بسم الله الرحمن الرحيم
بقلم: د. عبدالمحمود أبو
منهج الشورى في إدارة التنوع
المجتمع الإسلامي الذي تأسّسَ في المدينة المنورة، كان متنوعاً، وجاء الإسلام بمنهج لإدارة مكوناته داخل الإطار الإسلامي، حيث أدار الاختلافات في الألسن، والألوان، والاجتهادات؛ مع مراعاة الخلفيات الثقافية، واختلاف البيئات، بصورة أكدت القدرة الفائقة للإسلام على تحقيق الوحدة في ظل التنوع. وأذكر هنا بعض النماذج في إدارة التنوع داخل الجسم الإسلامي وفق الفروع الآتية:
التنوع في الأعراق والألوان والألسن:
بيَّن الإسلام أن الاختلاف في الألوان، والألسن، وفي كل الأمور الخلقية والظواهر الاجتماعية، هو من آيات الله، التي تستلزم التّفَكُّر والتّدَبُّر والاعتبار، قال تعالى:” وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ”[الروم:22] فالإسلام منذ نزوله، نَشَرَ وسط المؤمنين به وعياً بالتّبايُن، والاختلاف بين القوميّات والثّقافات، ووضع تشريعاً ينظم التعامل مع هذا التّباين، يقوم على العدل والمساواة والبر والتعاون. قال تعالى:“ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا وَمِنَ الجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ (27) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ“ [فاطر:27-28] فالوعي بطبيعة الاختلاف والتنوع؛ يقلل من التخاصم. فمن ثوابت الإسلام تكريم الإنسان، وكفالة حقوقه وحرياته، والتكريم في الإسلام ليس خاصاً بشعب أو عرق أو ملة؛ بل هو تكريم عام لجنس الإنسان، دون التفات إلى لونه أو جنسه أو معتقده، كما سبق تفصيله.
عن عمر رضي الله عنه قال: (جاء الأقرع بن حابس التميمي، وعُيينة بن حصن الفزاري، فوجدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قاعداً مع بلال، وعمار، وصهيب، وخباب بن الأرَتّ، في ناس من الضعفاء من المؤمنين، فلما رأوهم حَقَّروهم، فأتوه فخَلَوْا به، فقالوا: إنا نحب أن تجعل لنا منك مجلساً تعرف لنا به العرب فضلنا، فإن وفود العرب تأتيك فنستحي أن ترانا مع هذه الأعْبُد، فإذا نحن جئناك فأقِمهم عنا، وإذا نحن فرغنا فاقعد معهم إن شئت، قال: ” نعم” قالوا: فاكتب لنا كتاباً، فدعا بالصحيفة ليكتب لهم، ودعا علياً ليكتب، فلما أراد ذلك ونحن قعود في ناحية؛ إذ نزل عليه جبريل فقال:” وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَوةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مَنَ الظَّالِمِينَ” الأنعام:52])([1])).
لقد وجه الإسلام أتباعه، ونهاهم عن التفاخر بالأنساب، وبين لهم أنّ الأصل الذي جاءت منه الإنسانية واحد، قال تعالى:“ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً” [النساء:1] وأعلن القرآن أن الأخوة الواشجة، هي الرباط الأعظم بين جماعة المسلمين، وهي العنوان المعبِّر عن حقيقة الإيمان: “إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ” وجاءت الآيات بعد هذه الآية، تقيم سياجا من الآداب والفضائل الأخلاقية، يحمي الأخوة مما يُشوِّهها ويؤذيها من السخرية، واللمز، والتنابز بالألقاب، وسوء الظن، والتجسس، والغيبة: قال تعالى:“يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْراً مِّنْهُمْ وَلاَ نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ وَلاَ تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلاَ تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاسْمُ الفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلاَ تَجَسَّسُوا وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ” الحجرات11-12]([2]).
ومن مظاهر التعددية القومية أن الإسلام احترم الأعراف البيئية التي لا تتعارض مع أحكام الإسلام، ففي الأعراس يقول صلى الله عليه وسلم عن الغناء فيها: (إن الأنصار فيهم غزل) ([3])، فقد حرص صلى الله عليه وسلم على احترام عاداتهم ما دامت غير مخالفة للشرع. وفي الأعياد وبينما كان الحبشة يلعبون عند النبي صلى الله عليه وسلم بحرابهم (احتفالاً بالعيد) دخل عمر فأهوى إلى الحصباء فحصبهم بها، فقال صلى الله عليه وسلم: دعهم يا عمر) ([4])، لم يعارض الإسلام الانفتاح على ثقافة الأمم والشعوب الأخرى، وأخْذِ مالا يتعارض مع أحكام الدين منها، قال صلى الله عليه وسلم: (الحكمة ضالة المؤمن حيثما وجدها فهو أحق بها)([5])، وبناء على ذلك نفَّذ صلى الله عليه وسلم مشورة سلمان الفارسي رضي الله عنه بحفر الخندق، وهي خطة فارسية في الحروب([6]).
