة الحكم في الإسلام، وقد أمر الله بها، فقال تعالى: وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ” ا[لشورى:38]، وهذه القاعدة تقتضي أن يكون للناس حرية التعبير عن آرائهم، وأن يكون تصريف الأمور مما يختاره الناس، شريطة أن يلتزم الحاكم بما يُجمع عليه أهل الشورى- أو أكثرهم-فيكون القرار ملكاً للمجموع ووليد دراسة وتأنٍّ ().

 فالشورى في الإسلام ليست مسألة جزئية متعلقة بقضية هنا أو هناك في المجتمع الإسلامي، وليست قضية إجرائية أو شكلية متعلقة بمواصفات أو شروط اختيار الحاكم، أو ما إلى ذلك من قضايا الحكم والسلطة أو القضاء.. الخ على أهمية هذه القضايا وخطورتها في حياة المسلم ومجتمعه، وإنما هي مسألة عامة تحيط بالمجتمع الإسلامي كله() وبقضايا المجتمع الفردية والجماعية كلها، وبالتالي فإنها أي الشورى مفهوم معياري قيمي، ولذلك كانت الشورى من عزائم الأمور()، وإلى هذا المعنى ذهب الشيخ محمد رشيد رضا() في تفسير قول الله تعالى:”… وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ…” [آل عمران: 159] بقوله: “وسبب هذا الأمر للرسول صلى الله عليه وسلم في المُشاورة في أمر الأمة، جَعْلُه قاعدةً شرعية لمصالح العامة()، ولامس المرحوم سيد قطب() جانباً من هذا المعنى المعياري وهو يتحدث عنها في إطار الحكم والسلطة؛ حينما قال: الشورى أصل من أصول الحكم، أما طريقتها، فلم يحدد لها الإسلام نظاما، وتطبيقها متروك للظروف والمقتضيات().

وللمكانة العظيمة الشاملة للشورى في المجتمع الإسلامي؛ يمكن النظر باطمئنان إلى الفقه الإسلامي باعتباره احد نتائج الشورى ()، ورغم أن عددا من الفقهاء رأوا أن المشاورة والاجتهاد لم يكن يحدث في عهده صلى الله عليه وسلم إلا في الحرب أو شؤون الحياة؛ لأن الأحكام إنما هي بوحي مطلق من الله عز وجل، أو باجتهاد من النبي صلى الله عليه وسلم فإن من الثابت أنه صلى الله عليه وسلم استشار في أساري بدر، وهذه من الدين، وترك الخلافة شورى، وهذه من الدين()، وأمثلة كثيرة مما لا نص فيه().
ولهذه الطبيعة المعيارية للشورى؛ فإن كل حديث روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بخصوصها، أو مأثرة رويت عن الصحابة بهذا الشأن؛ إنما عنيت بكشف أهميتها، وتأكيد المسؤولية فيها، فالحاكم الذي لا يستشير، عزله واجب، والمستشار مؤتمن، وللمستشار صفات وشروط، وللشورى مجالس وأوضاع، وذلك كله بهدف أن تحقق الشورى قيمتها الحقيقية، ويترسخ أثرها في واقع الحياة السياسية والاجتماعية وعلاقات الأمة. لأن الشورى في الإسلام تتعلق بكل ما يخص نظم الجماعة؛ سواء المتعلقة بشئونها الاجتماعية أم السياسية أم التنظيمية أم المالية، وليست الشورى خاصة بالشئون السياسية وحدها.

عليه أقول:

إن طبيعة الشورى الإسلامية؛ أنها سلوك مجتمعي، وقيمة حضارية، ووسيلة تربوية للأفراد والمجتمعات، للاستفادة من كافة الآراء حتى تتحقق المصلحة المشتركة.

مجالاتها: في نطاق الثوابت والمتغيرات: أنها تتعلق بالأمور التي لم ترد فيها نصوص قطعية الورود والدلالة؛ باعتبارها من الثوابت الشرعية، فمجال الشورى يكون في الأمور الاجتهادية التي تقبل الرأي والرأي الآخر. حتى أن الإجماع قد استقر على أن جميع أمور الدنيا ومصالح الناس؛ قد خضعت على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، لمبدأ الشورى وسلطانها وحتى أن بعضهم قد ذهب إلى أن الشورى قد امتد نطاقها فشمل كذلك بعضا من أمور الدين.. وأيا كان الصواب في هذا الخلاف فإن المقطوع به أن أمور الدنيا وكل ما لم يخضع لقرار صريح من وحي السماء فهو مادة للشورى وموضوع لها ().

آثارها: من آثار الشورى الإسلامية على الفرد:

أن يكون ربانياً، تقياً، دائم الصلة بالله تعالى، في كل أمر أو عمل أو شعور.

أن يكون نشاطه كله حركة موحدة الاتجاه إلى الله.

أن يكون شموليا متكاملاً.

أن يكون متوازناً.

أن يكون حرا مسئولاً.

أن يكون إيجابياً.

أن يكون ذا استقلالية ().

وآثارها على المجتمع: إشراك جميع المعنيين من أهل الرأي والخبراء للاستفادة من آرائهم وخبراتهم، وبهذا تتحقق الألفة والوحدة، فالشورى إذن هي سبيل الألفة والوحدة، وهذا هو الكسب الجوهري والأعظم بصرف النظر عن الأضرار التي تحدث في الطريق إلى نيل هذا الهدف العظيم.. إنها فلسفة الإصلاح والتطور والتقدم ترفض اختيار الطريق الأقصر، والزمن الأقل، والمكسب العاجل، وتضع عينها على الهدف الأسمى، وتربط بين شرف الوسائل وشرف الغايات ().

علاقتها بالعقائدية الإسلامية: لقد تفرد الإسلام بمبدأ الشورى الذي أوجبته الأوامر المنزلة بقوله تعالى:” وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ” آل عمران:159] إذ يوجب القرآن الكريم هذا المبدأ في نظام الحكم، حتى وسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم هو الذي يتولاه. وهو نص قاطع لا يدع للأمة المسلمة شكا في أن الشورى مبدأ أساسي، لا يقوم نظام الإسلام على أساس سواه() كما أوجب القرآن الشكل النظامي الذي تتم ممارستها من خلاله:” وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً” [النساء:83]، فالدين إذن يدعو إلى تداول الرأي المختلف بالشورى؛ ومن ثم يكاد ينعقد الإجماع على أن الشورى، هي الفلسفة الإسلامية لتأسيس الحكم في النظام الإسلامي، والتشريع له، والقوامة عليه، والانتفاع بثماره()، ومشاركة “للسلطة الإسلامية في كل المشكلات المطروقة في مستويات مختلفة، أياً كان ميدان هذه السلطة؛ دولة، أو مجتمعا، أو أسرة.. فهي فريضة شرعية واجبة على الأمة كافة حكاما ومحكومين”().

عن علي رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله، إن نزل بنا أمر، ليس فيه بيان أمر ولا نهي، فما تأمر؟ قال:” شاوروا فيه الفقهاء، والعابدين، ولا تمضوا فيه برأي خاص”(). ولقد وعى ذلك الخلفاء الراشدون، فكانوا أشد الناس تحريا للشورى، وقياما بها، أخرج البيهقي بسند صحيح عن ميمون بن مهران، قال: “كان أبوبكر إذا ورد عليه الخصم نظر في كتاب الله، فإن وجد فيه ما يقضي به بينهم قضى به، وإن لم يكن في الكتاب، وعلم من رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك الأمر سنة، قضى بها، فإن أعياه خرج فسأل المسلمين وقال: أتاني كذا وكذا فهل علمتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في ذلك بقضاء؟ فربما اجتمع إليه النفر كلهم يذكر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه قضاء، فيقول أبوبكر: الحمد لله الذي جعل فينا من يحفظ عن نبينا. فإن أعياه أن يجد فيه سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع رؤوس الناس وخيارهم فاستشارهم، فإن أجمع أمرهم على رأي قضى به. وكان عمر رضي الله عنه، يفعل ذلك، فإن أعياه أن يجد في القرآن والسنة، نظر هل لأبي بكر فيه قضاء، فإن وجد أبابكر قضى فيه بقضاء قضى به. وإلا دعا رؤوس المسلمين فإذا اجتمعوا على أمر قضى به ().

الفروق الجوهرية بينها وبين الديمقراطية:

من حيث المصطلح ودلالته؛ فمصطلح الشورى مصطلح إسلامي ورد في القرآن الكريم والسنة النبوية؛ وفيه بعد إيماني يتعلق بطاعة الله تنفيذا لحكم شرعي؛ وأما الديمقراطية فهي مصطلح وضعي فرضته التجربة البشرية.

ومن حيث كونها وجها من وجوه العبادة والقربى، فالمسلم الملتزم بالشورى يعبد الله بممارستها ويتقرب بذلك لله سبحانه وتعالى.. وأن هذا الملحظ غير وارد في مجال الديمقراطية.

أهل الشورى: ذكر ابن خلدون في مقدمته بأن الشورى والحل والعقد؛ لا تكون إلا لصاحب عصبية يقتدر بها على حل أو عقد أو فعل أو ترك ()، فأهل الشورى هم أهل الرأي والشوكة من قادة المجتمع، الذين لديهم تأثير بسبب الخبرة أو الرأي الراجح أو الشوكة التي تنصاع لرأيهم. ويؤكد ذلك مواقف الرسول صلى الله عليه وسلم المتعددة في ممارسة الشورى؛ ومنها عندما طلب رأي الأنصار في معركة بدر لأنهم أهل الشوكة وأصحاب النصرة الذين بايعوه في العقبة. وظل الخلفاء الراشدون يطورون من آلية الشورى حسب تطور المجتمع وتوسع فضاءاته، فهذا عمر بن الخطاب يكل أمر الشورى للستة الباقين من العشرة المبشرين بالجنة، وفي هذا ملمح مهم؛ فإنهم فضلا عن صفة سابقيتهم في الإسلام فهم يمثلون بطون القبائل وقتها. ولما قدم عمر بن عبد العزيز المدينة واليا عليها. دعا عشرة نفر من فقهاء البلد: عروة بن الزبير، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة. وأبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث. وأبي بكر بن سليمان بن أبي حثمة. وسليمان بن يسار. والقاسم بن محمد. وسالم بن عبد الله. وعبد الله بن عبد الله بن عمر. وعبد الله بن عامر بن ربيعة. وخارجة بن زيد بن ثابت.. فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: “إني دعوتكم لأمر تؤجرون عليه، وتكونون فيه أعوانا على الحق، ما أريد أن أقطع أمرا إلا برأيكم أو برأي من حضر منكم، فإن رأيتم أحدا يتعدى، أو بلغكم من عامل ظلامة، فأحرج بالله على أحد بلغه ذلك إلا أبلغني!”().

فهو مجلس من حقه وواجبه المراقبة ورصد التعدي وظلم العمال، ومن حقه كذلك على الوالي ألا يقطع أمر إلا برأيه. ويمكننا استنادا إلى قاعدة التطور أن نوسع آلية أهل الشورى في هذا العصر لتضم الفقهاء والعلماء في كافة التخصصات، وزعماء الطوائف الدينية، وقادة الأحزاب السياسية، وزعماء الإدارة الأهلية، ورجال الأعمال، والقادة العسكريين، وخبراء منظمات المجتمع المدني، والرائدات من قطاع المرأة، وقادة الشباب؛ ليكون مجلس الشورى جامعا لكل ممثلي شرائح المجتمع، ليكون معبرا عن المجتمع بكل تنوعه.

مجالها: المتغيرات دون الثوابت؛ اللهم إلا في كيفيات تنزيل تلك الثوابت على مفردات الوقائع والأحداث والنوازل.

ومن حيث مصدر كل من الشورى والديمقراطية وأثر ذلك على درجة الالتزام والتطبيق في الواقع. فالشورى حكم شرعي أنزله الله في كتابه وبينه رسول الله صلى الله عليه وسلم وطبقه في طيلة فترة حياته، فمصدر الشورى رباني، بينما الديمقراطية تجربة بشريه يعتريها ما يعتري البشر من قصور ونقص.

الفرع الثاني: الشورى والمجتمع:

وضع الإسلام ملامح متكاملة للشورى تتمثل في إعداد المواطن المسلم إعداداً يمكّنه من المساهمة الإيجابية في التعبير عن الرأي، تعبيراً ناضجاً ينبع من الإحساس بالمسئولية تجاه المجتمع الذي يعيش فيه بصفة خاصة، وتجاه أمته بصفة عامة.

 الشورى نظام رباني له قواعده الربانية يعرضها منهاج الله كلها متناسقة. ولا تقوم الشورى في الأمة إلا إذا استقرت هذه القواعد فيها نهجاً وسلوكاً، وتربية وبناء، وتدريباً، وإعدادا، في مختلف الميادين: في الأسرة والمعهد، والإدارة والمؤسسات، والحكم والدولة، في حياة الفرد والجماعة والأمة.

لا تقوم الشورى في حياة الأمة بقرار تصدره لجنة أو هيئة أو سلطان. ولكن تقوم بالجهد البشري المؤمن الذي يُبذَل عن إيمان وعلم، بَذْل حياة مُمْتَدَّة وأجيال عاملة.

 يضع الجهد البشري المؤمن تفاصيل النظام الشورى على أساس من منهاج الله بقواعده المطلقة والواقع الذي يعمل فيه. وتظل هذه التفاصيل والجزئيات تنمو وتتطور من خلال الممارسة الإيمانية في أمة مؤمنة مجاهدة عاملة.

 يرى الإسلام أن كل عضو في الأمة يحمل قسطا من الأمانة والمسئولية، وكل عضو له حقوق وعليه واجبات، وله حدود يقف عندها. وما أحب الإسلام لأحد أن يكون إمّعة. وتتحد هذه الأمور في الإسلام على ميزان عادل أمين.

إن اتخاذ القرار موهبة وكفاءة وقدرة خاصة لا يقدر عليها كل إنسان. ولكن الذي يساعد على ذلك ويبارك فيه هو ممارسة الشورى ممارسة إيمانية تجمع مواهب الأمة وطاقاتها دون أن تبددها، تجمعها في مجرى واحد منسق، يضم جهداً مؤمناً إلى جهد مؤمن، فيكون بلوغ القرار أيسر على الجهة المسئولة المختصة، وأوسع بركة على الأمة، وأقرب إلى التقوى وإلى طاعة الله ().

الفرع الثالث: الشورى والمجتمع المدني:

المجتمع المدني مصطلح حديث في لفظه قديم في معناه، فقد عرف المجتمع الإسلامي قيم الإخاء والتكافل والتعاون، وتقديم المساعدة للمحتاجين على طول مسيرته، بل دعا الإسلام إلى قيام جمعيات تدعو إلى الخير وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، توسيعا لقاعدة المشاركة المجتمعية في الشأن العام وهذا ما تقوم به منظمات المجتمع المدني في العصر الحديث..

إن مبادئ الإسلام وقيمه تستوعب مضامين وقيم المجتمع المدني، ولا تشكل المطلقات والثوابت في الإسلام تناقضاً لقيم المجتمع المدني، ولا تُحِدّ من ممارساته في الفضاء الحر.

مشاركة المجتمع في الشأن العام، واستنفار جهود الأفراد للمساهمة في تنظيمات المجتمع المدني بتوازن مع السلطة واستقلال عنها؛ هو مسؤولية مجتمعية شرعية، تشكل المُعادل الموضوعي لقاعدة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

جذور المجتمع المدني موجودة وبكثافة في عمق المجتمع العربي الإسلامي، والتجارب والممارسات والفعاليات التاريخية لتكوينات المجتمع المدني على امتداد التاريخ الإسلامي؛ تُعَد أساساً صالحاً لبناء مشروع لمفهوم عربي إسلامي معاصر للمجتمع المدني، مع ضرورة الإفادة من المعطيات المعاصرة لقيم وممارسات المجتمع المدني.

إن تفعيل تنظيمات المجتمع المدني المعاصرة هو الكفيل بتعزيز قيم الديمقراطية على مستوى التَّنشئة الأولى، وتصحيح الممارسة الديمقراطية على مستوى القاعدة الاجتماعية والسياسية؛ بما يؤدي إلى تحسين الوضع الديمقراطي، وعدم انتكاسته ونكوصه.

إن خطأ النُّخب والأحزاب العربية السياسية، أنها رَكّزت جهودها على السياسي والأيديولوجي، وأَهْمَلت الجانب القِيَمي والاجتماعي.

المجتمع المدني ليس بديلا عن الدولة العادلة، والتي تأخذ على عاتقها مسؤولية البناء والتنمية، وإنما هو مُكَمّل للدولة في الوظائف والمسؤوليات.

إن ما بَقِي من تراث المجتمع المدني لا يَعْدو شكلا من التماسك الاجتماعي، الذي اخترقته علاقات الإنتاج الجديدة، فأخذت النقابة الحديثة مكان الحرفة، ويجب تطوير مؤسسة الوقف والصدقات والزكاة لخدمة إنشاء المدارس والجامعات والمستشفيات ومراكز البحث.. الخ.

وهكذا يمكن استعراض ومناقشة أوجه التّوَافُق والاختلاف وإشكالية العلاقة عموماً بين الإسلام والديمقراطية ().

إن حق الفرد في الشورى نابع من حريته وحقوقه الإنسانية، التي يستمدها من فطرته الآدمية، ومن شريعة الله تعالى، والمشورة والاستشارة: هي تبادل الرأي في غير إلزام، ويدخل في المشورة والاستشارة: النصيحة، والفتوى، والاستشارة العلمية والقانونية.

وقد تستعمل الشورى بهذا المعنى الأخير أيضاً، فيكون لها معنيان: أحدهما خاص عرفي يستعمل أساساً في المجال السياسي. والآخر واسع وعام يستعمل في كافة المجالات ().

وتمتاز الشورى في الإسلام بالشمول؛ حيث لا يقتصر ذلك على حق الأفراد في المشاركة في صنع القرار الملزم؛ الصادر عن الجماعة، بل تتجاوز ذلك إلى المشورة الاختيارية، واستشارة أهل الخبرة، وتبادل النصيحة، حيث يندب الإسلام الجميع إلى الاستشارة والتناصح قبل الإقدام على الأمر؛ سواء تعلق بالفرد أو الجماعة، فالشورى شعيرة إسلامية مندوب لها الجميع؛ لتدريب الأفراد والجماعات على تبادل الرأي بحرية كاملة واحترام متبادل ().

فالشورى في الإسلام مبدأ إنساني أولا، واجتماعي وأخلاقي ثانياً، ثم هي قاعدة دستورية لنظام الحكم، ولذلك فإن نطاق تطبيقها واسع شامل.

كما أن النظرية العامة للشورى تشمل تطبيقها في مجال الفقه؛ فحيثما واجهت فقهاء المسلمين مستجدات من الحوادث والنوازل، تشاوروا فيما بينهم للوصول للحكم الشرعي؛ الذي يتلاءم مع الحوادث والنوازل المستجدة، ويظهر ذلك في تطبيق مصادر الأحكام الاجتهادية مثل: القياس، والإجماع، والاستحسان، والمصالح المرسلة…الخ بهدف الوصول إلى استنباط الأحكام الشرعية، ولا تقل أهمية الشورى في هذا المجال عن أهميتها في المجال السياسي.

ويمكننا أن نَصِف شريعتنا بأنّها شريعة الشورى؛ بالقَدر نفسه الذي نصفها بأنها شريعة السماء، فالشريعة الإسلامية كما أنها شريعة إلهية من حيث مصادرها السماوية في ثوابتها وأصولها، فإنها تعتمد أيضا على مصادر اجتهادية كالإجماع والاجتهاد اللذين يعتمدان على الشورى.

والشورى في الإسلام ليست نظرية سياسية وحسب، أو قاعدة لدستور الحكم، بل إنها الأساس الشرعي لنظام المجتمع، الذي يلتزم بحقوق الإنسان، وسلطان الأمة، والتضامن الاجتماعي.

لذلك فإن دراسة الشورى ليست محدودة في نطاق نظام الحكم الإسلامي، ولا المبادئ السياسية العامة التي تقيد سلطة الحكام، كما هو الشأن في النظريات الديمقراطية التي تحصرها الدراسات العصرية في نطاق العلوم السياسية أو القوانين الدستورية أو نظام الدولة.

بل الشورى أعمق من ذلك وأوسع نطاقا، فكما تستمد منها الأمة وحدتها وسلطانها؛ يستمد منها المجتمع تضامنه وتكافله ().

المطلب الثاني

الديمقراطية وأبعادها

الفرع الأول: تطوُّر الديمقراطية:

الأصول الأولى للديمقراطية، في مدينة أثينا اليونانيّة كانت تقوم على نظرية الحق الإلهي؛ التي كان معمولاً بها في الحكم في أُورُوبا، ثم انفصل الحُكَّام عن البابا في العصور الوسطى، ثم النِّظام الإِقْطاعيّ مع الإمبراطور، ثم الملكية، وفي أمريكا أقاموا النظام الجمهوري()، وبدأ النظام الديمقراطي بعد الثورة الفرنسية 1789م.

وقسمت الديمقراطية إلي:

الديمقراطية المباشرة: وهي: أن يَحكُم الشعب نفسَه بِنفْسِه بطريقٍ مُباشر دون وساطة برلمان أو غيره.

الديمقراطية النّيابية: وهي: أن يختار الشعب نواباً، يتولّوْن الحكم لمدة محدودة باسمه، ونيابة عنه.

الديمقراطية شبه المباشرة: هي نظام نيابيّ مُتطوِّر، مع الرُّجوع إلى الشعب في بعض الأمور المهمة “الاستفتاء، ومبدأ شرعية المعارضة في الحكم الديمقراطي، مع مبدأ حكم الأغلبية؛ لأنها تعتمد على المذهب الفردي الحر”().

إذا استثنينا تجربة الديمقراطية المباشرة التي عرفتها أثينا، فإن العالم القديم كله كان يقوم على حكم القوة المستبدة، المتداولة وِرَاثةً كانت نُظم الحكمِ في العالم القديم تتخذ لنفسها شرعية من اعتقاد أن الملك أو السلطان، أو القيصر، أو الكسرى، أو الفرعون؛ هم مكان قُدسية خاصة. إما لأن الواحد منهم ابن الإله، أو هو ظله في الأرض. وأن الحكم الاستبدادي لا يوجد أبدا معتمدا على القوَّة المُجرَّدة، بل الشَّرعية المُقدسة.

الخطوة الأولى في الطريق للنظام السياسي الأوربي الحديث، كانت صلح وستفاليا () في 1648م وما أعقبه من اعتراف بالدول الوطنية في أوربا تحت قيادة ملوكها وأمرائها.

الخطوة الثانية تمثلت في ما حدث في أمريكا بعد ثورة استقلالها، ثم في فرنسا في ثورتها التاريخية في 1787م. الثورة الفرنسية ألغت النِّظام الملكي وأعلنت الجمعية الوطنية الفرنسية حقوق الإنسان، والمواطن، انطلاقاً من هذا، وعبر صراع سياسي حاد، انتقل القرار السياسي لبرلمانات منتخبة، وسواء بقي الملوك أو أُزيلوا فإنهم سلَّموا بهذه التطورات؛ التي أدت إلى قيام نظم دستورية، صارت الأحكام والتشريعات وكل الأجهزة الإدارية فيها؛ نابعة من مجالس نيابية منتخبة، وفيها فصل بين السلطات التشريعية والقضائية والتنفيذية، وضبط لممارساتها بنص الدستور.

هذا التّطَوُّر السياسي؛ صحبه تطوُّر اقتصادي، انطلق من الثورة الصناعية في بريطانيا، وأدى لنُمُوّ النظام الرأسمالي الحديث()، ويرى الجابري: أن مفهوم الديمقراطية قد تغير وتبدّل، وأنه في تطور دائم، ففي كل عصر، بل ربما أثناء العصر الواحد نفسه، كان هناك مفهوم للديمقراطية، إن لم يكن مخالفا للمفهوم الذي ساد قبله، فهو على الأقل مغايِر له إلى حد كبير، وأن الذي استعملها لأول مرة كان يقصد منها التعبير عن “فكرة مثالية” أكثر من التعبير عن واقع حيٍّ أو عن تجربةٍ مُمَارسةٍ أو يُمكن مُمارستها، ثم يضيف قائلا: إنّ حكم الشعب نفسه بنفسه — وهذا معناها اليوناني الأصلي- أعتقد أنه ما تم ولن يتم في أي عصر من العصور()، وهذا القول تكرار لما ذكره “روسو” من قبل().

إنّ الدولة الوطنية، والنظام الديمقراطي النيابي، والنظام الرأسمالي، هم الثالوث الذي يشكل أهم معالم الحضارة الغربية الحديثة حتى عام 1914م. لقد قامت الديمقراطية الغربية الحديثة على أساس من الاعتراف بحقوق الإنسان، وبكفالتها وتطورت بتطوره فبينهما ارتباط كبير؛ لأن الغرب شهد انتهاكات لحقوق الإنسان في ظل حكم الملوك الذين تحالفوا مع رجال الدين، لذلك جاء الاعتراف بحقوق الإنسان مرتبطا بالديمقراطية:

أولاَ:   كان إعلان حقوق الإنسان المصاحب لاستقلال الولايات المتحدة ثم إعلان حقوق الإنسان والمواطن المصاحب للثورة الفرنسية 1787م.

ثانيا: وتطوَّر هذا الأمر إلى أن بلغ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في عام 1948م.

التجربة السياسية الغربية، حققت أربعة إنجازات رائعة:

  • تحديد حقوق الإنسان وحرياته الأساسية، وكفالتها ضمن دستور وقوانين ومؤسسات محددة.
  • تحقيق ميزة فاتت كل نظم الحكم الأخرى، وهي التداول السلمي للسلطة عبر انتخابات حرة.
  • تحقيق مبدأ عجزت عنه كافة نظم الحكم الأخرى، وهو بناء قوات مسلحة قوية ومنضبطة وخاضعة للقرار المدني المنتخب.
  • تحقيق معادلة تعايش بين الدين والدولة والدين والسياسة ().

الفرع الثاني: فلسفة الديمقراطية:

بدأت الديمقراطية بفكرة فلسفية، وهي مبدأ سيادة الأمة، أو “سلطة الشعب” وهذا الأساس يرجع إلى نظريّة العَقد الاجتماعي؛ الذي جعل الدولة شخصاً معنوياً، له إرادة واحدة، وأنّ هذه الإرادة أَبرَمتْ عَقداً تنازلت فيه عن إرادتها للأغلبية، ذلك أن السِّيادة مهما كان مصدرها، لا يمكن مباشرتها بصورة سليمة إلا إذا أطاعها الأفراد وخضعوا لها().

والديمقراطية تتضمّن الحريات العامة الشخصية، والفكرية، وحرية العقيدة والديانة، وحرية ممارسة شعائر الدين، وحرية التعليم، وحرية الصحافة، وحرية الرأي، والمسرح، والسينما، والإذاعة، وحريات التجمع، والحريات الاقتصادية، وحرية الأحزاب السياسية ().

والديمقراطية تفترض أن يكون المُجتمع الذي يُطبَّق فيها مجتمعاً ديمقراطياً؛ لأنّ المُؤسَّسات وحدها لا تكفي لتحقيق الديمقراطية، إذا كان الذين يقومون عليها، والذين تُطبَّق عليهم مبادئها غير ديمقراطيين، ولابد من اعتراف جميع المتنافسين بشرعيتها، وبالتالي يكونون مستعدين لتقبُّل نتيجة الانتخابات إذا كانت لصالح خصومهم، وعدم سوء استغلال السلطة إذا كانت لصالحهم.

 وعليه فإنها تتطلب “وجود درجة عالية من الشرعية السياسية، لأن العملية الانتخابية الدورية تقسم السكان إلى معسكرين: “خاسر” و”رابح”. لذلك فإن الثَّقافة الديمقراطية الناجحة تتضمن قبول الحزب الخاسر ومؤيديه بحكم الناخبين، وسماحهم بالانتقال السلمي للسلطة، وبمفهوم المعارضة الموالية أو المعارضة الوفية. فقد يختلف المتنافسون السياسيون ولكن لابد أن يعترف كل طرف للآخر بدوره الشرعي. ومن الناحية المثالية يشجع المجتمع التّسامح والكياسة في إدارة النقاش بين المواطنين. وهذا الشكل من أشكال الشرعية السياسية ينطوي بداهة على أن جميع الأطراف تشارك في القيم الأساسية الشائعة ().

يلاحظ أن الافتراضات الديمقراطية المتعلقة بالشخص الديمقراطي، الذي يقبل الرأي الآخر ويتقبل الهزيمة ويلتزم بالشرعية الديمقراطية، ويوظف السلطة التي ينالها في مجالاتها دون استغلال هذه القيم تحتاج تربية لا تتوفر آلياتها في النظام الديمقراطي بصورة منضبطة.

وفي هذا المجال يتفوق منهج الشورى، لأنه يعتمد على الإيمان الذي ينمي في الفرد ملكة المراقبة التي سميت في الإسلام بالإحسان كما جاء في الحديث الشريف: (الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك) (). فضلاً عن أحكام شرعية كثيرة منها: الصبر على البلاء، والإيمان بالقضاء والقدر، والإيثار، والإعراض عن الجاهلين، وغيرها من الأحكام الشرعية التي بمجملها تجعل المسلم يلتزم بلوازم العهد والميثاق الذي يبرمه مع المجتمع.

 إن غياب هذه المعاني في المجتمعات الإسلامية يعود إلى عجز المسلمين في إيجاد آليات تنزل هذه الأحكام إلى أرض الواقع، وبالتالي عجزهم عن إيجاد نظرية لنظام الشورى لها فسلفتها وآلياتها المنضبطة ونظمها التي تجعل نظام الشورى واقعاً ملموساً ينافس النظم الوضعية.

السمات الرئيسة للنظام السياسي الديمقراطي:

السلطة والسيادة للشعب.

حرية الاختيار دون ضغط أو إكراه.

المشاركة السياسية.

المساءلة السياسية والشعبية.

حرية التنظيم السياسي.

الإطار الدستوري.

الإقرار بالتَّعدُّدية السِّياسية وقبولها والتعامُل معها كظاهرة طبيعية في مجتمع عصري ().

يلاحظ في المقارنة فيما بعد، مدى اتفاق هذا الاتجاه مع العقائدية الإسلامية ومطلوباتها، مع طلاقة مقولة: “السلطة والسيادة للشعب” بيان مثل هذه المسائل المفصلية هو وظيفة مثل هذه الدراسة.

الديمقراطية ثمرة نضال طويل في الغرب ضد أنظمة التّسلّط والاستبداد، والحكم الفردي أو المَلَكي المستبد؛ الذي يزعم استناده إلى تفويضٍ إلهي مقدس، في ممارسة شهوة الحكم المتَسلِّط، وتعطيل إرادة الشعب، وإبْعاد حرمة القانون والنظام الجماعي، والاعتماد على سيف الإرهاب والقَسْر، والضغط والتعسّف، فينتشر الفساد والظلم وتتعطل الحريات الأساسية، وتغيب روح المساواة عن الظهور في عالم الحكم الجائر، أو الإمبراطورية المُتَعسّفة أو الطائشة() إن “الديمقراطية، في حدودها العامة، هي تجسيدٌ عَمَلِيّ لِشَكْلٍ من أشكال الوَعْي البَشَرِي؛ تَحْمِل في جوهرها مفاهيم وقيماً إنسانية، تَتَمَثَّل في الحرية، والعدالة، والمساواة، وهي بكل ما تَحْمله من هذه القيم؛ تَبقى نِسْبِيّة، ولن تُحقق الكمال؛ هدفُها الدائم إيجاد حالة من التّوَازُنات الطّبَقِيّة؛ لِتَحْقيق مُجْتَمع تَسُوده العَدالة والمُساواة، أدوَاتها تَتَبدّل دائماً عَبْر التاريخ، بناءً على تَبدُّل وتَطوّر صِيَغِها ومُعْطَياتها، إلا أنّ أرقَى أدواتها وأكثرها تطوراً؛ هو الشعب وإرادته().

لقد تشعّبت أفكار فقهاء القانون الدستوري في فهم مدلول الديمقراطية. ويمكن تصنيف هذه الأفكار في اتجاهين رئيسيين: هما الديمقراطية السياسية، والديمقراطية الاجتماعية. ويراد بالديمقراطية السياسية: الجانب السياسي فقط، وتهدف أساساً تحقيق المساواة السياسية بين الأفراد، أي المساواة في فرص الاشتراك في الحكم، وخاصة عن طريق الانتخاب المتساوي لكل فرد في داخل إقليم الدولة. ونزعة هذه الديمقراطية فردية، وطابعها سلمي، تنطلق من اعتبار المذهب الفردي الذي يقدس حق الفرد في الحياة السياسية وفي الانتخاب، وحرية الفرد في النشاط الاقتصادي، والاجتماعي، والمساواة بين الأفراد. وأما الديمقراطية الاجتماعية فتهدف إلى إسعاد الشعب مادياً، وتحقيق رفاهيته فعلاً، لذا تعمل الدولة على ضمان حدّ أدنى من تمتع الفرد بالحقوق العامة والحريات، مثل كفالة مستوى معين من المعيشة والمأكل والملبس، والمسكن، والعمل، والتعليم، ونحو ذلك ().

ويمكننا إذا دقّقْنا في قراءة نُظم الحكم الديمقراطية عَبْر القَارّات والحضارات من ماليزيا والهند، إلى جنوب إفريقيا وأمريكا اللاتينية، إضافة إلى أوربا ودائرتها الحضارية – أن نَجد مُقَوِّمات عامة مُشتَركة بَيْنَ أنظمة الحكم التي تَكْتَسِب اليوم صفة الديمقراطية. وتَتَمَثّل في خمسة مُقومات عامة مُشتركة:

أولها: مبدأ الشعب مصدر السلطات؛ نصّاً وروحًا وعلى أرض الواقع.

ثانيها: مبدأ المُواطنة الكاملة المُتَساوية الفاعلة، واعتبار المُوَاطنة ولا شيء غيرها مصدر الحقوق ومَناط الواجبات دون تَمْييز. وأبْرَزُ مَظاهر المُواطنة الكاملة، هي: امتلاك المواطن الحَدّ الأدنى من مُتطلبات المشاركة السياسية الفعّالة، ومنها مستوى مَعِيشة كريمة، والمعلومات الضرورية للمشاركة السياسية الفعّالة، وكذلك تَسَاوِي الفُرَص، من حيث المُنافسة على تَوَلِّي السُّلطة، وتَفْوِيض مَن يَتَوَلاها. بِجانب الحق المتساوي في الانتفاع بالثروة العامة، وتَقلُّد المناصب العامة التي لا يجوز لأيٍّ كان أن يَدَّعِي فيها حقّا خاصّاً دون الآخرين.

ثالثها: مبدأ التَّعَاقُد المُجْتَمعي المُتَجدد؛ الذي يتم تجسيده في دستور ديمقراطي مُلزم لكل مواطن؛ حاكمًا كان أو محكوماً.

رابعها: قيام الأحزاب خاصة، ومنظمات المجتمع المدني على قاعدة المواطنة، وممارسة الديمقراطية داخلها وفيما بينها.

خامسها: الاحتكام إلى شرعية دستور ديمقراطي ().

هذه المقومات ليست جديدة. فالشورى هي مبدأ المشاركة، والنصيحة هي مبدأ المساءلة، والصدق هو مبدأ الشفافية، وخضوع الكافة لأحكام واحدة، هو مبدأ سيادة القانون. الجديد هو أن التجربة الغربية الحديثة جَمَعَتْ هذه المبادئ في منظومة واحدة، وغرستها في مؤسسات ().

الفرع الثالث: الديمقراطية وحقوق الإنسان

تعتمد الديمقراطية في تحقيق أهدافها وغاياتها على أساسين:

الأول: هو ما عرفناه من تحقيق معنى الديمقراطية السياسية (حكومة الشعب)، والديمقراطية الاجتماعية (الحكومة للشعب).

الثاني: توفير الحقوق والحريات، وهي هدف كل حكم ديمقراطي وغايته. والحقوق العامة السياسية ترجع في الفقه الغربي إلى دعامتين أساسيتين: وهما المساواة والحرية.

ومظاهر المساواة أنواعها أربعة:

مساواة أمام القانون: أي إن الناس جميعاً سواء في تطبيق القانون، لا يتميز أحد عن أحد.

مساواة أمام القضاء: أي لا يتميز أشخاص على غيرهم من حيث القضاء أو المحاكم أو العقوبة.

مساواة في التوظيف: أي ألا تميز فئة من المواطنين على غيرها في تقلُّد الوظائف العامة، إذا توافرت شروط التوظيف، ومنها المؤهلات المطلوبة الخاصة.

مساواة في التكاليف العامة من ضرائب ورسوم وخدمة عسكرية.

وأنواع الحرية هي في الغالب:

حرية شخصية: وهي قدرة الشخص على ممارسة أي عمل لا يضر بالآخرين.

حق التملك: وهو الاعتراف بحق الملكية الفردية لكل إنسان.

حرمة المسكن: وهي أن يكون لكل فرد حق الانتفاع في سكنه دون إزعاج أو إقلاق من أحد.

حرية العمل: وهي حرية ممارسة أنواع النشاط التجاري والصناعي والزراعي والمهن الحرة.

حرية العقيدة والعبادة: الأولى في القلب ولا سلطان لأحد غير الله تعالى فيها، والثانية- ممارسة الشعائر الظاهرة وأداء المناسك دون تقيُّد أو منع.

حرية الرأي والتعبير والاجتماع: وهي قدرة الإنسان على التعبير عن وجهة نظره بمختلف وسائل التعبير والنشر، وعقد الاجتماعات السلمية من أجل ذلك.

حق تكوين الجمعيات: أي الحق في إحداث جمعيات ذات أنشطة متنوعة ثقافية أو خيرية أو اقتصادية أو غيرها.

حق التعليم وحرية التعليم: وهي تمكين الإنسان من أخذ العلم عمن يشاء، ويعلم من يشاء.

حق التظلم وتقديم العرائض(الاستدعاءات): وهو حق الإنسان في أن يتقدم بشكواه أو مطالبه أو ملاحظاته إلى السلطات العامة، إما لدفع ضرر، أو للمساس بحقوقه وحرياته، إذا كان القصد من استعمال هذا الحق تحقيق مصلحة عامة، أو توجيه السلطات وجهة معينة في الحكم أو الإدارة. وهذا مظهر للمساهمة في الشؤون العامة، ويدخل ضمن الحقوق السياسية ().

المطلب الثالث

مقاربة بين الديمقراطية والشورى

ينبغي أن لا يغيب عنا أن الشورى قيمة إسلامية؛ وردت في القرآن الكريم، أيْ أنها أمرٌ من الله سبحانه وتعالى وهو أعلم بعباده- وأن الديمقراطية تجربة بشرية يعتريها كل ما يصيب الاجتهاد البشري من قصور، وأن غاية الديمقراطية تختلف عن غاية الشورى؛ وإن اتفقتا في بعض الأحوال “قامت الديمقراطية الرأسمالية، على الإيمان بالفرد إيمانا لا حَدّ له، وبأن مصالحه الخاصة بنفسها تكفل- وبصورة طبيعية- مصلحة المجتمع في مختلف الميادين… وإن فكرة الديمقراطية، إنما تستهدف حماية الأفراد ومصالحهم الخاصة، فلا يجوز أن تتعدى حدود هذا الهدف، في نشاطها ومجالات عملها. ويتلخص النظام الديمقراطي الرأسمالي، في إعلان الحريات الأربع: السياسية والاقتصادية، والفكرية، والشخصية ().

الفرع الأول أوجه الاختلاف بين الديمقراطية والشورى:

إنّ أوجه الاختلاف أو الفوارق بين الديمقراطية والشورى كثيرة حتى أن بعض المتشددين قالوا: الديمقراطية كفر، وليس الإسلام دين الديمقراطية، ناظرين إلى منطلقات الديمقراطية الحديثة ومبادئها المادية والنفعية ().

ومن الفوارق نذكر الآتي:

المراد بكلمة “الشعب” أو “الأمة” في الديمقراطية الغربية أو الشرقية: هو الشعب المحصور في حدود إقليمية معينة، ويعيش في أرض إقليم واحد، وتجمع بين أفراده روابط طارئة أو صناعية هي رابطة الدم والجنس واللغة والعادات المشتركة، أي إن الغالب في الديمقراطية المعاصرة اقترانها بفكرة القومية أو العنصرية، ويستتبع ذلك ظهور العصبية. أما الأمة في الإسلام فهي أعم وأشمل، فهي تشمل جميع أبناء الأمة الإسلامية في المشارق والمغارب، دون قصر على حدود دولة معينة. ولا تقف عند تلك الروابط الضيقة، وإنما الرابطة هي في العقيدة:” وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ “ [الحجرات:9-10] فكل من أسلم فهو المواطن في الدولة الإسلامية، وكذلك كل شخص غير مسلم رضي بالإقامة في دار الإسلام هو شعب الدولة.

مفهوم الأمة في الإسلام أوسع من مفهوم الشعب، فكل بني البشر هم من أمة الإسلام، وينقسمون إلى أمة الإجابة (المسلمون)، وأمة الدعوة (الذين لم يسلموا) ومفهوم الأمة في منهج الشورى لا ينظر إلى الفوارق القومية واللغوية إلا مجالاً للتعارف والتفكر مع نبذه للعصبية المقيتة، فجميع البشر أبناء آدم وآدم من تراب.

وتعول الشورى غالباً على أهل الخبرة والاختصاص بشأن موضوع الشورى، ولكل امرئ فيما يحسنه، إلا في البيعة، الجامعة لرأس الدولة فلا مَفَرَّ من إشراك الكافة من باب السياسة الشرعية، ولا شك أن التقانة الحديثة في نشر العلم والمعرفة وصناعة الإعلام والاتصال تساعد كثيراً في التوعية لتجويد الممارسة.

أما الديمقراطية فتعطي الأكثرية الطلاقة في وضع التشريعات وتأسيس الأحكام دون نظر إلى ضابط عقدي أو أخلاقي().

 هدف الديمقراطية الغربية: تحقيق أغراض مادية أو دنيوية، أما الشورى فلها غرضان أساسيان: هما تحقيق مصالح الناس الدينية الأخروية والدنيوية. ويترتب عليه أن الشورى في الإسلام مرتبطة بقيم دينية وأخلاقية نابعة من الدين نفسه، فهي ثابتة غير متقلبة ولا متأثرة بالأهواء والشهوات الخاصة. أما الديمقراطية المعاصرة فلا ثبات فيها في القيم، وإنما هي نسبية توجهها رغبات الأكثرية.

الحقوق والحريات العامة في الشورى الإسلامية: تختلف عن الديمقراطيات المعاصرة من ناحيتين: الأولى: إن الحقوق والحريات في الإسلام ذات وظيفة اجتماعية، ترتبط بتحقيق مقاصد الشريعة، وإيجاد التوازن بين مصلحتي الفرد والجماعة. أما الديمقراطية المعاصرة فتغلّب الجانب الفردي أو المصلحي الخاص على الجانب الاجتماعي. الثانية: تتقيد الحقوق والحريات في الإسلام بضوابط الشريعة، أما في الديمقراطية المعاصرة فهي حقوق مطلقة، لا يقيدها سوى عدم الإضرار بالغير، والقانون القابل للتغيير.

إن سلطة الأمة أو المجالس النيابية النائبة عنها في الديمقراطية المعاصرة مطلقة: “الأمة مصدر السلطات” فهي صاحبة السيادة، وقراراتها واجبة النفاذ والطاعة, حتى وإن خالفت الأخلاق والمصالح الإنسانية، فيمكن للأنظمة الديمقراطية إعلان الحرب على شعب دولة أخرى، لدوافع عنصرية أو اقتصادية أو استعمارية أو احتكارية. أما سلطة الأمة أو مجالس الشورى في الإسلام: فهي ليست مطلقة، وإنما هي مقيدة بشريعة الله تعالى ودينه وأصوله وقواعده العامة، فلا تخرج عن إطار الشريعة وأحكامها، وتتقيد بالنظام الأخلاقي ومبادئه، وتكون الأمة محكومة بهذين الأمرين: الشريعة والأخلاق.

التشريع والسلطة والسيادة في نظام الشورى: في أصلها ترجع إلى الله سبحانه وتعالى وقد فوضها للبشر بحكم الاستخلاف مع مراعاة الالتزام بمبادئ الشريعة ومقاصدها. فهنالك أحكام ثابتة في منهج الشورى لا تجوز مخالفتها، قال تعالى:” وَمَا  كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُّبِيناً” (الأحزاب:36). وهنالك أحكام فوضت للبشر يستنبطها أهل الاختصاص بمراعاة شروط الاستنباط قال تعالى:” وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً” (النساء:83). وهنالك كثير من الخلط المصطلحي في دلالة الشورى على الديمقراطية، والظاهر أن المظهر متقارب ولكن المخبر شديد الاختلاف من وجوه:

أ. اختلاف مصدر مشروعية كل منهما؛ لكون الشورى مأمور بها شرعاً ؛ فتكون واجباً دينياً يأثم المسلم بتركه، بينما الديمقراطية أمر اختياري، فردي لمن يشاء، ومن هنا يظهر الاختلاف بينهما في الطبيعة وفي الحكم فهي في الشريعة وجه من وجوه العبادة والقربي والقيام بأعباء مسئولية الاستخلاف.

ب. الشورى مقيدة بالتزام الثوابت والتفريع عليها، أو استحداث تشريعات اجتهادية للمستجدات وفق ضوابط مستقرة أما الديمقراطية فتوسع الأحكام من غير قيود عقدية أو أخلاقية، سواء بالأغلبية أو بالإجماع.

ج. الشورى لازمت نظام الحياة الإسلامية في السياسة والاجتماع والإدارة منذ نشأته، بينما ولدت فكرة الديمقراطية من رحم الطغيان والاستبداد وجور الحكام لدرجة ادعائهم الألوهية من بين ركام سلسلة من التجربة والخطأ.

د. الشورى تحمل في دلالاتها معنى التربية المتقيد بثوابت في الديمقراطية تصور الوجه العلماني للحياة الذي لا يأبه بالدين.

هـ. تطبيقات الشورى في دولة الإسلام الأولى، وفي بعض عصور المسلمين تشكل نقطة إيجابية في التاريخ الإسلامي، بينما انطوت تطبيقات الديمقراطية على كثير من الظلم وعدم الانضباط عبر تاريخ الشعوب().

اختلاف المصدر: الشورى مصدرها إلهي؛ حيث جاء الأمر بها من الله سبحانه وتعالى الذي خلق الإنسان ويعلم ما يصلحه، وطبقها رسول الله صلى الله عليه وسلم المُسَدّد بالوحي، بينما الديمقراطية وضعٌ بشري، تَوَصّل إليها الفكر الإنساني بعد تجارب كثيرة ومريرة؛ فهي اجتهاد بشري يعتريه القصور والغرض.

“إن الديمقراطية النيابية تُشبه الشورى بشكل كبير. ولكن ضوابط الشورى المُنسجمة مع النظام العام الإسلامي، والصفات اللازمة في أعضاء مجلس الشورى، والاستفادة من فصل السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، عملية جيّدة إذا ضمت في مجلس الشورى().

لا مانع أن يستفيد نظام الشورى من النظام الديمقراطي في الآتي:

  • الانتخاب الدوري كل أربع سنوات.
  • مراقبة السلطة التنفيذية من قِبَل البرلمان أو مجلس الشورى.
  • الانتخاب المباشر من الشعب للرئاسة.
  • ضمان حصانة وعدالة السلطة القضائية.
  • وجود جهاز مراقبة تنفيذ الدستور؛ من لجنة عليا (مجلس مراقبة تنفيذ الدستور وعدم مخالفته للتشريع الإسلامي والعدالة والحريات والحقوق العامة)().

الفرع الثاني: أوجه الاتفاق بين الديمقراطية والشورى:

هنالك نوعان من الناس يحرصون على مقولة أن الشورى والديمقراطية مختلفان اختلافاً جوهرياً:

النوع الأول: الذين يخافون من الديمقراطية وآلياتها الملزمة، ويريدون أن يواصلوا الانفراد بالحكم تحت راية الشورى؛ التي لا تلزمهم بمؤسسات وآليات محددة.

النوع الثاني: علمانيون يرون أن الإنجازات الإنسانية أغنت عن المفاهيم التراثية، ولذلك علينا أن نأخذ بالديمقراطية وكفى، فالشورى في نظرهم نمط تقليدي تجاوزه الزمن، وأتى بمفهوم محدد هو الديمقراطية وآلياتها، وهي ثمرة التطَوُّر الإنساني، وعن طريقها يمكن للمجتمع أن يُقرر ما يشاء في حياته العامة والخاصة.

المنادون بالشورى الحريصون على نفي الديمقراطية، يقبلون هذا المنطق ويقولون إنه من عيوب الديمقراطية: أنها تتيح لأصحاب الأغلبية البشرية، حريةً بلا سقف مما يتيح لهم تعطيل قطعيات الشريعة، وإبطال دور الدين في الحياة العامة.

ولكن لا توجد ديمقراطية تعمل دون سقف. فالديمقراطية حيثما وُجدت صحيحة يصحبها توازن، ويضبطها دستور وقوانين، وتهيمن عليها حقوق مستعلية حاسمة؛ كالسيادة الوطنية، وحقوق الإنسان، والحقوق الدينية، والحقوق الثقافية، وهلم جرا.

لا توجد ديمقراطية سائبة سادرة منفلتة؛ بل تكون الممارسة الديمقراطية في الواقع منضبطة مسترشدة بقيم وثوابت موجهة لحركة المجتمع، ومنفعلة به. ولا توجد الديمقراطية السادرة السائبة إلا في خيال غلاة العلمانية، وغلاة الإسلاموية. فالديمقراطية الممارسة في الواقع، توجد دائماً مسترشدة بقيم وثوابت المجتمع().

ومن الصعب جمع أدبيات الديمقراطية في تعريفٍ واحد، لأنّ لهذا المصطلح ما يفوق الثلاثمائة تعريف، وبعضها أفضى إلى ممارسات شمولية، حيث أنّ الفكر السياسي يَنسب المُمارَستين النّازيّة والفاشيّة، كانحدار عن النظم الديمقراطية، وحتى أصول الممارسة الديمقراطية، وهي الأصول اليونانية التي تنسب الديمقراطية لحكم الشعب، “فهي في أصولها كانت منحازة ضد أغلب البشر لأنّها كانت تَحرِم النساء والعبيد من حقوق التصويت.

 لكن اختصارًا للجدل فإن الديمقراطية التي نعرفها اليوم اصطلاحًا تعني عدة أمور، منها: أن الشعب هو مصدر القوانين. وأن هذه القوانين تتسم بالسيادة بحيث لا يعلوها أي إنسان. وأن الحكومة يتم انتخابها عن طريق الاقتراع، وهي مسئولة أمام الشعب، أو أمام ممثليه عن التزامها بالبرنامج الذي وعدت بتنفيذه إبان العملية الانتخابية().

يتضح مما تقدم أن مفهوم الشورى من المفاهيم التي يمكن أن يَمْتد نطاقها ليُغطي جميع الفضاءات الاجتماعية، والنظر الواسع قد يجعل من مفهوم الشورى مفهومًا أَثْرَى من مفهوم الديمقراطية الغربية، بل ويكون أشد رسوخًا، لأن مفهوم الديمقراطية مفهوم للممارسة الإنسانية، بينما مفهوم الشورى مفهوم إداري وسياسي وتعبدي، بما يقلل إمكانية التلاعب به، مقارنةً بما حدث بمفهوم الديمقراطية من تلاعبٍ على أيدي بعض الإدارات الأمريكية على سبيل المثال التطبيقي().

فالمقاربة بين الشورى والديمقراطية تبين أن هنالك عناصر مشتركة وأن هنالك اختلافات، تقتضيها مصدرية كل منهما وغاياتها.

أوجه التشابه:

  • كلاهما يوجب اعترافا بكرامة الإنسان، ويكفل حقوق الإنسان.
  • كلاهما يمنع الانفراد بالسلطة.
  • كلاهما يوجب احترام استقلال القضاء وسيادة حكم القانون.
  • كلاهما يعطي الشعب حق اختيار حكامه ويحاسبهم.

