تصنيفات عامة

ولد الهدى فالكائنات ضياء "نبي الرحمة"(7)

ولد الهدى فالكائنات ضياء "نبي الرحمة"(7)

د. عبدالمحمود أبو

يكتب:

ولد الهدى فالكائنات ضياء

“نبي الرحمة”(7)

الرحمة ارتبطت بالإسلام في تشريعاته ومبادئه، وتعليماته وكل مجالاته، فالله سبحانه وتعالى رحمان ورحيم، والرسول صلى الله عليه وسلم رحمة مهداة، ورحمة الله وسعت كل شيء، لذلك نجد مظاهر الرحمة في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم كثيرة؛ بل كل مواقفه طابعها الرحمة كما سنرى في الآتي:

المظهر الأول:- هو الرحمة المهداة

قال صلى الله عليه وسلم :”إنَّما أنا رَحْمةٌ مُهْداةٌ”، وقال تعالى:(( لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ)) فكانت الرحمة تتفجر من جوانبه في كل مواقفه.

المظهر الثاني:-قلة التكاليف ومراعاتها لحال الإنسان

 فقواعد الإسلام العملية لا تأخذ من وقت الإنسان إلا قدرا يسيرا؛ فالصلوات الخمس في اليوم لا تتجاوز نصف الساعة إذا أتقنها العبد، والزكاة مرة في العام لمن يملك النصاب، والصوم المفروض مرة في العام، والحج مرة في العمر، وكل العبادات تجب بالاستطاعة، قال تعالى:(( لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا)).

المظهر الثالث:-شفقته بأمته

حرص رسول الله صلى الله عليه وسلم على هداية أمته شفقة عليها من دخول النار، وأبلغ ما يبين موقفه هذا الحديث؛ قال صلى الله عليه وسلم:”

إنَّما مَثَلِي ومَثَلُ النَّاسِ كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَوْقَدَ نارًا، فَلَمَّا أضاءَتْ ما حَوْلَهُ جَعَلَ الفَراشُ وهذِه الدَّوابُّ الَّتي تَقَعُ في النَّارِ يَقَعْنَ فيها، فَجَعَلَ يَنْزِعُهُنَّ ويَغْلِبْنَهُ فَيَقْتَحِمْنَ فيها، فأنا آخُذُ بحُجَزِكُمْ عَنِ النَّارِ، وهُمْ يَقْتَحِمُونَ فيها”.

المظهر الرابع:رفضه أن تعذب أمته ردا على العدوان الذي وقع عليه

عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قال قلت  يَا رَسولَ اللهِ، هلْ أَتَى عَلَيْكَ يَوْمٌ كانَ أَشَدَّ مِن يَومِ أُحُدٍ؟ فَقالَ:” لقَدْ لَقِيتُ مِن قَوْمِكِ وَكانَ أَشَدَّ ما لَقِيتُ منهمْ يَومَ العَقَبَةِ، إذْ عَرَضْتُ نَفْسِي علَى ابْنِ عبدِ يَالِيلَ بنِ عبدِ كُلَالٍ فَلَمْ يُجِبْنِي إلى ما أَرَدْتُ، فَانْطَلَقْتُ وَأَنَا مَهْمُومٌ علَى وَجْهِي، فَلَمْ أَسْتَفِقْ إلَّا بقَرْنِ الثَّعَالِبِ، فَرَفَعْتُ رَأْسِي فَإِذَا أَنَا بسَحَابَةٍ قدْ أَظَلَّتْنِي فَنَظَرْتُ فَإِذَا فِيهَا جِبْرِيلُ، فَنَادَانِي، فَقالَ: إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ، وَما رُدُّوا عَلَيْكَ، وَقَدْ بَعَثَ إلَيْكَ مَلَكَ الجِبَالِ لِتَأْمُرَهُ بما شِئْتَ فيهم، قالَ: فَنَادَانِي مَلَكُ الجِبَالِ وَسَلَّمَ عَلَيَّ، ثُمَّ قالَ: يا مُحَمَّدُ، إنَّ اللَّهَ قدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ، وَأَنَا مَلَكُ الجِبَالِ وَقَدْ بَعَثَنِي رَبُّكَ إلَيْكَ لِتَأْمُرَنِي بأَمْرِكَ، فَما شِئْتَ، إنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عليهمُ الأخْشَبَيْنِ، فَقالَ له رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ: بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِن أَصْلَابِهِمْ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ لا يُشْرِكُ به شيئًا”ونفس المشهد تكرر في الطائف، بدأ صلى الله عليه وسلم بسادات القوم الذين ينتهي إليهم الأمر، فكلمهم عن الإسلام ودعاهم إلى الله، فردوا عليه ردا قاسيا، وقالوا له: اخرج من بلادنا، ولم يكتفوا بهذا الأمر، بل أغروا به سفهاءهم وعبيدهم فتبعوه يسبونه ويصيحون به ويرمونه بالحجارة، فأصيب عليه الصلاة السلام في قدميه حتى سالت منها الدماء، وأصاب النبي صلى الله عليه وسلم من الهم والحزن  والتعب ما جعله يسقط على وجهه الشريف ، ولم يفق إلا و جبريل قائم عنده، يخبره بأن الله بعث ملك الجبال برسالة يقول فيها: إن شئت يا محمد أن أطبق عليهم الأخشبين، فأتى الجواب منه عليه السلام بالعفو عنهم قائلا: ( أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا ) رواه البخاري .