وجعل الإسلام العرف معتبراً في استنباط الأحكام وسبباً لاختلاف الفتوى، ويراعى في تقدير الأمور وفي كثير من قضايا الأحوال الشخصية. والحقيقة أن الاختلافات الظاهرة تحتوي في داخلها تشابها يفوق مظاهر الاختلاف، فالإنسان أصله واحد، كما بين القرآن الكريم:” هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا” [الأعراف: 189].
وفي واحدة من أحدث الدراسات العلمية – صادرة في 2004م جاءت دراسة أمريكية حديثة؛ أجراها مجموعة من علماء جامعة هوارد في واشنطن، حول الجينات البشرية وعلاقتها بالعرق واللون، وشارك فيها فرانسيس كولينز([7]) المهندس القائد لكل مشروع الجينوم “الأطلس الوراثي” البشري، وتوصّلت الدراسة إلى أن كل إنسان يشارك أي إنسان آخر ب 9,99% في المائة من الحامض النووي، الذي هو المادة الجينية للإنسان، وأن ما يتبقَّى من تلك النسبة ضئيل جدّاً يختلف بين الأشخاص من العرق نفسه أكثر من اختلافه بين عموم البشر؛ ولذا فمن المستحيل التعرف على عرق الشخص من خلال دراسة جيناته فقط، وتدحض هذه النتائج نظريات التفوُّق العرقي لجنس على آخر، أو النظريات التي تربط بين الذكاء أو الجريمة وبين أعراق محدَّدة([8]).
تستطيع الأعراق أن تكون الأساس الذي يستند إليه المصلحون في إنهاء الحروب الأهلية، وما أكثر الحروب الأهلية التي تنشأ؛ كما في القارة الأفريقية على وجه الخصوص، التي شهدت أعنف درجة من الحروب الأهلية في نصف القرن الأخير؛ ففي إفريقيا نستطيع أن نتحدث عن اختلافات في كل شيء تقريبا، اختلافات في الأديان، واللغات والثقافات، والعادات والتقاليد.
وفي إدارة التنوع نجد أن النبي صلى الله عليه وسلم يراعي هذا الجانب العرقي، واستند إليه في الإصلاح بين أهل المدينة. فقد حرّضت قريش عبد الله بن أُبَيّ قائلة “إنكم آويتم صاحبنا، وإنا نُقْسم بالله لتقاتِلُنّه أو لتُخْرِجُنّه، أو لنَسِيرَنّ إليكم بأجمعنا، حتى نقتل مقاتلتكم، ونستبيح نساءكم”. واستطاعت الرسالة أن تبلغ أثرها بالفعل؛ إذ لما بلغ ذلك عبد الله بن أُبيّ ومن كان معه من عبدَة الأوثان اجتمعوا لقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما بلغ ذلك رسول الله لَقِيَهُم فقال: “لَقَدْ بَلَغَ وَعِيدَ قُرَيْشٍ مِنْكُم المَبَالِغ، مَا كَانَتْ تَكِيدُكُمْ بِأَكْثَرَ مِمَّا تُرِيدُونَ أَنْ تَكِيدُوا بِهِ أَنفُسَكُم؛ تُرِيدُون أَن تُقَاتِلُوا أَبْنَاءَكُم وَإِخْوَانَكم” فلما سمعوا ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم تفرّقوا ([9]).
لقد كان الخطاب النبوي في هذه الحالة مرتكزا إلى حالات القرابة القائمة بين الطرفين، أي العرق، وقد خلا تماماً من جانب التذكير بالله أو العامل الإيماني، فلم يكن ذلك من المشترك بينهم؛ فمنهم المسلمون ومنهم الكافرون؛ لذا كان الخطاب باحثا ومُستنِدا إلى هذا الجانب المشترَك، ولقد فعل هذا الخطاب فعله- أيضا- وتمّ نزع فتيل الحرب ([10]).
التنوع في المكونات الاجتماعية:
مُجتمع المدينة المنوَّرة كان يتكون من المهاجرين والأنصار واليهود، والمشركين، وقد نَظَّمت العلاقة بين مُكونات المُجتمع صَحيفة المدينة؛ التي تُعتبر “أول وثيقة (دستورية): سياسية، وحقوقية، تعترف بالمواطنة، المبنِيَّة على أساس الانتماء الديني والولاء الاجتماعي، لا كما هو شائع في الدول والحضارات البائدة والمعاصرة لصدر الإسلام، والنظم السياسية التي جاءت بعده ([11]) والأنصار كانوا يتكونون من مجموعتين هما: الأوس والخزرج. وعندما حاول الخصوم الدسَّ بين المسلمين؛ لتفريق كلمتهم، جاء التوجيه القرآني حاسما قال تعالى:” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تُطِيعُوا فَرِيقاً مِّنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ (100) وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَن يَعْتَصِم بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (101) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ (102) وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103) وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ (104) وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ البَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ” آل عمران:100-105]، نقل الحافظ السيوطي في “الدر المنثور” في سبب نزول هذه الآيات؛ جملة آثار عن بعض الصحابة والتابعين، منها: ما أخرجه ابن اسحق، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ. عن زيد بن أسلم قال: مرَّ شاس بن قيس – وكان شيخا قد عسا([12]) في الجاهلية، عظيم الكفر، شديد الضِّغن على المسلمين، شديد الحسد لهم- على نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأوس والخزرج، في مجلس قد جمعهم، يتحدثون فيه، فغاظه ما رأى من أُلفتهم، وجماعتهم، وصلاح ذات بينهم على الإسلام، بعد الذي كان بينهم من العداوة في الجاهلية، فقال: قد اجتمع ملأ بني قَيلة بهذه البلاد، والله مالنا معهم إذا اجتمع ملؤهم بها من قرار، فأمر فتى شابا معه من يهود، فقال: اعمد إليهم فاجلس معهم، ثم ذكِّرهم يوم بُعاث، وما كان قبله وأنشدْهم بعض ما كانوا تقاوَلوا فيه من الأشعار، ويوم بعاث كان يوماً اقتتلت فيه الأوس والخزرج، وكان الظَّفر فيه للأوس على الخزرج، ففعل فتكلم القوم عند ذلك، وتنازعوا وتفاخروا، حتى تَوَاثَبَ رجُلان من الحَيَّيْن على الرَّكْب، – أوس بن قيظي، أحد بني حارثة من الأوس، وجبار بن صخر أحد بني سلم من الخزرج – فَتَقَاوَلا، ثم قال أحدُهُما لصاحبه: إن شِئْتُم والله رددناها الآن جَذَعة، وغضب الفريقان جميعا، وقالوا: قد فعلنا، السلاح السلاح، موعدكم الظَّاهِرة – والظَّاهِرة الحَرَّة – فخرجوا إليها، وانضَمَّت الأوْس بعضُها إلى بعض، والخزرج بعضُها إلى بعض، على دعواهم التي كانوا عليها في الجاهلية. فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج إليهم فِيمَن معه من المُهاجرين من أصحابه، حتى جاءهم فقال: يا معشر المسلمين الله الله، أبِدَعْوَى الجَاهِلِيَّة وأنا بَيْنَ أَظْهُرِكُم؟ أَبَعْدَ إِذْ هَدَاكُم الله إلى الإسلام، وأكْرَمَكُم به، وَقَطَعَ به عَنكُم أَمْرَ الجَاهِلِيَّة، واسْتَنقَذَكُم به مِنَ الكُفر، وَأَلَّفَ به بينكم، تَرْجِعُون إلى مَا كُنتم عَليه كُفَّارًا، فَعَرَفَ القوم أَنَّها نَزْغَةٌ مِنَ الشَّيْطان، وَكَيد مِن عدُوِّهم لهم، فَأَلْقُوا السّلاح، وبَكَوا، وعَانَق الرِّجال بعضهم بعضا، ثم انصرفوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سامعين مطيعين، قد أطفأ الله عنهم كيدَ عدُوِّ الله شاس، وأنزل الله في شأن شاس بن قيس، وما صنع:”قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ (98) قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ” آل عمران:98-99]([13])، والآيات الكريمة دعوة قوية إلى توحيد الكلمة، واجتماع الصفّ المسلم على الإسلام، وقد تضمنت:
- التحذير من دسائس غير المسلمين، ومن طاعتهم فيما يُوَسْوِسُون به، فليس وراءها إلا الارتداد على الأعقاب، والكفر بعد الإيمان.
- إن الاعتصام بحبل الله من الجميع؛ هو أساس الوحدة والتجمع بين المسلمين، وحبل الله هو الإسلام، والقرآن.
- التذكير بنعمة الأخوة الإيمانية بعد عَداوات الجاهلية وإحَنِها وحروبها، وهي أعظم النعم بعد الإيمان: “وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ” الأنفال:63].
- – لا يجمع الأمة أمر مثل أن يكون لها هدف كبير تعيش له، ورسالة عليا تعمل من أجلها، وليس هناك هدف أو رسالة للأمة الإسلامية أكبر ولا أرفع من الدعوة إلى الخير الذي جاء به الإسلام، وهذا سر قوله تعالى في هذا السياق:” وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ” آل عمران:104].
- التاريخ سِجلّ العِبَر، والواعظ الصامت للبشر، قد سجل أن من كان قبلنا تفرقوا واختلفوا في الدين فهلَكوا، ولم يكن لهم عذر، لأنهم اختلفوا بعدما جاءهم العلم، وجاءتهم البينات من ربهم، ومن هنا كان التحذير الإلهي:“ وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ البَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ” [آل عمران:105].
هذا وقد أكد القرآن أن المسلمين – وإن اختلفت أجناسهم وألوانهم وأوطانهم ولغاتهم وطبقاتهم – فهم أمة واحدة.[14]
التنوع في الاجتهاد:
لقد أقر الإسلام الاجتهاد، وحث عليه، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُثَمِّن اجتهاد صحابته، وقد تنوّع اجتهادهم في حياته، في مواضع شتى، فقد كان كثير من الصحابة فقهاء مجتهدون، واختلفوا في مواقف كثيرة أقرّهم عليها، وأشهر تلك المواقف اختلاف أبي بكر وعمر حول التعامل مع أسرى بدْر، واختلافهم في صُلح الحديبية، واختلافهم في الخروج من المدينة في غزوة أُحُد، واختلافهم في صلاة العصر عندما أُمِروا ألاَّ يُصَلوا العصر إلا في بني قُرَيظة، كما أنّ كل واحد منهم تميّز بصفة حتى اشتهر بها، ومع مرور الزمن صارت الصفات الفردية والاهتمامات الشخصية مدارس داخل الأمة: قال صلى الله عليه وسلم: “أَرْحَمُ هَذِه الأُمَّة بها أبو بكر، وأَقْوَاهُم في دين الله عمر، وأَفْرَضُهم زيد بن ثابت، وأَقْضَاهُم علي بن طالب، وأَصْدَقُهُم حَياءً عثمان بن عفان، وأَمِينُ هذه الأُمَّة أبو عبيدة بن الجراح، وأَقْرَؤُهم لكتاب الله أُبَيّ بن كعب، وأبو هريرة وِعاءٌ من العلم، وسلمان عالم لا يُدرك، ومعاذ بن جبل أعلم الناس بحلال الله وحرامه، وما أَظَلَّت الخَضْراء ولا أَقَلَّت الغَبْرَاءُ مِن ذي لَهْجَةٍ أَصْدَقُ من أبي ذر”([15]).
إن هذا الاحْتفاء بالتنوع داخل الجسم الإسلامي، هو الذي أدَّى إلى بروز المدارس الفقهية التي تطورت من مناهج فردية، حتى أصبحت مذاهب لها أنصارها، واشتُهِر عند الفقهاء تشدُّد ابن عمر، ووَسَطِيَّة ابن مسعود، ورُخَص ابن عباس. وطبّق المسلمون الاجتهاد في مراحل متعددة من تاريخهم، ذكر الشعبي عن شريح أنه قال: قال لي عمر: “اقض بما استبان لك من كتاب الله، فإن لم تعلم كل كتاب الله؛ فاقض بما استبان لك من قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإن لم تعلم كل أقضية رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فاقض بما استبان لك من أئمة المهتدين، فإن لم تعلم كل ما قضت به أئمة المهتدين؛ فاجتهد رأيك واستشر أهل العلم والصلاح)([16]) ففي كلام عمر مرونة شديدة حيث طلب من شريح أن يقضي بما استبان له، ومعلوم أن الاستبانة نِسْبِية، فما يستبين لعمرو لا يستبين لزيد؛ بل قد يستبين الأمر لنفس الشخص في وقت ولا يستبين له في وقت آخر، وأوضح نص على مشروعية الاجتهاد قوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل عندما بعثه لليمن حيث قال له: (كيف تَقْضِي إذَا عرض عليك القضاء؟. قال: أقضي بكتاب الله. قال: فإن لم تجد في كتاب الله؟. قال: بسنة رسول الله. قال فإن لم تجد في سنة رسول الله؟. قال: اجتهد رأيي ولا آلوا([17]). فضرب رسول الله صدره وقال: الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله) ([18]).
وأيضا الحديث الذي أخرجه البخاري وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا حَكَمَ الحَاكِمَ فَاجْتَهَدَ ثم أصَابَ فله أَجْران وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر)([19]) كذلك يُفهم معنى الاجتهاد من قوله تعالى:” فَاعْتَبِرُوا يَا أُوْلِي الأبصار الحشر:2]، فمن الطبيعي أن تختلف اجتهادات الفقهاء وفقاً لظروف كل فقيه وقدرته على الاستنباط، والبيئة التي عاش فيها، خاصة وأن الإسلام أعطى المجتهد أجرين إن أصاب، وأجراً واحداً إن أخطأ ما دام ملتزماً بشروط الاجتهاد([20])، ولهذا الاختلاف فوائد، كما يقول الدكتور: طه بن جابر العلواني([21]) منها: (أنه يُتِيح التَّعَرُّف على جميع الاحتمالات التي يمكن أن يكون الدليل قد رَمَى إليها بوجه من وجوه الأدلة. وثانياً: إنه يُتيح رياضةً للأذهان وتَلاقحاً للآراء ويفتحُ مَجالات التفكير للوصول إلى سائر الافتراضات والخيارات، التي تستطيع العقول المختلفة الوصول إليها. وثالثاً: إنَّه يُتيح تَعَدُّد الحُلول أمام صاحب كلِّ واقعة لِيَهْتدِي إلى الحَلِّ المُناسب للوضع الذي هو فيه، بما يَتَنَاسَبُ مع يُسْر هذا الدين؛ الذي يتعامل معه الناس من واقع حياتهم) ([22]).
إنها فوائد يؤكدها الإنتاج الفكري والعلمي الذي تزخر به الساحة الإسلامية في تاريخها الطويل، ويُصدِّقها الواقع الذي أفرز قضايا مُعَقَّدة تَمَكَّن الفقهاء من التعامل معها. إنه نهج ينسجم مع طبيعة الإنسان، فالناس “في أَصْل جِبِلَّتِهم، وبدء خِلْقَتِهم – قد افترقوا مجتمعين، واجتمعوا مفترِقين واختلفوا مؤتلفين، وائتلفوا مختلفين ([23])، وإذا كان الاجتهاد فريضة إسلامية دائمة؛ لأنّه أداة استنباط الأحكام الشّرعية الجُزئية من مصادر الوحي الإلهي – البلاغ القرآني.. والبيان النبوي لهذا البلاغ – وعليه يتوقف بقاء الشريعة الإسلامية خاتمة، وخالدة، ومستجيبة لمستجدات الزمان والمكان والمصالح والعادات والأعراف بأحكامها.. فهو – بعبارة السيوطي – فرْض من فروض الكفايات في كل عصر، وواجب على أهل كل زمان أن يقوم به طائفة من كل قطر”([24])، فإن فريضة الاجتهاد هذه يكون ثَراؤها أكبر مع التعدُّدية والاختلاف في الاجتهادات.
فالاجتهاد في عصر الإسلام الأول، لم يكن خاصا بالقاضي معاذ بن جبل رضي الله عنه… ذلك أن تعدد القضاة الفقهاء – يومئذ – قد جعل الاجتهادات متعددة، على النحو الذي أثمر تعددية في الأحكام الجُزئية والفرعية المُسْتَنبطة من أصول التشريع ومبادئه وقواعده.. فغير معاذ كان هناك في دولة النبوة قُضاة آخرون، منهم علي بن أبي طالب، وعمر بن الخطاب، وعمرو بن العاص، وزيد بن ثابت، وعبد الله بن مسعود، والعلاء بن الحضرمي، ومَعْقَل بن يسار، وعُقْبة بن عامر، وحُذيفة بن اليمان العبْسي، وعتّاب بن أُسيد، وأبو موسى الأشعري، ودِحية الكلبِي، وأُبَيّ بن كعْب.. الخ([25])، بل بلغ علماء الأصول في إحاطة تقنين التعددية في الاجتهادات، بالضمانات إلى الحد الذي جعلوا فيه اجتهاد المجتهد ملزماً له، ليس باعتباره الحكم الذي اختاره باجتهاده فقط، وإنما باعتباره “حكم الله في حقه” وانعقد على ذلك إجماعهم، قال الإمام شهاب الدين القرافي (684هـ/1285م) “وقد تَقَرّر في أصول الفقه: أن الأحكام الشرعية كلها معلومة، بسبب انعقاد الإجماع على أن كل مجتهد إذا غلب على ظنه حكمٌ فهو حكم الله تعالى في حقه، وحقِّ مَن قلّده”([26])، وانطلاقا من هذه القاعدة – التي أجمعت عليها الأمة- قرر الأُصولِيُّون تعدد الإفتاء بتعدد مذاهب المستفتين، وليس فقط بتعدد مذاهب المفتين!.. فعلى المفتي أن يفتي المُستفتي وِفْق مذهبه، لا وِفْق مذهب المفتي؛ لأن اجتهادات مذهب المُستفتي هي حكم الله في حقه، يجب أن يراعيها المفتي حين يفتيه.. ([27]).
يقول القَرافي “ومتى سُئِلنا عن الشافعية: هل يجب عليهم مَسْحُ الرَّأس بكماله؟ نقول: لا. ونُفتي الحَنَفيّة بأنه يجب عليهم الرُّبع – أي مسح رُبع الرّأس. ونُفتي في مذهبنا (مذهب مالك) بِخلاف ما ذهبتا لكل فرقة مذهب إمامها، يخالفنا بما يخالفنا ويخالف مذهبنا، لأنه مجمع عليه.. ونقول لمن له أَهْلِيَّة الاجتهاد: حُكم الله تعالى عليك أن تَجْتهد وتنظر في أدلّة الشريعة ومصادرها ومواردها، فأيُّ شيء غلب على ظنك فهو حكم الله تعالى في حقّك وحقِّ مَن قلّدك. فتارة تكون الفُتيا عامة، وتارة تكون خاصة، وتارة تكون بِضِدِّ ما عليه مذهب المفتي”([28])، وهنالك تمييز بين الفتاوى المُتَعَلِّقة بالأفراد؛ التي يُراعَي فيها مذهب المُسْتَفْتِي، وتلك التي تتوجَّه إلى الأمة، “ففي هذه الأخيرة يحسن أن تُصَب الاجتهادات الفردية للمجتهدين في اجتهاد جماعي – مؤسَّسي – لا يُصادر الاجتهاد الفردي، وإنما يُوظِّفه– بشورى المجتهدين – في مستوى أرفع من مستويات الاجتهاد الجماعي ([29]),
والدعوة للاجتهاد المؤسسي ليست جديدة، فهناك ما يفيد بأنها طُرحت مُنذ عصر النبوة فقد روى الإمام مالك بسنده إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه، أنه قال: قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم الأمر الذي ينزل بنا، لم ينزل فيه قرآن، ولم تمض فيه منك سنة؟ فقال: “اجمعوا العالِمِين من المُؤمِنين، فَاجْعَلُوهُ شُورى بَيْنَكُم، ولا تَقْضُوا فيه بِرَأْيٍ واحد”([30])، يقول الدكتور محمد عمارة” فالسنة تُقَعِّدُ للإفتاء الجماعي في الأحكام العامة في صيغة قانون القضاء؛ إذا لم يكن في الأمر كتاب ولا سنة.
ولقد وضَعَت الخلافةُ الرَّاشِدةُ سُنَّة هذا الإفتاء الجماعي في الأحكام العامة، وصياغة القانون الحاكم للمجتمع، وضَعَتْها في الممارسة والتطبيق.. (فعن ميمون بن مهران قال: كان أبوبكر الصديق، إذا ورد عليه الخصم نظرَ فِي كتاب الله، فإن وجد فيه ما يقضي بينهم قضى، وإن لم يجد في الكتاب وعلم من رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك الأمر سنة قضى به، فإن أعياه خرج فسأل المسلمين، وقال: أتاني كذا، وكذا، فهل علمتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في ذلك بقضاء؟ فربما اجتمع إليه النَّفَر كلهم يَذكُر من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه قضاء، فيقول أبوبكر: الحمد لله الذي جعل فينا من يحفظ على نبينا، فإن أعياه أن يجد في سنة من رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع رءوس الناس وخيارهم فاستشارهم، فإذا اجتمع رأيهم على أمر قضى به) ([31])) ([32]).
وقد حاول بعض الناس – تأثُّراً بِخَلْفِيَّتِهم الكِسْرَوِيَّة – أن يُلزِموا المسلمين باجتهاد واحد، وإلغاء التنوّع في الاجتهاد. فقد أشار عبد الله بن المُقَفَّع على المنصور باعتماد الدولة لاجتهاد فِقْهِي واحد في كل الأمصار، بدلا من تعدد الاجتهادات الفقهية بتعدد مدارس الفقه الإسلامي في تلك الأمصار.. فكتب إلى الخليفة يقول: “فلو رأى أمير المؤمنين أن يأمر بهذه الأقضية والسنن المختلفة فترفع إليه في كتاب، ويرفع معها ما يحتج به كل قوم من سنة أو قياس، ثم نظر أمير المؤمنين في ذلك، وأمر في كل قضية رأيه الذي يلهمه الله ويعزم عليه، وينهي عن القضاء بخلافه، وكتب ذلك كتاباً جامعاً عزماً؛ لرجونا أن يجعل الله هذه الأحكام المختلطة الصواب بالخطأ حُكْما واحدا صوابا، ورجونا أن يكون اجتماع السير قربة لاجتماع الأمر برأْي أمير المؤمنين”([33]).
فنحن هنا أمام فكر يريد المُطابقة بين وحدة الدولة – الخلافة – وبين آحادية الاجتهاد والقانون وفقه المعاملات، في الدولة الإسلامية المترامية الأطراف، والتي تضم أقاليمها وولاياتها المتمايز من الأعراف والعادات، والمختلف من الاجتهادات، والمتعدد من مذاهب الفقه الإسلامي ([34])، ويبدو أن المنصور قد مال إلى ما أشار به ابن المقفع.. فأشار بهذا الرأي على الإمام مالك بن أنس (93-179هـ/712-795م) مقترحا اعتماد اجتهاد مالك، وكتاب الموطأ قانونا واحدا يحلّ محلّ التعددية الاجتهادية في أمصار ديار الإسلام.. لكنّ الإمام مالكاً – انطلاقاً من مكانة التعددية في الرؤية الإسلامية، ودورها في تزكية الاجتهاد في الإسلام وتنميته– رفض هذا الاقتراح – رغم ما فيه من اختيار لاجتهاداته، وسيادة لمذهبه ([35])، فالوعي بأهمية التنوع وضرورته في الاجتهاد جعل الإمام يرفض المقترح، وإن كان في ظاهره فيه مصلحة له.
قال المنصور لمالك: “لقد عزمت أن آمر بكتبك هذه التي صنعتها فتُنسخ، ثم أبعث في كل مصر من أمصار المسلمين منها نسخة، وآمرهم أن يعملوا بما فيها، ولا يتعدوه إلى غيره” فرد مالك على المنصور قائلا: “يا أمير المؤمنين لا تفعل، فإن الناس قد سبقت إليهم أقاويل، وسمعوا أحاديث، وروَوْا روايات، وأخذ كل قوم بما سَبَقَ إليهم، وأُتوا به من اختلاف الناس، فدع الناس وما اختار أهل كل بلد منهم لأنفسهم” ويبدو أن هارون الرشيد (149- 193هـ – 766- 809م) قد أعاد الكرة مع مالك… فشاوره في أن يعلق الموطأ على الكعبة، ويحمل الناس على ما فيه، فأعاد مالك الرفض لذلك وقال للرشيد: ” لا تفعل فإن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم اختلفوا في الفروع، وتفرقوا في البلدان، وكل سنة مضت” فاقتنع الرشيد برأي مالك، وأثنى عليه، فقال: بارك الله فيك يا أبا عبدالله([36]).
فالإمام مالك رضي الله عنه يدرك أن التنوع الفقهي ضرورة للمجتمعات الإسلامية “ورغم أنّ الإسلام دين التوحيد، ورغم أن هذه الحقيقة تُمَيِّزه عن غيره؛ إلا أن التعددية المذهبية، لا تؤثر فيها، ولا تدل على انقسام المسلمين وتفرّقهم، بل هي أكبر دليل على وحدتهم، ورجاحة عقليتهم الفذّة المُتمَيِّزة، وسعة مداركهم، وقدرتهم على ممارسة الحوار الفكري الديني المنظّم، فقدّموا أروع مثال في تاريخ الفكر الإسلامي والإنساني، على تقبل جميع الآراء، واحترامها. وفي سبيل تحقيق الوحدة الإسلامية، لا يمكن إلغاء تلك المذاهب، فدمجُها أو احتواؤها، أو تذويبها أمرٌ غير وارد ولا مستساغ، لصعوبة التفكير فيه، واستحالة وقوعه، ويرفضه العقل والواقع، ولا يقبله منطق الحكمة”([37]).
وهكذا فإن منهج الشورى قد أدار الاجتهاد الفقهي بصورة أدت إلى ثراء الإنتاج الفقهي وتنوع مدارسه؛ فأورث المكتبة الإسلامية إنتاجاً علمياً متنوعاً عالج المشكلات التي واجهت المجتمع مهما كانت معقدة، وهذا يؤكد صلاحية الإسلام لكل زمان ومكان مهما اختلفت البيئات والأشخاص والنوازل.
([1]) أخرجه السيوطي في جامع الأصول، ص616، والقرطبي في تفسيره 6/431 والحافظ بن كثير في تفسير القرآن العظيم.
([2]) د. يوسف القرضاوي. الصحوة الإسلامية بين الاختلاف المشروع والتفرق المذموم، ص23.
([3]) رواه ابن ماجة في سننه، 9 كتاب النكاح، 21 باب الغناء والدف، 1/612 حديث رقم 1900، محمد بن يزيد أبو عبد الله القزويني، دار الفكر – بيروت، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي.
([4]) رواه البخاري في صحيحه، 60- كتاب الجهاد والسير، 78- باب اللهو بالحراب وغيرها، 3/1063 حديث رقم 2745.
([5]) أخرجه مسلم في صحيحه، 5 – كتاب المساجد ومواضع الصلاة، 18 – باب النهي عن نشد الضالة في المسجد وما يقوله من سمع الناشد، 1/397 حديث رقم 568.
([6]) د: تيسير بيّوض التميمي، قاضي قضاة فلسطين، ورئيس المجلس الأعلى للقضاء الشرعي. التعددية الدينية والمذهبية والقومية، ص 48-50، دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع والترجمة – القاهرة، 2011م.
([7]) فرانسيس كولينز عالم وراثة أمريكي، له اكتشافات تاريخية في علم الجينات، وهو قائد مشروع الجينوم البشري، الذي يُعَدُّ من أكبر إنجازات العصر الحديث، يعمل حاليا رئيس المعاهد الوطنية للصحة في أمريكا له كتاب: لغة الله، ولغة الحياة.
([8]) جريدة الشرق الأوسط 28/10/2004م، ومن نتائج هذه الدراسة إسقاط النظريات القائلة بتطور الإنسان عن كائنات أخرى، فهذه النسبة تُثبت أن النوع الطبيعي للإنسان هو الأكثر تجانساً من مختلف الأنواع الطبيعية الأخرى؛ لأن مجموعات من قرود الشمبانزي والطيور تختلف بنسبة أكبر في جيناتها. المصدر، أ.د. راغب السرجاني، المشترك الإنساني، ص468 مرجع سابق.
([9]) أبوداود كتاب الخراج والفيء والإمارة، باب خبر النضير (3004) وقال الألباني صحيح الإسناد.
([10]) أ.د. راغب السرجاني، المشترك الإنساني ص 470 مرجع سابق.
([11]) د: تيسير بيّوض التميمي. التعددية الدينية والمذهبية والقومية ص (39) دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع والترجمة طبعة 1423هـ 20119.
([13]) السيوطي. الدر المنثور ج2 ص57، 58.
([14]) د: يوسف القرضاوي، الصحوة الإسلامية بين الاختلاف المشروع والتفرق المذموم، ص 22-23 الطبعة الثالثة1427هـ- 2007م دار الشروق – القاهرة.
([15]) أخرجه ابن عساكر في تاريخه 6/201 والعجلوني في كشف الخفاء 1/118 والعقيلي في الضعفاء 2/159. الخضراء السماء. المختار، ص139 المصدر: موسوعة أصول الفكر السياسي والاجتماعي والاقتصادي من نبع السنة الشريفة وهدى الخلفاء الراشدين. إعداد خديجة النبراوي 2/1085.
([16]) ابن قيم الجوزية. إعلام الموقعين المجلد الأول ص 164، دار الحديث القاهرة.
([18]) سنن أبي داود، رقم3119. كتاب الأقضية. ومسند الإمام أحمد بن حنبل: رقم21000 كتاب الأنصار.
([19]) أخرجه البخاري في صحيحه (7352) في كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة مكتبة الإيمان القاهرة
([20]) انظر: عبدالمحمود أبو، الحوار في الإسلام حقائق ونتائج، ص (128) الطبعة الأولى2011م مطبعة المصابيح أم درمان.
([21]) طه جابر العلواني، ولد عام 1935م في العراق وهو رئيس المجلس الفقهي بأمريكا، منذ عام 1988م، ورئيس جامعة العلوم الإسلامية والاجتماعية بهرندن فرجينيا، الولايات المتحدة الأمريكية، حصل على الدكتوراه في أصول الفقه من كلية الشريعة والقانون بجامعة الأزهر في القاهرة عام 1973م، كان استاذاً في أصول الفقه بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض في المملكة العربية السعودية منذ عام 1975-1985م، في عام 1981م شارك في تأسيس المعهد العالي للفكر الإسلامي لرابطة العالم الإسلامي في مكة المكرمة وعضو مجمع الفقه الإسلامي الدولي في جده، هاجر إلى الولايات المتحدة في عام 1983م، يرأس طه جابر العلواني الآن جامعة قرطبة الإسلامية في الولايات المتحدة، يسكن مع عائلته في القاهرة. الموسوعة الحرة، الإنترنت.
([22]) طه جابر العلواني: أدب الاختلاف في الإسلام ص 25، المعهد العالمي للفكر الإسلامي
([23]) أبوحيان التوحيدي (المقابسات) ص83 تحقيق: محمد توفيق حسين: طبعة دار الأدب. بيروت 1989م
([24]) السيوطي، الرد على من أخلد إلى الأرض وجهل أن الاجتهاد في كل عصر فرض ص97- 116 طبعة بيروت 1403ه – 1983م.
([25]) المالكي، أبوعبدالله محمد بن فرج (أقضية رسول الله صلى الله عليه وسلم) ص33-35. تحقيق د: محمد ضياء الرحمن الأعظمي. طبعة القاهرة 1978م
([26]) القرافي الأمنية في إدراك النية ص515 تحقيق عبد الله إبراهيم صالح طبعة مالطا 1991م في ذيل كتاب (القرافي وآثره في الفقه الإسلامي). راجع الإسلام والتعددية الدكتور محمد عمارة الصفحات 28- 30.
([27]) الإسلام والتعددية ص31 المرجع السابق.
([28]) القرافي: الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام وتصرفات القاضي والإمام ص219، 220، 123، 226. تحقيق الشيخ عبد الفتاح أبوغدة طبعة حلب 1387هـ – 1967م.
([29]) د محمد عمارة، الإسلام والتعددية ص31 مرجع سابق،
([30]) ابن القيم: إعلام الموقعين 1/73، 74- والنقل عن جمال الدين عطية” النظرية العامة للشريعة الإسلامية، ص195. طبعة القاهرة 1407هـ – 1988م المصدر السابق.
([31]) سنن الدارمي 1/69 حديث رقم 161.
([32]) الإسلام والتعددية د: محمد عمارة ص32 مرجع سابق.
([33]) أحمد زكي صفوتّ، رسالة الصحابة في “جمهرة رسائل العرب” – رسالة رقم (26) نقلا عن النظرية العامة للشريعة الإسلامية ص22.
([34]) الإسلام والتعددية ص33-34 مرجع سابق.
([36]) حجة الله البالغة 1/145 نقلا عن الإسلام والتعددية لمحمد عمارة.
([37]) د. تيسير بيّوض التميمي. التعددية الدينية والمذهبية والقومية ص 33-34، دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع والترجمة – القاهرة طبعة 1432هـ 2011م.