وهنالك قطعا اختلاف بحيث يمكن القول: إن الشورى مماثلة للديمقراطية ولكنها ملتزمة بسقوف، كما أن الديمقراطية مماثلة للشورى ولكنها مرتبطة بآليات تطبيقية…

إن التَّأقلُم الثقافي يوجب على الديمقراطية أن تُراعي سُقوف الشورى…وإن الجدوى التطبيقية توجب على الملتزمين بالشورى استصحاب آليات الديمقراطية المحققة لأهدافها().

مع هذا اللقاح بين المفهومين؛ فبالإشارة للتجربة الغربية تبقى ثلاثة خصوصيات يوجبها الالتزام الإسلامي هي:

  • حقوق الإنسان وحرياته الأساسية، وإن تطابقت إلى حدٍّ كبيرٍ في الحالَين فإنّها في المفهوم الإسلامي تَستندُ إلى جُذور روحية وخُلقية تُعطيها قُدسيّةً وعمقاً إضافيّاً لدرجة الالتزام والتجرُّد في التطبيق.
  • التوجه الإسلامي يُراعِي التربية الرُّوحية والخُلُقية على الصًّعيد الفردي، ويهتم بالرِّعاية الاجتماعية والعدل والتكافل، وبنهج مَوْزُون يصون الإنسان والحيوان والنبات والجماد. وهي معان لا يلتزم بها النّهج الغربي الفردي. ولكن الفكر المستنير لا يُغفلها.
  • الدين يشكل حضورا كبيرا في السياسة الغربية؛ وفق معادلة تجعل للكنائس دوراً غير مُصدَّقٍ به رسميّاً في قيادة المجتمع. ولكن من الجانب النظري، فإنه وفي إطار التَّجربة الغربية يقوم التَّعَايُش بين الأديان على أساس إبعادها من الشأن العام، أي مساواة سلبية. في الإطار الإسلامي يقوم التعايش على أساس إيجابي، لأنّه يُعَبِّر عن قيمٍ روحيَّةٍ وخلقيةٍ، ويعبر عن غاياتِ الحياة العليا، وهي مسائل مهمة لحياة الإنسان الخاصة والعامة. أي أن التعايش هنا يقوم على أساس إيجابي().

يذهب بعض الباحثين إلى أن الأديان السماوية الكبرى، وكذلك الحضارات، تفاعلت مع الديمقراطية سلبا أو إيجاباً، ويقول: إن “معظم الديمقراطيات القديمة، نمت في مدن صغيرة، ذات ديانات محلية، أو ما يسمى بـ”المدينة الدولة”. وهكذا فإن قيام الإمبراطوريات والدول الكبرى؛ مثل الإمبراطورية الفارسية، والإمبراطورية الهيلينية الرومانية، والإمبراطورية الصينية، والإمبراطورية العربية الإسلامية والإمبراطورية المغولية، في العصور الوسطى، وفي معظم البلاد التي كانت تضم الديمقراطيات الأولى؛ قد قضت على هذه الدويلات الديمقراطية، بل على فرص قيامها أيضا. لكن هذا لا يعني أن تَطَوُّراً باتجاه الديمقراطية لم يحصل في العصور الوسطى، بيد أن معظم هذا التطور، حصل على مستوى القيم وحقوق الأفراد.” ويذهب إلى أن الأديان الكبرى؛ قد ساهمت في ترسيخ المبادئ الديمقراطية، فيقول: “وقد أسهمت الديانات الكبرى؛ كالمسيحية، واليهودية، والإسلام، في توطيد قيم وثقافات، ساعدت على ازدهار الديمقراطية فيما بعد. ومن هذه القيم:

فكرة شرعية الدولة.

فكرة المساواة الكاملة بين القبائل والأعراق بشكل عام.

فكرة المساواة ولو جزئياً بين الأفراد، ولاسيما بين الجنسين وبين الأسياد والعبيد.

أفكار عن المسئولية والمساءلة والتعاون والشورى.

فكرة سيادة القانون والتساوي أمام القانون.

الدفاع عن حقوق عديدة مثل: افتراض البراءة، وتحريم العقاب الجماعي، وحرية التنقل، وحقوق الملكية،  وحق العمل().

 الشورى والديمقراطية باعتبارهما نظاماً للحكم ولإدارة المجتمع، بينهما أوجه اختلاف كما ظهر في المطلب السابق وبينهما أوجه اتفاق منها:

  • أنهما يتشابهان في نظام الحكم، بالمعنى الذي عرّف به (لنكولن)() الديمقراطية: وهو “حكم الشعب بواسطة الشعب، من أجل الشعب” فإن نظام الحكم في الإسلام يعتمد أساساً على حرية الاختيار أو الانتخاب أو البيعة.
  • يتماثلان في القيام على مبادئ معينة سياسية واجتماعية، تتعلق بإرساء معالم الحقوق والواجبات الأساسية، مثل حق المساواة أمام القانون أو النظام، وبقية أنواع هذا الحق كما تقدم.
  • وهما بنحوٍ ظاهر يراعيان مبدأ الفصل بين السلطات، فالتشريع في الإسلام يصدر عن القرآن والسنة أو إجماع الأمة، أو إرادتها العامة، أو الاجتهاد، وكل ذلك مستقل عن الإمام، بل هو ملزم به ومقيد بنتائجه.
  •          –             يعارض كلا النظامين سياسة الاستبداد والانفراد بالرأي، ويعتمدان على القاعدة الشعبية في الحكم والإدارة وسياسة البلاد.
  • تصدر القوانين في كلا النظامين بموافقة الأمة، سواء سُمِّيت بالمجالس النيابية أو بمجالس الشورى.
  • تعتمد الديمقراطية الحديثة على مبدأ الأغلبية في اتخاذ قراراتها، وكذلك الشورى، إما أن تأخذ بالإجماع الحاصل، أو برأي الأكثرية فيما لا نص فيه. ولا مانع في كلا النظامين من وجود أقلية لها حق المعارضة والمصارحة برأيها.
  • المجالس النيابية تقوم على مبدأ تمثيل الأمة بنواب عنها، يُختارون بالانتخاب الحر المباشر. وأهل الشورى إما أن تُزَكّيهم الأمة بحكم التّرَدّد عليهم وقبول فتاويهم وآرائهم، وإما أن يختار بعضهم الإمام الحاكم، مراعياً ضوابط الشريعة في حسن الاختيار، وتوافر ملكة الاجتهاد. وجميع الأمة في النظام الإسلامي لها الحق في النهاية ببيعة الخليفة أو معارضة ما يراه أهل الشورى().

وفضلاً عما تقدم فإن هنالك تشابه بين الديمقراطية والشورى في الآتي:

أولاً: الدولة المدنية: الإسلام جاء بمفاهيم لا تقر ما ذهبت إليه بعض الممارسات التي تعطي قدسية لقرارات رجال الدين والحكام الذين يرفعون شعار الدين؛ والدولة الإسلامية دولة لا تتصافح مع الاستبداد مهما كان الشعار وإن اجتهد المستبد في ربطه بالدين، وذلك أن الدين يحارب الاستبداد كما يحارب الشرك، وهي دولة مدنية تقوم على مبدأ الشورى وسيادة الأمة وحاكمية الشرع وحرية اختيار الحاكم()، وجاءت وثيقة الأزهر مؤيدة لمفهوم الدولة المدنية، حيث نصت وثيقة الأزهر الصادرة في عام 2011م على “دعم تأسيس الدولة الوطنية الدستورية الديمقراطية الحديثة، التي تعتمد على دستور ترتضيه الأمة، يفصل بين سلطات الدولة ومؤسساتها القانونية الحاكمة. ويحدد إطار الحكم، ويضمن الحقوق والواجبات لكل أفرادها على قَدم المساواة، بحيث تكون سلطة التشريع فيها لنواب الشعب؛ بما يتوافق مع المفهوم الإسلامي الصحيح، حيث لم يعرف الإسلام لا في تشريعاته ولا حضارته ولا تاريخه ما يعرف في الثقافات الأخرى بالدولة الدينية الكهنوتية التي تسلطت على الناس، وعانت منها البشرية في بعض مراحل التاريخ، بل ترك للناس إدارة مجتمعاتهم واختيار الآليات والمؤسسات المحققة لمصالحهم، شريطة أن تكون المبادئ الكلية للشريعة الإسلامية هي المصدر الأساس للتشريع، وبما يَضمن لأتباع الديانات السماوية الأخرى الاحتكام إلى شرائعهم الدينية في قضايا الأحوال الشخصية().

ثانياً: مبدأ التداوُل السلمي للسلطة: وذلك باعتماد النظام الديمقراطي القائم على الانتخاب الحُر المباشر: “الذي هو الصيغة العصرية لتحقيق مبادئ الشورى الإسلامية، بما يضمنه من تعددية ومن تداول سلمي للسلطة، ومن تحديد للاختصاصات ومراقبة للأداء ومحاسبة للمسئولين أمام ممثلي الشعب، وتوَخِّي منافع الناس ومصالحهم العامة في جميع التشريعات والقرارات، وإدارة شئون الدولة بالقانون- والقانون وحده- وملاحقة الفساد وتحقيق الشفافية التامة، وحرية الحصول على المعلومات وتداولها().

ثالثاً: الاعتراف بالتعددية: فالمجتمع الإسلامي عرف تعددية دينية وسياسية وعرقية ووظيفية، فقد كانت هنالك جماعات مهنية نقابات وفرق ومذاهب فقهية، وطرق صوفية وجماعات سياسية، وهو ما يسميه بعض الباحثين بالمجتمع الأهلي، فَصْلاً له عن الدولة، وهو ما يوازي مفهوم المجتمع المدني الحديث، أما أهم هذه التنظيمات المُعَبِّرة عن المجتمع المدني الإسلامي عبر التاريخ، منها ما يلي:

المساجد، ودور العبادة؛ حيث كانت محور الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، ومركز إشعاع ثقافي وتعليمي وتربوي، وملاذ الناس في أوقات الشدة.

الأوقاف؛ التي كانت مؤسسات كبرى مستقلة أقامها الناس بعطائهم، وأدَّت دورها الكبير في تأمين مُسْتلزَمات (الدفاع الاجتماعي) وأوقفت المستشفيات -البيمارستانات والفنادق الخانات، وحتى الأوقاف لصالح الراغبين في الزواج.

الطرق الصوفية؛ التي لعبت دوراً سياسياً واجتماعياً وتحريرياً مُهِمّاً في المجتمع الإسلامي، وبخاصة تلك الطرق التي انتهجت منهجا خلقيا قويما يتفق والقيم الدينية، وشيئا فشيئا تحوّلت هذه الطرق الصوفية إلى روابط بين أهل الحرف، يحكمهم شيخهم اجتماعياً وأخلاقياً، ويأخذ عليهم العهد، ويساعدهم في أمورهم المالية. وكانت لهذه الطرق رباطات وزوايا، قامت بأدوار حيوية للمجتمع الإسلامي.

نقابات الحِرَف والصّنائع؛ حيث عرف المجتمع الإسلامي الجماعات المهنية، أو (الأصناف) منذ وقت مبكر القرن السابع الهجري- وذلك على هيئة نقابات، فكل أهل صنعة، تتكون منهم جماعة مهنية تحت قيادة شيخ يختارونه، ليراقب جودة الصناعة، ويدافع عن حقوقهم، ويفض خلافاتهم، وكانت علاقة الدولة بهم عن طريق المحتسب؛ الذي تطور عن (صاحب السوق).

جماعات العلماء والقضاة وأهل الإفتاء؛ حيث استطاع العلماء أن يحتفظوا باستقلالية نسبية عن السلطة في كثير من الأحوال، وحافظوا على الكيان الاجتماعي للمجتمع الإسلامي، وبخاصة في عهود التّدَهْوُر والانحطاط السياسي، عن طريق التثقيف والتوعية وغرس القيم الأخلاقية، وتثبيت العقيدة، والمبادئ الأساسية للإسلام، وقد كان الشيوخ والقضاة والفقهاء بالفعل رؤساء المجتمع المدني وقادته، وكان الناس يلجئون إليهم في حوائجهم وفي حمايتهم من البطش والأذى.

نقابات التجار؛ حيث كان لكل طائفة من التجار (نقابة) وتجمع النقابات كلها في نقابة كبيرة تسمى (نقابة التجارة) يرأسها تاجر كبير شاهبندر- وكانت له مكانة مرموقة عند أهل الحكم والناس، وكان يقوم بخدمة النقابة والدفاع عن التجار ورفع الظلم عنهم وتخفيف وطأة رجال الإدارة عليهم خاصة عند جباية الضرائب منهم، ولكن التجار لم يلعبوا دورا يذكر في الحياة العامة؛ لأنهم أصبحوا أعوان السلطة.

جماعة الشُّطّار والعَيّارين؛ وهو مثلث يشمل حركة الشطار والعيارين والحرافيش؛ أصحاب المهن المحتقرة، وأشباههم من المُعْدمين والعاطلين، بسبب انشغال السلطة بمصالحها، والصراعات السياسية، فكانت هناك جماعات تعيش على هامش المجتمع، وفي حالة تمرد دائم على المجتمع، مطالبين بتحقيق العدالة؛ مما اكسب تمَرُّداتهم دلالات اجتماعية وسياسية واقتصادية.

ولا غرابة أن نجد تشابها واضحا فيما يتعلق بالمضمون بين الشورى في الإسلام كمبدأ سياسي ومنهج حياة، والديمقراطية في مفهومها اللبرالي الاشتراكي المعاصر، من حيث القواعد الأساسية الملزمة فيها، فهي في الإسلام معدودة من مقاصد الشرع التي تتمثل في توفير ما يسميه الأصوليون “الضروريات”، وهي: حفظ النفس، والعقل، والدين، والنسل، والمال()، وهي ما نسميه “بالمشترك الإنساني” بين الأنظمة الصالحة التي عرفها الإنسان عبر التاريخ، وقد عبَّر الشاطبي عن هذا المُشترك في موافقاته، حيث أتْبَع ما ذكره من مجموع الضروريّات الخمس قوله: “وقد قالوا إنّها مراعاة في كل ملة().

وليست العبرة بالأخذ بصيغة بعينها، وإنما العبرة بالمعاني لا بالمباني- كما يقول فقهاؤنا- فهي إن حققت مقصودها صحّت، وإن لم تحققه بطلت، وتتفاوت درجة الصحة على قدر ما حققت منه، ودرجة البطلان على قدر ما فوتت منه().

إن تعطيل الشورى في حياة المسلمين، وفي مجال الدولة على وجه الخصوص، لم يُمَكِّن المجتمع من تطوير آلياتها لتُصبح واقعاً ملموساً، حتى ظنّ كثيرٌ من الناس؛ أن الشورى عبارة عن قيمةٍ مثالية، لم تجد طريقها للتطبيق على طول التاريخ، ولم تمارس عبر آليات منضبطة، ولكن الدكتور محمد عمارة؛ ذهب إلى أن مجتمع المدينة عرف مؤسسة الشورى في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث يقول: فهناك ما يشير إلى وجود مجلس للشورى في عهد الرسول كان عدد أعضائه سبعين عضواً()، كما كانت هناك تلك الهيئة التي عُرفت في كتب التّاريخ ومباحث الإمامة باسم (المهاجرين الأولين)، وهي الهيئة التي كانت أشبه بحكومة الرسول، والتي استأثرت بمنصب الخليفة، ترشحه من بين أعضائها وتختاره هي، ثم يبايعه بعد ذلك ويُصَدِّق على قرارها من حَضَرَ المدينة من المهاجرين والأنصار().

لقد تكونت الهيئة- هيئة الشورى من عشرة من كبار الصحابة هم: أبوبكر الصديق، وعمر بن الخطاب. وعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، وطلحة بن عبيدالله، والزبير بن العوام، وعبدالرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وسعيد بن زيد بن نُفَيل، وأبوعبيدة بن الجرَّاح. ولقد ظلت سلطة دولة الخلافة الراشدة في هذه الهيئة حتى انتهت هذه الدولة وزال نظامها بانتقال الأمر إلى معاوية بن أبي سفيان().

إن مصادر الفكر والتاريخ الإسلامي قد اكتفت بتعليل امتياز هؤلاء العشرة بسبب لا نعتقد أنه هو السبب والمعيار في هذا التحديد والاختيار، تقول هذه المصادر: إنّ هؤلاء العشرة هم الذين بشّرهم الرسول بالجنة وهم الذين مات الرسول وهو عنهم راض، وأنه قال: “أبوبكر في الجنة، وعمر في الجنة، وعثمان في الجنة، وعلي في الجنة، وطلحة في الجنة، والزبير في الجنة، وعبدالرحمن بن عوف في الجنة، وسعد بن أبي وقاص في الجنة، وسعيد بن زيد في الجنة، وأبوعبيدة بن الجراح في الجنة().

ولكن.. إذا كان الأمر يتعلق بالبُشرى بالجنة، فلماذا ينحصر الأمر في هؤلاء النفر؟ ولماذا يكونون من قريش وحدها، ومن ذوي النفوذ في قريش بالتحديد؟ وأين الذين آوَوْا ونصروا، وأخْضَعَت سُيُوفهم شبه الجزيرة ومنها قريش- لسلطان الإسلام؟ وأين الأرقاء الذين دخلوا الإسلام في زمن مُبكر وتحملوا من العذاب ما لم يَلْقَه أحدٌ من مُسْلِمة قريش؟ إن هذا التعليل البُشرى بالجنة والرضى النَّبَوي عنهم لا ينهض سبباً مقنعاً وجواباً شافياً().

لقد ذكر الدكتور محمد عمارة ستة أسباب أهّلَت هؤلاء العشرة لتَتَكَوَّن منهم هيئة المهاجرين الأوَّلٍين؛ هي: أنهم من قوم الرسول، وأنهم يمثلون بطون قريش، وأنهم هم الذين تكوّن منهم الجهاز السياسي والإداري للدولة الجديدة، وأنهم كانوا يلازمون الرسول دائما، وأنهم جميعا شهدوا بدرا، وأنهم من أوائل الذين دخلوا في الإسلام().

مما تقدم يتبيَّن أن النظام السياسي للدولة الإسلامية هو نظام الشورى، وأن فكرة المؤسسات والآليات لم تَغب عن المسلمين في صدر الدولة الإسلامية، ولولا فتنة مقتل عثمان رضي الله عنه، واختلال نظام الانتقال السّلمي للسلطة؛ لتطوّر نظام الشورى إلى نُظم تُشبه آليات النظام الديمقراطي، بل ربما تتفوّق عليها بطول الممارسة، وتطبيق قيم الإسلام.

ولا شك أن الشورى في الإسلام مبدأ في غاية الأهمية لا يقوم نظام الإسلام السياسي والتشريعي بدونه، فلو استطاع المسلمون القيام بتسويق فكرة الشورى ومصطلحاتها وحقيقة تطبيقاتها ولو دعا ذلك إلى مقارنتها بمصطلح لديمقراطية مع بيان الفروق السابقة لراجت الفكرة ولتقبلتها الفطرة السليمة، على أن يسبق ذلك إعطاء المثال الواقعي لتطبيق الشورى في مجتمعاتنا ونظمنا التنظيمية والسياسية باعتبارها القدوة().

المبحث الثاني

الشورى ومنهجها في إدارة التنوع

وفيه ثلاثة مطالب:

            المطلب الأول: التنوع والتعددية في الاصطلاح الإسلامي

المطلب الثاني: منهج الشورى في إدارة التنوع:

المطلب الثالث: التنوع العقائدي

المطلب الأول

التنوع والتعددية في الاصطلاح الإسلامي

        “التنوع” كمصطلح؛ لم يتداوله علماء المسلمين قديما، ولم يُعرف في كتبهم، بل الحق أنه مصطلح طارئ وافد، لكن في ظل ثقافة العولمة، وتأثر الشرق بالغرب؛ فإن الإسلام لابد له من وقفة تحليلية لكل وافد غريب”(). فالمنهج الصحيح هو الانفتاح على كل الحضارات، والتعامل معها بمنهج يستصحب ما لا يتعارض مع المبادئ الإسلامية، على أساس: الحكمة ضالة المؤمن حيث وجدها فهو أحق الناس بها. والتوجيه القرآني يؤكد ذلك قال تعالى:” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِندَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً” [النساء:94].

         إن مصطلح التعدد أو التنوع يعني ” التسليم بالاختلاف: التسليم به واقعاً لا يسع عاقلاً إنكاره، والتسليم به حقّاً للمختلفين لا يملك أحد أو سلطة حرمانهم منه()، لأن التنوع كما أسلفنا إرادة إلهية، وواقع كوني ملموس، وضرورة اجتماعية، وهو ضروري لاستمرار الحياة واستقرارها. وقد أقر الإسلام التّعدّد والتّنوّع؛ ووضع الأحكام للتعامل معه. وذلك علي النحو التالي:

أولاً: الاعتراف بوجود تنوُّع واختلاف وتباين بين عامة البشر، والتسليم بذلك، أيا كان. هذا التنوع والتباين، وأيا كان مصدره ومنشؤه.

ثانياً: احترام هذا التّنوع، وهذا الاختلاف، وما يترتب عليهما من تباين، سواء كان في أمور أساسية، كالأديان والشرائع، والأجناس والألوان، أو أمور فرعية، كاللهجات واللكنات، وفروع العلوم والمعارف، وفروع المهن والعادات والتقاليد والأعراف.

ثالثاً: وضع مناهج وأسس تحكم هذا الاختلاف في إطار مناسب، تعتمد على مبادئ كلية جامعة، وتراعي الفوارق النوعية؛ التي تجعل المجتمعات تعيش في أمن ووحدة، وترقَى عن التمزُّقات ومساوئ الخلافات(). ينبغي الاعتراف به وحسن إدارته.

رابعاً:معرفة أسباب الاختلاف وتعدد الأفهام بين الناس: فأسباب الاختلاف هي:

        السبب الأول: وجودي (الفردية) ذلك أن الإنسان يكتشف في نفسه وجوداً ذاتياً مستقلاً لا يشاركه فيه أحد، فجسمه في وجود مستقل عن الأجسام الأخرى، فكما تتولد عند الإنسان النزعة الفردية في امتلاك الأشياء المادية تتولد لديه النزعة في امتلاك المعاني الذهنية الخاصة، وهذا ما يدفع الفرد إلى تكوين معان خاصة به، أي عقلاً خاصاً، لأن العقل بنية معان.

        السبب الثاني: معرفي استدلالي: وذلك بحسب المناهج التي يتعامل معها ويقرأ بها مفكر عن آخر، وحيث أن المناهج المعرفية منها ما هو علمي تجريبي، ومنها ما هو علمي نظري، ومنها ما هو عقلي منطقي برهاني، ومنها ما هو عرفاني غنوصي إشاري، ومنها ما هو بياني لغوي أدبي، ومنها ما هو عقلي تأويلي، ومنها ما هو مادي إحساسي واقعي، فهذه المناهج وغيرها تسهم في صناعة الاختلاف بين الناس وتؤدي إلى تعدد الأفهام بين المفكرين، والتعدد يعزى عند ذلك للاختلاف المعرفي الاستدلالي أي طريق تناول العلم والتصديق به.

        السبب الثالث: فكري عقائدي، فالمفكر يسعى بكل ما أوتي من أدوات معرفية وسياسية وجغرافية لإثبات فرديته الفكرية المتميزة عن الآخرين، أي أن الدافع عنده هو إثبات صحة عقيدته مقابل تخطئة العقائد الأخرى، وبغض النظر عن القيمة الحقيقية العلمية لعقيدته أو عقائد الآخرين، لأنه يجد من الواجب عليه الانتصار لعقيدته أمام العقائد الأخرى التي يتصورها عقائد محاربة وعدوة لعقيدته، فيكون هذا السبب العقائدي هو الدافع للاختلاف مع الآخرين.

        السبب الرابع: سياسي يبحث عن التميُّز الفكري من أجل مسوغات الوجود السياسي الذاتي عن الآخر، وإلا فالخشية من الزوال أو التبعية أو الوحدة السياسية مع الآخرين، فيكون الدافع السياسي السلبي هو العامل الحقيقي وراء إنتاج أفكار ووضع عقائد وإحداث هوية معنوية متميزة.

        السبب الخامس: جغرافي: فهو يدفع أهل الشمال للاختلاف عن أهل الجنوب، وأهل المشرق بالتميز عن أهل المغرب، فلأهل المغرب مفكروه وعلماؤه وفلاسفته، ولأهل المشرق مفكروه وعلماؤه وفلاسفته، أي أن الجغرافيا تدفع إلى التنوع في القراءة والتعدد في الأحكام من أجل أن لا يكون الشرق تابعاً للغرب، ولا الغرب تابعاً للشرق، لا في العلم ولا في العقيدة ولا في السياسة ().

                وهنالك تصنيفات أخرى؛ ولكننا سنركز على هذه الأصناف لتعلقها بموضوعنا، كما أن تقاطعاتها هي الأبرز في العلاقات البشرية. وأن هذه الأصناف من مكونات المجتمعات الإسلامية، متداخلة في علاقاتها الاجتماعية، وتتشابك مصالحها وتتقاطع أهدافها، وهي بحكم الانتماء لوطن واحد، لديها حقوق وعليها واجبات، وكل مجموعة لديها خصوصية في داخل المجتمع، وتتميز بانتمائها العقائدي أو الثقافي أو العرقي أو التنظيمي…ومن الطبيعي أن يحدث احتكاك وتكامل بين مكونات المجتمع؛ بسبب هذا التباين والتنوع، فكيف يدير المجتمع المسلم هذا التنوع من خلال منهج الشورى؟

المطلب الثاني

منهج الشورى في إدارة التنوع

المجتمع الإسلامي الذي تأسّسَ في المدينة المنورة، كان متنوعاً، وجاء الإسلام بمنهج لإدارة مكوناته داخل الإطار الإسلامي، حيث أدار الاختلافات في الألسن، والألوان، والاجتهادات؛ مع مراعاة الخلفيات الثقافية، واختلاف البيئات، بصورة أكدت القدرة الفائقة للإسلام على تحقيق الوحدة في ظل التنوع. وأذكر هنا بعض النماذج في إدارة التنوع داخل الجسم الإسلامي وفق الفروع الآتية:

الفرع الأول: التنوع في الأعراق والألوان والألسن:

        بيَّن الإسلام أن الاختلاف في الألوان، والألسن، وفي كل الأمور الخلقية والظواهر الاجتماعية، هو من آيات الله، التي تستلزم التّفَكُّر والتّدَبُّر والاعتبار، قال تعالى:” وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ”[الروم:22] فالإسلام منذ نزوله، نَشَرَ وسط المؤمنين به وعياً بالتّبايُن، والاختلاف بين القوميّات والثّقافات، ووضع تشريعاً ينظم التعامل مع هذا التّباين، يقوم على العدل والمساواة والبر والتعاون.قال تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا وَمِنَ الجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ (27) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ [فاطر:27-28] فالوعي بطبيعة الاختلاف والتنوع؛ يقلل من التخاصم. فمن ثوابت الإسلام تكريم الإنسان، وكفالة حقوقه وحرياته، والتكريم في الإسلام ليس خاصاً بشعب أو عرق أو ملة؛ بل هو تكريم عام لجنس الإنسان، دون التفات إلى لونه أو جنسه أو معتقده، كما سبق تفصيله.

    عن عمر رضي الله عنه قال: (جاء الأقرع بن حابس التميمي، وعُيينة بن حصن الفزاري، فوجدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قاعداً مع بلال، وعمار، وصهيب، وخباب بن الأرَتّ، في ناس من الضعفاء من المؤمنين، فلما رأوهم حَقَّروهم، فأتوه فخَلَوْا به، فقالوا: إنا نحب أن تجعل لنا منك مجلساً تعرف لنا به العرب فضلنا، فإن وفود العرب تأتيك فنستحي أن ترانا مع هذه الأعْبُد، فإذا نحن جئناك فأقِمهم عنا، وإذا نحن فرغنا فاقعد معهم إن شئت، قال: ” نعم” قالوا: فاكتب لنا كتاباً، فدعا بالصحيفة ليكتب لهم، ودعا علياً ليكتب، فلما أراد ذلك ونحن قعود في ناحية؛ إذ نزل عليه جبريل فقال:” وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَوةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا  مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مَنَ الظَّالِمِينَ” الأنعام:52])()).

        لقد وجه الإسلام أتباعه، ونهاهم عن التفاخر بالأنساب، وبين لهم أنّ الأصل الذي جاءت منه الإنسانية واحد، قال تعالى:” يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً” [النساء:1] وأعلن القرآن أن الأخوة الواشجة، هي الرباط الأعظم بين جماعة المسلمين، وهي العنوان المعبِّر عن حقيقة الإيمان: “إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ” وجاءت الآيات بعد هذه الآية، تقيم سياجا من الآداب والفضائل الأخلاقية، يحمي الأخوة مما يُشوِّهها ويؤذيها من السخرية، واللمز، والتنابز بالألقاب، وسوء الظن، والتجسس، والغيبة: قال تعالى:“يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا  لاَ  يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْراً مِّنْهُمْ وَلاَ نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ وَلاَ تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلاَ تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاسْمُ الفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلاَ تَجَسَّسُوا وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ” الحجرات11-12]().

        ومن مظاهر التعددية القومية أن الإسلام احترم الأعراف البيئية التي لا تتعارض مع أحكام الإسلام، ففي الأعراس يقول صلى الله عليه وسلم عن الغناء فيها: (إن الأنصار فيهم غزل) ()، فقد حرص صلى الله عليه وسلم على احترام عاداتهم ما دامت غير مخالفة للشرع. وفي الأعياد وبينما كان الحبشة يلعبون عند النبي صلى الله عليه وسلم بحرابهم (احتفالاً بالعيد) دخل عمر فأهوى إلى الحصباء فحصبهم بها، فقال صلى الله عليه وسلم: دعهم يا عمر) ()، لم يعارض الإسلام الانفتاح على ثقافة الأمم والشعوب الأخرى، وأخْذِ مالا يتعارض مع أحكام الدين منها، قال صلى الله عليه وسلم: (الحكمة ضالة المؤمن حيثما وجدها فهو أحق بها)()، وبناء على ذلك نفَّذ صلى الله عليه وسلم مشورة سلمان الفارسي رضي الله عنه بحفر الخندق، وهي خطة فارسية في الحروب().

وجعل الإسلام العرف معتبراً في استنباط الأحكام وسبباً لاختلاف الفتوى، ويراعى في تقدير الأمور وفي كثير من قضايا الأحوال الشخصية. والحقيقة أن الاختلافات الظاهرة تحتوي في داخلها تشابها يفوق مظاهر الاختلاف، فالإنسان أصله واحد، كما بين القرآن الكريم:” هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا” [الأعراف: 189].

 وفي واحدة من أحدث الدراسات العلمية صادرة في 2004م جاءت دراسة أمريكية حديثة؛ أجراها مجموعة من علماء جامعة هوارد في واشنطن، حول الجينات البشرية وعلاقتها بالعرق واللون، وشارك فيها فرانسيس كولينز() المهندس القائد لكل مشروع الجينوم “الأطلس الوراثي” البشري، وتوصّلت الدراسة إلى أن كل إنسان يشارك أي إنسان آخر ب 9,99% في المائة من الحامض النووي، الذي هو المادة الجينية للإنسان، وأن ما يتبقَّى من تلك النسبة ضئيل جدّاً يختلف بين الأشخاص من العرق نفسه أكثر من اختلافه بين عموم البشر؛ ولذا فمن المستحيل التعرف على عرق الشخص من خلال دراسة جيناته فقط، وتدحض هذه النتائج نظريات التفوُّق العرقي لجنس على آخر، أو النظريات التي تربط بين الذكاء أو الجريمة وبين أعراق محدَّدة().

تستطيع الأعراق أن تكون الأساس الذي يستند إليه المصلحون في إنهاء الحروب الأهلية، وما أكثر الحروب الأهلية التي تنشأ؛ كما في القارة الأفريقية على وجه الخصوص، التي شهدت أعنف درجة من الحروب الأهلية في نصف القرن الأخير؛ ففي إفريقيا نستطيع أن نتحدث عن اختلافات في كل شيء تقريبا، اختلافات في الأديان، واللغات والثقافات، والعادات والتقاليد.

وفي إدارة التنوع نجد أن النبي صلى الله عليه وسلم يراعي هذا الجانب العرقي، واستند إليه في الإصلاح بين أهل المدينة. فقد حرّضت قريش عبد الله بن أُبَيّ قائلة “إنكم آويتم صاحبنا، وإنا نُقْسم بالله لتقاتِلُنّه أو لتُخْرِجُنّه، أو لنَسِيرَنّ إليكم بأجمعنا، حتى نقتل مقاتلتكم، ونستبيح نساءكم”. واستطاعت الرسالة أن تبلغ أثرها بالفعل؛ إذ لما بلغ ذلك عبد الله بن أُبيّ ومن كان معه من عبدَة الأوثان اجتمعوا لقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما بلغ ذلك رسول الله لَقِيَهُم فقال: “لَقَدْ بَلَغَ وَعِيدَ قُرَيْشٍ مِنْكُم المَبَالِغ، مَا كَانَتْ تَكِيدُكُمْ بِأَكْثَرَ مِمَّا تُرِيدُونَ أَنْ تَكِيدُوا بِهِ أَنفُسَكُم؛ تُرِيدُون أَن تُقَاتِلُوا أَبْنَاءَكُم وَإِخْوَانَكم” فلما سمعوا ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم تفرّقوا ().

لقد كان الخطاب النبوي في هذه الحالة مرتكزا إلى حالات القرابة القائمة بين الطرفين، أي العرق، وقد خلا تماماً من جانب التذكير بالله أو العامل الإيماني، فلم يكن ذلك من المشترك بينهم؛ فمنهم المسلمون ومنهم الكافرون؛ لذا كان الخطاب باحثا ومُستنِدا إلى هذا الجانب المشترَك، ولقد فعل هذا الخطاب فعله- أيضا- وتمّ نزع فتيل الحرب ().

الفرع الثاني: التنوع في المكونات الاجتماعية:

مُجتمع المدينة المنوَّرة كان يتكون من المهاجرين والأنصار واليهود، والمشركين، وقد نَظَّمت العلاقة بين مُكونات المُجتمع صَحيفة المدينة؛ التي تُعتبر “أول وثيقة (دستورية): سياسية، وحقوقية، تعترف بالمواطنة، المبنِيَّة على أساس الانتماء الديني والولاء الاجتماعي، لا كما هو شائع في الدول والحضارات البائدة والمعاصرة لصدر الإسلام، والنظم السياسية التي جاءت بعده () والأنصار كانوا يتكونون من مجموعتين هما: الأوس والخزرج. وعندما حاول الخصوم الدسَّ بين المسلمين؛ لتفريق كلمتهم، جاء التوجيه القرآني حاسما قال تعالى:” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تُطِيعُوا فَرِيقاً مِّنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ (100) وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَن يَعْتَصِم بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (101) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ (102) وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103) وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ (104) وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ البَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ” آل عمران:100-105]، نقل الحافظ السيوطي في “الدر المنثور” في سبب نزول هذه الآيات؛ جملة آثار عن بعض الصحابة والتابعين، منها: ما أخرجه ابن اسحق، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ. عن زيد بن أسلم قال: مرَّ شاس بن قيس وكان شيخا قد عسا() في الجاهلية، عظيم الكفر، شديد الضِّغن على المسلمين، شديد الحسد لهم- على نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأوس والخزرج، في مجلس قد جمعهم، يتحدثون فيه، فغاظه ما رأى من أُلفتهم، وجماعتهم، وصلاح ذات بينهم على الإسلام، بعد الذي كان بينهم من العداوة في الجاهلية، فقال: قد اجتمع ملأ بني قَيلة بهذه البلاد، والله مالنا معهم إذا اجتمع ملؤهم بها من قرار، فأمر فتى شابا معه من يهود، فقال: اعمد إليهم فاجلس معهم، ثم ذكِّرهم يوم بُعاث، وما كان قبله وأنشدْهم بعض ما كانوا تقاوَلوا فيه من الأشعار، ويوم بعاث كان يوماً اقتتلت فيه الأوس والخزرج، وكان الظَّفر فيه للأوس على الخزرج، ففعل فتكلم القوم عند ذلك، وتنازعوا وتفاخروا، حتى تَوَاثَبَ رجُلان من الحَيَّيْن على الرَّكْب، – أوس بن قيظي، أحد بني حارثة من الأوس، وجبار بن صخر أحد بني سلم من الخزرج –  فَتَقَاوَلا، ثم قال أحدُهُما لصاحبه: إن شِئْتُم والله رددناها الآن جَذَعة، وغضب الفريقان جميعا، وقالوا: قد فعلنا، السلاح السلاح، موعدكم الظَّاهِرة – والظَّاهِرة الحَرَّة فخرجوا إليها، وانضَمَّت الأوْس بعضُها إلى بعض، والخزرج بعضُها إلى بعض، على دعواهم التي كانوا عليها في الجاهلية. فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج إليهم فِيمَن معه من المُهاجرين من أصحابه، حتى جاءهم فقال: يا معشر المسلمين الله الله، أبِدَعْوَى الجَاهِلِيَّة وأنا بَيْنَ أَظْهُرِكُم؟ أَبَعْدَ إِذْ هَدَاكُم الله إلى الإسلام، وأكْرَمَكُم به، وَقَطَعَ به عَنكُم أَمْرَ الجَاهِلِيَّة، واسْتَنقَذَكُم به مِنَ الكُفر، وَأَلَّفَ به بينكم، تَرْجِعُون إلى مَا كُنتم عَليه كُفَّارًا، فَعَرَفَ القوم أَنَّها نَزْغَةٌ مِنَ الشَّيْطان، وَكَيد مِن عدُوِّهم لهم، فَأَلْقُوا السّلاح، وبَكَوا، وعَانَق الرِّجال بعضهم بعضا، ثم انصرفوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سامعين مطيعين، قد أطفأ الله عنهم كيدَ عدُوِّ الله شاس، وأنزل الله في شأن شاس بن قيس، وما صنع:”قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ (98) قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا  اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ” آل عمران:98-99]()، والآيات الكريمة دعوة قوية إلى توحيد الكلمة، واجتماع الصفّ المسلم على الإسلام،  وقد تضمنت:

  • التحذير من دسائس غير المسلمين، ومن طاعتهم فيما يُوَسْوِسُون به، فليس وراءها إلا الارتداد على الأعقاب، والكفر بعد الإيمان.
  • إن الاعتصام بحبل الله من الجميع؛ هو أساس الوحدة والتجمع بين المسلمين، وحبل الله هو الإسلام، والقرآن.
  • التذكير بنعمة الأخوة الإيمانية بعد عَداوات الجاهلية وإحَنِها وحروبها، وهي أعظم النعم بعد الإيمان: “وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ” الأنفال:63].
  •          –                 لا يجمع الأمة أمر مثل أن يكون لها هدف كبير تعيش له، ورسالة عليا تعمل من أجلها، وليس هناك هدف أو رسالة للأمة الإسلامية أكبر ولا أرفع من الدعوة إلى الخير الذي جاء به الإسلام، وهذا سر قوله تعالى في هذا السياق:” وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ” آل عمران:104].
  • التاريخ سِجلّ العِبَر، والواعظ الصامت للبشر، قد سجل أن من كان قبلنا تفرقوا واختلفوا في الدين فهلَكوا، ولم يكن لهم عذر، لأنهم اختلفوا بعدما جاءهم العلم، وجاءتهم البينات من ربهم، ومن هنا كان التحذير الإلهي: وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ البَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ[آل عمران:105].  

هذا وقد أكد القرآن أن المسلمين وإن اختلفت أجناسهم وألوانهم وأوطانهم ولغاتهم وطبقاتهم فهم أمة واحدة.

الفرع الثالث: التنوع في الاجتهاد:

 لقد أقر الإسلام الاجتهاد، وحث عليه، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُثَمِّن اجتهاد صحابته، وقد تنوّع اجتهادهم في حياته، في مواضع شتى، فقد كان كثير من الصحابة فقهاء مجتهدون، واختلفوا في مواقف كثيرة أقرّهم عليها، وأشهر تلك المواقف اختلاف أبي بكر وعمر حول التعامل مع أسرى بدْر، واختلافهم في صُلح الحديبية، واختلافهم في الخروج من المدينة في غزوة أُحُد، واختلافهم في صلاة العصر عندما أُمِروا ألاَّ يُصَلوا العصر إلا في بني قُرَيظة، كما أنّ كل واحد منهم تميّز بصفة حتى اشتهر بها، ومع مرور الزمن صارت الصفات الفردية والاهتمامات الشخصية مدارس داخل الأمة: قال صلى الله عليه وسلم: “أَرْحَمُ هَذِه الأُمَّة بها أبو بكر، وأَقْوَاهُم في دين الله عمر، وأَفْرَضُهم زيد بن ثابت، وأَقْضَاهُم علي بن طالب، وأَصْدَقُهُم حَياءً عثمان بن عفان، وأَمِينُ هذه الأُمَّة أبو عبيدة بن الجراح، وأَقْرَؤُهم لكتاب الله أُبَيّ بن كعب، وأبو هريرة وِعاءٌ من العلم، وسلمان عالم لا يُدرك، ومعاذ بن جبل أعلم الناس بحلال الله وحرامه، وما أَظَلَّت الخَضْراء ولا أَقَلَّت الغَبْرَاءُ مِن ذي لَهْجَةٍ أَصْدَقُ من أبي ذر”().

إن هذا الاحْتفاء بالتنوع داخل الجسم الإسلامي، هو الذي أدَّى إلي بروز المدارس الفقهية التي تطورت من مناهج فردية، حتى أصبحت مذاهب لها أنصارها، واشتُهِر عند الفقهاء تشدُّد ابن عمر، ووَسَطِيَّة ابن مسعود، ورُخَص ابن عباس . وطبّق المسلمون الاجتهاد في مراحل متعددة من تاريخهم، ذكر الشعبي عن شريح أنه قال: قال لي عمر: “اقض بما استبان لك من كتاب الله، فإن لم تعلم كل كتاب الله؛ فاقض بما استبان لك من قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإن لم تعلم كل أقضية رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فاقض بما استبان لك من أئمة المهتدين، فإن لم تعلم كل ما قضت به أئمة المهتدين؛ فاجتهد رأيك واستشر أهل العلم والصلاح)() ففي كلام عمر مرونة شديدة حيث طلب من شريح أن يقضي بما استبان له، ومعلوم أن الاستبانة نِسْبِية، فما يستبين لعمرو لا يستبين لزيد؛ بل قد يستبين الأمر لنفس الشخص في وقت ولا يستبين له في وقت آخر، وأوضح نص على مشروعية الاجتهاد قوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل عندما بعثه لليمن حيث قال له: (كيف تَقْضِي إذَا عرض عليك القضاء؟. قال: أقضي بكتاب الله. قال: فإن لم تجد في كتاب الله؟. قال: بسنة رسول الله. قال فإن لم تجد في سنة رسول الله؟. قال: اجتهد رأيي ولا آلوا(). فضرب رسول الله صدره وقال: الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله) ().

وأيضا الحديث الذي أخرجه البخاري وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا حَكَمَ الحَاكِمَ فَاجْتَهَدَ ثم أصَابَ فله أَجْران وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر)() كذلك يُفهم معنى الاجتهاد من قوله تعالى:” فَاعْتَبِرُوا يَا أُوْلِي الأبصار الحشر:2]، فمن الطبيعي أن تختلف اجتهادات الفقهاء وفقاً لظروف كل فقيه وقدرته على الاستنباط، والبيئة التي عاش فيها، خاصة وأن الإسلام أعطى المجتهد أجرين إن أصاب، وأجراً واحداً إن أخطأ ما دام ملتزماً بشروط الاجتهاد()، ولهذا الاختلاف فوائد، كما يقول الدكتور: طه بن جابر العلواني() منها: (أنه يُتِيح التَّعَرُّف على جميع الاحتمالات التي يمكن أن يكون الدليل قد رَمَى إليها بوجه من وجوه الأدلة. وثانياً: إنه يُتيح رياضةً للأذهان وتَلاقحاً للآراء ويفتحُ مَجالات التفكير للوصول إلى سائر الافتراضات والخيارات، التي تستطيع العقول المختلفة الوصول إليها. وثالثاً: إنَّه يُتيح تَعَدُّد الحُلول أمام صاحب كلِّ واقعة لِيَهْتدِي إلى الحَلِّ المُناسب للوضع الذي هو فيه، بما يَتَنَاسَبُ مع يُسْر هذا الدين؛ الذي يتعامل معه الناس من واقع حياتهم) ().

إنها فوائد يؤكدها الإنتاج الفكري والعلمي الذي تزخر به الساحة الإسلامية في تاريخها الطويل، ويُصدِّقها الواقع الذي أفرز قضايا مُعَقَّدة تَمَكَّن الفقهاء من التعامل معها. إنه نهج ينسجم مع طبيعة الإنسان، فالناس “في أَصْل جِبِلَّتِهم، وبدء خِلْقَتِهم قد افترقوا مجتمعين، واجتمعوا مفترِقين واختلفوا مؤتلفين، وائتلفوا مختلفين ()، وإذا كان الاجتهاد فريضة إسلامية دائمة؛ لأنّه أداة استنباط الأحكام الشّرعية الجُزئية من مصادر الوحي الإلهي البلاغ القرآني.. والبيان النبوي لهذا البلاغ وعليه يتوقف بقاء الشريعة الإسلامية خاتمة، وخالدة، ومستجيبة لمستجدات الزمان والمكان والمصالح والعادات والأعراف بأحكامها.. فهو بعبارة السيوطي فرْض من فروض الكفايات في كل عصر، وواجب على أهل كل زمان أن يقوم به طائفة من كل قطر”()، فإن فريضة الاجتهاد هذه يكون ثَراؤها أكبر مع التعدُّدية والاختلاف في الاجتهادات.

فالاجتهاد في عصر الإسلام الأول، لم يكن خاصا بالقاضي معاذ بن جبل رضي الله عنه… ذلك أن تعدد القضاة الفقهاء يومئذ قد جعل الاجتهادات متعددة، على النحو الذي أثمر تعددية في الأحكام الجُزئية والفرعية المُسْتَنبطة من أصول التشريع ومبادئه وقواعده.. فغير معاذ كان هناك في دولة النبوة قُضاة آخرون، منهم علي بن أبي طالب، وعمر بن الخطاب، وعمرو بن العاص، وزيد بن ثابت، وعبد الله بن مسعود، والعلاء بن الحضرمي، ومَعْقَل بن يسار، وعُقْبة بن عامر، وحُذيفة بن اليمان العبْسي، وعتّاب بن أُسيد، وأبو موسى الأشعري، ودِحية الكلبِي، وأُبَيّ بن كعْب.. الخ()، بل بلغ علماء الأصول في إحاطة تقنين التعددية في الاجتهادات، بالضمانات إلى الحد الذي جعلوا فيه اجتهاد المجتهد ملزماً له، ليس باعتباره الحكم الذي اختاره باجتهاده فقط، وإنما باعتباره “حكم الله في حقه” وانعقد على ذلك إجماعهم، قال الإمام شهاب الدين القرافي (684هـ/1285م) “وقد تَقَرّر في أصول الفقه: أن الأحكام الشرعية كلها معلومة، بسبب انعقاد الإجماع على أن كل مجتهد إذا غلب على ظنه حكمٌ فهو حكم الله تعالى في حقه، وحقِّ مَن قلّده”()، وانطلاقا من هذه القاعدة التي أجمعت عليها الأمة- قرر الأُصولِيُّون تعدد الإفتاء بتعدد مذاهب المستفتين، وليس فقط بتعدد مذاهب المفتين!.. فعلى المفتي أن يفتي المُستفتي وِفْق مذهبه، لا وِفْق مذهب المفتي؛ لأن اجتهادات مذهب المُستفتي هي حكم الله في حقه، يجب أن يراعيها المفتي حين يفتيه.. ().

يقول القَرافي “ومتى سُئِلنا عن الشافعية: هل يجب عليهم مَسْحُ الرَّأس بكماله؟ نقول: لا. ونُفتي الحَنَفيّة بأنه يجب عليهم الرُّبع أي مسح رُبع الرّأس. ونُفتي في مذهبنا (مذهب مالك) بِخلاف ما ذهبتا لكل فرقة مذهب إمامها، يخالفنا بما يخالفنا ويخالف مذهبنا، لأنه مجمع عليه.. ونقول لمن له أَهْلِيَّة الاجتهاد: حُكم الله تعالى عليك أن تَجْتهد وتنظر في أدلّة الشريعة ومصادرها ومواردها، فأيُّ شيء غلب على ظنك فهو حكم الله تعالى في حقّك وحقِّ مَن قلّدك. فتارة تكون الفُتيا عامة، وتارة تكون خاصة، وتارة تكون بِضِدِّ ما عليه مذهب المفتي”()، وهنالك تمييز بين الفتاوى المُتَعَلِّقة بالأفراد؛ التي يُراعَي فيها مذهب المُسْتَفْتِي، وتلك التي تتوجَّه إلى الأمة، “ففي هذه الأخيرة يحسن أن تُصَب الاجتهادات الفردية للمجتهدين في اجتهاد جماعي مؤسَّسي لا يُصادر الاجتهاد الفردي، وإنما يُوظِّفهبشورى المجتهدين في مستوى أرفع من مستويات الاجتهاد الجماعي (),

والدعوة للاجتهاد المؤسسي ليست جديدة، فهناك ما يفيد بأنها طُرحت مُنذ عصر النبوة فقد روى الإمام مالك بسنده إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه، أنه قال: قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم الأمر الذي ينزل بنا، لم ينزل فيه قرآن، ولم تمض فيه منك سنة؟ فقال: “اجمعوا العالِمِين من المُؤمِنين، فَاجْعَلُوهُ شُورى بَيْنَكُم، ولا تَقْضُوا فيه بِرَأْيٍ واحد”()، يقول الدكتور محمد عمارة” فالسنة تُقَعِّدُ للإفتاء الجماعي في الأحكام العامة في صيغة قانون القضاء؛ إذا لم يكن في الأمر كتاب ولا سنة.

ولقد وضَعَت الخلافةُ الرَّاشِدةُ سُنَّة هذا الإفتاء الجماعي في الأحكام العامة، وصياغة القانون الحاكم للمجتمع، وضَعَتْها في الممارسة والتطبيق.. (فعن ميمون بن مهران قال: كان أبوبكر الصديق، إذا ورد عليه الخصم نظرَ فِي كتاب الله، فإن وجد فيه ما يقضي بينهم قضى، وإن لم يجد في الكتاب وعلم من رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك الأمر سنة قضى به، فإن أعياه خرج فسأل المسلمين، وقال: أتاني كذا، وكذا، فهل علمتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في ذلك بقضاء؟ فربما اجتمع إليه النَّفَر كلهم يَذكُر من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه قضاء، فيقول أبوبكر: الحمد لله الذي جعل فينا من يحفظ على نبينا، فإن أعياه أن يجد في سنة من رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع رءوس الناس وخيارهم فاستشارهم، فإذا اجتمع رأيهم على أمر قضى به) ())().

وقد حاول بعض الناس – تأثُّراً بِخَلْفِيَّتِهم الكِسْرَوِيَّة – أن يُلزِموا المسلمين باجتهاد واحد، وإلغاء التنوّع في الاجتهاد. فقد أشار عبد الله بن المُقَفَّع على المنصور باعتماد الدولة لاجتهاد فِقْهِي واحد في كل الأمصار، بدلا من تعدد الاجتهادات الفقهية بتعدد مدارس الفقه الإسلامي في تلك الأمصار.. فكتب إلى الخليفة يقول: “فلو رأى أمير المؤمنين أن يأمر بهذه الأقضية والسنن المختلفة فترفع إليه في كتاب، ويرفع معها ما يحتج به كل قوم من سنة أو قياس، ثم نظر أمير المؤمنين في ذلك، وأمر في كل قضية رأيه الذي يلهمه الله ويعزم عليه، وينهي عن القضاء بخلافه، وكتب ذلك كتاباً جامعاً عزماً؛ لرجونا أن يجعل الله هذه الأحكام المختلطة الصواب بالخطأ حُكْما واحدا صوابا، ورجونا أن يكون اجتماع السير قربة لاجتماع الأمر برأْي أمير المؤمنين”().

 فنحن هنا أمام فكر يريد المُطابقة بين وحدة الدولة الخلافة وبين آحادية الاجتهاد والقانون وفقه المعاملات، في الدولة الإسلامية المترامية الأطراف، والتي تضم أقاليمها وولاياتها المتمايز من الأعراف والعادات، والمختلف من الاجتهادات، والمتعدد من مذاهب الفقه الإسلامي ()، ويبدو أن المنصور قد مال إلى ما أشار به ابن المقفع.. فأشار بهذا الرأي على الإمام مالك بن أنس (93-179هـ/712-795م) مقترحا اعتماد اجتهاد مالك، وكتاب الموطأ قانونا واحدا يحلّ محلّ التعددية الاجتهادية في أمصار ديار الإسلام.. لكنّ الإمام مالكاً انطلاقاً من مكانة التعددية في الرؤية الإسلامية، ودورها في تزكية الاجتهاد في الإسلام وتنميتهرفض هذا الاقتراح رغم ما فيه من اختيار لاجتهاداته، وسيادة لمذهبه ()، فالوعي بأهمية التنوع وضرورته في الاجتهاد جعل الإمام يرفض المقترح، وإن كان في ظاهره فيه مصلحة له.

 قال المنصور لمالك: “لقد عزمت أن آمر بكتبك هذه التي صنعتها فتُنسخ، ثم أبعث في كل مصر من أمصار المسلمين منها نسخة، وآمرهم أن يعملوا بما فيها، ولا يتعدوه إلى غيره” فرد مالك على المنصور قائلا: “يا أمير المؤمنين لا تفعل، فإن الناس قد سبقت إليهم أقاويل، وسمعوا أحاديث، وروَوْا روايات، وأخذ كل قوم بما سَبَقَ إليهم، وأُتوا به من اختلاف الناس، فدع الناس وما اختار أهل كل بلد منهم لأنفسهم” ويبدو أن هارون الرشيد (149- 193هـ 766- 809م) قد أعاد الكرة مع مالك… فشاوره في أن يعلق الموطأ على الكعبة، ويحمل الناس على ما فيه، فأعاد مالك الرفض لذلك وقال للرشيد: ” لا تفعل فإن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم اختلفوا في الفروع، وتفرقوا في البلدان، وكل سنة مضت” فاقتنع الرشيد برأي مالك، وأثنى عليه، فقال: بارك الله فيك يا أبا عبدالله().

فالإمام مالك رضي الله عنه يدرك أن التنوع الفقهي ضرورة للمجتمعات الإسلامية “ورغم أنّ الإسلام دين التوحيد، ورغم أن هذه الحقيقة تُمَيِّزه عن غيره؛ إلا أن التعددية المذهبية، لا تؤثر فيها، ولا تدل على انقسام المسلمين وتفرّقهم، بل هي أكبر دليل على وحدتهم، ورجاحة عقليتهم الفذّة المُتمَيِّزة، وسعة مداركهم، وقدرتهم على ممارسة الحوار الفكري الديني المنظّم، فقدّموا أروع مثال في تاريخ الفكر الإسلامي والإنساني، على تقبل جميع الآراء، واحترامها. وفي سبيل تحقيق الوحدة الإسلامية، لا يمكن إلغاء تلك المذاهب، فدمجُها أو احتواؤها، أو تذويبها أمرٌ غير وارد ولا مستساغ، لصعوبة التفكير فيه، واستحالة وقوعه، ويرفضه العقل والواقع، ولا يقبله منطق الحكمة”().

وهكذا فإن منهج الشورى قد أدار الاجتهاد الفقهي بصورة أدت إلى ثراء الإنتاج الفقهي وتنوع مدارسه؛ فأورث المكتبة الإسلامية إنتاجاً علمياً متنوعاً عالج المشكلات التي واجهت المجتمع مهما كانت معقدة، وهذا يؤكد صلاحية الإسلام لكل زمان ومكان مهما اختلفت البيئات والأشخاص والنوازل.

المطلب الثالث

التنوع العقائدي

الفرع الأول: مفهوم العقيدة: سمى المسلمون فهم المسائل الإيمانية الواردة في القرآن الكريم والبيان النبوي بالعقيدة، وجمعها عقائد.

المعنى اللغوي للعقيدة:

 قال ابن فارس: (عقد: العين، والقاف والدال أصل واحد يدل على شد وشدة  وتوق، وإليه ترجع فروع الباب كلها().

وقال الراغب الأصفهاني في مفرداته: (عقد: العقد الجمع بين أطراف الشيء، ويستعمل ذلك في الأجسام الصلبة كعقد الحبل وعقد البناء، ثم يستعار ذلك للمعاني نحو عقد البيع والعهد وغيرها، فيقال عاقدته وعقدته، وتعاقدنا وعقدت يمينه، قال تعالى:”… وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ…” (النساء:33). وقال تعالى:” لاَ  يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ…” (المائدة:89). ومنه قيل لفلان عقيدة وقيل للقلادة عقد().

المعنى الاصطلاحي:

لم ترد كلمة العقيدة في آية قرآنية أو حديث نبوي على المعنى المصطلح عليه عند علماء أصول الدين، ومن أوائل العلماء المستعملين لكلمة العقيدة في كتبهم المطبوعة كتاب مجموع رسائل الإمام الهادي إلى الحق القويم وهو “يحيى بن الحسين بن القاسم بن إبراهيم المتوفي سنة 298هـ، قال في كتابه جواباً لأهل صنعاء: (فهذا وفقكم الله دين المؤمنين وديني وما عليه اعتقادي)().

وكتاب العقيدة الطحاوية للإمام أبي جعفر الطحاوي المتوفى سنة (321هـ)، حيث قال في مقدمته: (هذا ذكر بيان عقيدة أهل السنة والجماعة على مذهب فقهاء الملة)().

ومقالات الإسلاميين واختلاف المصليين “تأليف أبي الحسن الأشعري المتوفى عام 330هـ، قال أبو الحسن: “فإنه لابد لمن أراد معرفة الديانات والتمييز بينها من معرفة المذاهب والمقالات().

عليه يمكن القول بأن العلماء ومنهم الهادي والطحاوي وأبو الحسن الأشعري قد أشهروا استعمال كلمة العقيدة على معنى خاص في التدين وهو التصديق بالمعاني والأفكار التي نزل بها الوحي().

نستنتج من كل ما سبق من التعريف اللغوي والاصطلاحي واستقراء أنواع العقائد وموضوعاتها وقضاياها وأسمائها وأوصافها أنه من الممكن تعريف العقيدة تعريفاً يصف واقعها ويصدق على مدلولاتها وهو:

العقيدة: هي تفسير نصوص الإيمان.

العقيدة الإسلامية هي: تفسير نصوص الإيمان الإسلامية.

الاعتقاد: هو تصديق الإنسان بالمعاني التفسيرية لنصوص الإيمان.

الاعتقاد الإسلامي: هو تصديق المسلم بالمعاني التي تفسر نصوص الإيمان الواردة في القرآن الكريم وبيانه النبوي بعبادته العلمية استنباطاً منه أو تعلماً من غيره().

عليه فإن كلمة العقيدة تطلق على فقه نصوص الإيمان، فهي فقه الإيمان وتختلف عقيدة المسلمين عن غيرهم كما تختلف تصورات العقيدة داخل الملة الواحدة.

الفرع الثاني: حقوق غير المسلمين في ظل الدولة الإسلامية:

لقد حدد الإسلام منهجا واضحا للتعامل مع غير المسلمين، يقوم على الآتي:

أولاً: عدم الإكراه في العقيدة والشعائر: إنّ الأمر المطلوب إدراكه ابتداء هو: ” أنّ المسلمين ليسوا أوصياء على العالم بأسره، خلافا لما يتوهّم الآخرون. وإنما هم أُمَناء على تبليغ مشتملات الدعوة الإسلامية، في العقيدة، والعبادة، والشريعة، والأخلاق، والآداب، وهذا الأساس واضح المعالم، في صريح القرآن الكريم، الذي وجه النبي محمد صلى الله عليه وسلم إلى هذا المنهج في آيات كثيرة منها قوله تعالى:” لَسْتَ عَلَيْهِم بِمُسَيْطِرٍ” [الغاشية:22]، وقوله سبحانه:” وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الحَقُّ قُل لَّسْتُ عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ الأنعام:66]، وقوله تعالى:” نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا  أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ [ق:45]، دلت هذه الآيات على أن النبي عليه الصلاة والسلام لا سلطان له على أحد من الناس فكذلك أتباعه”().

والنص القاطع في هذا المجال هو قوله تعالى:” لا  إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الوُثْقَى  لاَ  انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ[البقرة:256]، وقد يستغرب كثيرون أن نزول الآية التي تدعو إلى عدم الإكراه في الدين، كان وقتئذ- في صالح اليهودية، وليس لصالح الإسلام. وإن اعتبرت الآية نقطة مضيئة ومشرّفة في تعاليم الدين وأدب الدعوة إلي الله، وفي تاريخ الأديان! يروي الطبري في تفسيره لهذه الآية أنه كان من عادة نساء قبيلة الأوس اللاتي يُنجبن أولادا قصار  العمر، في الجاهلية، أن تُنذر الواحدة منهن، إذا جاءها ولد، أن تُهَوِّده حتى يطول عمره. وكانت النساء يُرسلن أبناءهن إلى قبيلة بني النّضير اليهودية. وعندما جاء الإسلام، وأمر الرسول بإجلاء بني النضير، بعد رصيد الدَّس والتآمر الذي مارسوه ضد الدين الوليد، وضد نبي الإسلام الذي حاولوا قتله مرّتين، وقتئذ كان بعض أبناء الأوس الذين تَهَوَّدُوا بين القبيلة، فأراد آباؤهم أن يُجبروهم على الإسلام، والانضمام إلى مُعَسْكر الرسول، فنزلت الآية داعية إلى رفض الإكراه في الدين … وبقي هؤلاء على اليهودية().

وينقل الطبري رواية أخرى، عن ابن عباس. تقول: إنّ رجلاً من بني سالم بن عوف يقال له الحُصين، كان له ولدان مسيحيان، وهو مسلم، فسأل الرسول عليه الصلاة والسلام، أن يُرغِم وَلَدَيه على اعتناق الإسلام، بعد أن أصَرَّا على التّمسُّك بالمسيحية، فنهاه الرسول عن ذلك، ونزل قوله تعالى:” لا  إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ “وقد بلغ من حرص المسلمين الأوائل، على الالتزام بهذه القاعدة، أن جاءت امرأة مشركة إلى الخليفة عمر بن الخطاب، في حاجة لها، فدعاها أمير المؤمنين إلى الإسلام، لكنها رفضت، فقضى لها حاجتها، ولكنه خشي أن يكون في مَسْلكه هذا ما يَنطوِي على استغلال حاجتها لمحاولة إكراهها على الإسلام؛ فاستغفر الله مما فعل، وقال “اللهم إني أَرْشَدتُ وَلَمْ أُكْرِه”()، وقد استقر هذا المبدأ الشرعي العظيم، واحداً من أُسُس التفكير الإسلامي، حتى أَلْقَى بظله على الكثير من الاجتهادات الفقهية، في مختلف نواحي السلوك الإنساني. ومن القضايا الطريفة والمهمة بهذا الصدد، ذلك الجدل الفقهي الذي أثير حول حق الزوج المسلم في مناقشة زوجته غير المسلمة، في مسألة إسلامها، وهل يُعدّ ذلك في ظل عقد الزواج القائم بينهما من قبيل الإكراه على اعتناق الإسلام أولا؟. فقد رأى الشافعي ألاّ يُفاتِح الرجل زوجته في هذا الأمر، ولا يعرض عليها الإسلام، “لأن فيه تعرضا لهم، وقد ضَمِنَّا بِعَقْد ِالذِّمَّة ألاَّ نَتَعَرَّضَ لهم”. بينما يرد الأحناف بقولهم: يعرض الإسلام على الزوجة، لمصلحة من غير إكراه!().

إن مبدأ عدم الإكراه يؤدي إلى النتائج الآتية:

  • أن الرسول صلى الله عليه وسلم مكلف بالبلاغ والتبشير وليس الإكراه.
  •  أن على الدعاة أن يلتزموا بآداب معينة هي:
  • الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة.
  • المجادلة بالتي هي أحسن.
  • عدم التعرض لعقائد الآخرين بالإساءة.
  • عدم الجهر بالسوء إلا في حالة الظلم.
  • دفع السيئة بالحسنة.
  • دعوة الآخرين إلي التمسك بالمشترَك.
  • حساب الذين لم يستجيبوا للدعوة على الله.
  •                      – الاختلاف لا يلغي الحقوق.
  • إتاحة الفرصة لحرية الاختيار.
  • أن الحجة والبرهان هما سلاح المؤمن في الدعوة.
  •                      – الحوار هو منهج الإسلام مع المخالفين().

ثانياً: العدل حق للجميع وإن اختلفت العقائد:

الإسلام أقر الكرامة الإنسانية للجميع كما ورد في الآية “70” من سورة الإسراء وهذا التكريم يقتضي التعامل مع الإنسان بالأسلوب الذي يحفظ هذه الكرامة، ونهج الإسلام في هذا المجال يقوم على أسس تحقق في جملتها العدل في التعامل مع التنوع وذلك وفق الأسس الآتية:

الأساس الأول: المحافظة على البراءة الأصلية لكل الناس، مهما كانت عقائدهم، فاختلاف العقيدة لا يبيح ظلمهم، أو اتهامهم بما لم يفعلوا، وفي نصوص القرآن جاءت براءتهم عندما اتهموا ظلما من قبل أحد المسلمين؛ كما في قصة طعمة بن أبيرق؛ التي وردت في سورة النساء، وفيها براءة اليهودي ومعاقبة المسلم().

الأساس الثاني: قبول ما يأتي منهم إن كان حقا، ولا تحول العقيدة بينهم وبين الاعتراف لهم بالفضل، إذا صدر منهم، كما جاء في سورة المائدة:” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ”[المائدة:8]، وآية آل عمران، وَمَا  يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَن يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَآل عمران:115].

الأساس الثالث: التسامح والتّراحُم، مهما اختلفت العقائد، فقد أجاز الإسلام للمسلم، أن يتزوج من نساء أهل الكتاب، وبالتالي تُصبح الكتابية زوجته، وأم أولاده، وإخوانها نَسَائِبُه، وأخوال أولاده، وأمها بمثابة والدته، وهي جدة لأولاده، وأبوها جد لهم، وهكذا، فيصبح بين المسلمين وأهل الكتاب مصاهرة وقرابة لها حقوق ونفقات وتكافل، وقد أمر القرآن الكريم بالإحسان إلى الوالدين حتى ولو جاهدا على إضلال أولادهما. فقال تعالى:” وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ” [لقمان:15].

الأساس الرابع: الالتزام بالآداب الراقية عند الجدال، حيث خصَّ الله تعالى الجدال مع أهل الكتاب؛ بأن يكون بالأحسن صورة، وشكلا، وأسلوبا، ولغة، ومنطقا، فقال تعالى:” وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ[العنكبوت:46]، فقد طبق الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك في حواراته معهم، وفي تعامله معهم؛ حيث كان يزورهم، ويحسن إليهم، ويعود مرضاهم، بل يسمح لهم أن يصلوا صلاتهم في مسجده عرضا، فقد روى علماء السيرة بسندهم “أنه لما قدم وفد نجران على رسول الله صلى الله عليه وسلم  دخلوا عليه مسجده بعد صلاة العصر، فحانت صلاتهم، فقاموا يصلون في مسجده، فأراد الناس منعهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم دعوهم” فاستقبلوا المشرق فصلوا صلاتهم”()، وقد علق على ذلك ابن القيم فقال: “جواز دخول أهل الكتاب مساجد المسلمين، وفيها تمكينهم من صلاتهم بحضرة المسلمين، وفي مساجدهم أيضا إذا كان ذلك عارضا..().

بل أكثر من ذلك فإن الرسول صلى الله عليه وسلم قبل هدايا أهل الكتاب، واحترمهم حتى كان يقف عندما تَمُرُّ جنازة أحدهم، وعندما سُئِل عن ذلك قال: “أليست نفساً” فقد روى البخاري ومسلم بسندهما عن جابر بن عبدالله، قال: “مر َّبنا جنازة، فقام لها النبي صلى الله عليه وسلم فقمنا به، فقلنا: يا رسول الله: إنها جنازة يهودي، قال: “إِذَا رَأَيْتُم الجَنَازَةَ فَقُومُوا”()، ورويا كذلك، عن سهل بن حنيف، وقيس بن سعد: أن النبي صلى الله عليه وسلم مرت به جنازة فقام، فقيل له: إنها جنازة يهودي، فقال: “أَلَيْسَتْ نَفْسًا؟”()، قال الحافظ بن حجر: “ومقتضى التعليل بقوله “أليست نفْسا” أن ذلك يُسْتَحَبُّ لكل جنازة”

ثالثاً: المسئولية الفردية:

هذا المبدأ يعني أن حقوق غير المسلمين، في الدولة الإسلامية، لا تتأثر بمعاملة الدول غير الإسلامية للمسلمين المقيمين فيها؛ لأن الحقوق الإنسانية، مقررة في الإسلام للإنسان لذاته، بغضّ النظر عن عقيدته، أو مواقف الذين يشاركونه في المعتقد، ضد الإسلام والمسلمين؛ إنه مبدأ نصّت عليه الآية الكريمة:” مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا  كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً” [الإسراء:15]، إن “هذه الحقوق والواجبات لا تتأثر مطلقا، بسوء معاملة الأقليات المسلمة في الدول غير الإسلامية. فلا يجوز لدار الإسلام أن تُسيء مُعاملة الأقليات غير المسلمة في إقليمها، بحجة الأخذ بقاعدة المعاملة بالمثل. لأن هذه القاعدة تُوقَف ولا يُعمل بها ما دامت تَتَضَمَّن ظُلما لِحقوق غير المسلم، التي قررتها له الشريعة الإسلامية()، وإذا حدث إهدار ٌلتلك الحقوق، فإنه لا يُصيب الآخرين وحدهم بظلم، إنما الظلم الأكبر واقع بالدرجة الأولى على كتاب الله وحقه عزّ وجلّ().

وبين الأستاذ الدكتور على محيي الدين القرة داغي() في كتابه القيم “نحن والآخر “صورا من تعامل الدولة الإسلامية مع غير المسلمين منها قوله: “وقد ذكر العلماء هذه الحقوق قديما وحديثا، وفصلتها كتب الفقه، في المذاهب المعتبرة.. وممن ذكرها بالتّفصيل والتّأصيل من المعاصرين؛ الأستاذ الدكتور عبدالكريم زيدان، والعلامة الشيخ يوسف القرضاوي؛ مُعْتَمِدَيْن على نُصوصٍ كَثيرة، من الكتاب والسنة، نذكرها بإيجاز:

  1. وجوب حماية الدولة لهم من الاعتداء الخارجي، والدفاع عنهم، ووجوب إنقاذ أسراهم.
  2. حماية ضرورياتهم السّت، وحاجياتهم.. وعلى ذلك يجب توفير الحماية لنفوسهم، وأعراضهم وأموالهم، بل أكثر من ذلك، فإن الدولة يجب عليها حماية ما يعتبرونه مالا- مثل خمورهم، وخنازيرهم- مع أن ذلك لا يعتبر مالا، لو كان لدى المسلم؛ بل يجب إتلافه، بل لو قام مسلم بإتلاف خمورهم، وخنازيرهم، وجب عليه التعويض عند الحنفية().
  3. التعامل معهم بالعدل، وحمايتهم من الظلم بجميع أنواعه وأشكاله، لقوله صلى الله عليه وسلم “أَلاَ مَن ظَلَمَ مَعَاهدا، أو انتقَصَهُ حَقّه، أو كَلّفه فوقَ طَاقته، أو أخذَ منه شيئاً بِغَير ِطِيبِ نَفْسٍ منهُ، فَأَنَا حَجِيجُهُ يومَ القِيامَة”().
  4. تحقيق التكافل الاجتماعي لهم في حالة الفقر، والعجز والشيخوخة، فإذا أصبح المواطن غير المسلم فقيراً، أو عاجزاً أو شيخاً مُسِناً فإن الدولة لا تتركه يَتعرّض للاهانة والضياع، بل تُنصفه، وتَحميه، وتُقرر له العيش الكريم،  وليس هذا الحكم جديدا ومعاصرا، بل حدث ذلك في عصر أبي بكر الصديق رضي الله عنه، حيث كتب خالد بن الوليد لأهل الحِيرة بالعراق وكانوا نصارى ما نصه:” وجعلت لهم: أيُّما شيخ ضَعُفَ عن العمل، أو أصابته آفة من الآفات، أو كان غنيا فافتقر، وصار أهل دينه يَتصدّقون عليه طَرَحْت جِزيته، وعِيل من بيت مال المسلمين هو وعياله، ما أقام بدار الهجرة ودار الإسلام()، وروى أبويوسف وغيره أن عمر رضي الله عنه مرّ بباب قوم وعليه سائل يسأل، شيخ كبير ضرير البصر، فضرب عضده من خلفه، فقال: “من أيّ أهل الكتاب أنت؟ قال: يهودي، قال: فما ألجأك إلى ما أرى؟ قال: أسأل الجزية، والحاجة والسن، فأخذ عمر بيده فذهب به إلى منزله وأكرمه- بشيء، ثم أرسل إلى خازن بيت المال، فقال: انظر هذا وضرباءه، فوالله ما أنصفناه، إذ أكلنا شبيبته ثم نخذله عند الهرم…”().

وقد تكرر ذلك في عصر عمر بن عبدالعزيز، مما يمكن تسميته بالإجماع على أن الضمان الاجتماعي مبدأ عام يشمل أبناء المجتمع جميعا: مسلمين وغير مسلمين، فلا يجوز أن يبقى فيه إنسان محروما من ضروريات الحياة وحاجاتها() فقد نَصّ فقهاء الشافعية، على أن دفع الضرر عن المسلمين من فروض الكفاية، وأن ذلك يشمل أهل الذمة، حيث أن دفع الضرر عنهم واجب، وأن المراد بدفع الضرر هنا هو: تحقيق الكفاية، من المعيشة، والمسكن، والدواء، والغذاء، وليس ما يسُدُّ الرَّمَق على أصحّ القولين عندهم().

5) احترام عهودهم وعقودهم مع المسلمين: فقد ذكر أبو يوسف(ت182هـ) أن أبا عبيدة رضي الله عنه، صالحهم بالشام على شروط في مقابل أن يوفر لهم الأمن والحماية من الأعداء، وحدث أن الروم قد جمعوا جمعا كبيرا خاف أبو عبيدة ألا يكون قادرا على حمايتهم، فكتب إلى ولاته على المدن يأمرهم: أن يردوا على أهل المنطقة ما جُبِيَ منهم من الجزية والخراج، وأن يقولوا لهم: إنما رَدَدْنا عليكم أموالكم؛ لأنه قد بلغنا ما جمع لنا من الجموع، وأنكم قد اشترطتم علينا أن نمنعكم، وإنا لا نقدر على ذلك… وإنا لكم على الشرط، وما كتب بيننا وبينكم إن نصرنا الله عليهم..().

6) حماية حريتهم الدينية:، كتب عمر بن الخطاب إلى عمرو بن العاص ـ عامله على مصر ـ كتاباً جاء فيه “.. واعلم يا عمرو أن الله يراك ويرى عملك فإنه قال تبارك وتعالى في كتابه:” وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً[الفرقان:74]، يريد أن يقتدي بهم، وأن معك أهل ذمة وعهد، وقد أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم بهم وأوصى بالقبط، فقال: “استوصوا بالقبط خيراً فإن لهم ذمة ورحماً” ورحمهم أن أم إسماعيل منهم، وقد قال صلى الله عليه وسلم : “من ظلم معاهداً أو كلفه فوق طاقته فأنا خصمه يوم القيامة”() احذر يا عمرو أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم  لك خصماً فإنه من خاصمه خصمه، والله يا عمرو لقد ابتليت بولاية هذه الأمة، وآنست من نفسي ضعفاً، وانتشرت رَعيّتي ورَقَّ عَظْمي، فأسأل الله أن يَقبِضَني إليه غير مُفرِّطٍ، والله إني لأخشى لو مات جمل بأقصى عملك، ضياعاً أن أسأل عنه يوم القيامة().

7) حرية العمل والمعاملات والعقود والأنكحة حسب معتقدهم: إن القاعدة العامة أن أهل الذمة في المعاملات، وحرية العمل والاكتساب مثل المسلمين، إلا أن لهم التعامل في بعض المحرمات في ديننا، يقول الجصاص الحنفي “إن الذِّمِّيِّين في المعاملات والتجارات، كالبيوع وسائر التصرفات كالمسلمين()، وصرح الكاساني بذلك بقوله: “كلُّما جاز من بُيوع المسلمين جاز منه بيوع أهل الذمة، وما يبطل، أو يفسد من بيوع المسلمين يبطل ويفسد في بيوعهم إلا الخمر والخنزير().

8) تولّي وظائف الدولة: لأهل الذمة الحق في تولي وظائف الدولة إلا ما تغلب عليه الصبغة الدينية، أو ما يقتضيه دين الأغلبية()، ويبين الأستاذ الدكتور وهبة الزحيلي في موسوعة الفقه الإسلامي المعاصر منهج التعامل الإسلامي مع غير المسلمين في الآتي:

توفير حرية ممارسة مقتضيات عقائدهم، من مراسم، وشعائر، وطقوس في كنائسهم، واحترام عاداتهم وأعرافهم، واللجوء إلى مجالسهم الملية، في مسائل الأحوال الشخصية.

تركهم وما يدينون، ولهم مالنا وعليهم ما علينا، وترك جدالهم إلا بالتي هي أحسن.

إقامة جسر عملي في الحياة العملية، عن طريق مصاهرة المسلم أهل الكتاب، وأكل ذبائحهم، والأكل معهم، وموادتهم، ومجاملتهم في أفراحهم، وأحزانهم، وعيادة مرضاهم، والتعزية في موتاهم.

المساواة في تولي الوظائف العامة؛ فقد كان بعض غير المسلمين يشغلون وظائف إدارية وسياسية ومالية في الدولة الإسلامية، منذ عهد الخليفة عمر ابن الخطاب رضي الله عنه … وهذا يؤكد أن غير المسلمين متساوون مع غيرهم في حق المواطنة والتوظف والعمل والتملك.

احترام الكرامة الإنسانية، والأعراض، والحرمات، والأموال، وتحريم إيذاء غير المسلمين، والمواطنين لقول النبي صلى الله عليه وسلم: “مَن آذَى ذِمِّيًّا فَأَنَا خَصْمُهَ وَمَن كُنتُ خَصْمُهُ خَصَمْتُهُ يوم القيامة”()، وفي حديث آخر (أَلاَ مَن ظلمَ مُعَاهَداً أو انتقصه، أو كلفه فوقَ طاقته، أو أخذَ منه شيئاً بغير طِيبِ نفسٍ فَأنَا حَجِيجُهَ يوم القيامة)()().

الفرع الثالث: مشاركة غير المسلمين في أنشطة المجتمع المسلم:

في بداية الدعوة الإسلامية كانت المعايشة بين المسلمين وأهل الديانات الأخرى تقوم على التلقائية دون تعقيدات، وكان التداخل بين الناس بسيطا لا يخضع للقيود التي فرضتها الظروف الاستثنائية الطارئة. والتداخل بين أفراد المجتمع متاح بل كانوا يتبادلون الهدايا والمنافع كما يفعل الجيران في أي مجتمع. “لقد كان للرسول صلى الله عليه وسلم  جيران من أهل الكتاب. وظل يتعهدهم ببره، ويتبادل معهم الهدايا. حتى أن امرأة يهودية دست له السم في ذراع شاة أهدتها إليه، لما كان من عادته أن يتقبل هديتها ويحسن جوارها()، “ولما جاء نصارى الحبشة، أنزلهم رسول الله في المسجد، وقام بنفسه على ضيافتهم وخدمتهم، وكان مما قاله يومئذ: “إنّهم كانوا لأصحابنا مُكْرِمِين، فأُحِبُّ أنْ أُكْرِمَهم بنفسي”().

وجاء مرة وفد من نصارى نجران، فأنزلهم في المسجد وسمح لهم بإقامة صلاتهم فيه. فكانوا يصلون في جانب منه، ورسول الله والمسلمون يصلون في جانب آخر! وعلى هدي الرسول سار خلفاؤه من بعده. فإذا بنا نجد عمر بن الخطاب حين يدخل بيت المقدس فاتحاً يُجيب السكان المسيحيين إلى ما اشترطوه: من ألاّ يُساكنهم يهودي. وتحين صلاة العصر وهو في داخل كنيسة القدس الكبرى، فأبى أن يصلى فيها، كيلا يتخذها المسلمون من بعده ذريعة للمطالبة بها واتخاذها مسجدا.!” ونجد أمير المؤمنين وقد شكت إليه امرأة مسيحية من سكان مصر أن عمرو بن العاص قد أدخل دارها في المسجد كرها عنها. فيهتم خليفة المسلمين، ويسأل عمرا عن ذلك، فيخبره أن المسلمين كثروا، وأصبح المسجد يضيق بهم، وفي جواره دار هذه المرأة. وقد عرض عليها عمرو ثمن دارها، وبالغ في الثمن فلم ترض. مما اضطر معه عمرو إلى هدم دارها وإدخاله في المسجد، ووضع قيمة الدار في بيت المال، تأخذه متى شاءت. ومع أن هذا مما تبيحه القوانين المعاصرة، وهي حالة يُعذر فيها عمرو على ما صنع؛ فإن أمير المؤمنين لم يقبل ذلك، وأمر عمرا أن يهدم البناء الجديد من المسجد، ويعيد للمرأة المسيحية دارها كما كانت().

ومما يدهش له أن العصور الإسلامية الأولى، كان تعاملها متفوقاً على كثير من الدول، وبعض المجتمعات الإسلامية المعاصرة، مما يقتضي ذكر بعض النماذج التي تعاملت بها الدولة الإسلامية التاريخية، حتى يتبيَّن المُعاصرون كيف يكون التَّعامُل ليقتدوا بسلفهم الصالح في هذا المجال. “لقد بلغ المجتمع الإسلامي حدودا تفُوقُ التَّصوُّر، في توفير حرية الاعتقاد للآخرين، في العصور المبكرة من التاريخ الإسلامي- وهو ما ينكره الباحثون غير المنصفين، وما تضيق به للأسف صدور بعض الدعاة الإسلاميين في عالم اليوم- “لقد مد المسلمون تلك الميزة (حرية الاعتقاد) التي منحها الله لليهود والمسيحيين والصابئين في القرآن، حتى شملت الزرادشتيين، والهندوسيين، والبوذيين، والموالين للديانات الأخرى عندما اتصلوا بهم”(). كما اعترف للمجوس بأنهم أهل ذمة، منذ قبلت منهم الجزية على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي القرن الرابع الهجري كان لهم- كاليهود والنصارى- رئيس يمثلهم في قصر الخلافة ودار الحكومة().

واحترم الإسلام شرائع الملل الأخرى، حتى ولو تناقضت مع تعاليمه، كما هو معروف، في موضوع الخمر ولحم الخنزير، بالنسبة للمسيحيين. وامتد هذا الاحترام حتى شمل ممارسات المجوس، وهم ليسوا أهل كتاب. ففي المُغني لابن قدامة: أن مجوسيا تزوج ابنته، فأولدها بنتا، ثم مات عنها فكانت لها الثلثان مما ترك()، وهو الأمر الذي أثار حفيظة الخليفة عمر بن عبدالعزيز، فكتب إلى الحسن يسأله: ما بال من مضى من الأئمة قبلنا، أقروا المجوس على نكاح الأمهات والبنات. فكتب إليه الحسن قائلا: أما بعد، فإنما أنت متبع ولست بمبتدع يعني أن الرسول عاملهم كأهل ذمة، لهم شرائعهم الخاصة التي أُقِرُّوا عليها. وهو ما نفهمه من إشارة أبي عبيد صاحب “الأموال” إلى قول عبدالله بن عون: سألت الحسن البصري عن نيران المجوس، لم تركت؟ قال: على ذلك صُولِحوا().

وكان غير المسلمين يساهمون في الشئون العامة ويشتركون حتى في الحرب مع المسلمين. روى الخطيب البغدادي()، عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قاتل معه قوم من اليهود في بعض حروبه، فأسهم لهم مع المسلمين. وعندما أجاز الإمام الشافعي اشتراك أهل الذمة في جيوش المسلمين، استدل بأن الرسول صلى الله عليه وسلم استعان في غزوة خيبر بعدد من يهود بني قينقاع، واستعان في غزوة حنين بصفوان بن أمية وهو مشرك().

وفي الموقف من الكتب السابقة فإن موقف الإسلام هو التصديق والتصويب لبعض الانحرافات التي أُلحقت بها، بل واستصحاب بعض الأحكام التي تتماشي مع الواقع الجديد، وقد جاءت هذه المبادئ في عدة نقاط هي:

أولاً: إعلان وحدة الدين الإلهي.

ثانياً: وحدة المصير والحساب.

ثالثاً: وحدة الوحي الإلهي.

رابعاً: وحدة الإنسانية.

خامساً: وحدة المقاصد “الأصول الخمسة والكليات”

سادساً: وسطية الإسلام وكونه دين الفطرة واليسر والسماحة.

سابعاً: عدم التنافي والتعارض بين العالمية والتعايش الديني.

ثامناً: الجسور المشتركة مع أهل الكتاب.

تاسعاً: الحفاظ على الأمن والسلم الدوليين ” وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ” [الأنفال61].

عاشرا: ضرورة الاندماج المعيشي، والانفتاح الحضاري().

الفرع الرابع: المبادئ الإسلامية وصيانة العيش المشترك:

يتبين مما تقدم، أن منهج الشورى الذي تقوم وتتأسس عليه الدولة الإسلامية؛ يدير التنوع بصورة لا تتعارض مع روح المبادئ، التي عرفها الإنسان المعاصر، في حماية حقوق الإنسان، غير أن الفكر الإسلامي يحتاج إلى مراجعة كثير من المواقف، التي يستشهد بها دعاة القطيعة مع الآخر؛ لتوضيح ظروفها وأسبابها، حتى لا تتخذ أحكاماً عامة، لا تقبل التغيير مهما تغيرت الظروف والأحوال، وللوصول إلى الموقف الصحيح لابد من إيضاح عدة أشياء منها:

أولاً:   الاتفاق على حدود أطراف العلاقة وطبيعة الميزان الذي يحكمها، وكيفية ضبط الميزان بالصورة التي تُحقق مصلحة المجتمع في مجموعه. وإذا كان الفرض المطروح أمامنا، هو كونها علاقة بين أغلبية مسلمة وأقلية غير مسلمة، فما هو الإطار الذي تُصاغ به علاقة أي أغلبية بأي أقلية في المجتمع المعاصر.

ثانياً: إسقاط الشبهات التي تشوب التصور العام لموقف الإسلام من غير المسلمين، سواء جاءت تلك الشبهات عن طريق الدس والاختلاق، أو عن طريق القراءة غير الصحيحة للنصوص والوقائع التاريخية.

ثالثاً: إعادة النظر في بعض الاجتهادات الفقهية التي تعالج هذا الموضوع، وإسقاط ما لم يعد ملائما لظروفنا المعاصرة، أو ذلك الذي صدر في ظروف وملابسات خاصة في الماضي. ثم- من ناحية أخرى- تطوير ما يمكن العمل به من تلك الاجتهادات في ضوء القراءة المتفهمة للحاضر والمستقبل().

إن فقه العلاقة مع الآخر، الذي كتب في ظل أجواء الصراع والتوتر، ينبغي أن لا نسقطه على الحاضر، فلكل عصر ظروفه، ولكل حكم علّته، تلك الأحكام فرضتها الظروف التي كانت تحيط بالدولة الإسلامية. فعندما جاء الإسلام كانت قريش تسيطر على مكة سلطوياً، وعلى كل أرض الحجاز معنوياً، فقد اكتسبت مكانة في نفوس العرب لسدانتها للكعبة، وإشرافها على شئون البيت الحرام، وفي يثرب كان لليهود نفوذ على الأوس والخزرج، بسيطرتهم على التجارة، والصناعة، المتاحة في ذلك الزمان، وتفردهم بإتباع شريعة موسى، وكانت الإمبراطورية الرومانية والفارسية، تمثلان القوى العظمى في ذلك التاريخ، وكانت المفارقة أن الدعوة الجديدة استطاعت أن تهدم المفاهيم الجاهلية في جزيرة العرب، وتتهاوى أمام جحافلها الفاتحة معاقل الإمبراطوريتين، وبسطت سلطانها في أقل من قرن على مناطق نفوذهما.

    هذا النجاح أثار حفيظة المستفيدين من النظام العالمي القديم، بجاهليته وإمبراطورياته، فسعوا لاستئصال الدعوة منذ البداية، والقضاء عليها في مهدها: فأهل مكة ما تركوا وسيلة إلا واستعملوها ضد الإسلام والمسلمين، مثل: [التشكيك، والتشويه، والتهديد، والإغراء، والتعذيب، والقتل، والإبعاد، والحرب ] واليهود لم يراعوا عهود المواطنة، التي قام عليها المجتمع الجديد في المدينة، فغدروا بالمسلمين، وانتهكوا عرضهم، وتحالفوا مع أعدائهم، وحاولوا قتل النبي صلى الله عليه وسلم بالسم والغدر، والغربيون قادوا الحملة الصليبية، للقضاء على المسلمين، وعندما تمكنوا منهم في الأندلس انتقموا منهم فهدموا حضارتهم وأبادوا من تمكنوا منهم! تلك هي الخلفية التاريخية لصراع المسلمين مع الآخر.

 وبالبحث التاريخي المجرد؛ نجد أن الإسلام كان هو الضحية، والآخر هو المعتدي، فحروب المسلمين كانت دفاعية وليست هجومية، فالآخر عجز عن مواجهة الدعوة الجديدة بالحجة، فسعى لاستئصالها، والقضاء عليها قضاء مبرماً، وهكذا وُجِدت الظروف، التي تشكلت في ظلها ثقافة العلاقة مع الآخر، وهي ظروف استثنائية، بزوالها يعود الأصل لتنظيم العلاقة بالآخر، وهو [ عدم الإكراه، والتسامح، والوفاء بالعهد، والتعاون على البر]().

نحن مطالبون أن نلتزم بأحكام الإسلام القطعية، التي تُحَدِّد، أن أساس العلاقة يقوم على عدم الإكراه، والاحترام المتبادل، إتباعاً لتوجيه الآية القرآنية الكريمة:” لاَ  يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوَهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ [الممتحنة:8]. أقول هذا وفي ذهني ما وصل إليه الغرب من تطور في إدارة التنوع ؛ أبهر كثيرا من الناس في العصر الحديث، فالفارق هنا، هو أن الغرب توصل لهذا الأسلوب، بعد معاناة مع الصراع داخل المجتمعات الغربية. أما الإسلام فقد اعترف بالتعدد وشرَّع له كواقع ضروري في العلاقات الإنسانية، قبل أن تنشأ وتظهر عوامل الصراع. و”إذا كان الغرب قد توصل إلى الإيمان بالتعددية، كنظرية تعالج الاختلاف والتباين والتنوع داخل مجتمعاته، فإنه إنما توصل إليها بعد جهاد عنيف مع مفهوم الحق المطلق الذي تبنته الكنيسة، ولم تستطع التغلب على هذا المفهوم السائد إلا بعد طول زمان.

 فالتعددية لدى الغرب ما هي إلا فكرة مستحدثة، مكتسبة، فرضتها الحياة عليه()، أما بالنسبة للإسلام فالأمر مختلف تماما، إذ أن أصل فكرة التعددية نابعة أساسا من مصادر الإسلام الأصلية -القرآن والسنة فالتعددية في الإسلام منبعها الوحي لا التجربة، والشرع لا الضرورة. ولا يعارض ذلك أن كلمة التعددية، لم تذكر لا في مصادر الإسلام ولا في كتب فقهائه، فالكلمة لا جدال في أنها مستحدثة لكن جوهرها وأساسها وهو منهجية التعامل مع المخالف وإدارة مسألة التنوع والتباين لم يغفله القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة”()، “بل إن من يراجع القرآن الكريم والسنة وكتب الأقدمين والمعاصرين، يجدها ملأى بالحديث عن كثير من المبادئ والقيم والتوجيهات الخاصة بذلك.

 ويقوم التاريخ شاهداً على تنزيل هذه المبادئ والقيم إلى واقع ملموس، إذ ضم العالم الإسلامي في أراضيه على امتدادها وفساحتها، كمًّا هائلاً من الجنسيات والأعراق، واللغات، والمذاهب، والآراء، والمعتقدات والأديان، وتفاعلت فيما بينها وتلاقحت، وتحاورت، وتجادلت، وشاركت كلها في صنع الحضارة الإسلامية، في علومها وفنونها ونظمها ومؤسساتها المختلفة، وإن ظهرت فيما بينها بين الحين والآخر نزاعات وصراعات وحروب، فهي استثناء لا أصل”()،

وهنالك شهادات من بعض الكتاب الغربيين تؤكد هذا المعنى. يقول المؤرخ الفرنسي “جوستاف لوبون(): “رأينا من آي القرآن أن مسامحة محمد لليهود والنصارى كانت عظيمة إلى الغاية، وأنه لم يقل بمثلها مؤسسو الأديان التي ظهرت قبله كاليهودية والنصرانية على وجه الخصوص”()، ويقول “ول ديورانت”()، في موسوعته قصة الحضارة()، لقد كان أهل الذمة المسيحيون، والزرادشتيون، واليهود، والصابئون يستمتعون في عهد الخلافة الأموية بدرجة من التسامح لا نجد لها نظيرا في البلاد المسيحية في هذه الأيام، فلقد كانوا أحرارا في ممارسة شعائر دينهم، واحتفظوا بكنائسهم ومعابدهم”. ويقول: “وكان المسيحيون في بلاد آسيا الغربية، خارج حدود الجزيرة العربية، يمارسون شعائر دينهم بكامل حريتهم، وبقيت الكثرة الغالبة من أهل بلاد الشام مسيحيين حتى القرن السادس الإسلامي.

 ويحدثنا المؤرخون أنه كان في بلاد الإسلام، في عصر المأمون، أحد عشر ألف كنيسة، كما كان فيها عدد كبير من هياكل اليهود،  ومعابد النار، وكان المسيحيون أحرارا في الاحتفال بعيدهم علنا، والحجاج المسيحيون يأتون أفواجا آمنين لزيارة الأضرحة المسيحية في فلسطين. وأصبح المسيحيون الخارجون على كنيسة الدولة البيزنطية، الذين كانوا يلقون صورا من الاضطهاد على يد بطاركة القسطنطينية، وأورشليم، والإسكندرية، وأنطاكيا، أصبح هؤلاء الآن أحرارا آمنين تحت حكم المسلمين()، بل امتد منهج الإسلام للتعامل مع الآخر الذي تفصل بينه وبينه المسافات، مادام مسالما، واستطاع المسلمون أن ينقلون تجربتهم في التعامل مع التنوع إلى الغرب، من خلال تواصلهم مع الغرب، عبر نقاط التماس التي جمعتهم، وهنالك منصفون غربيون اعترفوا بفضل الإسلام على الغرب.

ويعد خطاب الأمير تشارلز ولي العهد البريطاني في هذا المضمار من أرقى وأنضج الخطابات الصادرة من الغرب، فقد قال كلمة ألقاها في مركز أكسفورد للدراسات الإسلامية عام 1993م جاء فيها: “إذا كان الغرب يُسيء فهم طبيعة الإسلام، فمازال هناك جهل كبير حول ما تَدين به حضارتنا وثقافتنا للعالم الإسلامي، إنه نقص نعانيه من دروس التاريخ الضيق الأفق، الذي ورثناه، فالعالم الإسلامي في القرون الوسطى إلى شاطئ الأطلسي، كان يعج بالعلماء ورجال العلم، ولكن بما أننا رأينا في الإسلام عدوا للغرب، وكثقافة غريبة بنظام حياتها ومجتمعها، فقد تجاهلنا تأثيره الكبير على تاريخنا. لم يعد باستطاعة العالمين الإسلامي والغربي البقاء بعيدين عن بعضهما البعض، وعدم الاشتراك في جهد مشترك لحل مشاكلهما المشتركة. إننا لا نستطيع العودة إلى الخلافات والتحديات الإقليمية، والسياسية الماضية. يجب أن نساهم معا في خبراتنا، وأن نشرح أمورنا كل للآخر، لنتفهم ونتسامح ونتحمل معا().

فلم يعرف الإسلام يوما ما العنصرية، والتمييز بين البشر على أساس الدين والمعتقد، أو الشكل واللون، أو القبيلة والعشيرة أو اللغة واللهجة، وذلك على قاعدة الأصل الواحد لبني آدم وأن اختلاف للتعارف وليس للتفاضل ، ومبدأ “إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا أسود على أحمر إلا بالتقوى()، “إنَّ الله قَدْ أَذْهَبَ عَنكُم عُبِيَّة الجَاهِليَّة وفَخْرَها بالآباء، مؤمنٌ تقي، وفاجر شَقِيّ، أَنتُم بنو آدم وآدم من تراب. ليَدَعَنَّ رجال فَخْرَهُم بِأقْوَام، إنَّما هُم فَحَمٌ من فحم جهنم، أو ليَكُونُنَّ أَهْوَنُ على الله من الجعلان()، “وإذا كان هذا هو الجانب النظري في تاريخ الحضارة الإسلامية، فإن الجانب العملي يسير في كنفه لا يفارقه أو يبتعد عنه، اللهم إلا في القليل النادر أو الشاذ الضئيل، ولا يكون هذا سوى في فترات انحدار الأمة وبعدها عن المنهج القويم”().

المبحث الثالث

الديمقراطية ومنهجها في إدارة التنوع

وفيه مطلبان:

المطلب الأول: سمات وخصائص الديمقراطية

المطلب الثاني: الممارسة الديمقراطية

المطلب الأول

سمات وخصائص الديمقراطية

المبادئ الرئيسية لنظام الحكم الديمقراطي، مقارنة بغيره من نظم الحكم الشمولية والأوتوقراطية والثيوقراطية والفردية، هو أولا: مبدأ أن لا سيادة لفرد ولا قلة من الناس على الشعب، والشعب هو مصدر السلطات، وذلك باعتبار أن ممارسة السلطة تتم بإرادة بشرية.. والمبدأ الثاني لنظام الحكم الديمقراطي هو مبدأ المواطنة والمساواة السياسية والقانونية على الأقل بين المواطنين بصرف النظر عن الدين أو العرق أو المذهب أو الجنس أو غير ذلك من أسباب التمييز بين المواطنين من حيث المبدأ. المواطنة هي وحدها مصدر الحقوق ومناط الواجبات ().

إن المبادئ الرئيسية لنظام الحكم الديمقراطي تتمثل في:

لا سيادة لفرد أو أقلية، بل الشعب مصدر السلطات؛

مبدأ المواطنة والمساواة السياسية والقانونية بين المواطنين؛

ضمان الحريات العامة.

سيطرة أحكام القانون.

استقلال القضاء.

عدم الجمع بين السلطات أو تركيزها.

التداول السلمي للسلطة بصورة دورية، وفق انتخابات حرة ونزيهة ().

فالديمقراطية تفترض وَعْيَ الشعب واحترامه لنتائج الممارسة الديمقراطية، لأن من أبرز سمات الديمقراطية، هو نسبيتها، والديمقراطية كأية ظاهرة إن هي ادعت الكمال، تحولت حكما إلى دكتاتورية، وأصبحت عاجزة عن تحقيق تطورها وتقدمها، وإغناء جوهرها الإنساني، والديمقراطي الذي يعتقد بأن الذي حققه من نصر، هو خاتمة المطاف، لا يعتبر ديمقراطيا حقيقيا. إن الديمقراطي الحقيقي، هو الذي يؤمن بأن الديمقراطية، هي تحقيق دائم لتوازن القوى في المجتمع. وإن الذين يطالبون بديمقراطية غير مشروطة، إنما يطالبون بتشويه الديمقراطية نفسها وتحويلها إلى فوضى ()، يتضح مما سبق أن الديمقراطية لا تدَّعي أنها بنفسها قادرة على تحقيق العدالة والحرية والمساواة، وإنما هي قيم ومبادئ وآليات، إذا وَعِيَها الإنسان، وطبقها على نفسه، وعلى الآخرين؛ فإنّ نَتائجها ستكون طيبة، وإذا غابت قِيَمُها عن وَعْيِ الإنسان ولم يلتزم بتطبيقها؛ فإنها لن تحقق أهدافها.

إن الديمقراطية “ظاهرة” غير مطلقة العدالة في جوهرها، أي تحمل في داخلها بعض عناصر الاستبداد، فطالما هي نسبية، فنسبيتها تؤكد عنصر الاستبداد فيها، إلا أنها تظل مع ذلك خير نظام إنساني عرفته البشرية()، فالديمقراطية لا تعني الحرية المطلقة، التي لا تراعي حقوق الآخرين، ولا تقر الفوضى، فهي تضع شروطا وقواعد للممارسة، وبالمقارنة بينها وبين التجارب البشرية الأخرى فإنها تنال صفة الأفضلية؛ لإتاحتها المشاركة لكل الآراء، ولضمانها للحريات الأساسية، والفصل بين السلطات الثلاثة يضمن عدم إساءة استغلال السلطة في ظلها.

المطلب الثاني

الممارسة الديمقراطية

الفرع الأول: الديمقراطية في أثينا:

 الديمقراطية في حدودها العامة، هي تجسيد عملي لشكل من أشكال الوعي البشري، تحمل في جوهرها مفاهيم وقيماً إنسانية، تتمثل في الحرية، والعدالة، والمساواة. وهي بكل ما تحمله من هذه القيم تبقى نسبية، ولن تحقق الكمال، هدفها الدائم، عبر سيرورتها وصيرورتها التَّارِيخِيَّيْن، إيجاد حالة من التوازنات الطبقية، لتحقيق مجتمع تسوده العدالة والمساواة، أدواتها تتبدل دائما عبر التاريخ، بناء على تبدل وتطور صيغها ومعطياتها، إلا أن أرقى أدواتها وأكثرها تطورا، هو الشعب وإرادته. ولكون الديمقراطية هي التي تضمن سيادة “القانون” هي المرحلة التي تحقق فيها الديمقراطية “حكم الشعب” هذا الحكم الذي يمنح الشعب مجموع حرياته، مثل حرية النشر والقول والمعتقد والتجمع وإدارة شؤون الدولة الخ…، مع المراعاة – في ذلك كله- لطبيعة الخصائص التاريخية للمرحلة المحددة ().

التطبيقات الديمقراطية ليست على نمط واحد، فالتجربة الديمقراطية في أثينا لها ظروفها، فبلاد الإغريق من أكثر مناطق أوروبا جبالا وأقلها سهولا وأنهارا صالحة للملاحة، لذلك فقد أسهمت هذه الطبيعة في تقسيم أراضي مختلف المقاطعات المأهولة بالسكان، إلى وديان ضيقة تحيط بها الجبال إحاطة السوار بالمعصم، جاعلة الاتصال فيما بين مناطقها شاقا وعسيرا، بحيث لم تترك إلا مخرجاً واحداً هو الساحل.

        هذه الطبيعة الجَبلِيّة، وقفت حجر عثرة أمام توحيد مدن الإغريق المتناثرة تحت راية حكم واحد، بل أدت في الحقيقة إلى تشكل أنظمة عديدة، عرفت ب “دول المدن”.. وإذا كانت طبيعة إنتاج الخيرات المادية والروحية، وطريقة توزيعها واستهلاكها، هي الأساس الأوَّلي الذي يحدد طبيعة السلطة، فنحن نستطيع القول هنا بأن طبيعة الظروف الجغرافية عند الإغريق، إلى جانب طبيعة إنتاج الخيرات المادية والروحية، لعبت دوراً هاماً ومتميزاً في تحديد طبيعة العلاقات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والفكرية آنذاك ().

 نشأ النظام الديمقراطي في ظل هذا الواقع عقب نظم حكم ملكية واستبدادية، وكانت أجهزة الحكم تتمثل في هيئة حاكمة منتخبة “الجمعية” تعقد جلساتها أربع مرات في كل شهر، وكل التشريعات الجديدة، كانت تعرض في الجلسة الأولى من كل شهر، وكان العضو الذي يقترح أي قانون هو الذي يعمل على قبوله، وإذا أثبتت التجربة أن هذا القانون عديم الجدوى، تفرض عقوبة بحق مقترحه ويدفع غرامة أو يحرم من حقوقه السياسية أو يعدم ().

وكانت هناك هيئة أخرى أكثر منزلة من الجمعية إلا أنها أقل سلطانا، وهي مجلس الـ “بول” كان أعضاؤه يختارون بالقرعة بالدور ويختار له خمسين عضوا من كل قبيلة من القبائل، ومدة الخدمة فيه سنة واحدة، وجلساته كانت علنية، واختصاصاته تشريعية وتنفيذية واستشارية، وأما مهامه فهي فحص مشروعات القوانين المعروضة على الجمعية وتعديل صياغتها، كما يشرف على أعمال موظفي المدينة والدينيين، ويراقب حساباتهم، ويشرف على الأموال والمشروعات والمباني العامة ويصدر المراسيم التنفيذية حين يتطلب العمل إصدارها، كما كان يسيطر على شؤون الدولة الخارجية().

الفرع الثاني: الديمقراطية الرأسمالية:

إن الديمقراطية الأثينية كانت في سياقها العام شكلا من أشكال الديمقراطية الأرستقراطية

        الديمقراطية في النظام الرأسمالي: على الرغم من أن المجتمعات البشرية قد مارست عبر تاريخها، صيغا متعددة من أنظمة الحكم التي عبرت بهذا الشكل أو ذاك عن بعض مفاهيم الديمقراطية. إلا أن الديمقراطية في صيغتها المتطورة، بقيت في الحقيقة مرتبطة حتى الآن بقيام الثورة البرجوازية، هذه الثورة التي أفرزت عند قيامها العديد من الشعارات ذات المضمون الديمقراطي، مثل التمثيل البرلماني، وحرية النشاط السياسي، وحرية الفكر والصحافة، وسيادة دولة القانون.. الخ إلا أن هذه الشعارات من حيث المبدأ العام لم ترتبط بالطبقة البرجوازية كطبقة مجردة، بل هي نتاج جملة التحولات الموضوعية والذاتية التي ارتبطت بها هذه الطبقة، كما أنها لا ترتبط بإنتاج محدد فقط، أي مرحلة الإنتاج الرأسمالي، وإنما مرحلة الإنتاج الرأسمالي التي حددت هذه الصيغة المتطورة من الديمقراطية، من هذه الرؤية المبسطة والموجزة، سنحاول الآن أن نتعرف على مفهوم الديمقراطية في كل من النظام الرأسمالي أولا أي الديمقراطية البرجوازية، ثم في النظام الاشتراكي ثانيا، أو ما يمكن أن نسميه ب”الديمقراطية الاشتراكية().

        لقد احتكرت البرجوازية في يدها جميع وسائل العيش وبأوسع أشكاله ومعانيه، فكل ما يحتاجه العامل لا يمكنه تحقيقه إلا عن طريق البرجوازي .. ومن هنا أصبح العامل عبدا للبرجوازي؛ قانونياً وعملياً، فهو الذي يعرض عليه وسائل العيش والبقاء، ولكن مقابل معادل لذلك، وهو جهد العامل نفسه. فالبرجوازي يوهم العامل أنه يعقد معه العقد بحرية، عقد بدون أي إكراه، مثل أي إنسان مستقل().

ضمن هذه الأجواء المليئة بالقهر والظلم والاستلاب، نمت وترعرعت المزاعم البرجوازية عن الديمقراطية، مدعية أن مجتمعاتها هي المجتمعات الأكثر إنسانية حيث استطاعت أن تحقق على أرض الواقع كلا من الحرية والعدالة والمساواة. موهمة العالم كله بأنها هي رائدة وحاملة القيم الديمقراطية بأحلى أشكالها وأبهى صورها().

إن الديمقراطية التي نادت بها الطبقة البرجوازية في بدء ثورتها التقدمية، قامت هي نفسها بتفريغها من مضمونها السياسي، وعملت على دفعها إلى أقصى حد في جانبها الاقتصادي والاجتماعي. إن الديمقراطية البرجوازية راحت تتمثل حقيقة في تلك المقولة الشهيرة “يسمح للمظلومين مرة واحدة في كل عدة سنوات بأن يقرروا من بالذات مَنْ مِنْ ممثلي الطبقة الظالمة سيمثلهم ويقمعهم في البرلمان(). عليه فإن التجربة الديمقراطية في أثينا قامت محكومة بالظروف المذكورة فضلا عن الوضع الاجتماعي القائم على الطبقية ومع ذلك استطاعت أن تحقق نظاما فيه ممارسة انتخابية رائدة في عصرها، مع فصل بين السلطات، بالرغم من تحكم رجال المال والطبقات المهيمنة.

الفرع الثالث: الديمقراطية الاشتراكية:

        إذا كانت الطبقة الرأسمالية، تحاول أن توهم الناس بديمقراطيتها، عن طريق الإعلان والكرنفالات الانتخابية، وتضخيم شتى أنواع الحريات والحقوق، بينما عمليا نجدها، لا تسمح بممارسة الديمقراطية، إلا لمن امتلك رأس المال، فإن أصحاب الديمقراطية الاشتراكية في الواقع يقومون على نقل مركز الثقل في ممارسة الديمقراطية إلى الجماهير الكادحة بالذات…وغايتها في ذلك طبعا، هو تحرير هذه الجماهير من الظلم، والجهل، وكل علاقات التخلف، التي تعرقل حركتها وتقدمها، فهذا “لينين”. على سبيل المثال، كأول ممارس عملي لمفهوم “الديمقراطية الاشتراكية”؛ أو ما تسمى عادة ب”ديكتاتورية البروليتاريا”، يحدد في كتابه “مشروع برنامج حزبنا”. التصورات التي يجب أن تطبق في مجال التحولات الديمقراطية، حيث يطالب بـ:

الحق الانتخابي العام.

التعليم المدني والمجاني والإلزامي.

حرمة شخصية وسكن للمواطنين.

حرية الاعتقاد والاجتماع والكلام.

حرية الانتقال والعمل.

المساواة التامة في الحقوق بين جميع المواطنين.

إعادة النظر في جميع القوانين المدنية والجزائية، وإلغاء العقوبات التي لا تتفق مع كرامة الإنسان.

 إقامة المساواة التامة بين الرجل والمرأة في الحقوق والواجبات().

 إن الديمقراطية الاشتراكية، حسب هذه المعطيات، تبدو لنا بأنها صيغة من صيغ الحكم، يمكن عبرها تحقيق جملة من الشروط المادية والروحية الكفيلة بسعادة الإنسان وسبل إبداعه، أوهي النظام الذي يشعر الإنسان من خلاله بأنه استطاع أن يحقق عودته من غربته [التي ضاع فيها مئات السنين، في القهر والظلم والعذاب] إلى إنسانيته، أي العودة من استلاب الذات الإنسانية().

الفصل الرابع

التنوع في السودان نموذجاً

وفيه ثلاثة مباحث:

المبحث الأول : التنوع في المجتمع السوداني

المبحث الثاني: إدارة التنوع في التركية والمهدية والاستعمار الثنائي

المبحث الثالث: ممارسات الشورى في السودان وإدارة التنوع

المبحث الأول

التنوع في المجتمع السوداني

وفيه مطلبان:

المطلب الأول: مكونات المجتمع السوداني

المطلب الثاني: المجتمع الأهلي نموذجاً

المطلب الأول

مكونات المجتمع السوداني

الفرع الأول: الأصل الواحد لبني البشر:

ثبت علمياًّ أن البشر ينحدرون من أصل واحد؛ ويتشابهون في قدراتهم العقلية والجسمانية والروحية، وقد تكوَّنت ملامحهم العرقية نتيجة الملاءمة التي استغرقت زمناً طويلاً بين الكائن الإنساني وبين الظروف الطبيعية المعاكسة().

وهذا ما نشاهده في تنوع الألوان، واختلاف الأحجام، وتعدد السحنات، وتباين القسمات؛ من شعب إلى آخر، بل ومن إنسان إلى آخر، ومع ذلك فإن ما يجمع بينهم أكثر مما يفرق؛ وهذا ما أكده الإسلام من أنّ الأصل الإنساني واحد؛ يعود إلى آدم، وآدم من تراب. قال تعالى:” يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً” [النساء:1].

والحق أن من جملة ما يُمَيِّزُ الإنسان، أنه كائن سريع التَّأقلُم والتّكَيُّف، فهو كائن اجتماعي يعيش ويتعايش، ويبحث أينما كان عن أضرابه وأشباهه من بني جنسه؛ فأينما كان الإنسان كان الاجتماع البشري، والتعارف بين الأسر الصغيرة، والعائلات الكبرى حتى يصل مستوى التعارف بين الإنسان والآخر إلى أعلى مراحله، وأرقى مستوياته بين الدول بعضها مع بعض().

وما ذهب إليه العلماء من تقرير حقيقة أن الإنسان مدني بطبعه؛ يؤكد الطبيعة الاجتماعية للإنسان. أي أنه خلق ليأنس بشبيهه، ويعيش في نظام اجتماعي، يتبادل مع بني جنسه المنافع.

ويرى ساطع الحصري() أن الناس تعتقد عادة أن كل أمة تنحدر من أصل واحد() ولكن هذا الاعتقاد لا يستند إلى أساس صحيح؛ لأنه لا توجد على الأرض أمة خالصة الدم، لأن وحدة الأصل والدم من الأوهام التي استولت على العقول بلا أساس().

        ولقد أدى استمرار عملية تمازج الشعوب والقبائل، إلى انعدام صفاء دم أي شعب أو قبيلة، واختلاف الشعوب في التفكير، وفهم حقيقة الأمور ليس مرجعه اختلاف الجنس، وإنما مرجعه اختلاف الظروف الاقتصادية والاجتماعية والموقع الجغرافي لكل شعب(). وأيضا المكوِّن الثقافي والفكري، والمرجعية العَقَديّة، لكل شعب، هذه العوامل لها تأثير كبير في اتجاهات التفكير عند الإنسان.

وإذا كان التاريخ لا يعني فقط المجرى الزمني للحدث الاجتماعي على الصعيد البشري، وإنما يعني كذلك التحديد الاجتماعي لكل مرحلة من مراحل التطور؛ فإن رفض فكرة العِرْقِيَّة، يُصبح أمراً لا مَناصَ منه، على صعيد البحث العلمي؛ بل ويعتبر الحديث عن الجذور العرقية، لا صلة له بالدراسة المنهجية على الإطلاق().

ولقد بين الله سبحانه وتعالى في أكثر من آية في القرآن الكريم؛ أن الناس يرجعون إلى أصلٍ واحدٍ،أبوهم آدم وأمهم حواء.

الفرع الثاني: الأصول العرقية التي يتكون منها المجتمع السوداني:

أثبتت الدراسات العرقية والاكتشافات الأثرية؛ أن هناك ثلاث سلالات بشرية عاشت منذ القدم في السودان، وهي: “الأفارقة والحاميون والساميون” وقد عمر الأفارقة الأجزاء الجنوبية والغربية وتفاعلوا مع سكان المنطقة الشمالية والشرقية، ومن الممثلين لهذه السلالة القبائل السودانية التي تسكن دارفور وجنوب السودان، والنوبة في كردفان، والنيليون الحاليون في جنوب السودان، وكان رواد هذه القبائل من سكان منطقة الخرطوم وأنهم بصناعتهم الفخار قد وضعوا اللبنة الأولى للحضارة السودانية()، إن دراسة تاريخ السودان من منطلق عرقي؛ تواجدت في العصور الوسطى وبداية العصور الحديثة، من خلال التركيز على إبراز الدور الإسلامي والثقافة العربية والأثر الديني والحضاري على الشعوب والقبائل الأفريقية السابقة عليه، رغم أنها لم تكن منعدمة الاختلاط والامتزاج به قبل الهجرة المصاحبة للإسلام().

        ويرى “هنري بريستد” الباحث في شئون وادي النيل أن أقواما ساميّة أتت إلى هذا الوادي من غرب آسيا وعمّت فيه لغتهم وصبغوه بصبغتهم حتى أصبحت العلاقات بين كل الشعوب الواقعة في نطاقه؛ -خاصة مصر والسودان- وثيقة للغاية بل إن هذه العلاقات وصلت إلى درجة الوحدة السياسية والدينية والاقتصادية أحياناً().

        وتؤكد آراء كثير من الباحثين السودانيين على نفي فكرة النقاء العنصري في الواقع السوداني، فيرى الأستاذ الدكتور يوسف فضل حسن؛ أن السودان يتسم بتعدد ثقافاته، ويتكون من شعب هجين لم تكتمل له عناصر الوحدة الوطنية، ولم تتجانس أجزاؤه بعد، وأن عناصره المختلفة متداخلة، وأنها في سبيلها إلى الانصهار().

        ويقرر مدثر عبدالرحيم: أن العروبة تمتزج بالأفريقية في الأقاليم الشمالية من السودان بالذات؛ امتزاجاً تاماً يستحيل التمييز بينهما نظرياًّ، فيشعر السكان أنهم عرب وأفريقيون في آن واحد().

فالسودانيون اجتمعت فيهم الدماء الأفريقية والعربية والقبطية والتركية وغيرها، هذه الخلطة جعلتهم مستودع ثقافات وأعراق، فصاروا بحكم تكوينهم قابلين للتسامح، ومتميزين بصفات شهد بها كثير من الذين عاشروهم واختلطوا بهم.

وغلبت على هذا الامتزاج صفتان: انتشار الإسلام دينا وانتشار اللغة العربية لسان عبادة ومخاطبة عامة. هكذا أسلم السودان واستعرب. وعروبة أهل السودان ظهرت عليها في الحاضرة ملامح نوبية، وفي البادية ملامح بجاوية ولكنها في كل حال احتفظت إلى حد مدهش بعروبتها. ولم يكن هذا الانتشار بتوجيه من سلطة مركزية بل جرى نتيجة عوامل اجتماعية وتاريخية معينة استمر مندفعا قرونا بعد قرون بحيوية ذاتية متوقدة.

لقد حالت عوامل جغرافية دون وقوع الاتصال والاختلاط البشري المذكور بجنوب السودان، فعبر البَر حالت دونه غابات وجبال؛ وعندما توفرت الوسائل التي ذللت العقبات الجغرافية الحائلة دون الاتصال؛ تدخلت عوامل سياسية وإدارية لتعزل إقليم السودان الجنوبي؛ فالإدارة البريطانية التي حكمت السودان؛ جعلت جنوب السودان منطقة مقفولة، وطبقت عليها ما سمته سياسة جنوب السودان، وهي سياسة من أهدافها أن تحافظ على تراث الجنوب القبلي، وثقافته الموروثة، من المؤثرات الإسلامية والعربية، وأن تسلط عليه التبشير المسيحي وحده، وتجعله يتخذ الانجليزية لغة تفاهم عام؛ على نحو ما فعلوا في أفريقيا الاستوائية().

        اشتهر السودان بتعدد مجموعاته الإثنية التي قد تصل إلى خمسين مجموعة عرقية يمكن تصنيفها على الوجه التالي:-

أولا: المجموعة العرقية المسلمة وتنقسم إلى نوعين هما:

مجموعات تعود أصولها إلى التزاوج بين سكان البلاد الأفارقة الأصليين والمهاجرين العرب الذين بدأوا الانتشار في البلاد منذ القرن السابع الميلادي. وتم انصهار أعضاء هذه المجموعة في الثقافة العربية الإسلامية حيث أصبحت اللغة العربية اللغة الوحيدة التي يتحدثون بها. وأبرز من يمثلهم الجعليون، الكواهلة، الشايقية، البقارة().

مجموعات اعتنقت الإسلام واحتفظت بلغاتها الأصلية، مع تحديد هويتها بالثقافة العربية الإسلامية؛ لارتباطها الوثيق بالإسلام، وذلك مثل: البجا في شرق السودان، والفور والمساليت والزغاوة في غرب السودان، والنوبة في شمال السودان، ومجموعات من قبائل غرب أفريقيا، مثل: الفولاني، والهوسا، الذين ينتشرون في كل أنحاء السودان، والفونج في جنوب النيل الأزرق.

ثانياً: المجموعات العرقية غير المسلمة: المجموعات العرقية التي لم تعتق الإسلام إذ استثنينا بعض قبائل جنوب السودان؛ فإن الانقسنا والأودوك في جنوب النيل الأزرق والنوبة الذين يسكنون في جنوب كردفان() من القبائل التي لم تعتنق غالبيتها الإسلام.

الفرع الثالث: التنوع الديني في السودان:

كان لوقوع السودان في أطراف منطقة الديانات القديمة في الشرق الأوسط ووادي الرافدين ومصر؛ أثر في حياة أهل السودان الروحية، وكان السودان معروفاً لدى شعوب الشرق الأوسط منذ أقدم العصور ويدل على ذلك (الإشارة التي وردت في التوراة إلى كوش) وهي الاسم الذي عرف به السودان لقرون طويلة قبل الميلاد، وهو منسوب إلى كوش بن نوح عليه السلام().

وفي ذلك العهد الكوشي لعب الملك شبكة الذي أعقب بعانخي دوراً بارزاً في توحيد النوبة ومصر، وأسس الأسرة الخامسة والعشرين المعروفة بالكوشية، حوالي 715 ق.م وساند الملك شبكة الملك العبري “حزقياً” ضد الملك الأشوري “سنجريب” وتمكن الأمير “تهراقا” من صده عن بيت المقدس رغم أن الأشوريين هزموا اليهود والكوشيين في نهاية المطاف وأجلوهم عن مصر(). هذا يدل على اتصال أهل السودان بالديانات الشرقية().

كان السودان موطن إمارات متعددة وديانات مماثلة للأديان الأفريقية المحلية. تماثلها من ناحية تأليه القوى الطبيعية، وتأليه الأجداد، والرمز للقوى الإلهية عن طريق الأوثان، وتقديس بعض البقاع والأشياء والأفراد. واتخاذ بعض الأفراد وسطاء بين الآلهة والبشر، والإيمان بوجود قوة سحرية يمكن تسخيرها عن طريق السحرة لقضاء الأغراض والكيد للخصوم.

ومع أن كثيراً من تلك الديانات تؤمن بإله واحد مهيمن على كل شيء؛ فإن ذلك الاعتقاد بعيد من توجيه الحياة الدينية الخاضعة عمليّاً لعقائد التعدد والرمزية، والسحر. تلك هي الخلفية الأفريقية للديانة في السودان.

وبالإضافة لتلك العوامل تأثرت البيئة السودانية. وفي الشمال خاصة، بالحضارة، والثقافة، والديانة الفرعونية. لقد كانت العلاقة بين شمال السودان وجنوب مصر في التاريخ الفرعوني القديم علاقة اتحاد حينا ومغالبة حينا آخر.

وفي أواسط القرن السادس الميلادي دخلت المسيحية اليعقوبية السودان الشمالي، وكان ذلك عند بدء الخلاف حول طبيعة المسيح في الإمبراطورية البيزنطية، وانقسمت المسيحية إلى ملكانيين برئاسة الملك جستنيان، وموحدين برئاسة يعقوب البردعي المصري؛ حيث استطاع وفد اليعقوبي المدعوم من قبل الملكة ثيودورا أن يصل إلى نوباتيا؛ وهي مملكة المقرة وعاصمتها دنقلا، وإلى مملكة علوة وعاصمتها سوبا، إلا أن وفد الإمبراطور جستنيان اتصل بمملكة المقرة فأصبحت هذه الممالك مسيحية؛ حيث نجد أن مملكة نوباتيا وعلوة تبعتا للقسطنطينية مباشرة(ونتيجة لذلك ارتبطت المسيحية في السودان بالأسر الحاكمة وصارت لصيقة لمؤسسات الحكم)()، وقامت في السودان ثلاث مملكات مسيحية أهمها اثنتان هما: المقرة وعاصمتها دنقلا وعلوة وعاصمتها سوبا.

ويدل وجود آثار مسيحية قديمة في غرب السودان على دخول المسيحية هناك، ولكن معرفة تاريخ تلك المنطقة في تلك الفترة تفتقر إلى مزيد من البحث والدراسة.

لقد كانت المسيحية السودانية متأثرة بالبيئة الأفريقية شبيهة الهوية بالكنيسة الأثيوبية المشاهدة اليوم. وتعاقبت على الدولة السودانية عدة حقب أشهرها: حقبة كرمة والتي اتصفت بالتميز الحضاري، وحقبة مروي التي اتصفت بالتفرد الحضاري، والحقبة المسيحية التي صمدت في وجه الغزو، وحقبة الولايات الإسلامية الخمس: الفور، والفونج، وتقلي، والمسبعات، والكنوز. وحقبة الدولة الإسلامية الواحدة التي تشكلت في حقبة المهدية().

أدى ظهور الإسلام في الجزيرة العربية إلى انتشاره في المناطق المجاورة، كما أن دخول الإسلام إلى مصر أدى بدوره إلى انتشار الإسلام في بلاد السودان جنوب مصر. وساعد في ذلك هجمات النوبة على صعيد مصر، مما جعل عمرو ابن العاص يوجه حملة إلى بلاد السودان عام 646م وتلتها حملة أخرى اشتبك فيها النوبة مع حملة عبدالله بن سعد بن أبي السرح؛ حول دنقلا سنة 652م وانتهت بمعاهدة أو اتفاقية البقط المشهورة في 652م وهذه الهدنة أتاحت للمسلمين فترة ذهاب وإياب إلى بلاد النوبة، وبعضهم اشترى أرضا وعاشوا بين السكان الأصليين وخالطوهم، وقد زار الرحالة الفاطمي ابن سليم الأسواني تلك المنطقة ووجد أن كثيرا منهم قد اختلطوا بالنوبة، لدرجة أن عددا منهم نسوا اللسان العربي().

لقد دخل الإسلام السودان في عهد الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وانشر في ربوعه بالوسائل الشعبية التي كان يقوم بها الدعاة وشيوخ الطرق الصوفية، وتكونت طرق صوفية وجماعات دينية تمثل معظم المدارس الإسلامية، وهكذا صار السودان معروفا بالتنوع الديني والمذهبي والثقافي والاجتماعي؛ وتسود مجتمعه الروح السودانية الميالة للتسامح والنافرة من العنف، ومظاهر العنف الطائفي التي ظهرت في بعض الأحيان وبصورة أوضح في الفترة الأخيرة ترجع إلى الأفكار الوافدة والأساليب المنقولة من بيئات أخرى لا تشبه السودان في تسامحه وتعايش أهله السلمي.

المطلب الثاني

المجتمع الأهلي نموذجاً

الفرع الأول: التداخل بين القبائل السودانية:

إن هجرات القبائل العربية منذ أقدم العصور صوب السودان وأفريقيا، وتمازجها وتزاوجها مع من وجدتهم من قبائل وأقوام؛ جعل التعايش بين القبائل المكونة لأهل السودان نموذجاً رائعاً لما حدث بينها من أواصر الإخاء والتداخل والمصاهرة في كل أنحاء السودان، وخلال الحقب التاريخية كلها حيث تلاقحت البطون وتداخلت الأفخاذ وتمازجت في تناغم فريد، صار إثره الفرد السوداني مشحوناً بأفضل معاني الإخاء والمحبة والتعاون، والاستجابة للنجدة والنصرة، في إقدام يدفعه إليه إحساسه بصدق الانتماء لهذا المجتمع؛ الذي صاغت ظروف التداخل والتزاوج والتمازج شخصيته صياغة نادرة، رغم تنوع الجذور والأعراق؛ فصار التعدد عطاءً يعكس صدق التمازج عبر الأزمان والحقب التاريخية المتعاقبة، فقد امتزجت الدماء وتداخلت الأرحام وذابت الفوارق بين وافد ومن كان منشأه منذ فجر التاريخ هذه الأرض الطيبة()، ونلاحظ ذلك في كثير من العادات والأعراف والتقاليد السودانية المتمثلة في “الضرا” و”الفزع” و”الجودية” و”النفير”()، وفي التزاوج والتداخل والمصاهرة بين كافة القبائل السودانية دون حرج مما جعل الإنسان السوداني يتميز بخصائص سماها بعض المفكرين السودانيين بالإنسانيات السودانية().

        وتنسجم الظاهرة العرقية في السودان مع ما يعرف بمفهوم الظرفية في علم الاجتماع الذي لا يعتبر “الإثنية شكلاً فريداً للهوية الاجتماعية، والتنظيم؛ وإنما ترتبط في المقام الأخير بالظروف الاجتماعية والمصالح.. ولا يكمن جوهرها في إطار المجموعة الاثنية وثقافتها، إنما في خارجها أو بينها وبين البيئة الاجتماعية، بما فيها المجموعات الإثنية الأخرى”()، ويتضح هذا مثلا في علاقات الجيرة بين الفور والبقارة والتي كثيرا ما تؤدي إلى انضمام بعض أعضاء المجموعة الأولى إلى البقارة لتفضيلهم اقتناء الماشية وحياة الرعي على الزراعة والاستقرار؛ فيصيرون نتيجة لذلك من البقارة، وينتمي أبناؤهم الذين ولدوا في هذه البيئة الجديدة إلى البقارة بالميلاد().

        كما أدى التعايش بين النوبة وبعض قبائل البقارة الأفروعربية في جبال النوبة الشرقية والغربية في جنوب كردفان؛ إلى اعتناق بعض قبائل النوبة الأفريقية، مثل: تقلي، والرشاد، وتلودي؛ للإسلام، وانصهارها في الثقافة العربية الإسلامية؛ التي صارت محددة لهويتها؛ مما يثبت صحة حجة دعاة مفهوم الظرفية في علم الاجتماع()؛ التي تعتقد بعدم تطابق الإثنية والتميز الثقافي().

هذا التداخل جعل المجتمع السوداني متسامحاً بطبعه ومتعاوناً، والعصبية التي تظهر في بعض الأحيان تعتبر طارئة تغذيها عوامل الاستفزاز والتحريض؛ بدليل أن الإنسان السوداني كثيرا ما يتراجع عن موقفه عندما يتدخل الوسطاء، أو يخلو بنفسه محاسباً لها، ويقبل الاعتذار ويتنازل عن حقه وحتى الدماء يتم العفو عنها؛ مما يدل على روح تسامُحِية ينطوي عليها السودانيون؛ بالرغم من التسرع في اتخاذ المواقف والانفعال الغاضب والاستجابة للاستفزاز.

الفرع الثاني: أساليب إدارة التنوع في المجتمع الأهلي

        السودان يتميز بكثرة القبائل وتداخلها؛ فلا تجد قبيلة لم تختلط بغيرها إلا ما ندر، هذا التنوع أفرز ثقافات وعادات وتقاليد؛ تحكم سلوك الأفراد والجماعات، وعبر مسيرة طويلة من العيش المشترك تخللتها نزاعات وحروب؛ توصل المجتمع إلى أساليب لإدارة التنوع وفض النزاعات.

خلال القرن السابع عشر والتاسع عشر الميلادي، اتخذ التحالف بين قبائل النوبة والعرب في جنوب كردفان؛ شكل المبادرات والمواثيق الفردية، التي تكون شروطها ملزمة لسائر العشائر القبلية التي ينتمي إليها الأفراد الذين أبرموا الحلف المعني… وفي هذه المرحلة كان الأسلوب المتبع، أن يمتطي أي من الزعماء العرب فرسه، ويذهب إلى جبل معين من جبال النوبة، ويزور زعيم عشيرة نوبية محددا، فإن خرج الزعيم النوبي للقائه ومعه شاة سوداء؛ يكون هذا كناية عن رفض طلب التحالف، وإن خرج إليه ومعه شاة بيضاء ويحمل لبنا في يده؛ فهذا يعني النية الحسنة().

ومن ثم يتم التعاهد والتحالف بين القبيلتين وعادة ما تقتضي شروط المعاهدة ضمنا:

ألا يعتدي أحدهما على الآخر، أو قبيلته أو يتآمر ضده.

الدعم المتبادل في حالة وقوع اعتداء أو هجوم على أي من الحليفين.

ويطلق على الحليف العربي لقب “سِيد الدَّرِب” أي مالك الطريق أو الحارس.

وسيد الدرب هو الناطق الرسمي باسم الحليف النوبي، وسط المجموعات العربية، وله من السلطات ما يخول له معاقبة أي فرد أو جماعة عربية تهاجم الحليف النوبي.

من نماذج هذه التحالفات عبر نظام مؤسسة سيد الدرب؛ فإن هنالك ثمانية عشائر عربية من قبيلة الرواوقة، تحالفت مع سبعة عشر قسما من النوبة تتبع لأربعة قبائل أو مجموعات قبلية نوبية هي: كادوقلي، ومورو، وبرام، وكواليب. وقد كان لهذه التحالفات بين العشائر العربية الثمانية والأقسام النوبية السبعة عشر؛ انعكاسات ضمنية على كافة الكتل القبلية (النوبة العرب) التي تنتمي إليها كل عشيرة قبيلة. فمثلا كان للتحالف بين عرب الفقرا والنوبة التيس؛ انعكاسات على التعايش السلمي بين جميع عشائر وبطون قبيلة الرواوقة، وجميع نوبة كادقلي الذين ينتمي إليهم التيس. وهذا التحالف هو الذي حافظ على التعايش السلمي الداخلي بين قبائل النوبة والعرب طوال هذه الحقب. كما أن هنالك نوع آخر من الأثر المتسلسل كان وليدا للتزاوج المتبادل بين هذه المجموعات المتحالفة().

وهذا النهج الذي اتبع في جنوب كردفان؛ له أساليب مشابهة في معظم مناطق السودان، من هذه الأساليب التي وردت الإشارة إليها سابقا: التزاوج والأحلاف والإلحاق؛ فعن طريق الزواج المتبادل يصبح المتزوجون أصهارا، وتربط بين أبنائهم وشائج الرحم، وبهذا تقل حدة التعصب ويتحقق التعايش السلمي، والتحالف بين القبائل والمجموعات وسيلة من وسائل التعاون بين مكونات المجتمع، وفي مجتمع الإدارات الأهلية، يكون زعيم الإدارة الأهلية حاذقا، وذلك لإلمامه الواسع بالأعراف والسوالف التي اصطلح الناس عليها في تنظيم علاقة الفرد بالقبيلة، وعلاقة القبيلة بأجاويدها والغرباء القاطنين في كنفها، وقضايا الأرض والنزاعات التي كانت تدار حولها()، نجد الإدارة الأهلية تضم عدة قبائل تنتظم تحت إدارة القبيلة الغالبة، وتخصص لهم إدارات فرعية تنظم حياتهم تحت سلطة الإدارة الغالبة.

        هذه الأساليب واضح أثر الثقافة الإسلامية فيها، ولا شك أن هذه القبائل استقت أعرافها من منهج الشورى الذي جاء به الاسلام وامتد الأثر حتى للقبائل غير المسلمة بسبب الجوار والتأثير المتبادل.

وفي مملكة تقلي كانت هنالك مجالس للشورى، ذات اختصاصات محددة لإدارة الحكم في المملكة وهي:

مجلس الملك ومعه وزيره الخاص؛ وهو مَعنيٌّ بالأمور الداخلية التي تخص الحكم والملك.

مجلس الوزير العام؛ ويجتمع لتبادل الآراء ومتابعة تنفيذ القرارات التي تقرها المجالس وينوب عن الملك في حالة غيابه.

مجلس أهل الديوان؛ ويتكون من المشايخ الكبار، من أهل الطواقي، وهؤلاء عليهم اتخاذ القرار ورفعه لأكبر مجلس من حيث العددية، وهو مجلس خشوم البيوت لمناقشته وإقراره أو تعديله.

مجلس الأرابيب التسعة؛ وهذا المجلس في غاية السرية، وجلساته مقفولة وتناقش فيه الأمور الحساسة؛ كرصد المؤامرات ضد المملكة، ورصد بعض الأفراد الذين يقومون بأعمال غير مألوفة؛ من شأنها تلويث سمعة المملكة، ومراقبة بعض الملوك الذين يعتنقون بعض الأفكار، أو يأتون ببعض التدابير التي قد لا تتفق مع أعراف وتقاليد المملكة، أو تلك التي قد تحيد عن الدين الإسلامي().

وهكذا عرف المجتمع السوداني ممارسة الشورى في إدارة شؤون الدولة في مملكة تقلي؛ مما يدل على وَعْي القائمين على أمرها، وحرصهم على مشاركة قادة المجتمع في تسيير أمور الدولة، وتُشير بعض الدراسات؛ إلى أن هذه المجالس تجتمع كل ثلاث سنوات لتقييم أمور الحكم، ومناقشة مدى التزام الملك بالعدل وصلاح المجتمع، فإن وُجد مستقيما تم تثبيته وإلا عزل وولي غيره().

الفرع الثالث: العلاقات الاجتماعية في المجتمع السوداني

        هذا المزيج من التداخل الاثني والتزاوج القبلي والهجرات العربية؛ جعل المجتمع السوداني يتميز بحميمية في العلاقات الاجتماعية يندر أن نجد لها مثيلا، وهي علاقات واضح فيها أثر التعاليم الإسلامية؛ فصلة الأرحام، وإكرام الضيف، وإعانة الملهوف، وإكرام الميت، وزيارة المريض، والتجاوز عن الهفوات؛ كلها قيم دعا إليها الإسلام، وأكدتها أحكامه الواردة في الكتاب والسنة. قال تعالى:” لَيْسَ البِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ المَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ البِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى المَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي القُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي البَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ البَأْسِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُتَّقُونَ[البقرة:177]، وعن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مَثَلُ المُؤْمنين في تَوَادّهم وتَرَاحُمهم وتَعَاطُفهم، مَثَلُ الجَسَد إذا اشْتَكَى منه عضوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائر الجَسَد بالسَّهَر والحُمَّى)()، فهذه النصوص تبين أهمية التكافل والتعاون بين أفراد المجتمع المسلم، وفي حديث آخر عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “حق المسلم على المسلم خمس: رد السلام، وعيادة المريض، وإتباع الجنائز، وإجابة الدعوة()، وتشميت العاطس”()، وفي رواية أخرى أن “حق المسلم على المسلم ست” بزيادة “وإذا استنصحك فانصح له”. وفي رواية بإضافة” وإبرار المقسم()، ونصر المظلوم” وواضح من هذه النصوص وغيرها أن العلاقات الاجتماعية بين السودانيين في الغالب تطبيقا لهذه الأحكام التي أمر بها الإسلام. وفي المدن ساهم التعليم والمساكنة والتوظيف في تخفيف حدة العصبية بل في تذويب القبلية، فأصبحت حياة المدن تحكمها المصالح والوظائف والجوار، وبهذا توصل المجتمع الأهلي إلى وسائل واقعية لإدارة التنوع. وتشير الدراسات إلى نهج الإمام عبدالرحمن المهدي في إدارة التنوع القبلي؛ حيث أنشأ مدنا مثل الجزيرة أبا والهدى، وقرى مثل الرحمانية؛ ضمت قبائل من كل أنحاء السودان، اجتمعوا على الولاء للعقيدة الإسلامية، والحب للوطن، وقد تجردت هذه المجتمعات من العصبية القبيلة، والصراعات الإثنية، والتفاخر بالأنساب.

المبحث الثاني

إدارة التنوع في التركية والمهدية

والاستعمار الثنائي

وفيه ثلاثة مطالب:

المطلب الأول: إدارة التنوع في ظل الاستعمار التركي

المطلب الثاني: المهدية وإدارة التنوع

المطلب الثالث: إدارة السودان في عهد الاستعمار الثنائي

المطلب الأول

إدارة التنوع في ظل الاستعمار التركي

الفرع الأول: التكوين الحديث للدولة السودانية

تم أول توحيد للدولة السودانية الحديثة بحدودها الحالية()، في التركية؛ التي جاءت بمؤسسات أكثر حداثة، في الحكم والتعليم والإدارة؛ عن المؤسسات الوطنية السابقة، في عهد السلطنات الزرقاء. ما وصلنا من التاريخ القديم يوحي بأن الشمال النوبي كان حضاريا متقدما عن بقية بقاع السودان، وقد بسط نفوذه على بعضها في أيام منعته، ثم وجدت فترة بعد انهيار الممالك النوبية المسيحية، حكمت فيها السودان المشايخ القبلية حتى قيام السلطنات الزرقاء، وأهمها سلطنة الفونج في الوسط، والفور في دارفور، وتقلي شمال جبال النوبة، والمسبعات في كردفان، والكنوز في الشمال، وهي سلطنات إسلامية، ومملكتا الشولو والزاندي في جنوب السودان().

بعد أن احتل محمد علي باشا السودان؛ “تم تقسيم السودان إلى مديريات وأقاليم تحت إدارة ضباط أتراك، وتركت القبائل ومجتمعات القرى تحت حكامها المحليين، كما أسندت المهام المكتبية وحفظ الدفاتر في أغلب الأحيان للموظفين الأقباط. وفي وقت وجيز تكون نظام للابتزاز والنهب والسلب قل أن يكون له مثيل. فالضرائب الباهظة والغرامات قضت على القليل الذي كان يملكه ذلك الشعب البائس. أما جنوبا فقد جردت حملات جلب الرقيق لتجنيدهم في الجيش أو لبيعهم في أسواق مصر().

الفرع الثاني: أهداف محمد على من احتلال السودان:

وفي ظل الإدارة التركية التي كان هدفها الأساسي من احتلال السودان التوسع وجلب الرقيق والذهب، ولذلك اتسم أسلوب الإدارة التركية بالتعسف والظلم والاضطهاد لجباية الضرائب من أجل تمويل النفقات ولتجنيد الرجال في الجيش.

كان محمد على باشا قاسيا وطموحاً، وكان يحتاج للرقيق لجيوشه والذهب لخزينته, ولذلك بدا له أن السودان مناسب لتحقيق مطلبيه ولإشباع رغبة جنوده الباشبُزُوق، غير النظاميين والمشاغبين، في النهب والسلب، كما كانت له أسباب ثانوية أخرى وهي التخلص من عدد من المماليك الذين لجأوا إلى دنقلا، وكذلك طموح صادق للتعرف على كل ما يمكن معرفته من منابع النهر العظيم والذي تعتمد عليه حياة أراضيه, وقد عزم أن يتملك كل حوض النيل().

لقد نجح الحكم التركي المصري في انتزاع الحكم من الفونج، في بداية القرن التاسع عشر، ومنذ ذلك الوقت استمرت الدوائر الشريرة للنزاع السوداني، أو كما وصفها أحدهم: “كل شيء سيء وصل مع الأجانب” أما تجارة الرقيق الشرارة التي أشعلت الكثير من النزاع فقد كانت تمارس في إطار واسع أثناء الفترة الاستعمارية الأولى. ففي ذلك الوقت كانت تجارة الرقيق مهمة جداً للحكام الأتراك المصريين لمدهم بالرجال لجيشهم، لينفذوا سياستهم التوسعية في الشرق الأوسط().

المطلب الثاني

المهدية وإدارة التنوع

الفرع الأول: منهج المهدية في إدارة التنوع الفكري والمذهبي

        الإسلام صار الدين الغالب في السودان؛ بفضل جهود الدعاة، والعلماء، والتجار، والطرق الصوفية، وقد اتبع الدعاة منهجاً متسامحاً مع المواطنين، ساعد في انتشار الإسلام بصورة سلسة؛ خالية من التعصب والغلو، ويشهد على ذلك هذا الوجود المتنوع للطرق الصوفية، والجماعات الدينية العاملة في مجال الدعوة؛ فضلا عن انتشار الخلاوى والمساجد ومدارس تحفيظ القرآن الكريم.

والحقبة المهدية تشكلت فيها معالم الفكر الإسلامي، وأحيت روح الجهاد، وأقامت دولة إسلامية على نهج الصدر الأول، وأبرز ما في المهدية فيما يتعلق بموضوع بحثنا الآتي:

أولاً: التنوع المذهبي وصل إلى درجة التعصب في الفترة التي سبقت المهدية، فتعطل الاجتهاد، وأصبح الفقهاء عاجزين عن مواجهة المستجدات؛ فطالبت المهدية بالرجوع إلى الأصل الكتاب والسنة وترك ماعدا ذلك من اجتهادات البشر؛ الذين اجتهدوا وفق ظروف زمانهم، وحققوا إنجازاً عظيماً، ولكن مستجدات الحياة لا تتوقف، فلا يجوز التمسك بآراء السابقين؛ إذا تعارضت مع أحوال زماننا، “وقد أوقف المهدي العمل بالمذاهب، وحجته في ذلك أن المذاهب جاءت باجتهاد أئمتها، وإنها بالتالي عرضة إلى الخطأ بحكم أنها اجتهاد بشري، ولأن ما جاء بالاجتهاد قد لا يستقيم إذا تغير الظرف عن ظرف إمام المذهب عندما نظر في الأمر في زمانه.. وإذا كانت قاعدته هي العودة إلى إسلام عهد الرسول والخلفاء الراشدين ؛ فإن المنطق يدعوا إلى إلغاء المذاهب والطرق لأنها جاءت بعد هذا العهد، وقد فرقت المذاهب الناس إلى فرق، وتعصب كل فريق لمذهبه، ووقع الانقسام والعداء بين المسلمين، وقد جاء هو لتوحيد المسلمين على القرآن والسنة بعيدا عن المذاهب والطرق()، وعندما عارضه بعض العلماء على موقفه من المذاهب وآراء للفقهاء، قال: “لا تعرضوا عليّ بنصوصكم وعلومكم عن المتقدمين؛ فلكل وقت ومقام حال، ولكل زمان وأوان رجال” وقال لأحد أعوانه” فإذا وجدت آية محكمة، أو حديثا صحيحا؛ فاعمل بهما واترك عنك اختلاف الأئمة في ذلك().

ثانياً: فيما يتعلق بالتطرق والاختلاف الطائفي حاولت المهدية أن تجمع الحق الذي تفرق عند الجماعات والطوائف الإسلامية؛ فاعترفت بأهمية العقيدة وتصحيحها من الشوائب التي ألحقت بها، وهي القاعدة التي قامت على أساسها الحركة السلفية. وأكدت أهمية الوحدة الإسلامية لمواجهة الاستعمار الأجنبي والغزو الثقافي، وهو الأساس التي قامت عليه حركة جمال الدين الأفغاني. ودعت المسلمين إلى الجهاد لطرد المستعمرين وإقامة الدولة الإسلامية على نهج الصدر الأول، وهو الشعار التي رفعته حركة الشيخ عثمان دان فوديو في نيجيريا. وأكدت أهمية التزكية الفردية، عن طريق الإخلاص والمراقبة والذكر وربط العبادات بأبعاد روحية، وهو الأساس الذي قام عليه التصوف، وبينت أهمية القيادة الدينية لإرشاد الأمة ولبعث الإسلام، وهي القاعدة التي قامت عليها الحركة الشيعية؛ والمهدية في هذا الجانب اتفقت مع الشيعة في المبدأ واختلفت معهم في موضوع أن هنالك شخصا محددا من أسرة معينة قد نصب من قبل الله بلا دليل مقنع، ودون أن يكون للمسلمين دور في اختياره، وكذلك موضوع العصمة، وحددت شروطا للقيادة توضحها قاعدة” من تقلد بقلائد الدين [التأهيل] ومالت إليه قلوب المسلمين [الاختيار]” هكذا أدارت المهدية التنوع في الساحة الإسلامية على قاعدة “توحيد أهل القبلة(“)، ولا يقلل من أهمية هذه القاعدة الأساليب الإجرائية التي اتبعتها المهدية، من رفع العمل بالمذاهب، وحظر بعض الطرق، وغيرها من الإجراءات التي كانت ضرورية في مرحلة التكوين، ومواجهة الغزو الأجنبي. وليس صحيحا أن المهدية منعت دراسة الكتب السابقة كما هو مشاع، فقد أثبتت الوثائق أن الشيخ محمد عمر البنا؛ كان يدرس في مجلس الخليفة عبدالله؛ خليفة المهدي كتاب الواقدي في فتوحات الشام وغيره من الكتب()، فهذا يدل على أن مجلس الخليفة كان يضم علماء من كافة التخصصات كما هو معلوم في مجالس خلفاء المسلمين عبر التاريخ.

        لقد كانت الوحدة الإسلامية هدفا مركزيا من أهداف الدعوة المهدية، وأدب المهدية ذاخر بذلك، وأشير هنا إلى خطاب خليفة المهدي إلى (رابح فضل الله)()، في 22 ذو القعدة 1303ه الموافق 22 أغسطس 1886م جاء فيه”.. وقد تواترت وفود عباد الله علينا من الجهات القاصية.. جماعة من المهاجرين، البعض من مكة المشرفة، والبعض من المدينة المنورة، والبعض من الهند، والبعض من بخارى؛ على مسافة ستة أشهر من مكة المشرفة، والبعض من نجد على مسافة عشرين يوما، والبعض من تونس، والبعض من اسطنبول، والبعض من الرحنو والجبرتة، والبعض من المكادة (النصارى) بما فيهم أسرى؛ وكلهم أخذوا البيعة عنا واندرجوا في سلك الأصحاب وأنصار الدين، والبعض منهم قد كملت تربيته وتنور قلبه وحررنا المكاتبات الكافية إليه، وإلى أهالي جهته لدعوتهم إلى الله ووجهناه إليهم رسولاً من طرفنا وباقيهم معنا على أحسن حالة مرضية)().

الفرع الثاني: المهدية وجنوب السودان

المهدية جاءت بمشروع جديد لبعث الإسلام في العصر الحديث، والمطلع على مكاتبات الإمام المهدي عن القبائل الجنوبية، يجد كيف أنه كان يتعامل مع تلك القبائل كأرض خصبة وصالحة للدعوة، على خلاف التركية التي كانت تتعامل معهم كمستودع للرقيق.

        ففي خطاب له يقول: “إن الله سبحانه وتعالى قد أوصى نبيه صلى الله عليه وسلم وأمته تبعا له فقال تعالى:” وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ المُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ” [التوبة:6]، فهذا في المشركين فأحرى بالمسلمين الذين أسلموا وانضموا إلى بلاد المسلمين فتآلفهم لقبول الديانة أحرى، وذلك شيء عظيم جداً عندالله ورسوله. وإن “شُلك” اختاروكم بالانضمام إليكم والاتحاد معكم. بوصول كتابي هذا إليكم جميع من أتاكم ضموه إليكم وآووه واحموه كحمايتكم لأنفسكم، وأرفقوا بهم وبأولادهم ونسائهم وأموالهم، واستوصوا بالجميع خيراً.

وبعد استقرارهم ومكاملتهم عندكم فجميع الرجال منهم يحضروا إلينا لأجل البيعة والمذاكرة، وبعده يرجعوا إليكم، ومن الواجب عليكم أن تعمروا لهم مسجداً لأجل صلاتهم فيه، وتعلموهم الوضوء وستر العورة والرواتب، وقراءة الفاتحة إن أمكنت، وتذكروهم دائما بالله، وتعيِّنوا واحداً من الفقراء متَّقياً قاصداً لقاء الله والدار الآخرة ويحضر صحبتهم لأجل البيعة والمذاكرة له، ومعرفة حاله، وتوليته إماماً للدين والمتقين().

        لقد لَبَّى الجنوبيون وأبرزهم الدينكا دعوة الإمام المهدي للجهاد لطرد المستعمر ومن أبرز السلاطين والقيادات التي بايعت الإمام المهدي في بداية الثورة” السلطان الروب بيونق؛ جد الناظر دينق مجوك، والسلطان ريان نوير، سلطان دينكا توج، مركز قوقريال، والسلطان كورمو، سلطان دينكا أبيي، والسلطان نقورمكول، والسلطان وال دور سلطان دينكا منطقة كوروكو، والسلطان وول دينج، سلطان دينكا روينق، والسلطان أيونا أتور جونق، والسلطان جوان مريال، وقيل إنه دفع بنته للإمام المهدي، وقبلها منه، وهو كبير سلاطين مناطق نامليل وقتها، والسلطان داولوال، سلطان مريال باي، والسلطان نقوركواج، سلطان دينكا ملوال، والسلطان أكول أبيي وول، جد السلطان والداعية الإسلامي عبدالباقي أكول أبيي سلطان دينكا مضول، والسلطان كومجيل، وقد أهداهم الإمام المهدي هدايا من ضمنها: حربة، وقد غنّت بنات الدينكا لتلك الحربة والهدايا التي تعني في مجملها( أن السلطة والرئاسة أعطاها الإمام المهدي وليد الله وسلمها السلطان كوم جيل عشان رجال بتاع كوم كانوا أسود في حرب ضد الإنجليز، وعشان العمل الشجاع الكويس الجميل واتفاق كوم مع وليد الله المهدي أعطاه المهدي السلطة) والأغاني وقتها تعني وترمز إلى ولاء الدينكا المطلق لوحدة السودان وصونه، يؤكده مجيء الألوف من أحراش الجنوب وأدغاله وغاباته؛ لمبايعة الإمام المهدي؛ دافعهم الإخلاص والتعبير الصادق عن وحدة الصف يومها ضد المستعمر()، يقول فرانسيس دينق عن الاستجابة الجنوبية للدعوة المهدية وكيف أنها وجدت إستجابة “بطريقة واسعة، حتى بين القبائل غير العربية الجنوبية، التي كانت راغبة في طرد الحكم الاستعماري”()، وعليه فإن نداء الحركة الجديدة قد وحد بفاعلية معظم القبائل السودانية، بغض النظر عن الخلفيات العرقية والثقافية().

المطلب الثالث

إدارة السودان في عهد الاستعمار الثنائي

الفرع الأول: النظام البريطاني والعلاقة بين الدين والدولة

النظام البريطاني يتبع منهجا في الحكم لا يفصل بين الدين والدولة فصلا تاما كما تطالب العلمانية؛ بل اتسمت العلاقة بين الدين والدولة في نظام الحكم البريطاني بالربط بينهما؛ حيث يرأس الملك أو الملكة الكنيسة الأنجليكانية التي تعتبر الكنيسة الرسمية للدولة. وخصص الدستور البريطاني مقاعد دائمة لأساقفة الكنيسة في مجلس اللوردات بحكم مناصبهم كرؤساء للكاتدرائيات الرئيسية في بريطانيا().

وعندما حكم الإنجليز السودان في فترة الاستعمار الثنائي؛ عملوا على احترام الإسلام حتى لا يثيروا المسلمين ضدهم خاصة وأن روح الثورة التي أشعلتها المهدية لازالت موجودة. ورغم الاعتراف الرسمي بالإسلام باعتباره دين الأغلبية “وتبجيل واحترام الأعياد الإسلامية واعتماد يوم الجمعة كعطلة العامة والرسمية في البلاد()؛ إلا أن الوضع الكنسي للسودان حسبما يقتضيه الدستور البريطاني؛ قد كان موضع اهتمام كتشنر – أول حاكم إنجليزي للسودان بعد إسقاط الدولة المهدية- الذي قرر في عام 1889م ضم السودان مؤقتاً وإلى حين استقرار الأوضاع فيه إلى أسقفية الكنيسة الإنجليكانية في القدس. وقرر ونجت الحاكم العام في عام 1903 جعل السودان أسقفية أنجليكانية مستقلة، وتأسيس كاتدرائية في الخرطوم.. وتم وضع حجر الأساس للكاتدرائية في عام 1904م وتعيين لوين غوين أول أسقف للسودان وتكليفه بجمع التبرعات والمال اللازم من الشعب البريطاني لتأسيس كاتدرائية الخرطوم. واكتمل بناء الكاتدرائية بعد ثماني سنوات من وضع حجر الأساس، وتم افتتاحها في احتفال رسمي في 26يناير1912م حضره أسقف كنيسة لندن.. وانعكست العلاقة الوطيدة بين ممثل التاج البريطاني في السودان وكنيسة انجلترا الرسمية في تشجيع ونجت للمسيحيين بأداء صلاة يوم الأحد وحرصه على إقامة الطقوس وفقا لتعاليم الكنيسة الأنجليكانية في كل المدن متى ما توافر العدد الكافي من الموظفين البريطانيين الذي يسمح بذلك().

الفرع الثاني: سياسة الانجليز تجاه الإسلام في فترة الحكم الأولى

كما برز توجه الإدارة البريطانية نحو ربط الدين بدولة الاستعمار الإنجليزي؛ فإن سياستها تجاه الإسلام الذي يعتقه الغالبية العظمى لسكان السودان قد تميزت بالاحترام والتسامح؛ لكي تكسب ولاء المسلمين وتأييدهم، وتحد من ثورتهم ضد الحكم الأجنبي. وتجسدت هذه السياسة في المذكرة التي بعثها كتشنر إلى حكام الأقاليم والتي قال فيها:

“توخوا الحذر بعدم التدخل بأي طريقة في المشاعر الدينية، واحرصوا على احترام الدين المحمدي. ولا تسمحوا في نفس الوقت لشيوخ الطرق الصوفية المختلفة الذين عاشوا على خرافة وجهل السكان بمزاولة مهنتهم القديمة … إذ كانوا لعنة على السودان في الأيام السالفة، وسبب شقائه؛ لمسئولياتهم عن الفتن والاضطرابات. وستتم إعادة بناء المساجد في المدن الرئيسية ومنع إعادة بناء المساجد الخاصة والزوايا وأضرحة الأولياء لأنها تتشكل مراكز للتعصب الذي يجافي روح الإسلام السني”().

يتضح مما سبق أن الإدارة الاستعمارية خشيت من قيام الثورة المهدية مرة أخرى فاحترمت مشاعر المسلمين، وفي نفس الوقت حاربت بعض الجماعات الإسلامية مثل الطرق الصوفية، لا حرصاً على العقيدة الإسلامية أو حماية لها من بعض الممارسات المشوهة لها؛ ولكن خوفا من التجمعات التي يمكن أن تستغل لإشعال الثورة مرة أخرى، علما بأن معظم الطرق الصوفية دعمت المهدية؛ فضلا عن تتلمذ المهدي نفسه على شيوخ الطريقة السمانية، وكانت جماعة الأنصار من أكثر الجماعات التي ضيق عليها الاستعمار، وواجهت حصارا يعد عليها أنفاسها.

الفرع الثالث: الاستعمار وجنوب السودان

وفيما يتعلق بجنوب السودان؛ فإن سياسة الانجليز قد عملت على فصل جنوب السودان عن شماله؛ ففي سنة 1917م؛ وتشجيعاً لإرسالِيّات التَّبْشير المسيحية، ومُحاربةً للدين الإسلامي ومنعاً له من الانتشار بالجنوب، جعلت العطلة الرسمية بالمديريات الجنوبية يوم الأحد بدلاً من الجمعة، كما رحّلت قوات الأمن التي كانت تتكون من العرب المسلمين إلى الشمال().

وفي سنة 1922 صدر قانون الرخص والجوازات لسنة 1922 وبناء على المادة22منه صدر قانون المناطق المقفلة()، والذي بموجبه أصبحت كل من مديرية دارفور، والاستوائية، وأعالي النيل وبعض أجزاء من المديريات الشمالية، وكردفان، والجزيرة، وكسلا، مناطق مقفلة. وقانون المناطق المقفلة يحرم على غير المواطنين السودانيين الدخول أو البقاء في هذه المناطق إلا بإذن خاص من السكرتير الإداري أومن مدير المديرية التي يتبعها ذلك الجزء الممنوع دخوله. وكذلك من حق السكرتير الإداري، أو مدير المديرية المختص؛ منع أي مواطن سوداني من الدخول أو البقاء في تلك المناطق().

وقد استُغِلَّ هذا القانون لمنع أبناء المديريات الشمالية من دخول المديريات الجنوبية، أو البقاء فيها.

وبالرغم من ذلك فإن المبشرين المسيحيين يخشون من تحول الجنوبيين نحو الإسلام؛ ففي سنة 1925 كتب سكرتير عام المبشرين بالسودان خطاباً لرئاسة منظمات التبشير بلندن يتهم فيه حكومة السودان بأنها تعرقل سير التبشير بالجنوب وذلك للأسباب الآتية:

  • أن حكومة السودان تُعَيِّن الإداريين السودانيين المسلمين “مآمير” بالجنوب، وباتصالهم بحكم عملهم بالجنوبيين؛ يرسخ في ذهن الأخيرين أن الدين الإسلامي هو صاحب السلطان في البلاد.
  • تسمح حكومة السودان للتجار الشماليين بدخول الجنوب، فيختلطون بالجنوبيين يتجرون معهم بالنهار ويعلمونهم الدين الإسلامي بالليل.
  • يأتي بالإجازة أبناء الجنوب، الذين يعملون بالشمال لزيارة ذويهم بالجنوب، ويختلطون بالسكان، ونظرا لأنهم يعتنقون الإسلام؛ فإنهم يُلَقّنونه لذويهم بالجنوب، ولذلك فإنهم يهدمون في إجازتهم القصيرة ما يبنيه المبشرون في أعوام().

في سنة 1930 وضع السكرتير الإداري لحكومة السودان آنذاك هارولد ماكمايكل، سياسته الرامية إلى فصل جنوب السودان عن شماله، ووضعت هذه السياسة على أساس قانون المناطق المقفلة لسنة1922م وادعى الانجليز أن الهدف منها هو حماية جنوب السودان من حكم الشماليين.

وقد ضمن السكرتير الإداري سياسته الجديدة في التوجيهات التي أرسلها إلى مديري المديريات الجنوبية الثلاث، والتي فحواها أن السياسة الجديدة لحكومة السودان بالنسبة للجنوب؛ هي العمل على بناء عدد من الوحدات العنصرية أو القبلية يكون لها طابعها ونظامها الخاص، القائم على أساس التقاليد المحلية، ويقضي تطبيق هذه السياسة أن يقوم غير المتكلمين باللغة العربية بالوظائف الإدارية والكتابية والفنية، وأن توقف هجرة التجار الشماليين إلى الجنوب.

وقد ترتب على ذلك:

  • نقل كل الموظفين الإداريين والفنيين والكتبة من الشماليين الذين يعملون بالجنوب إلى الشمال.
  • منع الرخص عن التجار الشماليين الذين يعملون بالجنوب وترحيلهم إلى الشمال وإعطاء الرخص التجارية لليونانيين واللبنانيين.
  • ترحيل جميع المسلمين من الشماليين إلى الشمال.
  • محاربة الإسلام وطرد المسلمين من الأجناس الأخرى؛ كالفلاتة والهوسا من قبائل نيجيريا.
  • منع تدريس اللغة العربية بمدارس الجنوب.
  • جعل اللغة الانجليزية هي لغة التخاطب كلما كان ذلك ممكنا.
  • إغلاق المحاكم الشرعية بكل أنحاء الجنوب.

وبالنسبة للمواطنين الجنوبيين فقد عمل الانجليز على إبعادهم عن كل ما يتصل بالشمال أو الإسلام, وحتى أولئك الذين كانوا يحملون أسماء عربية أُجبروا على تغيير أسمائهم، ومنع أو حرم التخاطب باللغة العربية؛ لتحل محلها اللغة الانجليزية الأجنبية، وأطلقت يد إرساليات التبشير المسيحية، ووضع التعليم تحت إدارتها، وأمدت حكومة السودان الإرساليات بالأموال اللازمة لها؛ لدرجة أن إعانة حكومة السودان لتلك الإرساليات بلغت 95 في المائة من ميزانيتها، فأخذت تلك الإرساليات تنشر سمومها ودعاياتها المغرضة ضد الإسلام وضد العرب في الشمال؛ مستغلة بساطة الأهالي هناك، وأدخلت في عقول هؤلاء البسطاء أن الشمال هو المسؤول عن تجارة الرقيق، وأنه لا يرضى الآن إلا باستعباد الجنوبيين().

كان حرص الإدارة البريطانية على كسب ولاء السكان المسلمين، وحفظ الأمن؛ السبب الأساسي لعدم حيادها في مسألة التبشير، ومحاباتها للإسلام في هذا المضمار، خلال العشر سنوات الأولى من حكمها للبلاد()، فمنعت بذلك الإرساليات المسيحية من التبشير بدعوتهم وسط المسلمين في الشمال، كما لم تعترض على انتشار الإسلام في الجنوب بواسطة التجار والجنود السودانيين والموظفين المصريين الذين يعملون في أقاليمه المختلفة. وأدرك الحاكم العام ونجت منذ عام 1904م نجاح الإسلام في الانتشار وسط سكان الجنوب رغم حرص الحكومة على تنصيرهم مما دفعه إلى القول:” يوجد هناك مئات من المسلمين مقابل كل ضابط أو موظف مسيحي يتم إرساله إلى المقاطعات الجنوبية، وكل واحد من هؤلاء المسلمين مبشر في حالة كمون بطبيعة دينه، كما يجد الإسلام رواجا وقبولا لدى السكان السود أكثر مما تجده المسيحية”().

فالإدارة الاستعمارية تعاملت مع التنوع في السودان على النحو التالي:

أولاً:   في بداية عهدها اتخذت سياسة لا تصطدم مع مشاعر المسلمين؛ حتى لا تدفعهم إلى الثورة.

ثانياً: منعت التبشير المسيحي في مناطق المسلمين في الشمال.

ثالثاً: وفي وقت لاحق عندما أدركت قوة تأثير الإسلام واعتناق الجنوبيين له؛ منعت الشماليين من السفر للجنوب وفتحته للمبشرين الأجانب؛ بموجب سياسة المناطق المقفولة.

رابعاً: أثر الاستعمار على التركيبة الاجتماعية في السودان تأثيرا سالبا؛ باستخدامه للنفوذ القبلي في الإدارات المحلية، ودعم بعض الإثنيات ومنحها سلطات سياسية، وموارد مالية؛ مما أدى إلى التنافس القبلي في السلطة المركزية، وأدخل عنصر الهويات المحلية في دائرة الاستخدام السياسي().

خامساً: فيما يتعلق بالتعامل مع الجنوب، قامت الإدارة الاستعمارية بالإجراءات الآتية:

  • في عام 1917م أنشأت الإدارة الاستعمارية قوة مهام عسكرية جديدة، تتألف من جنود جنوبيين من أجل استبدال القوة الأخرى المكونة من الشماليين().
  • في عام 1918م أعلنت الإدارة اللغة الإنجليزية كلغة رسمية في الأجزاء الجنوبية، وشجعت اللهجات الأفريقية، كلغة تخاطب، بدلا من العربية التي حظرت().
  • منع الأهالي الشماليين من الحق في الدخول، أو العمل في الجنوب؛ باستثناء حملة الأذونات المسبقة.
  •          –             استبدل الحكام المستعمرون تدريجيا، الضباط العرب بأولئك المتحدثين باللغة الإنجليزية.
  • شجعت عدم التزاوج بين الأهالي الجنوبيين والشماليين وقلصت من حجمه.
  • يوم الجمعة (اليوم المقدس في الإسلام) استبدل بالأحد كعطلة أسبوعية.

مما سبق فمن الجلي أن نية الإدارة الاستعمارية، اتجهت لإعداد الجنوب بطريقة مختلفة عن الشمال، ولمنع الاختلاط الثقافي بين الأعراق().

        وقد ذهب أكاديميون آخرون لأبعد من ذلك، وأوضحوا بأن الهدف الأساسي للسياسة الاستعمارية تجاه الجنوب؛ هو تشجيع نشر المسيحية، وذلك بوقف توجه الجنوبيين نحو الثقافة العربية والإسلامية()، ولبلوغ هذا الهدف عرضت الإدارة الاستعمارية بعض الامتيازات للبعثات التبشيرية المسيحية للعمل في الجنوب، وبذلك تمنع انتشار الإسلام. لم يتم تنفيذ هذه القيود بحظر أوجه النشاط التبشيري الإسلامي، التي لم تنتظم إطلاقاً بمبشرين في ذلك الوقت، ولكن بمنع الاحتفالات الإسلامية ولبس الملابس العربية، وممارسة العادات العربية، وبإصلاح نظام التعليم بطريقة مختلفة عما هو موجود في الشمال().

فيما بعد تمت مراجعة هذه السياسة، نسبة لأسباب داخلية وخارجية، وغيرت الإدارة الاستعمارية موقفها لتؤيد الوحدة على أساس الصلاة الجغرافية والاقتصادية بين الجزئين()، من ثم فإن السياسة الاستعمارية تجاه الجنوب عمقت الاختلافات ليس فحسب؛ بالنسبة إلى الثقافة، حيث منعت التعددية من التطور الطبيعي؛ ولكن في الشئون الاجتماعية والاقتصادية أيضا. فالشمال على وجه العموم، قد أصبح نسبياً أكثر نمواً وتعليماً، مستفيدا من عدم التوازن، الذي أسسه الحكم الاستعماري، بينما عانى الجنوب من التمييز، بتنوعاته الداخلية الخاصة، وفوق كل ذلك تخلف التنمية الاجتماعية والاقتصادية فيه().

الفرع الرابع: آثار الحكم الاستعماري على التنوع في السودان:

تناول البحث في فرع سابق سياسة الاستعمار التي هدفت إلى فصل جنوب السودان عن شماله، مما كان له أثر سالب في العلاقة لاحقاً ببين الجنوبيين والشماليين، واتبعت سياسية مشابهة بالنسبة للنوبة.

وبما أن النوبة خليط متعدد الأعراق وغير متجانس فيما عدا اشتراكهم في شكل ثقافي عام وفضفاض، فقد اتخذت التدابير التالية من أجل تشكيل وإعادة بناء النوبة كمجموعة عرقية أو قومية واحدة وذات ملامح وصفات محددة:

  • حجب النوبة عن أي تأثير عربي أو إسلامي من خلال سياسة المناطق المقفولة التي بدأت عام 1922م حتى 1947م وكان الهدف من ذلك منح الفرصة لنشوء “عنصر نوبي صافي”، أو على الأقل عنصر يتبنى الثقافة المسيحية وليست الإسلامية بأي حال.
  • وضع نظم إدارة أهلية متمايزة لكل من الجماعات النوبية والعربية على حدة، وكان الهدف هو تكريس تمييز وخصوصية كل من النوبة وعرب الحوازمة بغرض إقامة حواجز ثقافية بين المجموعتين.
  • بناء على القانون المحلي لشيوخ الرحل (1922) ومحاكم القرى (1926) لم يعط حق إقامة محكمة إلا لاثنين من ملوك النبوية في كادقلي وتقلي، أما بقية النوبة فقد شجعوا إلى اللجوء للمحاكم العرفية حسب نظام القانون العرفي.
  • ألغيت محاكم الشريعة في عام 1926م من محاكم المديرية ولم يصرح بها إلا على مستوى ثانوي في المناطق التي تكون غالبية سكانها من المسلمين، والهدف من ذلك هو عزل النوبة عن أي تأثير إسلامي أو ما يمكن أن يشكل “مؤسسة أسلمة” مثل محاكم الشريعة.
  • حسب قانون سلطات الشيوخ المحلي لعام 1927م الذي ألغى قانون 1922 لشيوخ الرحل .. ثم توسيع المعنى الفني للقبيلة والشيخ من أجل إعطاء  مزيد من السلطات: يشمل مفهوم القبيلة الجديد أي قسم من القبيلة وتعني “الشيخ”، أي زعيم قبلي أو جهوي له سلطة مخولة على أي قبيلة أو منطقة أو جزء من القبيلة أو المنطقة وكان الغرض من ذلك هو إحداث تحول في هيكل، ومعنى قبيلة/ حد قبلي” من أجل تفكيك إعادة تركيب كلمة قبيلة كمفهوم وكمؤسسة وسط النوبة والعرب معاً حيثما يكون مفيداً().

فالاستعمار تعمد خلق بؤر منعزلة عن الثقافة السودانية العامة لتكون عامل صراع في المستقبل؛ وهذه السياسة شملت كافة مظاهر التنوع الديني والسياسي، حيث قربت بعض الطوائف واضطهدت طوائف أخرى، واستعانت ببعض قيادات القبائل لمنع حدوث ثورة في المستقبل.

لقد عملت المهدية على توحيد السودانيين متجاوزة بهم القبلية والجهوية وخلق نظام سياسي مستقل.

ولما جاء العهد الثنائي وفقد السودان تنظيمه السياسي؛ اتجه مرة أخرى إلى خلق الطوائف الدينية الكبيرة، والتنظيمات القبلية القوية، وتكوين الجمعيات السرية لجمعيتي الاتحاد السوداني واللواء الأبيض، واحتفاء بالمناسبات الدينية كالمولد وعيد السنة الهجرية، وخلق تنظيمات اجتماعية كالأندية الرياضية.

إذن ففي الفراغ السياسي الذي حدث نتيجة لقيام الحكم الثنائي عادت الشخصية السودانية لتعبر عن نفسها عن طريق منظماتها الخاصة ومناسباتها الدينية …

إن أهم أثر تركة الحكم الثنائي بالإضافة إلى الإدارة المنظمة ومزيد من معدل التحديث هو خلق نوع من الثنائية الفكرية والحضارية.

فالمدارس الحديثة قد خرجت نوعاً من الشباب يختلف عن النوع الذي تخرجه الخلوة().

إن الآثار الاستعمارية على المجتمع يمكن إجمالها في الآتي:

أولاً:   التمييز بين خريجي التعليم الديني والتعليم المدني خلق فجوة بين دعاة الأصالة ودعاة المعاصرة.

ثانياً: ترسيخ مفاهيم القبلية والجهوية بتشجيع الإدارات الأهلية والاستعانة بها في مواجهة الثورات المحتملة ومنع انتشار الحداثة في مناطقها.

ثالثاً: سياسة العزل لمناطق الجنوب وجبال النوبة ودارفور خلق تمايزاً بين المواطنين بين شماليين وجنوبيين وعرب وأفارقة وأولاد البحر وأولاد الغرب.

رابعاً: محاصرة ومضايقة القبائل والعناصر التي ناصرت المهدية وحرمانها من كثير من حقوقها الوطنية مع تشويه متعمد لسياسات الدولة السابقة وربطها بقبائل معينة ومناطق معينة.

خامساً: كل السياسات السابقة ساهمت في بروز المفاهيم اللاحقة المتعلقة بظاهرة التهميش وتوابعها مما كان  له أثر سالب على إدارة التنوع في السودان.

المبحث الثالث

الحكم الوطني وإدارة التنوع

وفيه ثلاثة مطالب:

المطلب الأول: النظم الديمقراطية في السودان وإدارة التنوع

المطلب الثاني: النظم العسكرية في السودان وإدارة التنوع

المطلب الثالث: الشورى وصيانة العيش المشترك في السودان

المطلب الأول

النظم الديمقراطية في السودان وإدارة التنوع

الفرع الأول: النظام الديمقراطي الأول (1956-1958)

إن المجتمع السوداني بتركيبته الإثنية، وقبائله ولغاته المتعددة وعاداته وتقاليده المتنوعة؛ يشكل تحديا واضحا لعمليات تكوين الأمة، وتحديد هويتها، كذلك فإن طبيعة الدولة التي تدير شؤون هذا المجتمع الأفريقي العربي المتنوع؛ تشكل نفس التحدي، أما الدولة السودانية فهي دولة إثنية إقليمية لم تتحدد ملامحها، وقد بدأ تكوينها الحديث عام 1405م().

لذلك نجد أن أهداف الحكومات المتعاقبة جميعها منذ الاستعمار؛ هو الحفاظ على الاستقرار، والاستمرار في الحكم ولم يصاحب ذلك مشروعات لبلورة الهوية وتكوين الأمة، أو مشروعات تنموية مستديمة تطال أقاليمه المختلفة؛ لتصبح مورداً اقتصادياً يساعد في استقرار سكانه كما أن الثقافة السياسية تأرجحت بين أسلوب حكم مدني وحكومات عسكرية؛ مما أضعف تراكم الخبرة في مجال الإدارة المدنية، وأضعف الثقافة الديمقراطية العقلانية والتداول السلمي للسلطة()، وأخطر ما واجه الحكم الوطني هو التعامل مع جنوب السودان؛ الذي اتبع الاستعمار معه سياسة المناطق المقفولة، وعندما قام الحكم الوطني واجه مشكلتي الدولة الموحدة، وعلاقة الدين بالدولة. ففي مسودة دستور أبريل 1958 نص على ما يلي:

  • السودان دولة موحدة وهو جمهورية ديمقراطية برلمانية.
  • السيادة في الجمهورية السودانية للشعب الذي يمارسها وفق أحكام هذا الدستور.
  • تسود أحكام هذا الدستور على جميع القوانين القائمة أو المستقبلة.
  • اللغة الرسمية للدولة هي اللغة العربية.
  • الإسلام هو دين الدولة الرسمي.

ونصت المادة 36 من الفصل الثالث «المبادئ الموجهة لسياسة الدولة» على أن «تستوحي مصادر التشريع السوداني الأساسية مبادئ ونظريات الإسلام والعادات الحسنة التي لا تتعارض مع قواعد الإنصاف والعدل الفطري والضمير السليم».

أعترض ممثلو الجنوب في الجمعية التأسيسية على مسودة الدستور لأنها لم تنص على موضوع الفيدريشن وطالبوا بتضمينه…وهنا أوضح محمد أحمد محجوب زعيم الأغلبية أن هناك سوء فهم وأن المسودة يمكن تعديلها أو رفضها أو استبدالها. فللجمعية مطلق الحرية في هذا الأمر. فإذا وضعت اللجنة (يقصد اللجنة الأربعينية) تقريراً عن الفيدريشن، فإنه سيقدم للجمعية لتقبله أو ترفضه إذا كانت مصلحة البلاد العليا تقتضي أحد الأمرين، والرأي للأغلبية.

رفض فرانكو وول قرنق النائب عن الدائرة 15 (واو) إجازة الدستور بالأغلبية وقال: «مادامت الشمس تشرق من الشرق فإن الجنوبيين لن يكونوا أغلبية. وإذا كانت هذه المسودة هي أساس النقاش فلا شأن لنا بها لأنها أهملت مطلب الجنوب الأساسي. وإنني أقرر هنا أن استقلال السودان لن يستقر إذا لم يستقم الوضع في الجنوب…. إننا لا نضمر شراً لاستقلال السودان ونحبه ونحرص عليه كأي شخص آخر منكم. ولكننا نريد أن يكون هذا الاستقلال حقيقياً لا ملوناً، وإننا نريد أن ننال حقوقنا كأمة في السودان المستقل».

وقال النائب قرنق في ختام حديثه «إننا نقف الآن على شفا حفرة، وموضوع الفيدريشن موضوع حساس. وإذا لم يُستجب له فلربما يطلب الجنوبيون أشياء أخرى لم تكن هناك حاجة لها».

واستطرد ساترنينو قائلاً: «إن للجنوب قضية وقضية عادلة…. لأنه يريد أن يدير شؤونه المحلية بنفسه بعد أن فشلت الإدارة الشمالية التي حلت محل الحكم البريطاني، ولم تستطع القيام بالعمل…وختم الأب ساترنينو حديثه بالقول: «إذا كنا سنعتمد على مسألة الأغلبية والجنوبيون قلة، فلن نحل مشكلة الجنوبيين أبداً»((،

وفي مرحلة لاحقة، حدث تطوران سياسيان أشعلا مخاوف الجنوبيين، وساهما بذلك في توسيع الهوة الوطنية، وهما: قضيتي الاستقلال، وسودنة الخدمة المدنية. كما كان هناك أيضا جدل دار بين الوطنيين؛ قبل استقلال السودان، حول ما إذا كان على السودان أن يتحد مع مصر ويشكل “دولة شمال وجنوب وادي النيل” أو أن يصبح دولة مستقلة، ذات سيادة كاملة. ولتسوية هذه القضية، سافر مندوبون من الأحزاب السياسية المختلفة إلى مصر من أجل التداول حول مستقبل السودان، لكن مما يدعو للأسف أن الجنوبيين لم يكونوا ممثلين في هذه الحركة التاريخية للدولة السودانية، لقد ترك هذا الإهمال السياسي أسوأ المشاعر وسط الجنوبيين، وزاد من شكوكهم تجاه الشماليين().

        وفي عملية سودنة الوظائف لم يتم سوى اختيار ستة أشخاص فقط من الجنوبيين.

 أدت هذه العوامل المتراكمة إلى رد فعل عنيف من قبل الجنوبيين تجاه الشماليين تمثل في حركة التمرد التي ظهرت قبيل الاستقلال. وفي رأي البروفسير محمد عمر بشير؛ فإن قادة السودان لما بعد الاستقلال قد فشلوا عموما في بذل الاهتمام للفوارق داخل المجتمع السوداني ممثلة في الاختلافات الثقافية والاجتماعية والاقتصادية .. لقد فشلوا أساساً في اتخاذ الإجراءات اللازمة لإزالة مخاوف الجنوبيين تجاه الشماليين، وفي أن يلبوا احتياجاتهم. عوضا عن ذلك كان منظور الصفوة الشمالية ينحى لتطوير نوع من استراتيجية الاستيعاب، أو التجانس، مبنيا على ثقافة عربية وإسلامية().

لقد عززت عدة قضايا بارزة في عهد ما بعد الاستقلال هذه المزاعم، فمن المؤكد أن الوعد بالنظر في مطالب الجنوبيين بخيار فدرالي لم يتم تنفيذه، كما لم يتم تمثيل سوى ثلاثة فحسب من الجنوبيين من بين ثلاثة وأربعين عضوا في اللجنة التي كونت لوضع الدستور الوطني الأول.

تلك المواقف اتخذت في ظل النظام الديمقراطي الأول، وواضح مما سبق أنه لم يوفق في إدارة التنوع بسبب عدم مراعاة الأوضاع الاثنية والثقافية للجنوبيين، وعدم الالتزام بالوعد الذي أعطي للجنوبيين ببحث موضوع الحكم الفدرالي، بينما يأمر نظام الشورى الإسلامي بمراعاة قيم العدالة والمساواة والوفاء بالعهد، قال تعالى:”… وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ العَهْدَ كَانَ مَسْئُولاً” [الإسراء:34].

الفرع الثاني: النظام الديمقراطي الثاني (1964- 1969):

كان من أهم الأسباب التي أدت إلى قيام ثورة أكتوبر1964م؛ رفض السياسة التي اتبعت مع الجنوبيين، وانبثق شعاع جديد من الأمل للسودان، فبعد ثورة أكتوبر كان هناك الاعتراف الوطني الأول بالفوارق داخل المجتمع السوداني، فقد أوصى مؤتمر المائدة المستديرة للأحزاب السودانية الذي عقد في الخرطوم (1625 مارس1965) بالحكومة الإقليمية كآلية جديدة لحل القضية().

انعقد مؤتمر المائدة المستديرة بالخرطوم في 16 مارس 1965م برئاسة نائب مدير جامعة الخرطوم، وضم المؤتمر خمسة وأربعين مندوباً، ثمانية عشر منهم يمثلون الأحزاب السياسية بالشمال وهي: الحزب الوطني الاتحادي، وحزب الأمة، وحزب الشعب الديمقراطي، وجبهة الميثاق، الحزب الشيوعي السوداني، جبهة الهيئات، وسبعة وعشرون مندوباً يمثلون الجنوب، تسعة منهم يمثلون حزب جبهة الجنوب، وتسعة يمثلون حزب سانو بجناحيه وتسعة أعضاء اختيروا بوصفهم يمثلون وجهة نظر مخالفة لسانو وجبهة الجنوب.

كما شهد المؤتمر مراقبون من بعض الدول الأفريقية هي الجمهورية العربية المتحدة وأوغندا وكينيا والجزائر وتنزانيا ونايجيريا وغانا().

وداخل المؤتمر كان ممثلو الأحزاب الشمالية متفقين في حين كان ممثلوا الجنوب مختلفين وتقدم كل من الفريقين بمقترحات يرى أن تحل مشكلة الجنوب على أساسها.

خلاصة مقترحات أحزاب الشمال: تقدموا بمشروع لحل مشكلة الجنوب في إطار السودان الموحد، مضمونه أن يقوم في الجنوب حكم إقليمي برئاسة أحد أبناء الجنوب؛ ينفذ برنامج عمل سريع اقتصادي ثقافي واجتماعي، كما تضمن المشروع أن يكون نائب رئيس الجمهورية من أبناء الجنوب.

وأما الأحزاب الجنوبية فلم تتفق على مقترح واحد، فقد عارض حزب الوحدة مقترحات الأحزاب الشمالية وطالب بتطبيق نظام اللامركزية في كل القطر وفي إطار السودان الموحد. أما حزب سانو جناح وليم دينق فقد طالب بقيام اتحاد فدرالي بين الشمال والجنوب. وأما الجناح المتطرف من حزب سانو فقد طالب بالانفصال واستقلال الجنوب.

أما جبهة الجنوب فقد طالب ممثلوها بإعطاء الجنوب حق تقرير المصير.

عندما تعذر الوصول إلى حل لمشكلة الجنوب داخل مؤتمر المائدة المستديرة اتفق المؤتمرون على تكوين لجنة من اثني عشر عضواً من أبناء الشمال والجنوب لتواصل بحث ودراسة مستقبل العلاقات الدستورية بين الشمال والجنوب على أن تعرض اللجنة الحلول التي تتوصل إليها على مؤتمر المائدة المستديرة عندما ينعقد مرة أخرة بعد ثلاثة أشهر. ولكن تسارع الأحداث حال دون انعقاد المؤتمر مرة أخرى().

الفرع الثالث: النظام الديمقراطي الثالث (1986- 1989)

جاءت الفترة الديمقراطية الثالثة (1986- 1989م) مثقلة بتراكمات الصراع بين الشمال والجنوب، وجرت عدة محاولات لإيقاف الحرب وتحقيق السلام؛ منها: مؤتمر وإعلان كوكادام() مارس1986، الذي شاركت فيه أحزاب وشخصيات عامة. ثم لقاء في يوليو1986 بين رئيس الوزراء ورئيس الحركة الشعبية. وندوة واشنطن 1987م حضرها بصفة غير رسمية كل الأطراف. كان قرارها أن مفتاح الحل السلمي يكمن في: الديمقراطية، والاعتراف بالتنوع في السودان. وساطة السيدين أو باسانجو (رئيس جمهورية نيجريا السابق) وفرانسيس دينق، وقد وجدا من الطرفين استجابة ووجدا فجوة الثقة بين الطرفين ممكن تجسيرها. وساطة لندن في ديسمبر1987، كان نتيجتها لقاء بين وزير الدفاع ورئيس هيئة الأركان واثنين من قادة الحركة، وركز الاجتماع على ضرورة إيجاد صيغة مقبولة للتنوع. ثم مؤتمر انتراكشن (Interaction) في هراري في مارس 1988م وقد حضره وفد يمثل جميع أطراف الحكومة والحركة ودار حوار جاد وحاد، وكانت التوصية أنه في إطار الديمقراطية والاعتراف بتنوع ثقافات وأعراق السودان يمكن إيجاد صيغة للتعايش. ومبادرة السلام السودانية التي عرفت باتفاقية الميرغني قرنق().

كانت سياسة الحكومة الديمقراطية الثالثة نحو السلام تسير في أربعة محاور هي:

 المحور الدولي؛ حيث خاطب رئيس الوزراء الأمم المتحدة والقوى العظمى، بضرورة السعي لتحقيق السلام الإقليمي وإطفاء بؤر القتال التي صارت خطرا على السلام ومستقبل الشعوب.

 والمحور الإقليمي؛ بالتخلص من الأحلاف المشبوهة، وسياسة حسن الجوار، والعمل على تحقيق السلام في السودان والبلاد المجاورة له، والأمن المشترك في القرن الأفريقي والبحر الأحمر،

 والمحور الإنساني، بتكوين مجلس الرحمة الإسلامي المسيحي، والسماح له بالاتصال بحملة السلاح، ليعطيهم الطرفان الأمان لنقل مواد الإغاثة للجنوب، واتصل المجلس بحملة السلاح بأديس أبابا، ولكنهم رفضوا الاقتراح. ثم اتفقت الحكومة مع اللجنة الدولية في الصليب الأحمر لبرنامج “شريان الحياة” لإغاثة كل المتضررين من آثار الحرب.

والمحور التفاوضي؛ الذي توصل إلى تحديد موعد لانعقاد المؤتمر الدستوري في 18/9/1989م لقد كان تحرك السودان ناجحاً في المحاور الأربعة بل كان تحركاً نموذجياً وضع إطارا للسلام الإقليمي وللعلاقات الإنسانية في مناطق القتال ولمحادثات إنهاء الحروب().

المطلب الثاني

النظم العسكرية في السودان وإدارة التنوع

الفرع الأول: النظام العسكري الأول (1958- 1964)

لقد تفاقمت أزمة السودان الوطنية بشدة أثناء فترة الحكم العسكري بقيادة الجنرال إبراهيم عبود (1958-1964) فقد جاءت طريقة النظام الجديد لحل مشاكل التي تواجه السودان مكونة من شقين:

أولاً:   الاعتقاد بأن الوحدة الوطنية لا يمكن تحقيقها إلا بإقامة انسجام ثقافي، مبني على الثقافة الإسلامية والعربية، بدلا عن المجتمع المتعدد الثقافات.

وثانياً: أن قضية جنوب السودان يمكن حلها بالأساليب العسكرية، إذا لم تُجد الطريقة الأولى().

وتماشيا مع هذه السياسة غير النظام العطلة الأسبوعية للجمعة بدلا عن الأحد في الجنوب، وجعلت اللغة العربية اللغة الإجبارية في المدارس الجنوبية، وأجبر الطلاب والموظفون المدنيون والقادة المحليون على تغيير الزي الأفريقي التقليدي إلى اللباس العربي الشمالي، وعلى تغيير أسمائهم المسيحية إلى الأسماء العربية()، علاوة على ذلك أصدر قانون الجمعيات التبشيرية لسنة 1962م الذي كبح عمل النشاط التبشيري المسيحي في الجنوب. نتيجة لذلك عانى التعدد السوداني مرة أخرى.. فقد أدت محاولات نظام عبود في إبدال التعليم الجنوبي، واللغة، والعطلات؛ إلى شيء مطابق لما للشمال العربي؛ إلى إرسال رسالة خاطئة للجنوبيين، فعلاوة على حرمانهم من الخيار الفدرالي – وهو النظام المفضل لديهم للحكم – فقد رأى الجنوبيون هذا؛ على أنه سياسة مخططة بطريقة جيدة مصممة لاستيعاب هويتهم. بناء على ذلك لجأوا للوسائل العنيفة لحماية هويتهم تلك، وطموحاتهم السياسية، حينما اشتعل النزاع مرة أخرى حرباً أهلية في 1963م().

الفرع الثاني: النظام العسكري الثاني (1969-1985):

وما أن انتهى النقاش حول مشكلة الجنوب؛ في ظل الديمقراطية الثانية؛ حتى تولى السلطة نظام عسكري جديد بقيادة جعفر نميري عقب قيامه بانقلاب عسكري، تسلم السلطة من الأحزاب السياسية وألزم نفسه بحل النزاع. لقد خطا النظام خطوة كبيرة نحو هذا الهدف بالاعتراف بالاختلافات الثقافية بين الشمال والجنوب، ووضع أسس ترتيبات سياسية خاصة للتعامل مع هذه الاختلافات().

ويتلخص موقف النظام الجديد في التعامل مع قضية الجنوب في الآتي:

  • مد فترة العفو العام عن المتمردين وإرسال وفود وزارية إلى الدول المجاورة والتي يوجد بها لاجئون من أبناء الجنوب لشرح السياسة الجديدة.
  • البدء في تنفيذ المشاريع اللازمة لاستيعاب العائدين وتوفير سبل العيش لهم.
  • العمل على إعادة الاستقرار لجنوب السودان وذلك بالمحافظة على الأمن وتدعيمه وعزل المواطنين المسالمين عن العناصر الخارجة على القانون.
  • تنفيذ خطة التنمية وتطوير اقتصاديات الجنوب.
  • تعيين وزير لشئون الجنوب للإشراف على تطويره.
  • إنشاء تنظيم اشتراكي مرتبط بالتنظيم الاشتراكي في الشمال.

على أن يتبع تنفيذ الخطوات السابقة قيام الحكم الذاتي الإقليمي لجنوب السودان().

كانت ثمرة الموقف الجديد اتفاق أديس أبابا، الذي أنهى الحرب مع الجنوب. (وقد استفاد النظام الجديد من تحضيرات الأحزاب في تقريب الشقة بين الشمال والجنوب) لقد منحت الاتفاقية الحكم الذاتي الإقليمي للإقليم الجنوبي، ووضعت ترتيبا خاصا في الحكومة المركزية، بموجبه ضمن مشاركة الجنوبيين في صنع القرار السياسي.

وبعد أكثر من 11 سنة من السلام اندلعت الحرب بين الشمال والجنوب مرة أخرى لأسباب مختلفة، هي في رأي المحللين يتقاسمها طرفا الاتفاقية. لكن واحدة من الأسباب الرئيسية كان قرار الرئيس نميري تقسيم الإقليم الجنوبي إلى ثلاثة أقاليم في 5 يونيو1983م وأعقب ذلك إعلان الشريعة الإسلامية كمصدر للنظام القانوني السوداني، الأمر الذي اعتبره بعض القادة الجنوبيين كمحاولة شمالية جديدة للهيمنة الثقافية. نتيجة لذلك اندلعت حرب أهلية جديدة في نهاية 1983م().

الفرع الثالث: نظام الإنقاذ وإدارة التنوع:

هنالك مشكلات ورثتها الدولة القطرية قبل تكوينها، وطوال العقود الأربعة الماضية؛ لم تستطع الدولة أن تحل هذه المشكلات، أو أن تتعامل معها بابتكار، وتطورت هذه المشكلات وتعقدت في العقد الأخير؛ حتى أصبحت أزمات ماثلة، وتشمل هذه المشكلات: مسائل الهوية، والاندماج السياسي والاجتماعي للتكوينات الإثنية، ويرى بعض الباحثين أن الدولة القطرية تنازعتها ثلاث هويات متنافسة (الوطنية والقومية والدينية) والسودان يعيش حالة صراع وتنازع بين الهوية الأفريقية، والهوية العربية، والهوية الإسلامية، وهذا الوضع يفرض عدة خيارات على المطالبين بهوية محددة أو الرافضين لها، هذه الخيارات هي: الخضوع لتلك الهوية أو مقاومتها().

عندما جاء نظام الانقاذ اتبع أسلوباً مختلفاً مع قضية الجنوب؛ واعتبر الصراع بين مشروعين إسلامي وعلماني، مدعوم من الكنيسة ودول الاستكبار العالمي، ولذلك أعلن الجهاد عن حمله السلاح من الجنوبيين، واستنفر الشماليين والإسلاميين على وجه التحديد للحرب المقدسة، وفُقدت أرواح كثيرة من الطرفين وأخيراً تم التوصل إلى اتفاق سلام برعاية دول الإيقاد الأفريقية()، بدعم من بعض الدول الأوربية والولايات المتحدة الأمريكية تحت مسمى شركاء الإيقاد وضمنت اتفاقية السلام في دستور السودان الانتقالي لعام 2005م.

حاول دستور جمهورية السودان الانتقالي لسنة 2005م أن يعالج الأزمات التي أفرزها الصراع على السلطة، والعجز الذي صاحب الحكومات الوطنية في إدارة التنوع، فجاءت نصوص الفصل الأول مراعية لإشكالات الهوية التي تثار من وقت لآخر. ويأتي في مقدمة الإشكالات تحديد طبيعة الدولة السودانية بأنها “دولة مستقلة ذات سيادة، وهي دولة ديمقراطية لامركزية، تتعدد فيها الثقافات، واللغات، وتتعايش فيها العناصر، والأعراق والأديان” وتلتزم الدولة من جانبها” باحترام وترقية الكرامة الإنسانية، وتؤسَّس على العدالة والمساواة، والارتقاء بحقوق الإنسان وحرياته الأساسية، وتتيح التعددية الحزبية” وجاء فيه “السودان وطن واحد جامع تكون فيه الأديان والثقافات مصدر قوة وتوافق وإلهام”().

        جاء في المادة 4 الفقرة (ج) من الدستور الانتقالي النص الآتي “التنوع الثقافي والاجتماعي للشعب السوداني؛ هو أساس التماسك القومي ولا يجوز استغلاله لأحداث الفرقة” كما جاءت المادة الخامسة المتعلقة بمصادر التشريع مراعية للتنوع حيث نصت على الآتي:

  • تكون الشريعة الإسلامية والإجماع مصدرا للتشريعات التي تسن على المستوى القومي وتطبق على ولايات شمال السودان.
  • يكون التوافق الشعبي وقيم وأعراف الشعب السوداني وتقاليده ومعتقداته الدينية التي تأخذ في الاعتبار التنوع في السودان، مصدرا للتشريعات التي تسن على المستوى القومي وتطبق على جنوب السودان أو ولاياته.
  • في حالة وجود تشريع قومي معمول به حالياً، أوقد يسن ويكون مصدره دينيا أو عرفياً؛ يجوز للولاية وفقاً للمادة 26 (1) (أ) في حالة جنوب السودان، التي لا يعتنق غالب سكانها ذلك الدين أو لا يمارسون ذلك العرف أن:

(أ) تسن تشريعاً يسمح بممارسات أو ينشئ مؤسسات في تلك الولاية تلائم دين سكان الولاية وأعرافهم، أو

(ب) تحيل التشريع إلى مجلس الولايات لإجازته بوساطة ثلثي جميع الممثلين في ذلك المجلس أو يبتدر إجراءات لسن تشريع قومي تنشأ بموجبه المؤسسات البديلة الملائمة().

هذه النصوص جيدة ولكن المشكلة تكمن في التطبيق والممارسة، فبالرغم من النص على احترام التنوع الثقافي، إلا أن الممارسة العملية لم تفلح في تنزيل هذه النصوص لأرض الواقع، فظل الصراع هو السائد، هكذا ظلت مشكلة جنوب السودان تراوح مكانها في كل العهود الوطنية، التي لم تخلو من محاولات جادة للمعالجة في إطار الوحدة الوطنية، ولكن تطاول الصراع، وكثرة الاتفاقيات، والتدخلات الخارجية، والفشل في إدارة التنوع؛ كل هذه العوامل أدت إلى فقدان الثقة بين الشماليين والجنوبيين؛ فضلا عن الخسائر المادية والبشرية التي لحقت بالشمال والجنوب؛ مما كان نتيجته انفصال جنوب السودان وقيام دولة مستقلة تحمل اسم جنوب السودان؛ مما يشير إلى الارتباط الوجداني بين الشمال والجنوب الذي لم تفلح الإدارة السياسية في توظيفه لمصلحة الوحدة الوطنية.

إن مسألة التعايش السلمي بين كافة مكونات النسيج الاجتماعي والسياسي في السودان ظلت مسألة تؤرق الباحثين الدستوريين والسياسيين ومؤسسات الدولة، منذ فجر الاستقلال والى وقتنا الراهن، وكانت الحلول المتبناة في الغالب تعبر عن رؤية أحادية غير مستوعبة للتنوع في السودان، ولا تعبر أيضاً عن المتطلبات المستقبلية لبناء تعايش سلمي في السوداني.

إن أحد أهم الأسس التي يقوم عليها عدم الاستقرار السياسي الاجتماعي، الاقتصادي الأمني هو عدم الإقرار بواقع التنوع والتمايز في المجتمع السوداني على المستوى الدستوري، ويأتي الحديث عن التنوع ليشمل كافة أنواع التنوع.

وقد أخفقت سياسية إنكار الآخر إلى أن بدأت بعض المجموعات الاجتماعية والسياسية في اللجوء إلى وسائل غير سليمة أو غير قانونية للتعبير عن احتياجاتها، وأدت تلك السياسة بالنتيجة إلى انفصال جنوب السودان.

أن بنية المجتمع السوداني ليست فريدة من زاوية تنوعها بالمقارنة بمعظم المجتمعات الإنسانية        الأخرى، فكل المجتمعات الديمقراطية العتيقة في العالم قائمة على أساس إعطاء تقدير خاص للتنوع والتمايز في المجتمع تفادياً لخلق أي هشاشة في بنية السلام والاستقرار في المجتمع().

المطلب الثالث

الشورى وصيانة العيش المشترك في السودان

الفرع الأول: المجموعات الدينية والتعايش:

التدين مطلب فطري للإنسان، لذلك لا يخلو مجتمع إنساني من الانتماء الديني بصورة أو أخرى، والسودانيون تجري في دمائهم العاطفة الدينية، لذلك تجد كثرة الجماعات والطرق العاملة في مجال الأنشطة الدينية، والسودان يتميز بالتنوع الثقافي والعرقي، وكذلك التنوع الديني؛ المسلمون يشكلون أغلبية في السودان، والديانة الثانية هي المسيحية، وهنالك مجموعات تدين بعقائد وضعية أفريقية في الأنقسنا وجبال النوبة، واليهود في السودان غير موجودين في الوقت الحاضر، وإن وجدوا فليس لديهم نشاط ديني واضح.

والمسلمون تضمهم مجموعات دينية متعددة: طرق صوفية، وحركات دعوية، وجماعات سلفية، والمسلمون في السودان باختلاف مدارسهم الفكرية ومرجعياتهم الفقهية ينتمون لمذهب أهل السنة، وقد ظهرت جيوب صغيرة لم تعلن عن نفسها ذُكِر أنهم تَشَيَّعُوا، وعلاقة المسلمين مع غير المسلمين تحكمها الأعراف السودانية، المستمدة في الغالب من التعاليم الإسلامية.

        إن فقه التنوع يبين أن الاختلاف بين الجماعات الدينية الإسلامية؛ اختلاف في الفروع وفي الوسائل، وليس اختلافا في الأصول والمبادئ, فهنالك جماعات تعمل في مجال تصحيح العقيدة لمحاولة تثبيتها ودفع الشبهات عنها، وتنقيتها من الخرافات ومطاردة الشركيات والقبوريات. وجماعات تعمل في مجال العبادات لربط الأمة بأركان الإسلام العملية وبعباداتها الشعائرية الكبرى وتفقهها فيها، وخصوصاُ الصلاة عمود الإسلام، والفريضة اليومية التي جعلها الله فيصلاً بين المؤمن والكافر، والتي تجعل المسلم على موعد مع ربه كل يوم خمس مرات. وجماعات أخرى في تهذيب السلوك والارتقاء بالذوق الخلقي.

وجماعات أخرى تعمل في ميدان الفكر والثقافة؛ لتقاوم الغزو الفكري والاستعمار الثقافي، وتحرر العقل المسلم من آثار التغريب الذي خرب العقول، وأفسد الكثير من النخب والمثقفين، وجماعات أخرى تعمل في مجال التربية والتعليم بإنشاء المدارس الإسلامية لتعليم أبناء الأمة وتقوم جماعات أخرى بالنشاط الاقتصادي أو الإعلامي أو السياسي وغيرها من الأعمال التي تؤدي إلى نهضة الأمة.

 البيئية السودانية تقبلت كل هذه المجموعات واحتفت بها؛ والفضل في نشر الإسلام؛ يرجع للتصوف، وترسيخ أحكام الدين يرجع للفقهاء، والتربية الإسلامية ونشر القرآن يرجع للخلاوى والتصدي للغزو الخارجي وترسيخ مبادئ الدولة الإسلامية يرجع للمهدية؛ إلا أن البيئة السودانية قبلت الأخوان المسلمين وأنصار السنة وحزب التحرير والجماعات السلفية؛ كجماعات وافدة من مصر والخليج وبلاد الشام.

وقد ظهر في الآونة الأخيرة نوع من التطرف والغلو مرجعيته خارجية إلا أنه قابل للتطور، خاصة مع ظاهرة التمدد الشيعي والسلفي؛ الذي من الممكن أن ينقل الصراعات السياسية  الإقليمية للسودان.

إن التعايش بين مكونات المجتمع السوداني الراسخة متين ومحفوظ بعدة عوامل عقدية واجتماعية وتداخل أسرى، ولكن الأخطار الوافدة تنفذ أجندات خارجية من شأنها أن تودي بالتماسك الاجتماعي والتسامح الديني.

ولكي يدار التنوع الديني بأسلوب يحفظ للجميع حقهم في الاعتقاد والتعبد وحرية الفكر ينبغي اتباع المنهج الآتي:

أولاً:   أن يعتقد الجميع أن العمل في ميادين العمل الإسلامي مطلوب؛ ومن سد ثغرة فيها وقام بحقها؛ فقد أدى فرض الكفاية عن الأمة وأسقط الحرج والإثم عنها.

ثانياً: أن يكون بين الجميع قدر من التفاهم والتنسيق بحيث يخدم بعضهم بعضاً ويقوي بعضهم بعضاً، ولا يكيد بعضهم لبعض ولا يتصور أحدهم أن يبني نفسه على أنقاض أخيه().

ثالثاً: الاتفاق على الثوابت وصياغتها صياغة محكمة والالتزام بها من الجميع.

رابعاً: احترام الاجتهاد المخالف باعتباره مشروعاً حث عليه الإسلام.

خامساً تجريم التكفير ومحاصرة دعاته وعزلهم اجتماعياً.

سادساً: الاتفاق على معالم النظام السياسي للدولة الإسلامية باعتبار أن الصراعات السياسية هي الطاغية بين الجماعات الإسلامية.

سابعاً: الاتفاق على الأساليب الشرعية للدعوة الإسلامية في العصر الحديث.

الفرع الثاني: مجلس التعايش الديني وإدارة التنوع:

مجلس التعايش الديني في السودان تم تأسيسه في عام 2002م كمنظمة طوعية مستقلة يهدف لترسيخ قيم التسامح والتعايش والتعاون بين الجماعات الدينية ولإدارة الحوار بينها.

وينص النظام الأساسي للمجلس على الأهداف التالية:

  • ترسيخ قيم التسامح والتعايش بين الطوائف والجماعات الدينية المختلفة في السودان.
  • إدارة الحوار وتوسيع التواصل بين القيادات الدينية والجماعات والمهتمين في سبيل تعزيز القيم الروحية والدينية المشتركة، وتوطيد قيم السلام والوحدة الوطنية والمساهمة في حل مشاكل الوطن الكبرى.
  • حماية الحريات الدينية وأماكن العبادة والدفاع عن المقدسات الدينية.
  • وضع خطط استراتيجية طويلة المدى لتعزيز علاقات سليمة ومفيدة بين الجماعات الدينية المختلفة تقوم على العدل والتفاهم والتعاون.
  • حل النزاعات بين الطوائف الدينية وتقريب وجهات النظر حول المسائل العملية المشتركة.
  • التوصية لدى الدولة بالتشريعات والسياسات والإجراءات التي من شأنها حماية الحقوق والقيم والرموز الدينية خاصة أماكن العبادة.
  • التوصية بالسياسات الإعلامية والتعليمية والثقافية التي تعكس التعدد والتنوع الديني والثقافي وتشيع حاجيات المجموعات الدينية المختلفة.
  • المساهمة المشتركة والتعاون الوثيق بين الجماعات الدينية السودانية لمواجهة المشكلات الاجتماعية ومواجهة إفرازات الحرب().

والمجلس يتكون من جمعية عمومية تضم ستين عضواً من القيادات الدينية؛ مناصفة بين المسلمين والمسيحيين، تضم من المسلمين الأنصار والختمية والحركة الإسلامية وهيئة علماء السودان وبعض الطرق الصوفية، ومن المسيحيين: الكنيسة الكاثوليكية والأسقفية والإنجيلية والقبطية والمسيح السودانية واللوثرية بالإضافة إلى مجمع الكنائس السوداني().

إن المجلس يعتبر منبراً جيداً للعمل المشترك بين الجماعات الدينية ونموذجاً لإدارة التنوع، حيث استطاع أن يعالج كثيراً من الأزمات التي تنشأ بين الجماعات واسترد حقوق المسيحيين التي اعتدي عليها.

ففي مجال العمل استطاع المجلس في دورته الأولى؛ أن يعالج المشكلات الآتية:

  • تعويض الكنيسة الكاثوليكية عن النادي الرياضي الذي أخذ منها عام 1997م.
  •  بناء مدرسة الكنيسة الأسقفية في الرنك التي هدمت بسبب وقوعها في مسير طريق الأسفلت العابر من كوستي إلى ملكال.
  •  إلغاء تجميد نشاط الكنيسة الأرمنية.
  •          –             منح قطع أراضي لأول مرة منذ عقود لتشييد كنائس جديدة لكل من الكنيسة الكاثوليكية والأسقفية والمسيح السودانية.
  •          –             أقام المجلس أكثر من خمسة عشر ندوة حول وضع الدين في اتفاقية السلام الشامل، وعقد عدداً من ورش العمل والملتقيات حول فض النزاعات، دور رجال الدين في بناء السلام، حماية الحرية الدينية، الحوار والتعايش بين الأديان، وأسس المجلس عدداً من اللجان الدينية من أجل السلام في مناطق النزاع().

وتعزيزاً لإدارة التنوع كون المجلس لجنة لحماية الحريات الدينية تحتفي بإشاعة وإعلاء مفهوم الحرية الدينية وتربية وتدريب الشباب على رعاية الحرية الدينية واستلام البلاغات والشكاوى بخصوص انتهاكات الحرية الدينية، وتكوين اللجان وإرسال المندوبين لجمع المعلومات والتحقيق في دعاوى الانتهاكات، ومعالجة حالة الانتهاك بالنصح أو التسوية أو العون القانوني أو نشر تقرير عنها في وسائل الإعلام().

وينص النظام الأساسي للجنة الحريات الدينية على الأعمال التي تعتبر انتهاكاً للحريات الدينية وحصرها في الآتي:

  • ممارسة الإكراه على شخص لاعتناقه الدين أو تقديم إغراء مادي له كشرط لدخول الدين.
  • منع الشخص من ممارسة عبادة وطقوس دينه.
  • عدم تمكين الجماعات الدينية من الحصول على مكان للعبادة.
  • هدم أماكن العبادة أو مصادرتها تعسفياً.
  • منع نشر المادة الدينية.
  • منع حركة رجال الدين خارج أو داخل البلاد().

مجلس التعايش الديني يعتبر نموذجاً للتعايش بين الأديان؛ ومنبرا للعمل المشترك من حيث الأهداف والهياكل والإدارة؛ وتنقصه الإمكانيات المادية لتنفيذ أهدافه الجيدة المنصوص عليها في نظامه الأساسي.

ومن الوثائق المهمة التي أصدرها المجلس: ميثاق التعايش والتعاون الديني في السودان الذي وقعت عليه معظم القيادات الدينية في الإسلام والمسيحية في مؤتمر نظم بالتعاون بين وزارة الإرشاد والأوقاف، ومجلس التعايش الديني السوداني، والمعهد الملكي للدراسات الدينية بالأردن جاء فيه:

أولاً:   أن الأصل الواحد للديانتين الإسلامية والمسيحية يوجب علينا أن نتعاون على البر والخير لمصلحة شعبنا العظيم والإنسانية جمعاء.

ثانياً: إن الدعوة للدين والتمسك بمبادئه إنما تكون بالحسنى والرفق واجتناب التهييج والعنف وأنواع العصبيات الطائفية والحرص على نشر ثقافة السلام والتسامح والتكامل.

ثالثاً: ضرورة المحافظة على كرامة الإنسان باعتبارها قيمة عليا.

رابعاً: السلام الذي تحقق في بلادنا نعمة من الواجب علينا أن نعمل على استدامتها.

خامساً: إن وحدة السودان هدف من أهدافنا ويجب أن تتكامل المساعي والجهود للوصول إلى الوحدة الاختيارية الطوعية.

سادساً: نؤكد على أن العدل الاجتماعي بمظاهره المختلفة من أهم ركائز الوحدة ووسائل تعزيز السلام.

سابعاً: نتعهد بأن نعمل جميعاً مسلمين ومسيحيين على ترسيخ الأخلاق الفاضلة وحماية الأسرة ومنع أسباب التفكك الأسري والانحلال الخلقي صوناً لمجتمعنا وحماية له.

ثامناً: نتعهد بأن، نعمل جميعاً مسلمين ومسيحيين على تنمية بلادنا وتطويرها.

تاسعاً: تتعهد بأن نتعاون جميعاً على تشجيع التفاهم والتقارب العرفي والقبلي وتعميق التفاهم بين المجموعات الدينية والقبلية المتعددة من اجل وطن واحد مستقر ومزدهر.

عاشراً: نسعى معاً إلى مواجهة الدعاوى اللادينية والالحادية التي تحاول أبعاد الإنسان عن الله جل وعلا وتسعى لتقويض القيم الدينية الفاضلة.

حادي عشر: نقف صفاً واحداً في وجه كل أنواع العدوان والتدخل الخارجي الذي يهدف إلى تمزيقنا واستقلالنا وإذلالنا.

ثاني عشر: نحرص معاً للاستفادة من تجارب الدول الشقيقية والصديقة في مجال التعايش الديني وتفعيل قنوات الحوار المبني على القيم والتفاهم والاحترام المتبادل بين المواطنين.

ثالث عشر: نتعهد بأن نعالج معاً المشاكل ونزيل العقبات التي تعترض عملية بناء السلام وتهدد الوحدة الوطنية عبر التوافق واحترام القواسم المشتركة بيننا().

هذه المبادئ إذا تم تنزيلها لأرض الواقع وأصبحت ثقافة مجتمعية ممارسة؛ فإنها سوف ترسخ السلام والتسامح في الحياة وسينعم المجتمع بعلاقات إنسانية راقية.

تأسس هذا المجلس في نوفمبر2002م، بتوجيه من ملتقى الخرطوم العالمي من أجل السلام والتعاون الديني، حيث دعت التوصية لإنشاء المجلس وتم اعتماد أربع مؤسسات كمؤسسين له وهي: لجنة حوار الأديان، ومجلس الكنائس السوداني، ومجلس الصداقة الشعبية العالمية، ووزارة الارشاد والأوقاف، وتمثل الطوائف في المجلس ومكتبه التنفيذي بتوازن يؤطر روح التعايش().

تأسس مجلس التعايش الديني نتيجة لحوار طويل بين القيادات الدينية المسلمة والقيادات الدينية المسيحية في السودان، لتعزيز العلاقة بين المسلمين والمجموعات الدينية الأخرى.

الفرع الثالث: الشورى وإدارة التنوع في السودان

السودان يتميز باحتضانه لكل مظاهر التنوع؛ ففيه التنوع الجهوي، والتنوع القبلي، والتنوع الثقافي، والتنوع الفكري، والتنوع الديني، فضلا عن التنوع السياسي.

وتبين مما سبق أن كل التجارب التي طبقت في السودان، واجهت معضلة إدارة التنوع، ورغم الاجتهادات الكثيرة التي طبقت، والوسائل التي اتبعت؛ إلا أن أزمات السودان ظلت مستفحلة ومتزايدة، مما يدل على قصور المناهج التي اتبعت وعجزها عن إدارة التنوع في السودان. وباستعراض النماذج التي وردت في ثنايا البحث؛ يتبين أن منهج الشورى هو الأفضل لمعالجة الأزمات التي تعانيها المجتمعات القائمة على التنوع.

إن السودان يعاني من الأزمات الآتية:

أزمة الهوية.

أزمة التنوع الاثني.

أزمة التقاليد الاجتماعية والمجتمع الحضري.

أزمة المركز والأطراف.

أزمة تعدد الجماعات الناشطة في مجال الدعوة.

أزمة التعايش مع التنوع الديني.

أزمة المصالح الوطنية والعلاقات الدولية.

هذه الأزمات لم تفلح كل النظم الوطنية في علاجها علاجاً ناجعاً، فالهوية السودانية متنازعة بين العروبة والأفريقية، وبين الانتماء للعالم الإسلامي ومجموعة الدول الأفريقية، وبين الثقافة العربية والثقافات الأخرى.

فالثنائية متجذرة في كل مناحي الحياة، حتى أن الاستعمار للسودان كان ثنائياً، والاشتباك في مسألة الهوية ينسحب على كل الأزمات الأخرى، عليه فإن الأمر يحتاج إلى منهج مدرك لكل هذه الأبعاد وتعقيداتها ومن ثم إيجاد الحلول لها.

التجربة السودانية بما فيها من نزاعات دينية وثقافية وسياسية أوجبت الاتفاق على مجموعة من المواثيق لتكون بمثابة دروس مستفادة من التجربة ولبنات صالحة لبناء الوطن. إن منهج الشورى يؤدي إلى تجفيف منابع الصراع بعقد مواثيق منها:

الميثاق الديني:

 كل الأديان عرفت في ماضيها الاضطهاد الديني الذي مارسته الأديان المهيمنة أو المذاهب المهيمنة ضد الآخرين … الدرس المستفاد من تاريخ البشرية هو أن الاستعلاء والهيمنة لا يصلحان في إلغاء الآخر الديني والثقافي بل يفلحان في إثارة المقاومة وسفك الدماء.

الدرس المستفاد هو أن تكامل الأديان المختلفة في داخلها وفيما بينها بالاعتراف المتبادل والتعايش السلمي والتسامح وفق الأسس الآتية:

الأساس الأول: الاعتقاد الديني ضرورة إنسانية لتحقيق الطمأنينة النفسية، والرقابة الذاتية، وتحصين الأخلاق، والتماسك الاجتماعي، وإقامة هوية جماعية تؤنس وحشة الأفراد.

الأساس الثاني: لكل دين عقائد وقيم ومبادئ يجب الاعتراف بها كما يحددها أصحابها، وعلى المجتمع كفالة حرية الاعتقاد الديني، وكفالة حق إصحابه في تطبيق شرائعهم، وإقامة شعائرهم وتأسيس معابدهم ونشر تعاليمهم دون عائق، على أن يلتزموا جميعاً بالامتناع عن فرض تلك العقائد بالإكراه أو نشرها بالقوة، وأن يلتزموا بالتعايش مع المذاهب الأخرى داخل الملة الواحدة ومع العقائد الأخرى بين الملل والدعوة لعقائدهم بالحسنى بلا إكراه.

الأساس الثالث: تكوين آلية مستقلة تمثل الطيف الديني في السودان لمتابعة الالتزام بهذه المبادئ والعمل على أن تكون جزء لا يتجزأ من الدستور.

الميثاق الثقافي:

        السودان وطن متعدد الأديان والثقافات والإثنيات، المجموعات الوطنية السودانية الدينية والثقافية والإثنية تعترف ببعضها بعضاً ، وتمارس هويتها الثقافية بحرية على أن تلتزم بأمرين:

الأول: عدم المساس بحقوق المواطنة.

الثاني: التعايش مع حقوق الآخرين وعدم السعي لتحقيق امتيازات على حسابها.

برامج البلاد التنموية والعلمية والإعلامية تأخذ في حسبانها التنوع الثقافي وتسعى للتعبير عنه وتؤسس لتمكين الثقافات السودانية من التطور.

السياسة الثقافية في البلاد تأخذ طابعاً يوفق بين أهداف المركزية واللامركزية ويدعم التفاف المواطنين حول المواطنة.

الثقافات على تعددها وتنوعها ينبغي أن تتفاعل مع غيرها لتزيد ثراءٍ وإبداعاً().

الفصل الخامس

الشورى ودورها في تحقيق الوحدة

في ظل التنوع

وفيه مبحثان

المبحث الأول: القواسم المشتركة

المبحث الثاني: دور الشورى في تحقيق الوحدة في ظل التنوع

المبحث الأول

القواسم المشتركة

وفيه ثلاثة مطالب:

المطلب الأول: المشترك الإنساني

المطلب الثاني: المشترك بين الإيمانيين

المطلب الثالث: المشترك بين المذاهب

المطلب الأول

المشترك الإنساني

الفرع الأول: أهمية الدين في حياة الإنسان

هنالك كتابات كثيرة تناولت العوامل المشتركة بين البشرية، أهمها فيما اطلعت عليه كتاب” المشترك الإنساني نظرية جديدة للتقارب بين الشعوب” للدكتور: راغب السرجاني()، والذي استفدت منه كثيرا في هذا البحث. فبعد تأكيده على انحدار الناس باختلاف ألوانهم وأعراقهم من أصل واحد، أورد حقيقة علمية مذهلة تقول: “إن جميع البشر يتفقون في شكل وتركيب الحامض النووي بنسبة 99,9%، وأن الاختلاف بينهم لا يقع إلا في حدود 0,01% فقط!() المشترك الإنساني حسب رأي الدكتور السرجاني ينقسم إلى أربع مجموعات هي:

مجموعة المشترك الأسمى

مجموعة المشتركات الإنسانية العامة

مجموعة المشتركات الإنسانية الخاصة

مجموعة المشتركات الإنسانية الداعمة

ويشرح ذلك بقوله: مجموعة المشترك الأسمى لا تضم إلا مشتركا واحدا فقط، وهو العقيدة، وأنا احسب أن هذا المشترك هو أهم ما يميز الإنسان، وأغلى ما يمتلك، وأفضل شيء يعطيه “هوية” معينة، وهو أقوى رباط بين اثنين أو بين شعبين، وهو يتجاوز حدود الزمان والمكان، فيشعر أبناء العقيدة الواحدة بالانتماء إلى أبناء عقيدتهم الذين عاشوا قبلهم بألف عام، ويشعرون بالانتماء لأبناء عقيدتهم الذين يعيشون في أرض بعيدة، أو ظروف اقتصادية مختلفة تمام الاختلاف.. إنه الرابط الأسمى الذي لا يعلوه رابط، خاصة في الأوساط التي تشهد صحوة دينية، وعودة إلى الأصول.. مرًّ مصعب بن عمير() رضي الله عنه يوم بدر بأخيه أبي عزيز بن عمير بن هاشم() في الأسارى لأَحَد الأنصار، فقال: شُدَّ يديك به، فإن أمه ذات متاع لعلها أن تفتديه منك() ما قاله مصعب بن عمير رضي الله عنه في هذه القصة ليس غريبا ولا عجيبا، فمن أجل العقيدة يترك الناس أهلهم وعشائرهم، ومن أجلها يتركون ديارهم وأوطانهم، ومن أجلها يدفعون أموالهم وثرواتهم، فلاغرو أن تكون أسمى ما يمتلك الإنسان، ولذلك أطلقت على هذه العقيدة اسم “المشترك الأسمى”(). وما يؤكد هذا أن الإنسان حيث ما وجد كانت العقيدة جزء من تكوينه. فالحياة بدون عقيدة لا قيمة لها، والإنسان بطبيعة تكوينه تُمَثّل العقيدة ضرورة من ضرورات حياته النفسية والاجتماعية والكونية.

الدين من قدر الإنسان؛.. نفس الإنسان مجبولة على اعتقاد أن لكل الموجودات كمالا، وأن لكل وجود بداية ونهاية، وأن للإنسان في هذا الكون مكاناً، وأن وراء الحس مدركات، تدرك بوسائل غير حسية. وأن وراء هذا العالم المشاهد الناقص عالما عادلاً، وأن الاتصال بعالم ما وراء الحس، والتطلع للكمال، يزيدان عطاء الإنسان كمّاً وكيفاً، وأن هذه العوامل الروحية في حياة الإنسان لها وظيفة:

أولاً: أنها عن طريق الإيمان تمنح النفس الإنسانية عصاماً.

ثانياً: أنها عن طريق دعمها للأخلاق تمنح العلاقات الإنسانية شرعية.

ثالثاً: أنها عن طريق مكانة الإنسان في الكون تعطي حياته معنى().

وأثبتت الدراسات أن العقائد تكونت عبر وسيلتين هما: مخاطبة الله للناس عن طريق الرسل، وهذه كانت ثمرتها العقائد الدينية السماوية، والوسيلة الثانية: سعي الإنسان نحو المثل الأعلى وهذا السعي نتيجته العقائد الوضعية.

ويمكننا أن نقسم عقائد العالم إلى مجموعات ضخمة تبرز لنا أهمية هذا المشترك الأسمى، وقدر ما يجمعه من بشر.. هنالك مجموعة الأديان السماوية، وهي تشمل الإسلام والنصرانية واليهودية، وهؤلاء يتجاوزون نصف سكان الأرض (54%) وهم يشتركون في أمور كثيرة، وإن كانت هناك بلا شك اختلافات جذرية بين العقائد السماوية الثلاث، لكنهم في النهاية يجتمعون في أكثر من مبدأ..

تخبرنا أسفار الكتاب المقدس ويشاركها القرآن الكريم في ذلك عن ثلاثة أنواع من الأفعال او الأعمال، وهي:

أفعال السوء: تشمل هذه الأفعال كل أصناف الذنوب من معاصٍ وشرور أو موبقات وآثام.

الأعمال الفاترة: وهي تلك التي لا تخالف لا الوصايا ولا الشرائع ولا الناموس، ولا تصدر عن فعل محبة لا لله ولا للإنسان القريب أو الآخر، فالإنسان الفاتر هو الإنسان غير المحب، الذي يأتي بأعمال لا تتميز بالمحبة ولا بالمودة ولا بالحنان.

الأعمال الصالحة: وهي مجموعة من التصرفات والممارسات التي تنصح المسيحية بالقيام بها … إنها الأعمال النافعة التي لا حياة ممكنة من دون وجودها، تقوم وتنطلق من الوصايا الإلهية وتأمر بها قوانين الله وشرائعه، إنها الخير والصلاح المعروف والنافع والقيم والطيب، والمفرح والمبهج، إنها نور الحياة وعصب العيش، وذخيرة الآخرة، وكنز الخلاص().

وهناك مجموعة ثانية من الأديان التي تعرف بالأديان الوضعية، وهم أيضا أعداد كبيرة، ولعلهم يمثلون ما يقارب ثلث سكان العالم (30%) ويأتي في مقدمتهم أتباع الديانة الهندوسية() حيث يمثلون حوالي (14%) من سكان العالم. ثم تأتي ديانات أخرى كالبوذية() والشنتوية() وأديان كثيرة محلية في كثير من أقطار العالم. أما المجموعة الثالثة والأخيرة فهي مجموعة اللادينيين أو الملاحدة الذين ينكرون وجود إله بالكلية، وهؤلاء يقتربون من خمس سكان العالم (16%) أو لعلهم يزيدون، لأن كثيرا ممن يحسب على النصرانية في أوروبا وأمريكا هو في واقع الأمر ملحد، ولا يعترف بأي دين. المهم أننا وجدنا أن البشر جميعا “يشتركون “في أنهم يعتقدون اعتقادا ما في قضية “الإله”.. من هو؟ وما صفاته؟ وكيف نعبده؟ وماذا يريد منا؟ كما أن هناك عددا كبيرا من البشر “يعتقدون” في عدم وجود إله().

ما هو العمل مع هذا المشترك الأسمى؟ إنه من الثابت حقا أن تغيير جزئية في العقيدة أمر صعب للغاية، بل المفترض أنه مستحيل.. فأصحاب الأديان سواء السماوية أو الوضعية يعتقدون أن هذه العقائد والتشريعات هي من عند الإله، وبالتالي ليس هناك مجال لتغييرها، ولا نملك ذلك، ولا نقدر عليه، ومن هنا فليس هناك معنى أن نسعى إلى فكرة الالتقاء في منتصف الطريق، وليس هناك معنى لما يسمى بوحدة الأديان، أو دمج الأديان، لأن هذا يعني تكوين عقيدة جديدة لن يرضى عنها الجميع، كما أننا لا نستطيع أن نلتقي في منتصف الطريق مع الذين ينكرون وجود الإله، ويرفضون مبدأ الدين من الأساس، فالذي يؤمن بالإسلام أو النصرانية أو اليهودية أو البوذية؛ لن يقبل مبادئ الملحد العقائدية، والملحد يرى كل أصحاب الأديان يعيشون في وهم كبير، ومن ثم فالالتقاء في منتصف الطريق أيضاً مستحيل، فما الحل؟!

هل أصبح الصدام حتميا هكذا؟!

أبدا..

إن الحل الأمثل هو أن “يقنع ” كل البشر أن العنف والجبر لن يغير من عقيدة إنسان، بل سيقود إلى دمار وخراب، ومن هنا جاء قول الله عز وجل في القرآن الكريم:” لاَ  إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ” [البقرة:256]، وجاء كذلك قوله سبحانه وتعالى:” وَقُلِ الحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ [الكهف:29]، والذي يعلن عن اعتناق عقيدة معينة تحت سيف القهر، ونتيجة ضغوط الإكراه ليس في الحقيقة معتنقا لهذه العقيدة الإكراهية، إنما يعتقد عقيدته الأصلية في السر، بل لعله ازداد تمسكا بها وسينقلب لا محالة لقنبلة موقوتة تنتظر الانفجار.

إن الحل الأمثل حقيقة هو أن نلتزم بالتوجيه القرآني العميق، الذي قال فيه الله عز وجل: قُلْ يَا أَيُّهَا الكَافِرُونَ (1)  لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلاَ أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ (4) وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ [الكافرون:1-6]، ما أعمق هذا التوجيه.. إنه خطاب في منتهى الوضوح .. أنا سأظل عابدا ما أعبد.. وأنتم لكم مطلق الحرية أن تعبدوا ما تريدون.. لكم دينكم ولي دين.. ولست مع من يقول: إن هذه السورة كانت تناسب مرحلة معينة، كان المسلمون فيها ضعفاء. بل إنني أجدها منهج حياة دائما، ويا ليتنا نلتزم به في كل الأزمان، فنحن لسنا مطالبين بإجبار الناس على تغيير عقائدهم.. وليس من قبيل المصادفة أن رسولنا صلى الله عليه وسلم؛  كان يعلمنا أن نكثر من ترديد هذه السورة خاصة “سورة الكافرون” في أوقات كثيرة من يومنا، ومن حياتنا، فكان يقرؤها صلى الله عليه وسلم في أذكار الصباح والمساء() وكان من سنته أن يقرأ بها في صلاة الفجر “سنة صلاة الصبح”()، وكان يقرؤها في سنة المغرب()، وكان يقرؤها في الركعتين خلف مقام إبراهيم عليه السلام بعد الطواف في العمرة أو الحج()، وكان يقرؤها في ظروف أخرى كثيرة.. إنها إعلان واضح رائع … يقول المسلم يوميا: أنا متميز عن غيري ولي عقيدتي التي اعتز بها. وفي الوقت نفسه يقول: أنا محترم لغيري متعايش معه، وأقبل أن يعبد ما يعبد، وأن يعتقد فيما يريد أن يعتقد().

ولكن هذه الاختلافات تقل أو تكثر تضعف أو تشد، تصغر أو تكبر حسب نسب مختلفة، وفئات متنوعة بين الإنسان والآخر:

فأنا مع الشخص الذي لا يؤمن بأي دين تكون المسافة بيني وبينه أكبر بكثير من غيره، ولكن تجمعنا الصفات المشتركة السابقة بالإضافة إلى كونننا نشترك في البحث عن الحقيقية.

 وأنا مع الشخص الذي يؤمن بالله تعالى مطلقاً تكون الفوارق بيني وبينه أقل من فئة الذي لا يؤمن ولكنه من فئة أهل الكتاب.

وأنا مع من هو من أهل الكتاب، تكون الفوارق أقل بالنسبة للفئة السابقة، وأكبر بالنسبة للفئة اللاحقة، ثم أن داخل أهل الكتاب تكون المسافة والفوارق بيني وبين النصارى أقل من المسافة والفوارق بيني وبين اليهود.

 وأنا “المسلم” مع غير المسلمين المحاربين تكون العلاقة بهم تحكمها ظروف الحرب ولكن وفق المبادئ والأخلاق الإسلامية التي تحكم الحرب في الإسلام وأنا مع غير المسلمين الذميين والمعاهدين فالعلاقة تقوم على الحقوق الكاملة تحكم على ضوء المبادئ الإسلامية العظيمة في هذا المجال.

وأنا مع المسلمين على مختلف طوائفهم ومذاهبهم، أعتبر واحداً منهم، ولكن لست نسخة طبق الأصل لأي واحد منهم، بل بيننا مساحة ولو كانت صغيرة حسب عناصر الاتفاق والاختلاف داخل المذاهب الإسلامية والطوائف الإسلامية().

الفرع الثاني: المشتركات الإنسانية العامة:

هي الأمور التي يشترك في أصولها وفروعها كل الناس، لدرجة أنه من الممكن أن يقال: إن الذي لا يحمل هذا المشترك هو في الحقيقة ليس إنسانا! وهذا يعني أن هذه المشتركات ضرورية تماما للحياة، والتعرض لها بالأذى أو الضرر لا يعني إلا شيئا واحدا هو الحرب والصدام!

لكن في الوقت نفسه يمكن للبشر جميعا بسهولة أن يجتمعوا على هذه المشتركات، لأنهم جميعا يقدرونها ويحرصون عليها.

إن هذه المشتركات العامة ميدان فسيح جدا للتعارف والتلاقي، وتحديد هذه المشتركات سيفتح لنا آفاقا هائلة للتواصل بين الشعوب().

وهذه المشتركات ثمانية:

الاحتياجات الأساسية

العقل

الأخلاق الأساسية

التملك

الكرامة

الحرية

العلم

العمل

والاحتياجات الأساسية هي الاحتياجات المادية للجسد الإنساني، والتي إن لم توفر له فإن حياته تعرض للخطر، وقد يفضي الأمر إلى الوفاة، ولذلك فكل البشر على اختلاف ثقافاتهم ومشاربهم يحتاجون إليها وهي تشمل: الطعام والمياه، والسكن، والأسرة، والأمن، والملبس، وهذه الأشياء إن لم يجدها الإنسان سعى إليها فطريا. وإن منعها منه أحد أو تعدى عليها حدثت حروب وصدامات لا محالة لأننا لا نتصور حياة بدونها.. وضعت هذه الاحتياجات في المقدمة لأنها أولا: احتياجات حتمية لا يمكن تأجيلها بحال من الأحوال، ولا يمكن الصبر على فواتها، ولذلك فالصراع عليها سيكون أعتى وأشد، وثانيا: شيوع هذه الاحتياجات في كل البشر، وثالثا: لأن بقية المشتركات العامة تحتاج إلى ذهن صاف، وعقل متقد، وبال هادئ، ولا يمكن الوصول إلى هذه الحالة النفسية في ظل تهديد الاحتياجات الأساسية، ورابعا: لأن الله عز وجل عندما أدخل آدم الجنة كما حكى القرآن الكريم طمأنه على أهم ما سيشغله عند دخوله الجنة، فقال له:” ِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَلاَ تَعْرَى (118) وَأَنَّكَ  لاَ  تَظْمَأُ فِيهَا وَلاَ تَضْحَى”  [طه: 118-119](). والعقل أهميته معروفة، فهو الذي يميز الإنسان على بقية المخلوقات، وبه يصبح الإنسان مسئولا عن تصرفاته وأفعاله، وغياب العقل يرفع التكليف والمسئولية عن الإنسان، وهذا متعارف عليه في كل الأديان والأعراف والقوانين، واعتبار العقل مشترك إنساني عام هو أن تلتقي الشعوب على الأمور العقلية لا على الأمور الروحية، وعلى الأدلة والبراهين لا على الانطباعات والغيبيات، وهنا يمكن أن يحدث التواصل والتعارف. ومن ناحية أخرى عدم الحجر على هذا العقل الذي تميز به الإنسان على سائر المخلوقات، لأن الحجر عليه يمثل انتكاسة في البشرية، وضياعاً للإنسانية. عن حماد عن إبراهيم عن الأسود، عن عائشة عن النبي قال: (رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يعقل)().

العقل هو الذي يميز الإنسان عن باقي المخلوقات الحية الأرضية وهو أساس شخصية كل عالم ومخترع، وكل فيلسوف وأديب وهو عماد كل مشروع وكل هيئة وكثيراً ما يوزن الإنسان بمقدار قيمة عقله().

إنه قد يأتي على ذهن بعض المصلحين أو القادة أنهم أوصياء على العالم، فيفكرون هم، ويمنعون غيرهم من التفكير، ولقد ذكر الله عزوجل قصة واحد من هؤلاء، وهو فرعون، فحكى موقفه الذي كان سببا في هلاكه وهلاك شعبه.. قال تعالى على لسان فرعون:” قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى وَمَا  أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ”[غافر:29]، إن هذه الرؤية المتسلطة غير مقبولة حتى من أحكم الحكماء، وهي تقود إلى دكتاتورية مهلكة، وتقود إلى تهميش لعقول البشر، ومن ثم تكون النهاية كوارث صدامية داخلية وخارجية.. داخلية في الوطن الواحد، وخارجية مع الشعوب المختلفة. ومن المهم في هذا الجانب هو عدم السخرية مطلقا من عقول الآخرين، مهما بدا رأيهم عند السامعين غريبا، فبعض الشعوب نتيجة أمور عقائدية تربوية معينة تقبل بأشياء لا تنكرها عقولهم، بينما ترى شعوب أخرى أن هذا أمر منكر تماما، فهنا يجب احترام عقول الآخرين وعدم السخرية من أفكارهم ومعتقداتهم()،  قال تعالى:” وَلاَ تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ” الأنعام:108].

والأخلاق الأساسية هي: الصدق والأمانة والعدل. إن كل شعوب العالم تقدر هذه الأخلاق الثلاثة وتعظمها، حتى إن لم تكن تمارسها، والشعوب التي لا تحرص على هذه القيم الأساسية لا تتجرأ أن تعلن أنها تكذب أو تخون أو تظلم، وإنما تبحث عن مبررات لما تفعل، وقد تدلس على الناس بإعلانات ودعايات توهم بها السامعين أنها لم تخالف هذه الأخلاق الأساسية، فهذه الأخلاق من هذا المنظور مشترك إنساني عام يعظمه كل البشر().

ولذلك أقر الإسلام مبدأ المسئولية الجماعية والمسئولية الفردية، وأكد أن الساكت عن الحق شيطان أخرس، لأن التغاضي عما يتعدى أثره إلى الآخرين تقصير في حق النفس لما لهذا التقاضي من أثر مشجع على التمادي في الباطل والتجرؤ على الظلم والعدوان وهذه هي المسئولية العامة(). وقد روي عن النبي  صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده) ().

والدليل على ذلك أن الإسلام عندما جاء وجد المجتمعات البشرية تعرف قيما أخلاقية؛ فعمل على تهذيبها واستصحاب النافع منها؛ قال : (إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق)().

فقد احتفى الإسلام بحلف الفضول وهو عهد تواثق عليه القرشيون في الجاهلية، روى الحميدي عن سفيان بن عيينة عن عبدالله عن محمد وعبدالرحمن ابني أبي بكر قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لقد شهدت في دار عبدالله بن جدعان حلفاً لو دعيت به في الإسلام لأجبت، تحالفوا أن يردوا الفضول على أهلها وألا يُعد ظالم مظلوماً، قالوا: وكان حلف الفضول قبل المبعث بعشرين سنة في شهر ذي القعدة وكان بعد حرب الفجار() بأربعة أشهر().

وللروم أخلاق أشاد بها الإسلام؛ قال المستورد القرشي عند عمرو بن العاص: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “تقوم الساعة والروم أكثر الناس” فقال له عمرو: أبصر ما تقول. قال أقول ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال لئن قلت ذلك؛ إنَّ فِيهم لَخِصالاً أرْبعاً: إِنَّهم لأحلمُ الناسِ عِند فِتنة، وأسرعُهم إِفاقةً بعد مُصيبةٍ، وأوْشَكُهم كَرَّةً بعد فَرَّةٍ، وخَيْرُهم لِمسكينٍ ويتِيمٍ وضعِيفٍ، وخامسةٌ حسنةٌ جميلةٌ، وأمْنعُهم مِن ظُلْم المُلوك)().

إن حب التملك مشترك إنساني عام يجتمع أهل الأرض جميعا على الاهتمام به واحترامه.. وهو مشترك يبدأ من الأيام الأولى لأي طفل مولود، ويستمر مع الإنسان حتى آخر لحظات حياته. إن التعدي على ملكية الآخر سواء كان التعدي على مال، أو دار، أو أرض، أو أي شيء عيني آخر- سيؤدي إلى صدام حتمي، ومن ثم فلا يمكن أن تقوم علاقة سلام وتعارف بين شعبين تعدى أحدهما على الآخر، وجار أحدهما على ملكية الثاني. والصراع بين العرب واليهود سببه العدوان الصهيوني على الأرض الفلسطينية؛ حيث أُبعد أهل الوطن الأصليين وحل محلهم شعب آخر، بتواطءٍ من المستعمرين، ودعم من الدول الغربية. وهذا من أهم أسباب الخلاف بين الغرب والمسلمين.

وغني عن البيان أن نشير إلى المناهج الفكرية التي تلغي مسألة الملكية، وتجعل كل شيء ملكا للدولة، وتحارب غريزة حب التملك عند الإنسان، هي مناهج تحمل بذور الفشل مع نشأتها، وهي مناهج لا تقبلها الفطرة، وتمجها النفس السوية.. فالتملك مشترك إنساني عام يمكن أن نتعارف على احترامه، ونتواصل على تقديره، ونحرص كل الحرص على عدم الاعتداء عليه().

الكرامة مشترك إنساني عام بين كل البشر، ويعلو عند البعض ويقل عند آخرين، نتيجة عوامل تربوية معينة؛ لكنه موجود على كل حال في كل الناس، ولقد ذكر الله عز وجل ذلك الأمر في حق كل الخلق، فقال:” وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي البَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً” الإسراء:70]، وكل الناس بني آدم، إذا فالتكريم لكل إنسان بصرف النظر عن دينه أو لونه أو جنسه أو وطنه أو الزمان الذي عاش فيه، لذلك اهتم عقلاء العالم بالحفاظ على كرامة الآخرين، وهذا كان يكفل تعارفاً وثيقاً، وتواصلاً حميماً، بل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرص على كرامة الأسير المشرك، فرغم أنه ليس على دينه، ورغم أنه كان حريصاً على قتاله منذ لحظات قبل أن يتم أسره، إلا أنه يقدر فيه إنسانيته، ويحترم كرامته، فيقول لأصحابه عن الأسير: “أحسنوا إساره”()، وكان بذلك يملك قلوب المخالفين، ويفتح الآفاق لحوار وتعارف وتواصل.

فالتعدي على الكرامة تعد على مشترك إنساني عام، لا يمكن أن يقبله إنسان، ولذلك فهذا نذير حرب وصدام، وقد تفنى شعوب من أجل الحفاظ على كرامتها، وقد يكون سبب خدش الكرامة أمراً بسيطاً في ظاهره، لكن عواقبه تكون من القوة بحيث يمكن أن تستنزف إمكانيات أمة أو أمم .. إن الكرامة لهي من أهم خصائص البشر، بل تعلو عند بعض النفسيات، وعند بعض الشعوب حتى تربو على الاحتياجات الأساسية من طعام وشراب، وقديماً قال العرب: “تجوع الحرة ولا تأكل بثدييها”()، فألم الجوع أهون ألف مرة من ألم خدش الكرامة، بل الموت الآن يصبح مرغوباً إذا كان دفاعاً عن الكرامة. ومن لم ينظر إلى هذا المشترك بعين الاعتبار، فهو يبحث عن صدام لا نهاية له().

كل سكان الأرض بلا استثناء يقدرون الحرية، بل ويقدرون الشعوب التي تجاهد من أجل حريتها، حتى إننا نرى كثيراً من سكان الدول الاستعمارية ينادون حكوماتهم أن يرفعوا أيديهم عن البلاد المحتلة، وأن يعطوا شعوب العالم حريتهم.. إنها مطلب إنساني أصيل يمكن أن نجتمع عليه، ونتعارف على أساسه().

والعلم لا يشك أحد في أهميته؛ فبه يرتفع الإنسان ويحقق مطالبه. إن المناخ العلمي الذي أوجده القرآن الكريم بلغ أوجهه في المنهج العلمي الذي انطوت عليه آياته البينات … والذي رسم للإنسان خطوات التعامل مع الكون أو الطبيعة الخارجية، من أجل الوقوف على السنن والقوانين التي تحكمها أو تخضع لها، والتي يعد اكتشافها أساس العلم التجريبي، وأساس تطوره عبر التاريخ، ويمكن إيجاز خطوات هذا المنهج العلمي على النحو التالي:

أولاً: أزاح القرآن الكريم عن كاهل العقل الإنساني كل ما يعوقه عن الملاحظة والتفكر سواء أكان ذلك:

من موروثات البيئة (أي الماضي) قال تعالى:” قُلِ انظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ” (يونس:101).

أو من ضغط المجتمع (أي الحاضر من حول الإنسان) قال تعالى:” قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا  لله مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَّكُم بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ”  (سبأ:46).

ثانياً: أوضح القرآن الكريم بجلاء وفي آيات كثيرة أن الكون خاضع لسنن كونية ثابتة، وأنه يتصف بالحركة والانتظام، والكمية والتقدير والتصنيف، فوق ما جاء فيه من وصف شامل للطبيعة لم يقتصر على السماء دون الأرض ولا على الجماد دون النبات ولا على الإنسان دون الحيوان.

ثالثاً: صوَّر القرآن الكريم علاقة الإنسان بالطبيعة على أنها علاقة مخلوق بمخلوق، وعلى أنها علاقة مخلوق سام بمخلوق مسخرا! الشمس والقمر، والنجوم والفلك والأنهار والبحار… وكل ما في السموات والأرض مسخر للإنسان

رابعاً: وغني عن البيان أن نشير بعد ذلك إلى ما ورد في القرآن الكريم من أمر للإنسان، بالنظر والتفكر والاعتبار والضرب في الأرض والبحث في ميادين التاريخ والطبيعة والنفس والمجتمع.

خامساً: ورد في القرآن الكريم إشارات كثيرة حول بعض القضايا الكونية والسنن الطبيعية وحول خلق الإنسان … جاءت كإظهار أو حوافز  للعقل الإنساني تضاف لتطبق على هذا المنهج، وعلى نحو يتم إدراكه والوقوف عليه خلال العصور.

سادساً: ولهذا، فإن التاريخ الإسلامي لم يشهد مثل ذلك الصراع الذي شهده تاريخ أوروبا بين رجال الدين ورجال العلم أو علماء الطبيعة، بل شهد التقدم في كلا الجانبين: الثقافي الديني والعلمي التجريبي في وقت واحد().       

وكذلك العمل، فهذه المشتركات الثمانية؛ هي في الواقع قضايا فطرية فطر الله الناس عليها، بمعنى أنها زرعت في الإنسان من لحظة خلقه، واتصف بها منذ ميلاده، وتظل معه إلى آخر أيام حياته، وليس له إرادة في استصحابها، ولا يقدر حتى لو رغب أن يتخلى عنها، والإنسان الذي يتخلى عنها هو في واقع الأمر مريض يحتاج إلى علاج، هذه المشتركات هي من الثوابت غير القابلة للتغيير، ومع أن العقيدة هي المشترك الأسمى؛ إلا أنها يمكن أن تتغير، خاصة إذا كان تغييرها نتيجة حوارٍ هادئٍ غير مُتَعَنِّتٍ يبدل القناعات دون إكراه… لكن على الناحية الأخرى فإن المشتركات العامة الإنسانية لا يمكن تغييرها لا بِحوارٍ هادئ ٍولا عنيف، ومن ثَمَّ فلا يجوز بحال من الأحوال أن يفكر شعب في التواصل مع شعب آخر وقد تم تهديد أحد هذه المشتركات العامة، لأن هذا يعني ببساطة فقد الحياة.. ولن يقبل أحد بفقد حياته…().

وفي سياق هذه الأصول المشتركة نجد تضامناً بين الكتب المقدسة الثلاثة حول حزمة متكاملة للأخلاق الإنسانية تكاد تتفق حولها جل الحضارات في تاريخها الطويل وهي():

مركزية الزواج كمؤسسة حلال خبرة ومباركة يجمع اليهود والمسيحيون والمسلمون على اعتبارها الإطار الوحيد المسموح به (والمشرع)، لإقامة العلاقات الجنسية الزوجية.

تحريم الزنا أي الامتناع عن علاقات جنسية، مهما كان نوعها خارج إطار الزواج، فلا شهوة ولا نظر ولا تصرف يخرج عن إطار اللياقة والاحترام والكرامة والمحبة، بل احتشام عام وخاص وعفة وطهارة ونبل وشفافية.

إكرام الوالدين من آباء وأمهات وأجداد وجدات والإحسان إليهم فكراً أو قولاً وفعلاً.

الامتناع عن القتل، فلا قتل في الشرائع الثلاث ولا انتحار ولا أذى للغير، سواء كان هذا الأذى ضرراً جسدياً أو مادياً أو نفسياً أو اقتصادياً مالياً أو روحياً.

الامتناع عن السرقة وكل ما يمت إليها بصلة القرابة! فلا اختلاس ولا إساءة أمانة ولا نصب ولا احتيال ولا تحصيل مال أو ثروات بطرق غير مشروعة.

الامتناع عن شهادة الزور أو الكذب أو ما شابه ذلك من نميمة أو كراهية وحقد أو لعن وسب وذم.

رفض التقية والتدليس عملاً بالوصية الإنجيلية الشهيرة ليكن كلامكم نعم، أو لا، وكل ما زاد على هذه الصراحة أو نقص منها فهو من الشرير (أي من الشيطان أو إبليس) فالمؤمن ملزم بالشهادة لدينه وتعاليم كتابه دون أي مواريه أو كذب أو مسايرة حتى ولو أدى ذلك إلى بذل حياته وسفك دمه واستشهاده().

الفرع الثالث: المشتركات الإنسانية الخاصة

أما المشتركات الخاصة فهي في الحقيقة مشتركات موجودة في كل أمة، ويقدرها كل إنسان، ولكنها تختلف عن المشتركات الإنسانية العامة في أمرين:

أولهما: أن البشر يشتركون في أصول هذه المشتركات، ولكنهم يختلفون في فروعها، بمعنى أن البشر يتفقون في المشترك كمبدأ، لكنهم يختلفون في طريقة تطبيقه.. وكمثال لتوضيح الصورة فكل البشر يحتاجون إلى لغة يتواصلون بها، لكن لكل شعب لغته الخاصة به، ولا يمكن جمع العالم على لغة واحدة. وأما المشتركات العامة فالبشر جميعا يتفقون على أصولها وفروعها، ويتفقون في المبدأ الذي بنيت عليه، وكذلك في طريقة التطبيق، فالعالم كله لابد أن ينعم بالحرية والكرامة، ولابد أن يحترم عقله، ولابد أن تتاح له الفرصة لتعلم علم الحياة والمعمار..

وثانيهما: أن المشتركات العامة ضرورية وحتمية، بمعنى أنه لا يمكن بحال أن نعيش بدونها، ومادامت نزعت من إنسان فإنه لابد له أن يصطدم بمن نزعها منه، لأنه نزع شيئا يهدد حياته .. أما المشتركات الخاصة فهي – على الرغم من أهميتها فإنها أقل درجة من المشتركات العامة، ويمكن للإنسان أن يعيش بدونها، لكنها ستكون حياة تعيسة، وإذا نزعت من الإنسان فإنه سيصطدم مع من نزعها منه، لكن هذا الصدام سيكون أقل دموية من الصدام على المشتركات الأعلى، مثل المشترك الأسمى، أو المشتركات الإنسانية العامة.

والمشتركات الإنسانية الخاصة لا حصر لها وأهمها ثمانية:

الثقافة.

الأرض.

العرق.

التاريخ المشترك.

اللغة.

العادات والتقاليد.

القانون.

الأخلاق السامية().

فالثقافة شيء مقدر ومحترم من كل الشعوب؛ بصرف النظر عن مكنوناتها أو نتاجها، لأنها في النهاية جهد بشري راق، وعمل إنساني عظيم، حتى لو شابتها أخطاء، أو اعتراها نقص فهذا من طبيعة الأفكار الإنسانية. والأفكار الثقافية منها ما هو صدامي يسعي للمواجهة والتحدي. ومنها ما هو تسامحي يسعى للتواصل والانفتاح. ومنها ما هو التزامي انضباطي، يدعو إلى العودة إلى الأخلاق والاهتمام بها، ويواجهه فكر إباحي تحرري، ينظر إلى الأخلاق على أنها قيود على الإنسان. وعلى قدر هذه التقسيمات الكثيرة يتغير سلوك المجتمع، وما أسرع أن تتجمع شعوب كثيرة حول فكر واحد! وما أسرع أن تصطدم كذلك شعوب كثيرة بسبب أفكار متعارضة.

وثقافة المسلم تنبع من العقيدة الإسلامية والأصول الشرعية والقواعد الكلية والأخلاق الحميدة، وهي تتمثل في أنها تعبر عن وحدة الأمة هي الأصل “…إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ “ (الأنبياء:92).

والثقافة الإسلامية ثقافة أخلاقية يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (من أحبكم إليَّ وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة أحاسنكم أخلاقاً، وأن أبغضكم إليَّ وأبعدكم مني يوم القيامة الثرثارون والمتشدقون والمتفيقهون، قنا يا رسول الله قد علمنا الثرثارون والمتشدقون فما المتفيقهون؟ قال: “المتكبرون”)().

ومن خصائص الثقافة الإسلامية أنها عالمية تخاطب الكون كله، يقول العلامة محمد مهدي شمس الدين: “إن سورة الكافرون من أعقد السور في القرآن الكريم، لأنها جمعت بين منتهى التشدد ومنتهى التسامح وقبول الآخر”قُلْ يَا أَيُّهَا الكَافِرُونَ (1)  لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلاَ أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ (4) وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ” الكافرون:6)().

هذه الخصائص نتيجتها الطبيعة إيجاد ثقافة تسامحية تتعايش مع الثقافات المختلفة، ومرنة تواكب التطور في المجتمع الإنساني، ومنفتحة تتجاوب مع المفيد من العطاء الإنساني وتقتبس منه وتستصحبه().

والتعارف الفكري هو من أقوى أسباب التعارف والتواصل، بل إنه يصبح في بعض الأماكن في العالم بديلاً عن المشترك الأسمى وهو العقيدة خاصة في الأماكن التي يقل فيها الارتباط بالدين لسبب أو لآخر.. ومن هنا التعارف المبنى على اتحاد الفكر؛ تعارف قوي للغاية، ويتجاوز كثيرا الحدود الجغرافية والاقتصادية والعرقية .. ولكن من المنطق نفسه فالصدام بسبب الفكر يكون صداماً دامياً، قد يقترب في قوته من الصدام حول المشترك الأسمى (العقيدة) ومن هنا فالمطلوب هو التكامل لا التنافس، فأنا مقتنع بفكرتي ومؤمن بها، لكن ما المانع أن أنقح فكرتي من أفكارك، وأن أكمل نقصي مما عندك.. هذه النظرة التكاملية، وهذا” الانفتاح الفكري” سيؤدي إلى ثراء عظيم بدلاً من التحجر الفكري العقيم، وسيقودنا إلى تعارف تكاملي بدلا من الصدام التنافسي.

إن حرية الفكر في الإسلام واسعة كما تبين من الفصول السابقة، وأن فلسفة الشورى تعتمد على فرضية أن الناس أحرار في أفكارهم وآرائهم، إن حرية الفكر في منهج الشورى مسنودة بنصوص قطعية في الكتاب والسنة، وأكدتها الممارسة النبوية، وممارسات الخلفاء الراشدين، وبعض الممارسات المشرقة في كثير من العهود الإسلامية المختلفة.

وأما الأرض فهي من أشهر الأسباب التي يتجمع عليها البشر ويتعارفون، بل لعلها الأشهر في زماننا، فقد برز في هذا الزمن المعاصر نظام الدول والأوطان

إن الأرض هي الكوكب الذي سخره الله للبشر للعيش فيه واكتشاف قوانينه والاستفادة من خيراته المودعة، وكل إنسان ارتبط بجزء من أجزاء الأرض صار وطنه متعلق به وجدانياً ومصلحياً، فلا يوجد إنسان ليس لديه مكان يتعلق به، قال تعالى:” هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ” (الملك:15). وحتى الرسول صلى الله عليه وسلم كان مرتبطا بوطنه الذي أخرجه المشركون منه وقد وعده الله سبحانه وتعالى بالعودة إليه، قال تعالى:” إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ…” (القصص:85).

وقد ذكر المفسرون أنه المقام المحمود ولكن الراجح إنه مكة، كما ذهب كثير من المفسرين. قال الدكتور محمد محمود حجازي في كتابه التفسير الواضح: .. “إن الذي أنزل عليك القرآن لرادك إلى مكة بلدك الحبيب الذي انصرفت منه وستعود إليه فاتحاً منتصرً بعد خروجك منه مهاجراً،  وتكون الآية نزلت على النبي وهو بمكة متحملاً لأذى قومه صابراً على آلامهم وعلى هذا فهي من باب المغيبات، وهذا الرأي هو الأصح، لأنه دليل على النبوة من حيث صدق خبره()، ووافقه على ذلك العلامة مصطفى الخيري المنصوري صاحب كتاب “المقتطف من عيون التفاسير”، حيث قال بعد أن ذكر قول الذين قالوا إن المقصود هو المقام المحمود قال: وقيل هو مكة المعظمة فقد نزلت عليه في مهاجره حين بلغ الجحفة، وذلك أقرب وهو قول أكثر المفسرين().

فالأرض مسترك إنساني لدى كل بني آدم…. ولا يخفى علينا أن الأرض الواحدة تضم فوقها عشرات التنوعات البشرية، ففيها عدة عقائد، وعدة أعراق، وعدة ألوان، وعدة مستويات اقتصادية، وكل هؤلاء مواطنون في هذه البقعة من الأرض.. يحبونها ويدافعون عنها. الأرض من هذا المنظور من أقوى المشتركات الإنسانية الخاصة، والتي تجمع عددا معينا من البشر في مكان واحد. ولاشك أن ميدان التواصل والتعارف سيكون كبيرا بين “الأراضي” المتجاورة، فهناك عشرات المصالح المشتركة بين الدول المتلاصقة، سواء مصالح متعلقة بمصادر المياه، أو حقولاً مشتركة للنفط والمعادن، أو احتياجاً للتواصل مع العالم الخارجي عبر طرق دولة مجاورة، أو عبر موانئها .. إن مساحة التواصل بين الدول المتجاورة كبيرة للغاية، وليس غريبا الآن في أوربا أن تجد رجلا فرنسياً يعمل في ألمانيا على الحدود مع فرنسا، ويعود يوميا يبيت في بيته الفرنسي! وكذلك الحال في دول مجلس التعاون الخليجي. ويمكن لعقلاء كل دولة إذا فكروا في خلق فرص جديدة للتواصل مع الدول المحيطة لدولتهم؛ أن يخرجوا بما لا يحصى من مساحات الاشتراك.

والعرق من المشتركات الإنسانية الأصيلة، ولعله من أشهر المشتركات “التقليدية” التي دأب البشر على التجمع عليها، والعالم كله يعرف في تاريخه نظام القبائل والعشائر، ويشعر بالارتباط بشكل فطري وتلقائي لأفراد رَحِمِهِ وقبيلته وعشيرته، وفي الوقت نفسه فإن المعارك بين الأعراق المختلفة معارك مشهورة… ومع أن دور العرق قد قل كثيرا مع حياة المدينة الحديثة، حتى صار معظم الناس لا يعرفون أصولهم، ولا يكترثون بالبحث عن أعراقهم، إلا أنه مازال له دور مهم في بعض المناطق، فالعرق مشترك إنساني خاص، والمطلوب عدم الاستعلاء على الآخرين بسبب عرق أو أصل أو جنس، وعدم التصادم على هذا الأساس، وإلا فالنتائج ستكون سلاسل من الصدامات الدموية التي يهلك فيها ما لا نحصيه من البشر!().

إن منهج الشورى يدعو للتعارف بين الناس، وينهى عن التفاضل بسبب الأعراق والقبائل؛ كما سبق توضيحه، قال تعالى:” يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ” الحجرات:13].

المطلب الثاني

المشترك بين الإيمانيين

الفرع الأول: الأصل الواحد للدين:

يرجع الإسلام الأديان السماوية كلها لأصل واحد، وهو الوحي الإلهي، وأن شرائع الله تعالى قد انبثقت من مشكاة نور واحد، ولذلك يدعو الإسلام أتباعه إلى الإيمان بجميع الأنبياء والرسل السابقين، والكتب السماوية المنزلة السابقة،  وأكثر من ذلك فإن القرآن الكريم جعل لفظ الإسلام أسما مشتركاً لجميع الأديان السماوية السابقة، وعلى ألسنة أكثر الأنبياء، كما جاء على لسان إبراهيم ويعقوب وعدد من الأنبياء والمرسلين … وينتج عن ذلك:

الاعتراف بالأديان السماوية الحقة التي جاءت بها جميع الرسل والأنبياء الذين ذكرهم القرآن أو الذين لم يذكرهم وفسح المجال لأصحاب الأديان أن يعيشوا في ظل الإسلام.

التعامل مع غير المسلمين بالتسامح دون الإكراه والاعتداء().

 قال تعالى:قولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا  أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا  أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا  أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا  أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ  لاَ  نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ” [البقرة:136].

         تعاليم الإسلام تؤكد على أن الإنسانية مهما اختلفت ألوانها، وأعراقها، وأنواعها، وأجناسها؛ فإنها ترجع لأصل واحد، وطِينَة واحدة.[النساء:1].

واختلاف الألسن والألوان آية من آيات الله، ومجال للتفكر والتدبر، وليس سبباً للتفاضل والتفاخر. [الروم:22].

 ويعترف الإسلام بصلته بالرسالات السابقة ويؤكد أنه جاء مكملاً لها، ومصدقاً لها:” الـم (1) اللَّهُ  لاَ  إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الحَيُّ القَيُّومُ (2) نَزَّلَ عَلَيْكَ الكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ (3) مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَأَنزَلَ الفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ” آل عمران:1-4].

 فالرسالات جاءت من مصدر واحد، وكل رسل الله إخوة قال : “أنا أَوْلى الناس بعيسى بن مريم في الدنيا والآخرة، الأنبياء إخوة أولاد عَلاّت، أمهاتهم شتى ودينهم واحد، وليس بيننا نبي”().

كما يؤكد الإسلام أن أصل الدين واحد وإن اختلفت الشرائع قال تعالى:” آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ  لاَ  نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ المَصِيرُ” [البقرة:285].

الفرع الثاني: الاعتقاد الديني ودوره في الاستقرار

الاعتقاد الديني قاسم مشترك بين بني البشر. فلا يخلو مجتمع إنساني من عقيدة دينية، وقد صحب الدين الإنسان على طول تاريخه، إما عن طريق الرسالات المنزلة؛ التي جاء بها الرسل، وإما عن طريق سَعْي الإنسان نحو الله بإنشاء نِحَلٍ من وضع البشر، وحتى أولئك الذين عبدوا الأصنام كانوا يعتقدون أنها تقربهم إلى الله زلفي.

إن تكوين الإنسان القائم على عُنْصُرَي المادة والروح؛ يجعله عرضة للتنازع بين مطالب الروح ومطالب الجسد؛ فيحتاج للاعتقاد لتفسير هذا التنازع، ولتحقيق التوازن النفسي، والدين يفسر هذا الأمر، كذلك فإن وجود الإنسان داخل المجتمع البشري، واحتياجه للآخرين بسبب عجزه عن تحقيق مطالبه، وحوجتهم لما يفيض عن حاجته، حسب سنة التبادل؛ يجعل الصراع بين بني البشر أمراً حتمياً، وعندها ستكون الحياة للأقوى والأقدر، وسوف يضيع الضعفاء، فالدين له دور كبير في تحقيق العدل الاجتماعي وبناء الوازع الأخلاقي الذي يجعل الإنسان رحيماً عادلاً باذلاً للخير شفيقا بالضعفاء والمعوزين، ومن ناحية ثالثة فإن الكون الذي يضمنا يحتوي على أمم لا تحصى من خلق الله, وتكمن فيه سنن وقوانين تعجز البشرية عن الإحاطة بها دون إرشاد من قوة أسمى، والإنسان المستخلف في سعي مستمر للمعرفة ولاكتشاف سر هذا الكون ومكانة الإنسان فيه، ومآله، ولا شك أن الدين له إسهام كبير في التعريف بهذا الوجود الكوني، عليه يتضح مما سبق أن الدين في حياة الإنسان ليس مهماً فحسب بل هو ضرورة نفسية وضرورة اجتماعية وضرورة كونية, ومما يؤكد ذلك أن الدراسات الإنسانية أثبتت أن الإنسان حيث ما وجد احتاج إلى دين يعتقد فيه، إما عن طريق الوحي المنزل وإما عن طريق السعي البشري نحو المثل الأعلى وقصة ” حي بن يقظان لابن الطفيل ” خير دليل على ذلك. وحتى أولئك الذين أنكروا الأديان واعتبروها مرحلة طفولة فكرية وجندوا طاقاتهم لهدمها ما لبثوا أن أقاموا ديانات وضعية حلت محل الأديان المبعدة، فكأنهم طردوا الدين المنزل من الباب وأدخلوا ديناً وضعياً من النافذة.

الفرع الثالث: عوامل التعصب الديني

 لقد عالجت الأديان تلك الإشكالات ولكنها من جانب آخر تحولت إلى عصبية عند كثير من الناس دفعتهم إلى التطرف والإقصاء، وشهد تاريخ الإنسان حروباً دينية مدمرة، تفَانَى فيها بنو البشر نتيجة للتعصب ومحاولة إلغاء الآخر “إن قيمة الاعتقاد الديني والانتماء الثقافي للإنسانية؛ ينبغي ألا تغفلنا عن الأضرار التي لحقت بالحياة نتيجة للتعصب الديني والانكفاء الثقافي؛ هذان العاملان: التعصب والانكفاء. أوقعا أصحاب الانتماءات الدينية في ثلاثة أخطاء فادحة: الخطـأ الأول: حصر المعرفة: كل المعرفة الإنسانية في المصادر الغيبية النقلية ورفضهم المعارف العقلية والتجريبية. هذا الخطأ جعلهم أعداء لتطور العلوم واكتشافاتها والأبحاث العلمية واستنتاجاتها. الخطأ الثاني: قاسوا ضرورة الالتزام الديني بالقيم الروحية والخلقية؛ بالتزام مماثل أوجبوه في المعاملات الاجتماعية والسياسية. الخطأ الثالث: اعتبروا أن الإخلاص لعقيدتهم يوجب نفي العقائد الأخرى ومواجهتها مواجهة دائمة”().

وقد أدرك الآن معظم أتباع الأديان أهمية التوصل إلى صيغة تعايش سلمي بين الأديان يحل التسامح فيها محل التعصب والسلام محل الحرب.

         إن الإسلام منذ نزوله كان يحمل مقومات التواصل مع الآخر؛ بنفيه للإكراه وبسطه للعدل، ومساواته بين الناس رغم اختلاف عقائدهم. والمسلم مطالب باحترام عقائد الآخرين مهما كانت درجة بطلانها لأن الدين لا يفرض بالإكراه، قال تعالى:” وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ[يونس:99]، وطبق رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا المبدأ؛ فلم يكره أحداً على الدخول في الإسلام، وتسامح مع المخالفين بصورة لم تُعرف عند الآخرين في عصره، عاش رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد البعثة ثلاثة عشر عاماً في مكة تعرض فيها هو وأصحابه لكل أنواع الأذى والعدوان فلم يردوا على المعتدين بل كان التوجيه الإلهي لهم بالصبر وتحمل الأذى، وبالرغم من انتشار الأصنام حول الكعبة لم يتعرض لها رسول الله ولم يسئ لعابديها وظلت قائمة حتى فتح مكة، فالعقائد مهما كانت غرابتها وسذاجتها فإنها تشكل لأصحابها أهمية ولذلك كان التوجيه القرآني للمسلمين واضحاًبأن يعاملوا المخالفين بالبر ويجادلوهم بالتي هي أحسن.

 وعندما حاور الإسلام عبدة الأصنام؛ كان حواره هادئاً مرناً؛ يدعوهم لاستعمال عقولهم, وأن يتفكروا في عجز آلهتهم؛ التي لا تستطيع أن تدفع الضر عنها، فهي أعجز من أن تدفعه عن غيرها: روى صاحب كتاب حياة الحيوان الكبرى؛ أن غاوى بن ظالم كان سادناً لصنم؛ فجاء يوماً ووجد الثعلب قد بال على الصنم فقال:

أَرَبٌّ يَبُول الثَّعْلُبان بِرأْسِه         لقد ذَلَّ مَن بَالت عليه الثَّعالِبُ

لوكان ربّاً كان يَمْنعُ نفسهُ       لاخَيْرَ في ربٍّ نَأَتْ به المطالبُ

كفرتُ بالأصنام في الأرض       كلِّها وآمنتُ بالله الذي هو غالبُ

ثم كسر الصنم وأتى النبي صلى الله عليه وسلم  فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: “ما اسمك ؟” قال: غاوى ابن ظالم، قال: “لا ؛ بل أنت راشد بن عبد ربه”() والقرآن الكريم لفت أنظار عبدة الأصنام إلى عجز أصنامهم ودعاهم لاستعمال عقولهم:” إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوَهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (194) أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلاَ تُنظِرُونِ[الأعراف:194-195].

الفرع الرابع: ضرورة صيانة العيش المشترك بين المتدينين

الأديان السماوية جاءت من مصدر واحد، وهي متفقة في الأصول، وبالرغم من التحريف الذي لحق بها؛ إلا أن الآخر الديني لا يعتبر كله على نسق واحد في نظر الإسلام، فأهل الكتاب أقرب إلى الإسلام من الوثنيين؛ لأنهم ينتمون إلى ديانات سماوية، وهم أنفسهم ليسوا سواء؛ فبعضهم أقرب إلى المسلمين من الآخرين قـال تعالى:” لَيْسُوا سَوَاءً مِّنْ أَهْلِ الكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الخَيْرَاتِ وَأُوْلَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (114) وَمَا  يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَن يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ” آل عمران:113-115] ، وهنالك توجيه واضح في التشريع الإسلامي للمسلمين أن يتعاملوا مع أهل الكتاب على أساس أنهم أصحاب ديانات سماوية، وأن هنالك قواسم مشتركة بينهم وبين المسلمين:” قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا  أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا  أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا  أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا  أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ  لاَ  نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ” [البقرة:136]، والإسلام لا يطلب من أهل الكتاب التخلي عن دينهم؛ بل يأمرهم بالالتزام به، فعندما حمل الصحابي الجليل حاطب بن أبي بلتعة رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى {المقوقس} عظيم القبط بمصر، ودار بينهما حوار، بدأه حاطب، قال للمقوقس: (إن لك ديناً لن تدعه إلا لمن هو خير منه، وهو الإسلام الكافي به الله فقد ما سواه، وما بشارة موسى بعيسى إلا كبشارة عيسى بمحمد، وما دعاؤنا إياك إلى القرآن إلا كدعائك أهل التوراة إلى الإنجيل.. ولسنا ننهاك عن دين المسيح، ولكنا نأمرك به..)().

 هذه النظرة التي ينظرها الإسلام لأهل الكتاب جعلته يطلب من المسلمين أن يعاملوا أهل الكتاب معاملة حسنة ويجادلوهم بالتي هي أحسن، ويعلنوا إيمانهم بالكتب المنزلة على السابقين ويؤكدوا أن الإله المعبود واحد هو الله سبحانه وتعالى:” وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ العنكبوت:46]().

“فالإسلام هو أول من سعى إلي العالمية، فالحضارات القديمة للبحر المتوسط والشرق الأوسط ولأوروبا والهند والصين، كانت محلية، وإقليمية في أحسن حال، ويقول برنارد لويس(): عن الحضارة الإسلامية “..كانت البادئة في إيجاد حضارة متعددة الأعراق، ومتعددة الثقافات، وإلى حد ما متعددة القارات. فقد امتدت الحضارة الإسلامية إلى أبعد بكثير من أقصى حدود وصلتها الثقافتان الرومانية والهيلينية، وقدرت بذلك على اقتراض عناصر مميزة من حضارات أكثر بُعداً من آسيا، ثم تبنيها وإدماجها”().

 هذا الاهتمام بالآخر؛ والسعي للتواصل معه ومعرفته واستصحاب النافع من انجازاته “يفترض أن يكون في التصور الإسلامي رؤية أو مفهوم، يحدد شكل العلاقات مع الأمم والمجتمعات والحضارات الأخرى، والقرآن الكريم الذي جاء للناس كافة، ورحمة للعالمين، هو الرسالة الخالدة للبشر بكل تعددياتهم وتنوعاتهم، وهذا من آيات حكمة الله سبحانه وتعالى: وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ”  الروم:22]، هذا الاختلاف أو التعدد والتنوع في الاجتماع البشري كما تقرره الآية يفترض أن يتأسس على قاعدة أو مفهوم قد تحدد في القرآن الكريم(). هذه الرؤية المُؤسِّسة للعلاقات مع الآخر؛ سماها الأستاذ زكي الميلاد() التعارف- استنادا لآية الحجرات، حيث يقول: “والمفهوم الذي نتوصل إليه، ونزداد ثقة به وبقيمته المعرفية والأخلاقية والإنسانية؛ هو مفهوم (التعارف) لأن منشأ هذا المفهوم هو القرآن الكريم. حيث ورد في قوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا” الحجرات:13]، ويواصل الأستاذ زكي الميلاد شارحا أبعاد هذا المفهوم “التعارف” والفلسفة التي يمكن استنباطها من الآية الكريمة فيقول: “والتأمل الفاحص لهذه الآية يكشف لنا عن حقائق كلية ذات أبعاد إنسانية عامة، نتوصل منها لمفهوم نصطلح عليه بتعارف الحضارات. والتعارف هو المفهوم الذي حاولت هذه الآية تحديده وتأكيده وإبرازه والنص عليه. من خلال سياق وخطاب يؤكد على قيمته وجوهريته، لأن يكون مفهوما أساسياً. وذلك من خلال الحقائق التالية:

الحقيقة الأولى: الخطاب في سورة الحجرات متوجه بشكل صريح إلى المؤمنين في بداية السورة وفي خاتمتها- باعتبارها من السور المدنية إلا في هذه الآية الثالثة عشرة حيث توجه الخطاب إلى الناس كافة؛ بصيغة:” يَا أَيُّهَا النَّاسُ “ الأمر الذي جعل بعض المفسرين يعتبر هذه الآية مكية. وكون الخطاب متوجها إلى الناس فهو ناظر إليهم بكل تنوعهم وتعددهم واختلاف ألسنتهم وألوانهم، وإلى غير ذلك من تمايزات ومفارقات.

الحقيقة الثانية: التذكير بوحدة الأصل الإنساني” إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى” فالناس بكل اختلافاتهم وتعدداتهم وتباعدهم في المكان والأوطان؛ إنما يرجعون في جذورهم إلى أصل إنساني واحد. والقصد من ذلك أن يدرك الناس هذه الحقيقة ويتعاملوا معها كقاعدة إنسانية وأخلاقية في نظرتهم إلى أنفسهم، وفي نظرة كل أمة وحضارة إلى غيرها كما لو أنهم أسرة إنسانية واحدة على هذه الأرض.

الحقيقة الثالثة: الإقرار بالتنوع الإنساني:” وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِل” وهذه حقيقة اجتماعية وقانون تاريخي. فالله سبحانه وتعالى بسط الأرض بهذه المساحة الشاسعة لكي يتوزع الناس فيها شعوبا وقبائل، ويعيشوا في بيئات وجغرافيات ومناخات وقوميات مختلفة؛ لكي يعمروا هذه الأرض ويكتشفوا خيراتها ، ويتبادلوا ثرواتها ، ويجعلوا منها بيتا مشتركا وآمنا ومتمدنا للجميع. علما بأن القرآن الكريم لم يذكر في كل آياته عبارة (شعوباً وقبائل) إلا في هذه الآية.

الحقيقة الرابعة: خطاب إلى الناس كافة، وتذكير بوحدة الأصل الإنساني، وإقرار بالتنوع بين البشر. فما هو شكل العلاقة بين الناس؟ من بين كل المفاهيم المحتملة في هذا المجال، يتقدم مفهوم التعارف (ليتعارفوا) فتنوع الناس إلى شعوب وقبائل وتكاثرهم وتوزعهم في أرجاء الأرض، لا يعني أن يتفرقوا وتتقطع بهم السبل، ويعيش كل شعب وأمة وحضارة في عزلة وانقطاع. كما لا يعني هذا التنوع أن يتصادم الناس ويتنازعوا فيما بينهم من أجل الثروة والقوة والسيادة.

الحقيقة الخامسة: إذا انطلقنا من قاعدة التفاضل والمقارنة لنتساءل لما لم تستخدم الآية كلمة “ليتحاوروا” أو “ليتوحدوا” أو “ليتعاونوا” إلى غير ذلك من كلمات ترتبط بهذا النسق، ويأتي التفضيل لكلمة “ليتعارفوا” وهذا هو مصدر القيمة والفاعلية في مفهوم التعارف، فهو المفهوم الذي يؤسس لتلك المفاهيم “الحوار، الوحدة، التعاون” ويحدد لها شكلها ودرجتها وصورتها، وهو الذي يحافظ على فاعليتها وتطورها واستمرارها، هذا من جهة الإيجاب. أما من جهة السلب فإن التعارف كقاعدة وفاعلية بإمكانه أن يزيل مسببات النزاع والصدام().

 تلك النصوص والمفاهيم تبين اهتمام الإسلام بترسيخ ثقافة التواصل بين بني البشر، وأفضل وسيلة تحقق التواصل تتمثل في الوعي بالمشتركات الإنسانية وترسيخها في العقول لتكون حاضرة في كل الأوقات، وآية الحجرات السالفة الذكر تؤكد هذا المعني وتحدد الآليات لتحقيقه في أرض الواقع وأهمها آلية “التعارف”

المطلب الثالث: المشترك بين المذاهب

الفرع الأول نشوء المذاهب الإسلامية:

         في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم لم تكن هنالك حاجة شديدة للاجتهاد إلا فيما ندر من المواقف؛ فقد كانت الأحكام والمفاهيم تؤخذ مباشرة من النبي صلى الله عليه وسلم وربما اجتهد بعض الصحابة فأقرهم الرسول على ذلك، كما حدث عندما أمرهم بالصلاة في بني قريظة، وغيرها من الوقائع التي مرت في الفصول السابقة من هذا البحث.

         فقد كان الاختلاف بسيطا، وعندما اتسعت الرقعة الإسلامية، نزلت آية النفر التي قررت واقعاً، وشرعت أساسا للاجتهاد، وحجية خبر الواحد، قال تعالى: وَمَا  كَانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ” [التوبة:122]، ولكن وتيرة الاجتهاد ارتفعت بطبيعة الحال بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم وهكذا استمرت بشكل أشد في عصر التابعين، إلا أن المذاهب لم تظهر بشكل واضح محدد المعالم إلا بعد هذا العصر().

ويري الأستاذ السايس: أن العالم الإسلامي شهد منذ أوائل القرن الثاني وحتى منتصف القرن الرابع 138 مدرسة ومذهبا فقهيا، حتى أن كثيرا من البلدان كان يمتلك مذهبا خاصا به().

         وكانت هذه المذاهب التي ظهرت بعد طبقة التابعين كما يرى بعض العلماء؛ مذاهب فردية، لم تُتَبنّ من قبل أتباع أصحابها، ولذلك انقرضت بانقراض أتباعه، وأخرى جماعية نضجت في ظل ما دونه أصحابها وأتباعهم في مجموعات متكاملة().

ومن المذاهب المنقرضة:

مذهب الحسن البصري (23-110هـ).

مذهب ابن أبي ليلى (74-148هـ).

مذهب الأوزاعي (88- 157هـ).

مذهب سفيان الثوري (97-161هـ).

مذهب الليث بن سعد (توفي 175هـ).

مذهب إبراهيم بن خالد الكلبي (توفي 240هـ).

مذهب ابن حزم داود الظاهري(202-270هـ).

مذهب محمد بن جرير الطبري (224-310).

مذهب سليمان بن مهران الأعمش توفي عام 148هـ).

مذهب عامر بن شرحبيل الشعبي (توفي عام 105هـ).

وغيرهم كثير().

أما المذاهب التي استمرت مع الزمن وحتى يومنا هذا فهي:

المذهب الحنفي.

المذهب المالكي.

المذهب الشافعي.

المذهب الحنبلي.

المذهب الإمامي الاثنا عشري.

المذهب الزيدي.

المذهب الاباضي().

الفرع الثاني: الاختلاف بين المذاهب اختلاف في الفروع:

المذاهب الفقهية التي ظهرت بعد عصر الصحابة وكبار التابعين يعدها بعضهم ثلاثة عشر مذهباً، وينسب جميع أصحابها إلى مذهب “أهل السنة”().

وتوجد تسعة من المذاهب مدونة هي مذهب الحسن البصري والحنفي، ومذهب الإمام الأوزاعي، والإمام سفيان الثوري، والإمام الليث بن سعد، والإمام مالك بن أنس، والإمام سفيان بن عيينة، والإمام الشافعي، والإمام أحمد بن حنبل، وأضاف بعضهم الإمام داؤد الظاهري وغيره. أما الذين تأصلت مذاهبهم وبقيت إلى يومنا هذا ولا يزال لها الكثير من المقلدين في ديار الإسلام كلها، ولا يزال فقههم وأصوله مدار التفقه والفتوى عند الجمهور أولئك هم الأئمة الأربعة: أبو حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد().

إن الاختلاف بين هذه المذاهب يرجع إلى الاختلاف بين مدرسة “سعيد بن المسيب” التي قامت على فقه الصحابة وآثارهم، وسار علي نهجها المالكية والشافعية والحنابلة، وبين مدرسة “إبراهيم النخعي” التي تعتمد الرأي إن غاب الأثر، هذا الاختلاف كان طبيعياً أن ينتقل إلى كل من أخذ بمنهج إحدى المدرستين().

لقد نقل عن كثير من كبار الصحابة قضايا أفتوا فيها برأيهم المحمود كأبي بكر، وعمر، وعلي، وزيد بن ثابت، وأبي بن كعب، ومعاذ بن جبل رضي الله عنهم، لكن عمر رضي الله عنه كان أمهر الصحابة في استعمال الرأي لما لديه من رجاحة العقل وبحث العلل فمنع المؤلفة قلوبهم ما كانوا يستحقونه بنص الكتاب، لزوال مقتضى الاستحقاق، فإن الله أعز الإسلام وأغناه عنهم، ولم يقطع يد السارق عام المجاعة لشبهة الاضطرار().

وحرم المعتدة تحريماً مؤبداً على من تزوجها في العدة؛ لأن من تعجل شيئاً قبل أوانه عوقب بحرمانه(). وإلى غير ذلك مما لا يعد.

وسار عبدالله بن مسعود رضي الله عنه على طريقة عمر حتى قال عنه ابن القيم في “أعلام الموقعين”: كان لا يكاد يخالف عمر في شيء من مذهبه، وروى عنه أنه قال: “إني لأحسب عمر ذهب بتسعة أعشار العلم”().

وانتشرت مدرسة أهل الرأي في العراق لعدة أسباب منها: تأثرهم بالصحابي ابن مسعود تلميذ عمر، وثانياً قلة الحديث في العراق بالنسبة للحجاز، وثالثاً اتصال العراق بالحضارة الفارسية، وذلك من شأنه أن يحدث كثيراً من المسائل الجزئية التي تحتاج إلى إعمال الرأي، ورابعاً : العراق موطن الشيعة وعلى أرضه دارت الفتن وشاع الوضع في الحديث تأييداً للمذاهب السياسية، وهذا ما جعل العلماء يتحررون من الوقوع في الأحاديث الموضوعة ويعملون بالرأي.

        وأمام مدرسة الرأي نشأت مدرسة أخرى عرفت فيما بعد بمدرسة “المدينة” المنورة مهد السنة ومنبع الحديث، وملتقى الصحابة الذين تمسكوا بالرواية والحديث، ووقفوا عند الاثار وراحت هذه المدرسة تستقي منهجها من شيوخها الأوائل وفي مقدمتهم زيد بن ثابت، وابن عباس وعبدالله بن عمرو بن العاص، وعبدالله بن عمر رضي الله عنهم. ومذهبهم: أنهم إذا سئلوا عن شيء فإن عرفوا فيه آية أو حديثاً أفتوا، وإلا توقفوا.

أسباب وقوف مدرسة أهل الحجاز عند النصوص:

تأثر مدرستهم بالمنهج الذي التزمه علماؤهم في حرصهم على الأحاديث والآثار وتجنب الأخذ بالرأي والقياس.

وجود الثروة الحديثية والآثار الكبيرة لدى الصحابة الذين استوطن أكثرهم الحجاز عامة.

فطرة وبداوة أهل الحجاز وقلة مشاكلهم بعيداً عما تحدثه المدنية “الفارسية واليونانية” مع تفريع للمسائل.

بعدهم عن مواطن الفتنة وبواعث النزاع بالنسبة للعراق مع صفاء البداوة وصدق الفطرة().

ومناهج الأئمة تبين طبيعة الاختلاف بين مذاهبهم فالإمام أبوحنيفة تتلخص قواعد مذهبه بقوله… إني آخذ بكتاب الله إذا وجدته، فما لم أجده فيه أخذت بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم والآثار الصحاح عنه التي فشت في أيدي الثقات، فإذا لم أجد في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ أخذت بقول أصحابه آخذ بقول من شئت، ثم لا أخرج عن قولهم إلى قول غيرهم، فإذا انتهى الأمر إلى إبراهيم والشعبي وابن المسيب، فلي أن أجتهد كما اجتهدوا() فهذه هي الأصول الكبرى لمذهب أبي حنيفة، وهناك أصول فرعية لا يبدو فيها الخلاف مثل قولهم “قطعية دلالة اللفظ العام كالخاص”، و”مذهب الصحابي على خلاف العموم مخصص له”، وكثرة الرواية لا تفيد الرجحان”، وغير ذلك.

أما الإمام مالك رحمه الله فتختلف قواعد مذهبه تتلخص في الآتي:

– الأخذ بكتاب الله العزيز.

– ثم بظاهره وهو العموم.

– ثم بدليله وهو مفهوم المخالفة.

– ثم بمفهومه (ويريد مفهوم الموافقة).

– ثم بتنبيهه وهو التشبيه على العلة كقوله تعالى: (فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً)(الأنعام:145).

وهذه أصول خمسة ومن السنة مثلها تكون عشرة.

ثم الإجماع.

ثم القياس.

ثم عمل أهل المدينة.

ثم الاستحسان، ثم الحكم بسد الذرائع.

ثم المصالح المرسلة.

ثم قول الصحابي: (إن صح سنده وكان من الأعلام).

ثم مراعاة الخلاف (إذا قوي دليل المخالف).

ثم الاستصحاب.

ثم شرع من قبلنا().

أما قواعد وأصول مذهب الإمام الشافعي رحمه الله فهي ما أجمله في رسالته الأصولية “الرسالة” التي تعتبر أول كتاب أصول جامع أُلف في الإسلام.

قال رحمه الله: “الأصل قرآن وسنة فإن لم يكن فقياس عليهما، وإذا اتصل الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم  وصح الإسناد فهو المنتهى، والإجماع أكبر من الخبر المفرد، والحديث على ظاهره وإذا احتمل المعاني فما أشبه منها ظاهره أولاها به  وإذا تكافأت الأحاديث  فأصحها إسناداً أولاها وليس المنقطع بشيء ما عدا منقطع ابن المسيب، ولا يقاس أصل على أصل، ولا يقال للأصل لم وكيف؟ وإنما يقال للفرع لم؟ فإذا صح قياسه على الأصل صح وقامت به الحجة().

وأما الإمام أحمد بن حنبل فإن قواعد مذهبه:

أولاً: النصوص من القرآن والسنة.

ثانياً: فتوى الصحابة.

ثالثاً: عند اختلاف الصحابة يختار الأقرب إلى الكتاب والسنة.

رابعاً: يأخذ بالحديث المرسل والضعيف ضعفاً منجبراً إذا لم يجد في الباب غيره ولا أثراً يدفعه أو قول صحابي أو إجماعاً يخالفه ويقدمه على القياس.

خامساً: القياس عنده دليل ضرورة يلجأ إليه حين لا يجد واحداً من الأدلة المتقدمة.

سادساً: يأخذ بسد الذرائع().

وأبرز أصول المذهب الظاهري: التمسك بظواهر آيات القرآن الكريمة والسنة وتقديمها على مراعاة المعاني والحكم والمصالح .. ولا يعمل بالقياس ما لم تكن العلة منصوصة في المحل الأول ومقطوعاً بوجودها في المحل الثاني … كما يحرم العمل بالاستحسان، ويستدل بالإجماع الواقع في عصر الصحابة فقط، ولا يعمل بالمرسل والمنقطع … ولا يعمل بشرع من قبلنا أو لا يحل لأحد العمل بالرأي ولا يحل لأحد القول بالمفهوم المخالف، والتقليد حرام على العامي كما هو حرام على العالم، وعلى كل مكلف جهده الذي يقدر عليه من الاجتهاد().

يتضح مما تقدم أن الأئمة متفقون على المصدرين الأساسيين للتشريع، وإن اختلفوا في بعض المسائل بناء على اختلاف مناهجهم وأن الاختلاف يقع في مجال الاجتهاد ولكنه خلاف تنوع وليس اختلاف تصادم وهو منحصر في الفروع وليس الأصول.

الفرع الثالث: عوامل الوحدة بين المذاهب:

المذاهب الإسلامية المعتبرة كلها خرجت من منبع واحد واعتمدت على مصار شرعية معتمدة، والاختلاف تعود أسبابه إلى الفهم وإلى مناهج الاستنباط واختلاف البيئات وغير ذلك … والاختلاف مشروع إذا توفر أمران:

الأول: أن لكل من المختلفين دليلاً يصح الاحتجاج به، فما لم يكن له دليل يحتج به، سقط ولم يعتبر أصلاً.

الثاني: ألا يؤدي الأخذ بالمذهب المخالف إلى محال أو باطل().

وإذا ثبت أن المذاهب قد اعتمدت على الكتاب والسنة فهذا عامل من عوامل الوحدة لأن الرسول  صلى الله عليه وسلم قال: (تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما: كتاب الله وسنة نبيه)().

إن عوامل الوحدة بين المذاهب الإسلامية أكبر من عوامل الاختلاف هذه العوامل تتمثل في الاتفاق على المصدرين الأساسيين للتشريع الكتاب والسنة، وعلى مشروعية الاختلاف في الفروع.

ولا يخفى على الدارسين أن أكثر مسائل الفقه مختلف فيها بين المذاهب ، بل حتى داخل المذهب الواحد وهذا من رحمة الله تعالى بهذه الأمة، ومن عوامل السعة والمرونة في شريعتها، ومن أسباب خصوبة فقهها وتنوعه.

أما مسائل الإجماع فهي محدودة وقليلة جداً، ولكنها مهمة جداً، لأنها تجسد وحدة الأمة العقدية والفكرية والشعورية والسلوكية، كما أنها تجسد أيضاً (ثوابت الأمة) التي لا يجوز لأحد اختراقها، ولا يقبل من أحد تجاوزها، لأنها هي التي تجعل الأمة متميزة بملامحها ومقوماتها وخصائصها().

ومن ركائز هذا الفقه: اعتبار المذاهب المعتبرة عند الأمة كلها مدارس فقهية وطرق لمعرفة أحكام الشريعة، وكلها على هدى وعلى خير في مجموعاتها وجملتها، لا في جميع جزيئاتها وتفصيلاتها وهي – من هذه الحيثية متساوية في نسبتها إلى الشريعة الإسلامية وبعبارة أخرى إلى القرآن الكريم والسنة المطهرة().

كثرت المذاهب الفقهية بعد عهد التابعين، لكن بعضها انقرض أتباعها مثل الطبري، والليث بن سعد، والأوزاعي، والثوري، وبعضها ما زال أتباعها موجودين، وهي ثمانية: المذهب الحنفي، المالكي، الشافعي، الحنبلي، الظاهري، الإباضي، الزيدي، الإمامي أو الجعفري، مهمتها تنحصر في استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية.

وهذه المذاهب متقاربة مع الفقه فيما بينها، والاختلاف بينها اجتهادي محض، وعقائدهم واحدة ومنهجهم في الاجتهاد واحد، ومصادرهم التشريعية تكاد تكون واحدة، لأن مصادر استنباط الأحكام الشرعية إما نصية في القرآن والسنة النبوية، وإما اجتهادية تعتمد على العقل في الأصل، مع التقيد بالإجماع ورعاية مقاصد الشريعة: الدين، النفس، والعقل، والنسب أو العرض والمال().

إن عوامل الوحدة بين المذاهب كثيرة ويمكن أن نضيف أن مسوغات أو منطقات هذه الوحدة كثير منها أو أهمها ما يأتي:

العقيدة الخاتمة الواحدة.

الشريعة الخاتمة الواحدة.

الأخوة الإيمانية أو الإسلامية العامة.

الآمال والآلام المشتركة.

تحديات الأعداء.

مفاسد ومحاذير المبادئ المضللة والشعارات الهدامة().

يقول الشيخ يوسف القرضاوي: (ومن الواجب على أهل العلم والدعوة أمران:

أولهما: العمل الجاد المخلص على توسيع نقاط الاتفاق أو (القواسم المشتركة) فلا تسمح بتقليصها، ولا بتهميشها، ولا بالتقليل من أهميتها، بل يجب أن نعمقها في أنفسنا وفي حياتنا ونوسع دائرتها، ما وجدنا إلى ذلك سبيلا عن طريق الحوار البناء، والدراسة الموضوعية والتحقيق العلمي الرصين والنزيه، الذي يقرب المسافة بين الطرفين، ويضيق مساحة الخلف بين المختلفين حتى يلتقوا على كلمة سواء.

والأمر الثاني: هو ما دعا إليه الإمام المجدد محمد رشيد رضا رحمه الله في (قاعدته الذهبية)، الشهيرة التي تقول في شقها الأول: (نتعاون فيما اتفقنا عليه)، وفي شقها الآخر: (ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه).

…. وأعتقد أن ما يتفق عليه علماء المسلمين ودعاتهم ليس شيئاً قليلاً، ولا شيئاً هيناً ضئيلاً بل هو في نظري شيء كثير، وعمل كبير، وأمر خطير، ولا تبذل له معشار ما يجب أن يبذل، ولا نوظف له من قدراتنا وامكانياتنا المادية والأدبية ما نوظفه للأمور الخلافية والمعارك الجانبية والمسائل التي اختلف فيها السابقون واختلف فيها اللاحقون، واختلف فيها المعاصرون وسيظل فيها الناس يختلفون().

المبادئ والقيم التي تحقق الوحدة الإسلامية في ظل التنوع المذهبي:

المبدأ الأول: التعاون في المتفق عليه: المتفق عليه بين المذاهب كثير؛ سواء كان في الأصول العقائدية، أو في المجالات التشريعية (والتي يصل بها بعض العلماء إلى أكثر من 90% من المساحة العامة) أو في المجالات الأخلاقية، حيث التوافق يكاد يكون كاملا، وكذلك في مجال المفاهيم والثقافة الإسلامية.

المبدأ الثاني: التعذير عند الاختلاف: فقد تقرر مشروعية الاجتهاد وأهميته، ومادامت أسباب اختلاف النتائج الاجتهادية قائمة وطبيعية، فمن الضروري احترام الاختلاف الاجتهادي، فلا يوجد نهي إسلامي عن الاختلاف وإنما ينصب النهي عن التنازع العملي المُذهب للقوة، والتفرق في الدين والتحزب الممزق. وعليه فيجب أن يوطن الفرد المسلم- عالما أو متعلماً، مجتهدا كان أو مقلداً- نفسه على تحمل حالة المخالفة في الرأي وعدم اللجوء إلى أساليب التهويل وأمثالها. وحينئذ يكون الخلاف أخويا وودياً (لا يفسد للود قضية)().

المبحث الثاني

دور الشورى في تحقيق الوحدة

 في ظل التنوع

وفيه ثلاثة مطالب:

المطلب الأول: صحيفة المدينة نموذجاً لإدارة التنوع

المطلب الثاني: نماذج من معاهدات الدولة الإسلامية وأهل الذمة

المطلب الثالث: مفهوم دار الحرب ودار الإسلام

المطلب الأول

صحيفة المدينة نموذجاً لإدارة التنوع

الفرع الأول: أهمية السيرة النبوية في إدارة التنوع

السيرة النبوية تعتبر مرجعاً مهماً في فقه التعامل مع التنوع؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم  هو المكلف بتبليغ الرسالة وتبيين أحكامها للناس، والسيرة النبوية جسدت قيم القرآن؛ فهي سفر مفتوح لكل قارئ، في كل زمن، ولكل زمن حاجاته وعطاؤه وقراءته().

إن السيرة التي تعتبر مرحلة بناء الأنموذج، الذي أتى على أصول الحياة جميعا، تعتبر دليلاً لكيفية التعامل مع حياة الناس، وتنزيل قيم القرآن عليها، وهي المنجم الغني بالخامات الثمينة، وهذه الخامات تتطلب البراعة والاجتهاد في تصنيعها وتحويلها إلى أوعية للحركة، وتقديم الحلول لكل النوازل وتطورات الحياة.. ولعل المساحات الكبيرة التي قدمتها السيرة للتعامل مع الآخر بشتى أنواع التعامل؛ من التصالح والتسالم والتحاور والتعاهد والتعاقد والتصالح والتحالف والمواجهة، تحتل جزءاً مهما من حوادث السيرة().

وقد تبدو الحاجة أكثر إلحاحا اليوم، في حقبة الانفتاح العالمي، واختزال الزمان والمكان واستحقاقات حقبة العولمة من معاهدات وتحالفات وحوارات وتعاقدات، حيث لم تعد خياراً التعامل مع الآخر، وحيث أصبح العالم أمة واحدة، إن استلهام فترة السيرة وعطائها في هذا المجال، ليشكل لنا أدلة عمل وإشارات هادية على الطريق الطويل.

فالرسول صلى الله عليه وسلم خاطب وراسل ملوك الدول وأمراءها، وأذن لأصحابه بالهجرة إلى أرض الحبشة (حكم غير إسلامي)؛ لأن فيها ملكا لا يظلم الناس عنده؛ ونزل بعد العودة من الطائف، في رحلة الشدة الشديدة، بجوار المطعم بن عدي().

وشاركه في الحصار في شعب أبي طالب غير المؤمنين من أصحابه، إذ لما أجمعت قريش على أن يقتلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وبلغ ذلك أباطالب، جمع بني هاشم وبني المطلب، فأدخلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم شعبهم ومنعوه ممن أراد قتله، فأجابوه إلى ذلك، حتى كفارهم، فعلوا ذلك حمية على عادة الجاهلية().

وحضر حلفاً في الجاهلية، وكان له من العمر عشرين عاما، حيث تعاقد أهل مكة على أن لا يبقى في مكة مظلوماً إلا وتُرَد إليه ظلامته، وبارك ذلك العمل في الإسلام؛ لأنه يحقق مقاصد الدين، ولو لم يكن قد تحقق ذلك على يديه؛ روى الحميدي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال” لقد شهدت في دار عبدالله بن جدعان حلفا؛ لو دعيت به في الإسلام لأجبت، تحالفوا أن يردوا الفضول على أهلها، وأن لا يعدُ ظالم مظلوماً”().

وعاهد قريشاً في صلح الحديبية، وسمي ذلك” الفتح المبين”، ودخل في حلفه خزاعة، وكانت على الكفر: “فتواثبت خزاعة فقالوا: نحن مع عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم  وعهده” فالمعاهدة مع غير المسلمين، والتحالف مع غير مسلمين أيضاً، حيث دخلت بنوبكر، وكانت على الإسلام، في حلف قريش: “وتواثبت بنو بكر فقالوا: نحن في عقد قريش وعهدهم”().

الفرع الثاني: نص وثيقة المدينة:

عندما هاجر الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، شرع في بناء المجتمع الجديد الذي كان متنوعاً، حيث كان يضم المهاجرين، والأنصار، وأهل الكتاب” اليهود والنصارى”، والمشركون الوثنيون، هذه الطوائف في مجتمع المدينة كانت تمثل قاعدة الوطن الإسلامي الجديد.

وقد وضع الرسول صلى الله عليه وسلم وثيقة تنظم العلاقات في مجتمع المدينة، هذه الوثيقة تعتبر أول دستور مكتوب “ولا نكاد نعرف من قبل دولة قامت منذ أول أمرها على أساس دستور مكتوب غير هذه الدولة الإسلامية، فإنما تقوم الدول أولاً ثم يتطور أمرها إلى وضع دستور، ولكن النبي ما كاد يستقر في المدينة، وما كاد العام الأول من هجرته إليها ينتهي؛ حتى كتب هذه الصحيفة التي جعل طرفها الأول المهاجرين، والطرف الثاني الأنصار، وهم الأوس والخزرج، والطرف الثالث اليهود من أهل يثرب”()، ونصها:

بسم الله الرحمن الرحيم

هذا كتاب من محمد النبي [رسول الله] بين المؤمنين والمسلمين من قريش و[أهل] يثرب ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم.

أنهم أمة واحدة من دون الناس.

المهاجرون من قريش على ربعتهم()؛ يتعاقلون() بينهم وهم يَفْدُون عانيَهم() بالمعروف والقسط بين المؤمنين.

وبنو عوف على ربعتهم؛ يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.

وبنو الحارث [بن الخزرج]على ربعتهم؛ يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.

وبنو ساعدة على ربعتهم؛ يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.

وبنو جُشم على ربعتهم؛ يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.

وبنو النّجّار على ربعتهم؛ يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.

وبنو عمرو بن عوف على ربعتهم؛ يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.

وبنو النَّبيت على ربعتهم؛ يتعاقلون معاقلهم، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.

وبنو الأوس على ربعتهم؛ يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.

وأن المؤمنين لا يتركون مُفْرَحاً بينهم أن يعطوه بالمعروف في فداء أو عقل().

وأن لا يحالف مؤمن مولى مؤمن دونه.

وأن المؤمنين المتقين [أيديهم] على [كل] من بغى منهم، أو ابتغى دَسيعةَ() ظلمٍ، أو إثماً، أو عدواناً، أو فساداً بين المؤمنين، وأن أيديهم عليه جميعاً، ولو كان ولد أحدهم. ولا يقتل مؤمن مؤمناً في كافر، ولا ينصر كافراً على مؤمن.

وأن ذمّة الله واحدة، يجير عليهم أدناهم، وأن المؤمنين بعضهم موالي بعض دون الناس.

وأنه من تبعنا من يهود فإنّ له النصرَ والأسوة غير مظلومين ولا متناصر عليهم.

وأن سلم المؤمنين واحدة، لا يسالم مؤمن دون مؤمن في قتال في سبيل الله، إلا على سواء ٍ وعدلٍ بينهم.

وأن كل غازية غَزَت معنا يعقب بعضها بعضاً.

وأن المؤمنين يُبيء بعضهم على بعض بما نال دماءهم في سبيل الله.

وأن المؤمنين المتقين على أحسن هدىً وأقومه.

وأنه لا يجير مشرك مالاً لقريش ولا نفساً، ولا يحول دونه على مؤمن.

وأنه من اعتبط مؤمناً قتلا على بينة، فإنه قَوَدٌ به، إلا أن يرضى ولي المقتول [بالعقل] وأن المؤمنين عليه كافّةً، ولا يحل لهم إلا قيام عليه.

وأنه لا يحل لمؤمن أقرَّ بما في هذه الصحيفة، وآمن بالله واليوم الآخر؛ أن ينصر مُحدثاً، أو يؤويه، وأن من نصره، أو آواه، فإن عليه لعنة الله وغضبه يوم القيامة، ولا يؤخذ منه صرف ولا عدل.

وأنكم مهما اختلفتم فيه من شيء، فإنّ مردَّه إلى الله وإلى محمد.

وأن اليهود ينفقون مع المؤمنين ماداموا محاربين.

وأن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم، مواليهم وأنفسهم؛ إلا من ظلم وأثم، فإنه لا يوتغ إلا نفسه وأهل بيته.

وأن ليهود بني النجار مثل ما ليهود بني عوف.

وأن ليهود بني الحارث مثل ما ليهود بني عوف.

وأن ليهود بني ساعدة مثل ما ليهود بني عوف.

وأن ليهود بني جشم مثل ما ليهود بني عوف.

وأن ليهود بني الأوس مثل ما ليهود بني عوف.

وأن ليهود بني ثعلبة مثل ما ليهود بني عوف، إلا من ظلم وأَثم، فإنه لا يوتغ إلا نفسه وأهل بيته.

وأن جفنة بطن من ثعلبة كأنفسهم.

وأن لبني الشطبية مثل ما ليهود بني عوف، وأن البرَّ دون الإثم.

وأن موالي ثعلبة كأنفسهم.

وأن بطانة يهود كأنفسهم.

وأنه لا يخرج منهم أحد إلا بإذن محمد.

وأنه لا ينحجز على ثأر جرح، وأنه من فتك فبنفسه وأهل بيته إلا من ظلم وأن الله على أبَرِّ هذا.

وأن على اليهود نفقتهم، وعلى المسلمين نفقتهم، وأن بينهم النَّصر على من حارب أهل هذه الصحيفة، وأن بينهم النصح والنصيحة والبر دون الإثم.

وأنه لا يأثم امرئ بحليفه، وأن النصر للمظلوم.

وأن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين.

وأن يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة.

وأن الجار كالنفس غير مضارِّ ولا آثم.

وأنه لا تجار حرمة إلا بإذن أهلها.

وأنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث، أو اشتجار يُخاف فساده، فإن مرده إلى الله وإلى محمد صلى الله عليه وسلم ، وأن الله على أتقى ما في هذه الصحيفة وأبَرَّه.

وأنه لا تُجار قريش ولا من نصرها.

وأن بينهم النصر على من دهم يثرب.

وإذا دعوا إلى صلح يصالحونه ويلبسونه؛ فإنهم يصالحونه ويلبسونه، وأنهم إذا دعوا إلى مثل ذلك، فإن لهم على المؤمنين إلا من حارب في الدين.

على كل أناس حصَّتهم من جانبهم الذي قِبَلهم.

وأن يهود الأوس مواليهم وأنفسهم على مثل ما لأهل هذه الصحيفة، مع البِرِّ المحض من أهل هذه الصحيفة، وأنّ البرَّ دون الإثم لا يكسب كاسب إلا على نفسه، وأن الله على أصدق ما في هذه الصحيفة وأبرِّه.

وأنه لا يحول هذا الكتاب دون ظالمٍ أو آثمٍ، وأنه من خرج آمِنٌ ومن قعد آمِنٌ بالمدينة، إلا من ظلم وأثم، وأن الله جار لمن بَرَّ واتقى، ومحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم().

الفرع الثالث: الأحكام التي اشتملت عليها الصحيفة

اشتملت هذه الصحيفة على عدة أحكام تنظم المجتمع القائم على التنوع، نذكر منها الآتي:

الحكم الأول: الالتزام بالمبادئ العامة التي جاء بها الإسلام لتنظيم المجتمع؛ وتلك المبادئ تتمثل في: وجوب اعتبار المسلمين أمة واحدة دون الناس، وضرورة التراحم والتعاون بينهم، ومراعاة رابطة الولاء وما يترتب عليها من حقوق الموالاة، ومراعاة حقوق القرابة والصحبة والجوار، وتحديد المسئولية الشخصية، والبعد عن ثارات الجاهلية وحميتها، ووجوب الخضوع للقانون، ورد الأمر إلى الدولة بأجهزتها للتصرف في الأمور، في شئون الحرب والسلم. وكذلك معاونة الدولة في إقرار النظام، والأخذ على يد الظالم، وعدم نصرة المحدث أو إيوائه().

الحكم الثاني: مرجعية الحكم؛ نصت صحيفة المدينة على أن مرجع أي خلاف قد يحصل بين المؤمنين إنما يكون إلى الله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم “وأنكم مهما اختلفتم فيه من شيء فإن مرده إلى الله وإلى محمد صلى الله عليه وسلم،  ولما كان الله سبحانه وتعالى غير مجسد ولا يحده زمان ولا مكان، ولا تدركه الأبصار، ولكن تدركه القلوب التي في الصدور؛ فإن الإدارة والحكم الفعلي في المجتمع أي ما نسميه “السلطة” كانت بيد الرسول صلى الله عليه وسلم وقد أمر الله تعالى المسلمين في عدد غير قليل من الآيات بطاعة الله ورسوله(). قال تعالى:” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً [النساء:59]، وفي تلك المرحلة كانت جميع السلطات بيد الرسول صلى الله عليه وسلم؛ حيث جمع بين السلطات الثلاث” التشريعية والتنفيذية والقضائية” وكان يحكم بوحي من الله، وكان يعرف أنه ما من جماعة أو أمة، إلا ودبَّ الخصام والنزاع فيها، وكان صلى الله عليه وسلم يبادر إلى ائتلاف القلوب وفض النزاع؛ لأن كلمة منه تكفي ليتنازل صاحب الحق عن حقه أو يعفو عن خطأ غيره().

         وقد اعترف اليهود كمواطنين في الدولة الإسلامية في المدينة “بوجود سلطة قضائية عليا يرجع إليها سائر سكان المدينة” بمن فيهم اليهود أنفسهم()، إلا أنهم “لم يلزموا بالرجوع إلى القضاء الإسلامي دائما؛ بل فقط عندما يكون الحدث أو الاشتجار بينهم وبين المسلمين، أما في قضاياهم الخاصة وأحوالهم الشخصية فهم يحتكمون إلى التوراة ويقضي بينهم أحبارهم”()، وقد خير الله نبيه صلى الله عليه وسلم بين قبول الحكم فيهم أوردهم إلى أحبارهم، قال تعالى:” فَإِن جَاءُوكَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ” المائدة:42].

الحكم الثالث: مشروعية المواطنة كأساس للحقوق والواجبات في الدولة الإسلامية؛ تكونت الدولة الإسلامية؛ منذ نشأتها بالمدينة تحت قيادة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ من رعايا مختلف الديانات: المسلمون من المهاجرين والأنصار، وأهل الكتاب من اليهود، وبقايا مشركي المدينة؛ وقد أطلق عليهم رعايا الدولة الإسلامية()، وإن كان معنى “الرعية” كما جاء في الحديث الشريف()، ينطبق على عدة صور من المسئولية، إلا أن القدر المشترك؛ هو رعاية جميع حقوق الرعية.. ورعاية جميع الحقوق المشروعة هي لب كلمة “المواطنون” بحسب المصطلح المعاصر، فلا وجه للتفريق بين مدلول الرعايا والمواطنين في المجتمع الإسلامي().

         كان الفقهاء يطلقون على الدولة الإسلامية اسم (دار الإسلام)، كما كانوا يصفون الأفراد الذين يستوطنون فيها بأنهم (أهل دار الإسلام) أي من أتباع الدولة الإسلامية، وكان ارتباط الأفراد بالدولة ارتباطا خاصا، لا يشبه ارتباط الفرد بالفرد؛ لأن الدولة الإسلامية ليست فردا، وإنما هي منظمة سياسية، كما لا يشبه ارتباط الفرد بالأمة، لأن الأمة ليست منظمة سياسية كالدولة، فرابطة أفراد شعب (دار الإسلام) بهذه الدار رابطة سياسية وقانونية؛ لأن الدولة الإسلامية وهي منظمة سياسية طرف فيها، ولأن آثاراً قانونية تنتج عنها، ويلتزم بها الفرد والدولة، فهذه الآثار هي الحقوق التي يتمتع بها الفرد في ظل الدولة والواجبات التي يلتزم بها قِبَلَهَا، وهذه الرابطة هي الجنسية بمفهومها الحديث، وإن لم يسمها الفقهاء بهذا الاسم().

         لقد عاش المسلمون مع غيرهم ممن يخالفونهم في العقيدة، يشاركونهم الحياة المجتمعية في رابطة إنسانية نابعة من الإسلام()، فدستور المدينة يقرر” أن المواطنة في الدولة الإسلامية تتسع لتشمل غير المسلمين من أبناء الوطن الأصليين، وأولئك الذين يختارون أن ينضموا إلى جماعة الإسلام السياسية”().

         فالمواطنة في الدولة الإسلامية الأولى؛ لم تنحصر في المسلمين وحدهم، بل امتدت لتشمل اليهود المقيمين في المدينة، واعتبرتهم “الوثيقة” من مواطني الدولة أمة مع المؤمنين وحددت مالهم من الحقوق وما عليهم من الوجبات، وهذا ما نراه في البند رقم (27) “وأن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين..” ولم يقف الأمر عند يهود بني عوف وحدهم، وإنما امتد لباقي قبائل اليهود، بل إن بعض بنود “الوثيقة” تنص على واجبات على المشركين من أهل المدينة، مما يشير إلى أنهم دخلوا في حكم الدولة الجديدة، وخضعوا لأسس تنظيمها؛ التي وردت في وثيقتها، وأوضح هذه البنود البند رقم “22”:” وأنه لا يجير مشرك مالا لقريش ولا نفساً ولا يحول دونه على مؤمن” وهكذا يتبين أن عنصر الإقليم، “المدينة” والإقامة فيه عند نشأة الدولة هو الذي أعطى اليهود والمشركين حق المواطنة، وضمن لهم التمتع بالحقوق التي كفلتها “الوثيقة” بعد أن كان هذا الحق يقوم بين القبائل على أساس صلتها أو انحدارها من أصل مشترك، كما كان في الجاهلية().

         ومما تقدم من دراسة لصحيفة المدينة يمكن استخلاص أسس التعايش السلمي في النقاط التالية:

النقطة الأولى: الرغبة المشتركة في التعايش نابعة من (الذات) وليست مفروضة تحت ضغوط أياً كان مصدرها، أو مرهونة بشرط مهما يكن من يشترطه.

النقطة الثانية: التفاهم حول الأهداف المشتركة بحيث يكون القصد الرئيس من التعايش هو خدمة الأهداف الإنسانية السامية وتحقيق المصالح البشرية العليا، وفي مقدمتها استتباب الأمن وإشاعة السلم في الأرض والحيلولة دون أسباب الحروب والنزعات وردع العدوان والظلم والاضطهاد، الذي يلحق بالأفراد والجماعات.

النقطة الثالثة: التعاون على العمل المشترك من أجل تحقيق الأهداف المتفق عليها.

النقطة الرابعة: صياغة التعايش بسياج من الاحترام المتبادل من الثقة المتبادلة أيضاً، حتى لا ينحرف عن الخط المرسوم لأي سبب … مهما تكن الدواعي والضغوط، فإن الاحتكام لا يكون إلا بالقيم والمثل والمبادئ التي لا خلاف عليها ولا نزاع حولها، كما هي محددة في دستور الدولة الجديدة في المدينة().

المطلب الثاني

معاهدات الدولة الإسلامية

جمع الدكتور محمد حميدالله في كتابه: “مجموعة الوثائق السياسية للعهد النبوي والخلافة الراشدة” 373 وثيقة تبتدئ بوثيقة المدينة وتنتهي بكتاب معاوية رضي الله عنه أمير الشام إلى قيصر أيام صفين، وتنتهي وثائق العهد النبوي بالوثيقة (287) وهي خطبة الوداع().

هذه الوثائق تناولت كافة المعاهدات التي أبرمتها الدولة الإسلامية مع رعاياها ومع الدول الأخرى ويهمنا في هذا البحث تلك الوثائق المتعلقة بإدارة التنوع القبلي والديني.

ففي معاهدته صلى الله عليه وسلم مع أهل مقنا جاء فيها … فإنكم آمنون لكم ذمة الله وذمة رسوله، لا ظلم عليكم ولا عدى، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم جار لكم مما منع منه نفسه)(). هذا النص واضح الدلالة في حقوق أهل الذمة ومنع الاعتداء عليهم مما يؤكد أن التعايش مع الآخر الملي شرع في عهد الرسالة، وأن المحافظة عليه واجب يفرضه الشرع الإسلامي.

وفي معاهدته مع نصارى نجران جاء فيها … ولنجران وحاشيتها، جوار الله وذمة محمد النبي رسول الله على أموالهم  وأنفسهم وملتهم، وغائبهم وشاهدهم وعشيرتهم وبيعهم وكل ما تحت أيديهم من قليل أو كثير، لا يغير أسقف من أسقفيته ولا راهب من رهبانيته ولا كاهن من كهانته().

هذا النص يبين سقف الحرية التي أعطاها التشريع الإسلامي لأهل الكتاب والتي اشتملت على الآتي:

أولاً:   حرمة أموالهم وأنفسهم وعقيدتهم، هذه الحرمة تشمل كل المنتسبين إلى نجران من كان منهم حاضراً ومن كان غائباً، محرم شرعاً العدوان عليهم بنص هذه المعاهدة؛ وأكد ذلك ما جاء في خاتمة المعاهدة حيث ورد النص الآتي: (وعلى ما في هذا الكتاب جوار الله، وذمة محمد النبي رسول الله، حتى يأتي الله بأمره، ما نصحوا وأصلحوا ما عليهم غير مثقلين بظلم)().

ثانياً: لا يجوز التدخل في نظامهم الديني فهم أحرار في اختيار قيادتهم الدينية لا يجوز لدولة الإسلام أن تفرض عليهم أسقفاً ولا كاهناً ولا راهباً، لأن هذا شأن ديني خاص بهم.

وجاء في بعض الروايات أن هذا العهد واجب على المسلمين صونه وحمايته، فجاء النص واضحاً يقول: (كتبه لهم محمد بن عبدالله رسول الله إلى الناس كافة، ذمة لهم من الله ورسوله، وعهداً عهده إلى المسلمين من بعده، عليهم أن يعوه ويعرفوه، ويؤمنوا به ويحفظوه لهم. ليس لأحد من الولاة ولا ذي شيعة من السلطان وغيره نقضه وتعديه إلى غيره، ولا حمل مؤونة من المؤمنين، سوى الشروط المشروعة في هذا الكتاب، فمن حفظه ورعاه ووفى بما فيه، فهو على العهد المستقيم والوفاء بذمة رسول الله، ومن نكثه وخالفه إلى غيره وبدله فعليه وزره وقد خان أمان الله، ونكث عهده وعصاه، وخالف رسوله وهو عند الله في الكاذبين)().

هذا النص واضح لا يحتاج إلى تبيان وخلاصته أن حقوق غير المسلمين ليست منحة يتصدق بها وإنما هي أحكام شرعية واجبة التنفيذ.

في عهود الخلافة الراشدة والأموية والعباسية والعثمانية ماعدا بعض الشذوذات في أواخر عهدها، كالفتنة الطائفية في لبنان في عام 1860م وفي عصرنا من عام 1970 1985م()، وفي العهود الأخيرة للدولة العثمانية ظهر في أنحائها ما يسمى بنظام الامتيازات الأجنبية لغير المسلمين؛ بسبب التسامح الإسلامي، فكان غير المسلمين مستقلين بقضائهم وأنظمتهم، واللجوء في تمييز أو نقض أحكامهم لسلطة غير خاضعة للعثمانيين، وظل الأجانب خاضعين لتشريع وطنهم بل ولقضاء بلادهم، الذي يتمثل في المحاكم القنصلية القائمة في مصر, وبقي هذا النظام قائما في مصر حتى 15 اكتوبر1949م أي أن إقليمية القوانين لا تُطبَّق إلا بالنسبة لرعايا الدولة العثمانية. أما الأجانب فيخضعون لقانون جنسيتهم أي الأخذ بمبدأ شخصية القوانين، أما في سورية، فما تزال الطوائف اليهودية والمسيحية والدرزية مستثناة من تطبيق قانون الأحوال الشخصية لسنة 1953 فيما عدا الإرث().

إن الاعتراف بأن للآخرين حقوقا في المجتمع الإسلامي؛ يُرَتِّب نتيجة منطقية هامة؛ تفتح الباب لأصحاب هذه الحقوق في رعايتها وتثبيتها والدفاع عنها. ورغم أن تلك مسؤولية الحكومة الإسلامية، وقد تدخل في مسؤولية المحتسب- كما يرى البعض، إلا أنه ليس هناك ما يمنع في التصور الإسلامي من أن يباشر الآخرون تلك المسؤولية بأنفسهم في إطار الحكومة الإسلامية ومن داخلها(). وتاريخيا فإن أهل الذمة بقيت محاكمهم المذهبية، التي تفصل في النزاع بينهم في مختلف أمور الأحوال الشخصية، وفي غيرها من الخصومات الطائفية الصرفة التي لاتهم المسلمين، ولا تمس كيان الدولة، الأمر الذي أعطى هؤلاء ما يشبه الحكم الذاتي، يباشره رؤساء الملل المختلفة، الذين كانوا بدورهم مسئولين أمام السلطات الإسلامية()، وقد كان للبطريرك في دمشق سجن متصل بالكنيسة يحبس فيه من يستحق التأديب من النصارى.. ومرة حبس الأخطل شاعر بني أمية، وقيده بسبب كثرة سكره، ولم يطلقه حتى شفع فيه الخليفة نفسه().

وفي التاريخ الإسلامي توجد عناية بأهل الأديان، وتخصيص وزارة لرعاية شؤون الأديان الأخرى أو الأقليات، تباشر شؤونهم العامة، إلى جانب اختصاص محاكمهم المذهبية بشؤونهم الخاصة. فقد أنشأ بنو العباس في بغداد ديوانا خاصا عهدوا إليه بمهمة المحافظة على أموال الذميين ورعاية مصالحهم. وكان اسم رئيس هذا الديوان في بغداد كاتب الجهباذ (الجهبذ كلمة فارسية معناها الناقد المتفحص، العارف بتمييز الجيد من الرديء) وأنشأ بنو أمية إبان حكمهم في الأندلس كاتب الذمم- في قرطبة، الذي عهد إليه بالمسؤولية ذاتها في رعاية شؤون الآخرين من غير المسلمين”().

المطلب الثالث

مفهوم دار الحرب ودار الإسلام

لقد “نشأ تعبير دار الإسلام منذ اعتبرت دار الهجرة- المدينة- في زمن النبي صلى الله عليه وسلم هي دار الإسلام “فلما أسلم أهل الأمصار صارت البلاد التي أسلم أهلها هي بلاد الإسلام، فلا يلزمهم الانتقال منها”().

وبالمقابل ظهرت دار الحرب وهو ما عبر عنه ابن حزم بقوله. “وكل موضع سوى مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد كان ثغرا، ودار حرب ومغزى جهاد”()، السؤال المشروع؛ ما هو المعيار الذي تم التقسيم على ضوئه؟ فالأستاذ أبو الأعلى المودودي يرى “أن الدولة الإسلامية تقسم القاطنين بين حدودها إلى قسمين: قسم يؤمن بالمبادئ التي قامت عليها الدولة، وهم المسلمون، وقسم لا يؤمن بتلك المبادئ، وهم غير المسلمين().

 ووافقه الدكتور عبدالكريم زيدان بقوله: “الشريعة تقسم البشر على أساس قبولهم للإسلام أو رفضهم له، بغض النظر عن أي اختلاف بينهم”، ويستخرج من بعض آيات القرآن الكريم” أن الناس أحد اثنين: إما مؤمن برسالة الإسلام، وهو المسلم، وإما كافر بها، وهو غير المسلم()، “غير أن هذا المعيار العقيدي لقسمة الناس ليس هو الأوحد المأخوذ به.

فالأحناف والزيدية يرون أن القضية الفاصلة تَوَفُّر عنصر-الأمان- بالنسبة للمقيمين فيها. فإذا كان الأمن فيها للمسلم على الإطلاق، فهي دار إسلام. وإن لم يأمنوا فيها فهي دار حرب. ومن الباحثين من يذهب إلى القول بأنه إذا تحقق الأمان للمسلمين. وإذا أقيمت الشعائر الإسلامية أو غالبها كانت البلاد دار إسلام، حتى ولو غلب عليها حاكم كافر()، والأستاذ الدكتور عبدالوهاب خلاف يؤيد الرأي القائل بأنه “ليس مناط الاختلاف الإسلام وعدمه، وإنما مناطه الأمن والفزع”()، وهو ما يؤيده الدكتور: صبحي محمصاني، في قوله: إن الإسلام” لم يميز بين المسلمين وغير المسلمين على اعتبار اختلاف الدين. كما لم يميز بين المواطنين والأجانب على أساس جنسيتهم أوتابعيتهم. فلذا، من الخطأ الناتج عن الجهل والتضليل، زعم بعض الكتاب أن صفة المواطن كانت للمسلمين وحدهم، وأن غير المسلمين كانوا جميعاً من الأجانب”()، ويقول في موضع آخر، أن الإسلام “لم يتعرف إلى فكرة الجنسيات،

بل صنف الناس على أساس صفة المسالمة والمحاربة، ووزعهم من ثم بين مسالمين وهم الأصل، وحربيين وهم المستثنى، ثم اعتبر الحربيين وحدهم أجانب بطبعهم، واعتبر بلادهم بلاد العدو أو دار الحرب”().

 وهذا المعيار الثاني هو الأقرب إلى المنطق الذي عالج به الرسول صلى الله عليه وسلم مسألة الآخرين، فضلا عن أنه المنطق الأكثر قبولا حتى في لغة الواقع المعاصر. ودليلنا الأول على ذلك من السيرة النبوية ذاتها. فالرسول صلى الله عليه وسلم عندما وقّع أول معاهدة مع الآخرين، من قبائل العرب الأخرى واليهود، نصت المعاهدة التي تعد أول دستور للدولة في الإسلام، على “أن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين،  لليهود دينهم وللمسلمين دينهم()، ودليلنا الثاني أن تعريف دار الإسلام، وإن بدأ مرتبطا بأرض هاجر إليها المسلمون الأول، إلا أنه لافتة على كل بلد تطبق فيه الشريعة الإسلامية. وهو ما تقول به الأغلبية الساحقة من الفقهاء. وفي ذلك يقول الإمام السرخسي، – الذي يعد أبو القانون الدولي في التاريخ الإسلامي – إن دار الإسلام اسم للموضع الذي يكون تحت يد المسلمين، وعلامة ذلك أن يأمن فيه المسلمون”()، وقالها الكاساني بوضوح شديد”الذمي من أهل دار الإسلام”()، وعرفها بنفس الوضوح الأستاذ الدكتور عبدالوهاب خلاف بقوله إنها “الدار التي تجري عليها أحكام الإسلام، ويأمن فيها بأمان المسلمين، سواء كانوا مسلمين أم ذميين”().

 هنالك عدة أمور ينبغي ملاحظتها في هذا المجال:

الأمر الأول: أن كل هذه الآراء، سواء منها ما يتعلق بتصنيف الخلق أو قسمة الأرض والديار، لا تستند إلى نصوص شرعية من كتاب أو سُنة، وإنما هي اجتهادات طرحها الفقهاء والباحثون في ضوء قراءتهم للواقع الذي عايشوه.

الأمر الثاني: أن أكثر هذه الآراء يخاطب عالما غير عالمنا الذي نعيشه الآن. إذ أنها تتحدث عن عصور غابت فيها فكرة الوطن الذي يضم بشرا متعددي الأديان والأصول العرقية، كما غاب فيها القانون الدولي ولم يعرف المنظمات الدولية.

الأمر الثالث: أن دار الإسلام التي يتحدث عنها الفقهاء لم يعد لها وجود إلا في كتب التاريخ. وأن ديار المسلمين صارت موزعة بين أوطان عديدة أكثر من خمسين دولة فضلا عن أن أسماءها باتت مرتبطة بالأجناس والقوميات، وأحيانا بأسماء الأسر والعائلات! (أربع دول فقط هي التي أضافت الصفة الإسلامية إلى اسمها الرسمي، اثنتان آسيويتان هما: باكستان وإيران، وواحدة أفريقية هي جزر القمر، وواحدة عربية هي موريتانيا)!

الأمر الرابع: أن دار الحرب لم تعد واقعة في مربع الآخرين من غير المسلمين بالضرورة، بل إن أكثر حروب المسلمين في زماننا باتت فيما بين ديار الإسلام ذاتها، وأقلها بين المسلمين وغير المسلمين().

المبحث الثالث

الأسس العامة لصيانة العيش المشترك

         يحدد الأستاذ: محمد مراح()، ستة أهداف تحققها الرؤية الإسلامية في ظل التنوع:

  1. التقارب، والتسامح، فالتعارف الإيجابي؛ هو الذي يبذل فيه كل طرف أقصى جهوده للتعرف على ما يقربه من الطرف أو الأطراف الأخرى التي تشاركه التطلع نفسه…
  2. التعايش السلمي؛ من شأن الهدف السابق توفير الأجواء المناسبة لتعايش الحضارات في سلام وأمن. والحقيقة أن هذا الهدف يتطلب تعميقا بالغا لفلسفة السلام وأفكاره، وتفكيرا جادا للخروج بالمسألة من حسابات ومصالح السياسيين والعسكريين، وأصحاب المنفعة من صناعة التسليح، وخدام نظريات الحرب وتفجير بؤر التوتر في العالم، إلى ساحات التوعية العامة واصطناع جماعات الضغط من دعاة السلام العالمي العادل في كل حضارة بل في كل مجتمع..
  3. فك عقدة الهيمنة وتجاوز عقيدة الصراع…
  4.    4-                         معرفة الآخر على حقيقته وتصحيح الصورة المسبقة عنه…
  5. تشجيع فكرة الانتفاع المتبادل من خيرات الأرض من خلال فكرة التعاون، فالرؤية الإسلامية لهذا الهدف تنطلق من عقيدة أن الله لم يخلق الأرض لنتهارش عليها ونسفك الدماء، بل خلقها لنترفق خيره ونشكره عليه…
  6. احترام الخصوصيات الحضارية؛ إن ما يفرق حضارة عن أخرى هي خصوصيات ومميزات كل منها..().

وفي التقرير الذي أصدرته الهيئة المصرية العامة للكتاب في سنة 1980 يرد تقرير المبعوث الانجليزي جون بوزنج إلى وزير خارجية بلاده بلمرستون عن الأوضاع في مصر عام 1837م يذكر المبعوث ” إنه من المثير للفضول ملاحظة أن العلاقة بين العنصرين الإسلامي والقبطي تظهر أوثق ما تكون في المناسبات الدينية؛ إذ يبني الأقباط مساجد المسلمين، كما يعيد المسلمون بناء “المساجد” [الكنائس] القبطية. ويشترك الشيوخ والقسس في الاحتفالات الدينية، وما بقي من مظاهر الديانات القديمة مثل” عبادة النيل” ويذهب المسلمون والأقباط إلى زيارة الأضرحة ذاتها للأولياء والقديسين. ويشير إلى أن المسلمين كانوا يتعلمون في المدارس القبطية، فضلا عن الأقباط الذين كانوا يتعلمون في مدارس الأوقاف ثم يضيف أن الأزهر لم يكن موصد الأبواب أمام القبط.

وينقل عن صحيفة الوطن القبطية في عدد 5 مايو 1916م أنه كان للأقباط قديما رواق بالأزهر، يتلقون فيه العلوم المنطقية والشرعية. وأن ممن درسوا في الأزهر قديما أولاد العسال، وهم من كبار مثقفي القبط ولهم مؤلفات هامة، ومنهم حديثا ميخائيل عبدالسيد صاحب صحيفة الوطن، الذي درس في الأزهر ثم انتقل إلى دار العلوم عند إنشائها، ووهبي تادري الشاعر الذي كان يحفظ القرآن ويكثر من الاقتباس منه، وفرانسيس العتر، الذي كان يحضر دروس الشيخ محمد عبده سنة 1902″().

في حقيقة الأمر فإن النمط البنّاء للتكييف الاثني في مجتمع متعدد لا يمكن فهمه إلا في ضوء ثلاثة مبادئ مطلوبة ومتداخلة هي:

  • الاعتراف بالاختلاف الثقافي.
  • تمثيل مجاميع الأقليات في الهياكل المؤسساتية للدولة وهيئاتها.
  • تقديم بعض أشكال الضمانات للفرص الاقتصادية المتساوية بصيغة تقاسم.

إن وجود أنماط مختلفة من اللغة والثقافة والدين والمميزات الاثنية في أمكنة معينة يعرقل التمايز والانسجام للأكثرية والأقلية في الحالة التعددية المعقدة كما في الهند، وفي تلك الحالة فإن وجود صيغة اندماجية صارمة للحكم لا تكون ملائمة، وفي حالات أخرى عديدة فإن الاندماج البسيط قد لا يعطي النتائج المطلوبة فيما يتعلق بالتمثيل السياسي لمجاميع الأقليات في هيئات صنع القرار ().

     إن الأسلوب الأمثل لصيانة العيش المشترك بين الإثنيات المختلفة هو الأسلوب الإسلامي الذي يرجع أصل جميع الإثنيات والأعراف لآدم عليه السلام، وينهي عن التفاضل بسبب الأعراق والأجناس وكرم الجميع لأنهم آدميون، ودعا إلى العدل والمساواة وصيانة الكرامة.

الخاتمة

في خاتمة هذا البحث وبعد الحديث عن التنوع وتعريفه من ناحية المصطلح والمفهوم وتأصيله الشرعي، وأقسامه وظواهره، وكذلك تعريف المجتمعات والمفاهيم ذات الصلة، كالأمة، والقوم، والجماعة، والحزب، والرهط، والطائفة، وتعريف الشورى وأبعادها، والإدارة، والمجتمعات الإسلامية المعاصرة، نصل إلى نهاية هذا البحث لنستخلص منه:

 أولاً: النتائج:

  1. التنوع ظاهرة كونية موجودة في كافة مجالات الحياة، ولكن الباحث قصر بحثه على التنوع في الحياة البشرية وتجلياته.
  2. الدراسة بينت أن التنوع المقصود يعني تعدد الطرق والأساليب المختلفة التي يمارس بها الناس حياتهم العقائدية والفكرية والسياسية والثقافية، أي الممارسات الإنسانية في كل مناحي الحياة.
  3. المجتمع المسلم هو الذي يتميز بنظمه الخاصة وقوانينه المستمدة من القرآن والسنة وتجمع بين أفراده رابطة الإسلام وتدار أموره في ضوء التشريعات الإسلامية مع مراعاة حقوق غير المسلمين في الدولة القائمة على تعدد الأديان.
  4. الشورى فريضة إسلامية ومبدأ دستوري أصيل تأتي على رأس المبادئ العامة والأصول الثابتة التي قررتها النصوص القرآنية والأحاديث النبوية والممارسة العلمية في العهد النبوي والخلافة الراشدة.
  5. تبين من خلال البحث أن الشورى هي أساس الحكم الصالح، وهي السبيل إلى تبيين الحق ومعرفة الآراء السديدة التي يسهم بها أفراد المجتمع من خلال التشاور الحر قبل اتخاذ القرارات.
  • الشورى مصطلح إسلامي خالص وأصيل، وهي فعل إيجابي لا يقف عند حدود التطوع بالرأي بل يزيد على التطوع إلى درجة العمل على استخراج الرأي استخراجاً واستدعائه قصداً، لأن الشورى في الإسلام هي فلسفة نظام الحكم والاجتماع والأسرة.
  • استعرض الباحث آراء الفقهاء والعلماء حول إلزامية الشورى، وبعد موازنة بين الآراء يميل الباحث إلى القول بأن الشورى ملزمة وليست معلمة، لأن الحاكم وكيل عن الأمة وتقتضي الوكالة أن يعمل وفق إرادة الموكل ورغبته وتوجيهه.
  • بالمقارنة بين الشورى والديمقراطية تبين للباحث أن بينهما توافق في بعض الأمور وبينهما اختلافات بينة تعود إلى اختلاف المصدر والسقوف والمآلات والغايات.
  • يتضح من خلال البحث أن مفهوم الشورى من المفاهيم التي يمكن أن يمتد نطاقها ليغطي جميع الفضاءات الاجتماعية ويجعل منها مفهوماً أثرى من مفهوم الديمقراطية الغربية؛ بل ويكون أشد رسوخاً، لأن مفهوم الديمقراطية مفهوم للممارسة الإنسانية؛ بينما مفهوم الشورى مفهوم إداري وسياسي وتعبدي.
  • الشورى في إدارة التنوع أعمق من الديمقراطية، لأنها لا تقصي منهجاً ولا فكراً ولا ثقافة، وإنما تعترف بالجميع وتحافظ على حقوقهم الإنسانية، فهي تحترم مطالب الفطرة الإنسانية وتحافظ عليها.
  • تعطيل الشورى واستبعادها من حياة المسلمين أدى إلى الجهل بها، بينما الممارسة الديمقراطية رسخت مبادئها ومفاهيمها وآلياتها، والشورى تحتاج إلى مجهود لإبرازها وتطبيقها في الحياة لتكون نموذجاً يحتذي.
  • السودان نموذج للتنوع الديني والثقافي والاجتماعي، والبحث تناول نماذج من الممارسات الاجتماعية في إدارة التنوع، وثبت أن المجتمع متفوق على السلطة في إدارة التنوع وإشاعة التسامح وقبول الآخر.
  • توصل الباحث إلى أن المنهج الذي اتبع لإدارة التنوع في السودان من خلال نظم الحكم تأرجح بين قبول الآخر ومحاولة إقصائه مما أدى إلى زعزعة الاستقرار في السودان وبروز ظاهرة التعصب القبلي والصراع الاثني، وهي ظاهرة لا تعالج إلا بقبول التنوع واحترام خصائصه وكفالة حقوق جميع مكونات المجتمع واشتراكهم في إدارة شئونهم.
  • تناول الفصل الأخير المشتركات الإنسانية في كافة مجالات الحياة وتبين أن ما يجمع بين بني البشر أكثر مما يفرقهم وأن نسبة الاختلاف نسبة ضئيلة إذا فهمت يمكن أن يتحقق التعاون بين جميع المجتمعات الإنسانية لتحقيق السلام والاستقرار في هذا الكوكب.

ثانيا: التوصيات:

  1. توصيتي للعلماء بتسليط الضوء على فقه التنوع وإبراز الأحكام الشرعية المتعلقة به حتى تكون مكان اهتمام من أفراد المجتمع.
  2.  أوصي المفكرين أن يركزوا على الدراسات المقارنة بين منهج الإسلام والمناهج الوظيفية لإبراز حكمة الإسلام من التنوع وتفوقه في الإدارة.
  3. على طلبة العلوم الشرعية أن يهتموا بالدراسات المقارنة فإنها تثبت حقائق الإسلام وتبرز تفوقه على المناهج الوضعية.
  4. على قادة العمل الإسلامي أن يعملوا على ترسيخ ثقافة قبول الآخر والتسامح معه ليساهموا في تعزيز العيش المشترك والعمل على صيانته.

فهرس الموضوعات

الموضوعرقم الصفحة
استهلالأ
إهداءب
شكر وتقديرج
ملخص البحثد
  
 مقدمةز
الفصل الأول الأول: التنوع – أبعاده وحكمته ودور الشورى في إدارته وفيه ثلاثة مباحث
المبحث الأول: مدخل تعريفي: وفيه خمسة مطالب:2 – 3
المطلب الأول: تعريف التنوع3
المطلب الثاني: تعريف المجتمعات الإسلامية المعاصرة6
المطلب الثالث: تعريف الشورى وأبعادها وفيه فروع12
       المطلب الرابع: تعريف الديمقراطية30
       المطلب الخامس: تعريف الإدارة32
المبحث الثاني: التنوع وأبعاده: وفيه أربعة مطالب:34
المطلب الأول: تنوع مظاهر الحياة35
المطلب الثاني: الوحدة في ظل التنوع38
المطلب الثالث: مظاهر التنوع40
المطلب الرابع: التنوع في الحياة الإنسانية42
المبحث الثالث: التنوع البشري حكمته وأهمية الشورى في إدارته وفيه مطلبان:45
المطلب الأول: التنوع والحكمة منه46
المطلب الثاني: أهمية الشورى في إدارة التنوع  50
الفصل الثاني: التنوع مخاطره وفوائده ودور الشورى في احتواء المخاطر وفيه مبحثان
المبحث الأول: مخاطر التنوع في غياب الشورى: وفيه مطلبان:54
المطلب الأول: مخاطر تتعلق بصراع الوجود56
المطلب الثاني: مخاطر تتعلق بخدش الكرامة60
المطلب الثالث: مخاطر بالتمييز بسبب النوع64
المطلب الرابع: مخاطر تتعلق بانتهاك الحقوق72
المطلب الخامس: مخاطر تتعلق بالتعصب78
المبحث الثاني: فوائد التنوع من خلال منهج الشورى: وفيه مطلبان:84
المطلب الأول: التنوع في المجتمع الإسلامي85
المطلب الثاني: فوائد التنوع87
  الفصل الثالث: الديمقراطية والشورى في إدارة التنوع وفيه من ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: مفهوم الشورى والديمقراطية وتحديد نقاط الاتفاق والاختلاف: وفيه ثلاثة مطالب:96
المطلب الأول: الشورى وأبعادها97
المطلب الثاني: الديمقراطية وأبعادها108
المطلب الثالث: مقاربة بين الديمقراطية والشورى117
المبحث الثاني: الشورى ومنهجها في إدارة التنوع: وفيه ثلاثة مطالب:133
       المطلب الأول: التنوع والتعددية في الاصطلاح الإسلامي134
المطلب الثاني: منهج الشورى في إدارة التنوع137
المطلب الثالث: التنوع العقائدي152
المبحث الثالث: الديمقراطية ومنهجها في إدارة التنوع: وفيه ثلاثة مطالب:173
المطلب الأول: سمات وخصائص الديمقراطية174
المطلب الثاني: الممارسة الديمقراطية176
المطلب الثالث: أساليب إدارة التنوع في الديمقراطية181
الفصل الرابع: التنوع في السودان نموذجاً وفيه ثلاثة مباحث:
المبحث الأول : التنوع في المجتمع السوداني: وفيه مطلبان:186
المطلب الأول: مكونات المجتمع السوداني187
المطلب الثاني: المجتمع الأهلي نموذجاً195
المبحث الثاني: نظم الحكم وإدارة التنوع: وفيه ثلاثة مطالب: 202
المطلب الأول: إدارة التنوع في ظل الاستعمار التركي203
المطلب الثاني: المهدية وإدارة التنوع205
المطلب الثالث: إدارة السودان في عهد الاستعمار الثنائي210
المبحث الثالث: الحكم الوطني وإدارة التنوع: وفيه ثلاثة مطالب:220
المطلب الأول: النظم الديمقراطية في السودان وإدارة التنوع221
المطلب الثاني: النظم العسكرية في السودان وإدارة التنوع228
المطلب الثالث: الشورى وصيانة العيش المشترك في السودان234
الفصل الخامس: الشورى ودورها في تحقيق الوحدة في ظل التنوع وفيه مبحثان:
المبحث الأول: القواسم المشتركة: وفيه ثلاثة مطالب:244
المطلب الأول: المشترك الإنساني245
المطلب الثاني: المشترك بين الإيمانيين 266
المطلب الثالث: المشترك بين المذاهب 276
المبحث الثاني: دور الشورى في تحقيق الوحدة في ظل التنوع: وفيه ثلاثة مطالب:286
المطلب الأول: صحيفة المدينة نموذجاً لإدارة التنوع287
المطلب الثاني: نماذج من معاهدات الدولة الإسلامية مع أهل الذمة 298
المطلب الثالث: مفهوم دار الحرب ودار الإسلام302
المبحث الثالث: الأسس العامة لصيانة العيش المشترك305
الخاتمة
النتائج 308
التوصيات 310

فهرس المصادر والمراجع

رقمالمصدر أو المرجع
أولاً: القرآن الكريم
ثانياً: التفسير والسير وعلوم القرآن:
أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي، تفسير القرآن العظيم، دار كنوز اشبيليا للنشر والتوزيع الرياض- المملكة العربية السعودية الطبعة الثانية 1430 هـ.
أبوالقاسم الحسين بن محمد المعروف بالراغب الأصفهانى (المتوفى: 502هـ)، المفردات في غريب القرآن، تحقيق: صفوان عدنان الداودي، دار القلم، الدار الشامية – دمشق بيروت، الطبعة: الأولى – 1412هـ.
الجصاص، أبوبكر احمد بن علي، أحكام القرآن، دار إحياء التراث، بيروت 1980.
عبدالملك بن هشام بن أيوب الحميري المعافري، أبو محمد، جمال الدين (المتوفى: 213هـ)، السيرة النبوية، تحقيق: مصطفى السقا وإبراهيم الأبياري وعبد الحفيظ الشلبي الناشر: شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر، الطبعة: الثانية، 1375هـ – 1955م.
محمد بن عبدالله أبو بكر بن العربي المعافري الاشبيلي المالكي (المتوفى: 543هـ)، أحكام القرآن، راجع أصوله وخرج أحاديثه وعلَّق عليه: محمد عبد القادر عطا، الناشر: دار الكتب العلمية، بيروت لبنان، الطبعة: الثالثة، 1424 هـ – 2003م.
محمد رشيد بن علي رضا بن محمد شمس الدين بن محمد بهاء الدين (المتوفى: 1354هـ) تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار) الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1990م.
محمد رشيد رضا، الخلافة الزهراء للإعلام العربي القاهرة، 1418ه 1998م
محمد علي الصابوني، صفوة التفاسير، دار الصابوني للطباعة والنشر والتوزيع القاهرة، الطبعة: الأولى، 1417 هـ – 1997 م
مفاتيح الغيب – التفسير الكبير، أبوعبدالله محمد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي الرازي الملقب بفخر الدين الرازي خطيب الري (المتوفى: 606هـ)، دار إحياء التراث العربي بيروت، الطبعة: الثالثة – 1420هـ.
وهبة بن مصطفى الزحيلي، التفسير المنير في العقيدة والشريعة والمنهج، دار الفكر المعاصر دمشق، الطبعة : الثانية ، 1418هـ.
ثالثاً: كتب الحديث والسنة:
أبومحمد عبدالله بن عبدالرحمن بن الفضل بن بَهرام بن عبد الصمد الدارمي، التميمي السمرقندي (المتوفى: 255هـ)، مسند الدارمي المعروف بـ (سنن الدارمي)، تحقيق: حسين سليم أسد الداراني، دار المغني للنشر والتوزيع، المملكة العربية السعودية، الطبعة: الأولى، 1412 هـ – 2000 م
أبوداود سليمان بن الأشعث بن إسحاق بن بشير بن شداد بن عمرو الأزدي السَِّجِسْتاني (المتوفى: 275هـ)، سنن أبي داود، تحقيق: محمد محيي الدين عبد الحميد، المكتبة العصرية، صيدا بيروت.
أبوعبدالله أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال بن أسد الشيباني (المتوفى: 241هـ)، مسند الإمام أحمد بن حنبل، تحقيق: شعيب الأرنؤوط – عادل مرشد، وآخرون، مؤسسة الرسالة، الطبعة: الأولى، 1421 هـ – 2001م.
أبوعبدالله الحاكم محمد بن عبدالله بن محمد بن حمدويه بن نُعيم (المتوفى: 405هـ)، المستدرك على الصحيحين، تحقيق: مصطفى عبدالقادر عطا، دار الكتب العلمية بيروت، الطبعة: الأولى، 1411 1990م,
زين الدين عبد الرحمن بن أحمد بن رجب بن الحسن، السَلامي، البغدادي، ثم الدمشقي، الحنبلي (المتوفى: 795هـ)، فتح الباري شرح صحيح البخاري، مكتبة الغرباء الأثرية – المدينة النبوية، القاهرة، الطبعة: الأولى، 1417 هـ – 1996م.
محمد بن إسماعيل أبو عبدالله البخاري الجعفي، الجامع المسند الصحيح المختصر، صحيح البخاري، تحقيق: محمد زهير بن ناصر الناصر، دار طوق النجاة الطبعة: الأولى، 1422هـ
محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة البخاري، أبو عبد الله (المتوفى: 256هـ)، الأدب المفرد، تحقيق: محمد فؤاد عبدالباقي، دار البشائر الإسلامية بيروت، الطبعة: الثالثة، 1409 1989م.
 محمد بن عيسى بن سَوْرة بن موسى بن الضحاك، الترمذي، أبو عيسى (المتوفى: 279هـ)، سنن الترمذي، تحقيق وتعليق: أحمد محمد شاكر وإبراهيم عطوة عوض المدرس في الأزهر الشريف شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي مصر، الطبعة: الثانية، 1395 هـ – 1975م.
مسلم بن الحجاج أبو الحسن القشيري النيسابوري (المتوفى: 261هـ)، المسند الصحيح المختصر، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي بيروت.
المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي، محمد فؤاد عبد الباقي، ليدن مطبعة بريل 1962.
رابعاَ: كتب المعاجم والتاريخ والتراجم
ابن منظور، لسان العرب، بيروت: دار إحياء التراث العربي، مؤسسة التاريخ العربي، ط3، د.ت، أنيس إبراهيم وآخرون.  
أبوالفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي البصري ثم الدمشقي (المتوفى: 774هـ)، البداية والنهاية، تحقيق: علي شيري، دار إحياء التراث العربي، الطبعة: الأولى 1408، هـ – 1988م.
أحمد بن محمد بن علي الفيومي ثم الحموي، أبو العباس (المتوفى: نحو 770هـ)،المصباح المنير في غريب الشرح الكبير، الناشر: المكتبة العلمية بيروت.
زين الدين أبوعبدالله محمد بن أبي بكر بن عبدالقادر الحنفي الرازي (المتوفى: 666هـ)، مختار الصحاح، تحقيق: يوسف الشيخ محمد، الناشر: المكتبة العصرية – الدار النموذجية، بيروت صيدا، الطبعة: الخامسة، 1420هـ / 1999م.
شهاب الدين أبوعبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي (المتوفى: 626هـ)، معجم البلدان، دار صادر، بيروت، الطبعة: الثانية، 1995م.
عبدالمنعم المشاط، قاموس المفاهيم السياسية مركز القاهرة لثقافة الديمقراطية،مكتبة الشروق الدولية الطبعة الأولى:1432هـ 2011م القاهرة.
عبدالرحمن بن أبي بكر، جلال الدين السيوطي (المتوفى: 911هـ)، تاريخ الخلفاء، تحقيق: حمدي الدمرداش، مكتبة نزار مصطفى الباز، الطبعة الأولى: 1425هـ-2004م.
مجدالدين أبوطاهر محمد بن يعقوب الفيروزآبادى (المتوفى: 817هـ)، القاموس المحيط، تحقيق: مكتب تحقيق التراث في مؤسسة الرسالة، مؤسسة الرسالة للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت لبنان، الطبعة: الثامنة، 1426 هـ – 2005م.
محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد شمس الدين ابن قيم الجوزية (المتوفى: 751هـ)، زاد المعاد في هدي خير العباد، الناشر: مؤسسة الرسالة، بيروت – مكتبة المنار الإسلامية، الكويت، الطبعة: السابعة والعشرون , 1415هـ /1994م.
محمّد بن محمّد بن عبدالرزّاق الحسيني، أبوالفيض، الملقّب بمرتضى، الزَّبيدي (المتوفى: 1205هـ)، تاج العروس من جواهر القاموس، تحقيق: مجموعة من المحققين، دار الهداية
المعجم الوسيط، مجمع اللغة العربية بالقاهرة، (إبراهيم مصطفى/ أحمد الزيات/ حامد عبدالقادر/ محمد النجار)، دار الدعوة.
خامساً: مراجع حديثة:
إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الغرناطي الشهير بالشاطبي (المتوفى: 790هـ)، الموافقات، تحقيق: أبوعبيدة مشهور بن حسن آل سلمان، الناشر: دار ابن عفان، الطبعة: الطبعة الأولى 1417هـ/ 1997م.
أبوغدة، حسن عبدالغني، وآخرون، الإسلام وبناء المجتمع الإسلامي، الرياض: مكتبة الرشد، ط٢، ١٤٢٧ هـ.  
أبوالفتح محمد بن عبدالكريم بن أبى بكر أحمد الشهرستاني (المتوفى: 548هـ) الملل والنحل، مؤسسة الحلبي.
أبوالفضل أحمد بن محمد بن إبراهيم الميداني النيسابوري (المتوفى: 518هـ)، جمع الأمثال، تحقيق: محمد محيى الدين عبد الحميد، الناشر: دار المعرفة – بيروت، لبنان
أبوحيان التوحيدي (المقابسات) تحقيق: محمد توفيق حسين، دار الأدب. بيروت 1989م.
أبوهلال الحسن بن عبدالله بن سهل بن سعيد بن يحيى بن مهران العسكري (المتوفى: نحو 395هـ)، جمهرة الأمثال، الناشر: دار الفكر بيروت.
أبويوسف يعقوب بن إبراهيم بن حبيب بن سعد بن حبتة الأنصاري (المتوفى : 182هـ)، الخراج، المكتبة الأزهرية للتراث، طه عبد الرؤوف سعد، سعد حسن محمد تحقيق الدكتور محمد إبراهيم البنا.
أحمد أمين، ظهر الإسلام. 
أحمد زكي صفوتّ، رسالة الصحابة في “جمهرة رسائل العرب” رسالة رقم(26)
آدم ميتز، الحضارة الاسلامية في القرن الرابع الهجري، ترجمة الدكتور محمد عبدالهادي أبوريدة
الإسلام والغرب آفاق الصدام تأليف صموئيل بي هانتينجتون.
إسماعيل الفاروقي، الاسلام بين الديانات الآسيوية العظيمة، نيويورك- ماكميلان
الإمام الصادق المهدي. الشورى والديمقراطية مقاربة ومقارنة بحث مقدم للمؤتمر الدولي بعنون الشورى والديمقراطية دمشق سوريا 30 -11-2005م
الإمام محمود شلتوت: الإسلام عقيدة وشريعة ط16
الأموال : أبوعبيد القاسم
بسطامي سعيد، رؤية إسلامية لمشكلة التعددية، مجلة البيان، لندن، المنتدى الإسلامي العدد (216) شعبان 1426هـ.
البيانات المسيحية المشتركة نصوص مختارة من 1954- 1992م معهد الدراسات الإسلامية المسيحية جامعة القديس يوسف بيروت.
التفتازاني (شرح العقائد النسفية). طبعة القاهرة الأولى سنة 1913م،
جمال الدين عطية، النظرية العامة للشريعة الإسلامية، طبعة القاهرة 1407هـ 1988م.
جواهر لال نهرو: لمحات من تاريخ العالم
الجيلاني بن الحاج يحيى، بلحسن البليّش، علي بن هادية. القاموس الجديد. مادة تنوع الأطلسية للنشر- تونس. الأهلية للنشر والتوزيع بيروت . الطبعة العاشرة 1417هـ 1997م.  
حافظ أحمد عجاج الكرمي، الإدارة في عصر الرسول دراسة تاريخية للنظم الإدارية في الدولة الإسلامية الأولى، مطبعة دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع – القاهرة، الطبعة الثانية 1428هـ 2007م م.
خديجة النبراوي، موسوعة أصول الفكر السياسي والاجتماعي والاقتصادي من نبع السنة النبوية الشريفة وهدي الخلفاء الراشدين، المجلد الأول – دار السلام للطباعة والنشر الطبعة الأولى 1424هـ 2004م
الديمقراطية والأحزاب في البلدان العربية- المواقف والمخاوف المتبادلة، ألفه مجموعة من الباحثين، إصدار مركز دراسات الوحدة العربية 1999م
دينهارت دوزي، تكملة المعاجم العربية، ترجمة: محمد سليم النعيمي، العراق، وزارة الثقافة سنة (1981م)
ديوان عنترة بن شداد 
راشد الغنوشي، الحريات العامة في الدولة الإسلامية، طبعة دار الشروق الأولى 2012- مصر.
راغب السرجاني، المشترك الإنساني- نظرية جديدة للتقارب بين الشعوب، الطبعة الأولى 1432هـ- 2011م مؤسسة اقرأ للنشر والتوزيع والترجمة.
زكريا عبد المنعم إبراهيم الخطيب , نظام الشورى في الإسلام ونظم الديمقراطية المعاصرة، مطبعة السعادة , 1405- 1985 م
زكي نجيب محمود، المعقول واللامعقول في تراثنا الفكري، دار الشروق.
سفر التكوين 
السودان وحقوق الإنسان للصادق المهدي.
سيد قطب: العدالة الاجتماعية في الإسلام، دار إحياء الكتب العربيةالقاهرة 1954
السيوطي، الرد على من أخلد إلى الأرض وجهل أن الاجتهاد في كل عصر فرض طبعة بيروت 1403ه 1983م
الشورى في القرآن والسنة بحث قدمه حسين حامد حسان رئيس الجامعة الإسلامية العالمية إسلام أباد وقطب عبد الحميد قطب أستاذ مساعد بكلية أصول الدين الجامعة العالمية إسلام أباد المصدر الشورى في الفكر والممارسة الجزء الأول نشر المركز العالمي لدراسات وأبحاث الكتاب الأخضر الطبعة الأولي دار الكتب الوطنية – بنغازي
شوقي أبوخليل: جوستاف لوبون في الميزان، الطبعة الأولى، بيروت، دار الفكر المعاصر، دمشق، دار الفكر،(1990م)،
صابر طعيمة الدولة والسلطة في الإسلام الطبعة الخامسة 2005م مكتبة مدبولى القاهرة.  
الصادق المهدي، نحو مرجعية إسلامية متجددة متحررة من التعامل الانكفائي في الماضي والتعامل الاستلابي مع الوافد، الطبعة الأولى 2010م مكتبة جزيرة الورد القاهرة
طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد للكواكبي.
طه جابر العلواني، أدب الاختلاف في الإسلام، المعهد العالمي للفكر الإسلامي
عبد الفتاح مراد، موسوعة حقوق الإنسان.
عبدالله محمد جمال الدين نظام الدولة في الإسلام ط1983-
عبدالكريم زيدان أحكام الذميين والمستأمنين في دار الإسلام
عبدالكريم زيدان من بحث قدم إلى مؤتمر حقوق الإنسان الذي دعت إليه جامعة الكويت في شهر ديسمبر عام 1980م
عبدالمحمود أبّو، الحوار في الإسلام حقائق ونتائج، مطبعة المصابيح أم درمان السودان الطبعة الأولى 2011م.
عدنان عويد، الديمقراطية بين الفكر والممارسة، التكوين للطباعة والنشر والتوزيع ط2006 دمشق.
عزالدين ابن الأثير، أسد الغابة في معرفة الصحابة تحقيق محمد إبراهيم البنا. ومحمد أحمد عاشور. ومحمود عبدالوهاب فايد، طبعة دار الشعب. بالقاهرة.
علي الكواري، أزمة الديمقراطية في البلدان العربية، اعتراضات وتحفظات على الديمقراطية في العالم العربي، الطبعة الأولى 2004م دار الساقي بيروت.
علي خليفة الكواري، مفهوم الديمقراطية المعاصرة، مقال نشر بجريدة الصباح العراقية، 6 فبراير2010م.
علي محيي الدين القره داغي. نحن والآخر- دراسة فقهية تأصيلية
عماد الدين خليل: الوحدة والتنوع
عمر عوض الله قسم السيد، الفدرالية كأداة لإدارة النزاع في المجتمعات متعددة الأعراق والثقافات، حالة السودان، ترجمة: عبدالحافظ عبدالعزيز، مراجعة محمد المصطفى حسن عبدالكريم الطبعة الأولى، أبريل 2010م مركز عبدالكريم ميرغني، أمدرمان، السودان.
فان فلوتن (السيادة العربية والشيعة والإسرائيليات في عهد بني أمية) ترجمة د حسن إبراهيم حسن ومحمد زكي إبراهيم. طبعة القاهرة سنة 1965م.
الفرج، عبد الله مبارك، بناء المجتمع الإسلامي
فريد عبد الخالق، في الفقه السياسي الإسلامي، الشورى  العدل المساواة مبادئ دستورية، دار الشروق الطبعة الثانية 1427هـ 2012م.
فضل حسن، دراسات في السودان وأفريقيا وبلاد العرب، الجزء الثاني، دار جامعة الخرطوم للنشر، الطبعة الأولى 1989م
فهمي هويدي، مواطنون لا ذميون، الطبعة الرابعة، 1426هـ- 2005م دار الشروق القاهرة.
القرافي: الإحكام في تمييز الفتاوي عن الأحكام وتصرفات القاضي والإمام تحقيق الشيخ عبدالفتاح أبوغدة طبعة حلب 1387ه 1967م
القرافي، الأمنية في إدراك النية، تحقيق عبدالله إبراهيم صالح طبعة مالطا 1991م
قطب عبد الحميد قطب، نظام الشورى في الإسلام، دار الاعتصام
كريم عبد الرازق، مفهوم الديمقراطية – دليل الديمقراطية الطبعة الأولى 1432هـ 2011م مركز القاهرة لثقافة الديمقراطية
لطيفة إبراهيم رزق، مفهوم الانتماء ومتطلباته التربوية في مرحلة التعليم الأساسي، كلية التربية بجامعة عين شمس، القاهرة 1998م
المالكي، أبو عبدالله محمد بن فرج (أقضية رسول الله ) تحقيق د: محمد ضياء الرحمن الأعظمي. طبعة القاهرة 1978م
المجتمع المدني (المواطنة والديمقراطية) للدكتور عيسي الشماس.
المجتمع المدني والدولة السياسية في الوطن العربي لتوفيق المديني.
المجتمع والدولة في الوطن العربي : دراسة قدمها عدد من الباحثين منسقها الدكتور سعد الدين إبراهيم- منشورات مركز دراسات الوحدة العربية الطبعة الثانية 1996م بيروت
مجموعة الوثائق السياسية للعهد النبوي والخلافة الراشدة لمحمد حميدالله.
محمد إبراهيم أبو سليم، في الشخصية السودانية، المصدر د. زكي البحيري، التطور الاقتصادي والاجتماعي في السودان، مرجع سابق
محمد الغزالي دستور الوحدة الثقافية بين المسلمين
محمد الغزالي، التعصب والتسامح بين المسيحية والاسلام،
محمد باقر الصدر، فلسفتنا، الطبعة الثانية عشر دار التعارف للمطبوعات- بيروت
محمد رشيد رضا، الخلافة  الزهراء للإعلام العربي القاهرة، 1418ه 1998م
محمد شيخاني. التيارات الفكرية المعاصرة والحملة على الإسلام.
محمد عابد الجابري، الديمقراطية وحقوق الإنسان منشورات مركز دراسات الوحدة العربية الطبعة الثالثة 2004م بيروت.
محمد عبد القادر أبو فارس “النظام السياسي في الإسلام”
محمد عبدالفتاح الخطيب، حرية الرأي في الإسلام مقاربة في التصور والمنهجية، كتاب الأمة العدد 122 ذوالقعدة 1428ه الطبعة الأولى، سلسلة دورية تصدر كل شهرين عن وقفية الشيخ علي بن عبدالله آل ثاني للمعلومات والدراسات- قطر
 محمد عمارة. الإسلام وفلسفة الحكم.
محمد عمارة، الإسلام والتعددية
محمد فؤاد عبدالباقي، المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، ط2،بيروت، دار الفكر، 1401هـ،1981م.
محمد فهيم درويش. مرتكزات الحكم الديمقراطي وقوام الحكم الرشيد، دار النهضة العربية، الطبعة الأولى 2010 القاهرة
محمد مهدي شمس الدين، في الاجتماع السياسي الإسلامي،  المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر بيروت ط1412هـ 1992م.
محمد مهدي شمس الدين، في الاجتماع السياسي الإسلامي، المؤسسة الجامعية للدراسات و النشر بيروت ط1412هـ 1992م.
من فقه الدولة في الإسلام للدكتور القرضاوي.
منصور عبد الحكيم: الإمبراطورية الأمريكية، البداية والنهاية
المواطنة والانتماء وأثرهما علي الدولة والمجتمع والأسرة لرضا عطية.
نايف معروف، الديمقراطية في ميزان العقل والشرع، الطبعة الأولى 1425ه 2004م دار النفائس للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت
نبيل ميخائيل، الديمقراطية ماهي ؟ وما مستقبلها
نحن والآخر للدكتور علي محي الدين القرة داغي.
نحو ثقافة مغايرة للدكتور جابر عصفور.
النظام السياسي للدولة الإسلامية د محمد سليم العوا
وثيقة الأزهر حول مستقبل مصر، رجب 1432هـ يونيو 2011م.
وهبة الزحيلي، قضايا الفقه والفكر المعاصر، الجزء الأول دار الفكر- دمشق البرامكة الطبعة الثانية 1430ه 2009م
وهبة الزحيلي، موسوعة الفقه الإسلامي المعاصر،الجزء السادس
يوسف القرضاوي. الصحوة الإسلامية بين الاختلاف المشروع والتفرق المذموم،
الرسائل العلمية
علي جابر العبد الشارود، التعددية الحزبية في ظل الدولة الإسلامية رسالة ماجستير- الطبعة الأولى 1432هـ- 2011م دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع والترجمة- القاهرة
مخلص الصيادي تطور مفهوم الدولة في المجتمع الإسلامي الأول رسالة دكتوراه غير منشورة.
المجلات والموسوعات ومواقع الانترنت:
مجلة الحرس الوطني، المملكة العربية السعودية، العدد164/165، نقلاً عن بحث الأستاذ محمد مراح بعنوان “نحو رؤية إسلامية لتعارف الحضارات”.
موسوعة أصول الفكر السياسي والاجتماعي والاقتصادي من نبع السنة الشريفة وهدى الخلفاء الراشدين، إعداد خديجة النبراوي المجلد الثاني (1085)
موسوعة الحضارة الإسلامية للأستاذ أحمد أمين.
جريدة الأيام 6-11- 1982 مفهوم الأمة السودانية، منظور تاريخي ليوسف فضل. المصدر د زكي البحيري.
الصادق المهدي،  مقال جريدة الشرق الأوسط بتاريخ: 18- 12- 2005م
باسل عبد المنعم، إشكالية العلاقة بين الإسلام والديمقراطية بحث منشور على رابط: http://ar.wikipedia.org
عبدالمجيد ميلاد. مقال نشر بجريدة الصباح في 5 ديسمبر2006م المصدر الرابط: http://www.abdelmajid-miled.com
الموسوعة الحرة: http://ar.wikipedia.org
الشيخ عبد الله أحمد اليوسف. http://wasatiaonline.net
زر الذهاب إلى الأعلى