المظهر الخامس:دعوته ربه بأن لا يهلك أمته

عن سعدُ بنُ أَبي وَقَّاصٍ رَضيَ اللهُ عنه أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ «أقْبَلَ ذَاتَ يَومٍ مِنَ العَالِيَةِ» وهي قُرًى تَقَعُ شَرقَ المَدينَةِ جِهةَ نَجْدٍ، «حتَّى إذَا مَرَّ بمَسجدٍ بَني مُعاويةَ» وهو ابنُ مالكِ بنِ عَوفٍ، وهُم جَماعةٌ منَ الأَنصارِ، ويقَعُ المسجدُ في شَمالَي البقيعِ على يَسارِ السَّالكِ إلى العريضِ، وهذا المسجدُ هو المعروفُ بمَسجدِ الإجابةِ؛ لِما وَقَع مِن إجابةِ اللهِ لدُعاءِ نَبيِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فدَخَل النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ هذا المسجدَ، فصلَّى فيهِ بأصحابِه رَضيَ اللهُ عنهم رَكعتينِ، وَدعا ربَّه في تلك الرَّكعتينِ دُعاءً طويلًا، ثُمَّ بعْدَ فَراغِه منَ الدُّعاءِ، أقبَلَ على مَن معه وذَكَر لهم ما كان مِن دُعائهِ وأنَّه دعاهُ بثَلاثِ دَعواتٍ، فأجابَ اللهُ له ثِنتينِ مِن الثَّلاتِ، ولم يُجِبْه في الثَّالثةِ، وبَيَّن النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ هَذه الدَّعواتِ، فَقال: «سَألتُ رَبِّي أن لا يُهلِكَ أُمَّتي بالسَّنةِ»، أي: بالجَدبِ والقَحطِ والمَجاعةِ الَّتي تَستأصِلُهم وتُضعِفُهم، فأَعطانيها واستَجابَ لي فيها، والثَّانيةُ: «ألَّا يَهلِكَ أُمَّتي بالغَرقِ» يَعني: لا تَغرقُ الأُمَّة كلُّها كقومِ فِرعونَ في اليمِّ، وقومِ نوحٍ بالطُّوفانِ فأَعطانِيها، وفي حَديثِ التِّرمذيِّ عن خَبَّابِ بنِ الأرَتِّ رَضيَ اللهُ عنه، أنَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، قال: «وسَألْتُه ألَّا يُسلِّطَ عليهم عَدوًّا مِن غَيرِهم، فأعْطانِيها» أي: لا يَكونَ هَلاكُهم بعَدوٍّ مِن الكفَّارِ يَستبيحُهم، فيَستأصِلُهم ويُضعِفُهم، والمرادُ بذلك ألَّا يَغلِبوا المسْلِمينَ غَلبةً تَستبيحُ بَيضةَ الإسلامِ، وتَستأصِلُ المسلِمينَ جميعا.

والثَّالثةُ هيَ ألَّا يَجعلَ بأسَهُمْ بيْنَهم، أي: ألَّا يقَعَ بيْنَهم فُرقةٌ وقِتالٌ تُهلِكُهم وتُضعِفُهم، والبأسُ الحروبُ والفِتنُ، «فمَنعنِيها» لم يُجِبْه اللهُ عزَّ وجلَّ في تلك الدَّعوةِ؛ لكونِها مُخالفةً لِقضائهِ المُبْرَمِ ومَشيئتِه الَّتي لا يُسأَلُ عنها، وفي هذا وَرَد قولُه تَعالَى: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} [الأنعام: 65].

المظهر السادس:التدرج في التشريع

فقد اكتمل نزول الإسلام في ثلاث وعشرين سنة، جاء متدرجا في الأحكام وميسرا، ومن ذلك أن تحريم الخمر تم في مراحل، أول آية نزلت في الخمر، هي قول تعالى:((  وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ))، ثم نزل قوله تعالى:(( يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ))، ثم نزل قوله تعالى:(( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ))، فلما تهيأ المجتمع للتحريم الشامل نزل قوله تعالى :(( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)).

المظهر السابع:

دعوته للإحسان في كل شيء، حيث طبق ذلك عمليا بإحسانه لأصحابه ولنسائه وللأطفال، ولكل الناس،فعندما قحطت مكة أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسمائة دينار ذهبي لتنفق على الفقراء، وأهل مكة كانوا يحاربونخ، بل حتى للحيوان أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالإحسان إليه؛ حين قال:«إنَّ اللهَ كَتَبَ الإحسانَ على كُلِّ شَيءٍ؛ فإذا قَتَلتم فأَحسِنُوا القِتلةَ، وإذا ذَبَحتم فأَحسِنُوا الذِّبحةَ، وليُحِدَّ أَحَدُكم شَفرَتَه، وليُرِحْ ذَبِيحَتَه».

فالرحمة خصيصة واضحة في كل سيرته صلى الله عليه وسلم، وصدق أحمد شوقي حين قال:

وَإِذَا رَحِمْتَ فَأَنْتَ أُمٌّ أَوْ أَبٌ                                هَذَانِ فِي الدُّنْيَا هُمَا الرُحَماءُ

وَإِذَا غَضِبْتَ فَإِنَّما هِيَ غَضْبَةٌ                             فِي الْحَقِّ لَا ضِغْنٌ وَلَا بَغْضَاءُ

وَإِذَا رَضِيتَ فَذَاكَ فِي مَرْضَاتِهِ                             وَرِضَا الْكَثِيرِ تَحَلُّمٌ وَرِياءُ

وَإِذَا خَطَبْتَ فَلِلْمَنَابِرِ هِــزَّةٌ                                تَعْرُو الْنَدِيَّ وَلِلْقُلُوبِ بُكَاءُ

وَإِذَا قَضَيْتَ فَلَا ارْتِيَابَ كَأَنَّمَا                          جَاءَ الْخُصُومَ مِنَ السَّمَاءِ قَضَاءُ

وَإِذَا حَمَيْتَ الْمَاءَ لَمْ يُورَدْ وَلَوْ                                  أَنَّ الْقَيَاصِرَ وَالْمُلُوكَ ظِمَاءُ

وَإِذَا أَجَرْتَ فَأَنْتَ بَيْتُ اللهِ لَمْ                              يَدْخُلْ عَلَيْهِ الْمُسْتَجِيرَ عَدَاءُ

وَإِذَا أَخَذْتَ الْعَهْدَ أَوْ أَعْطَيْتَهُ                               فَجَمِيعُ عَهْدِكَ ذِمَّةٌ وَوَفَاءُ

وَإِذَا مَشَيْتَ إِلَى الْعِدا فَغَضَنْفَرٌ                               وَإِذَا جَرَيْتَ فَإِنَّكَ النَكْبَاءُ

وَتَمُدُّ حِلْمَكَ لِلسَّفِيهِ مُدَارِيًا                               حَتَّى يَضِيقَ بِعَرضِكَ السُّفَهَاءُ

فِي كُلِّ نَفْسٍ مِنْ سُطَاكَ مَهَابَةٌ                                 وَلِكُلِّ نَفْسٍ فِي نَدَاكَ رَجَاءُ

ولد الهدى فالكائنات ضياء “نبي الرحمة”

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى