تصنيفات عامة

ذكرى أكتوبر ومأساة الوطن

ذكرى أكتوبر ومأساة الوطن

كتب د. عبدالمحمود أبو

ذكرى أكتوبر ومأساة الوطن

ثار شعب السودان في أكتوبر 1964 رفضاً للظلم والطغيان، وتطلعاً للحرية والكرامة، واحتجاجاً على حرب الجنوب، وكان قادة النظام الحاكم عقلاء سلموا السلطة عبر اتفاق مع المدنيين والتزم الطرفان بما اتفقا عليه، وخلد الشعراء تلك الثورة بقصائد رصينة لحنها أساتذة الفن، وأداها الفنانون بأصواتهم الشجية؛ ((هبت الخرطوم في جنح الدجى)) الكابلي، و((أكتوبر واحد وعشرين)) محمد الأمين، و((باسمك الأخضر يا أكتوبر نغني)) وردي، و((الشعب هب وثار)) صلاح مصطفى، وغيرهم كثر، عبروا عن الضمير الجمعي لأهل السودان، وهو ضمير عند التأمل فيه وتحليله يبين حقيقة هذا الشعب العاشق للحرية والكرامة والقيم النبيلة؛ تلك القيم شوهتها النظم المستبدة التي تربعت على حكم السودان لمدة اثنين وخمسين عاما من عمر استقلاله البالغ سبعة وستين عاما، منها خمس سنوات انتقالية عانت من أمراض الانتقال التي تخلفها النظم الاستبدادية.
جاءت الذكرى هذا العام وبلادنا تئن من حرب غريبة عجز الخبراء عن تصنيفها؛ فالحروب عادة تكون حروب تحرير، أو حروبا أهلية بسبب المظالم، أو حروبا بين الدول بسبب خلافات حدودية أو تقاطعات بين المصالح، أما حرب السودان الحالية فقد قامت بين قوات مدربة ومسلحة بالقانون، وممولة بأموال دافع الضرائب السوداني لحماية الوطن من أي عدوان خارجي، ولصيانة الدستور، وللمحافظة على مقدرات الشعب السوداني، غير أن هذه القوات تخلت عن مهمتها الأساسية وسخرت الآلة الحربية لدمار العمران، ولقتل شعب السودان، وانتهاك حرماته، وتشريده من موطنه الأصلي؛ نازحا للبحث عن مناطق آمنة، ولاجئا لدول الجوار؛ وبعد ستة أشهر من الحرب فإن النتيجة الآتي:-

ذكرى أكتوبر ومأساة الوطن


أولا:

قتل الآلاف من السودانيين مدنيين وعسكرين، رجالا ونساء وأطفالا، وأضعافهم من الجرحى قطعت أوصالهم، ومزقت أجسادهم، وكثير من القتلى لم يتمكن ذووهم من مواراتهم الثرى، ومن العجائب أن يتحدث الناس بفرح أنهم تمكنوا من دفن ميتهم!!!


ثانيا:

في هذه الحرب الشاذة انتهكت حرمات المنازل، حيث دخلت قوات الدعم السريع منازل المواطنين بعد أن أجبرت أصحابها على الخروج منها واتخذتها مواقع ارتكاز لها، ثم قامت الطائرات الحربية التابعة للجيش بدكها وتدميرها دون تمييز.


ثالثا:

صحبت هذه الحرب حركة نهب منظم لممتلكات المواطنين من المنازل والمتاجر والمصانع والشركات؛ وتدمير وحرق ما عجزوا عن نهبه بصورة أعادت سيرة التتار والمغول مع ملاحظة أن عددا من المواطنين شاركوا في هذا النهب مما يؤشر إلى تدهور في الأخلاق وانحطاطها.


رابعا:

التدمير الذي طال مؤسسات الدولة ولم تسلم منه مؤسسات التعليم، والثقافة، والمكتبات، والمستشفيات، ومؤسسات ذاكرة الوثائق والمستندات، يشير إلى أن هنالك جهة منظمة لديها مقاصد من وراء هذا التدمير الممنهج، مما يعني أن هذه الحرب وسيلة لدمار أكبر مما هو ظاهر للعيان.


خامسا:

بينت هذه الحرب أن الحل بيد أهل السودان لا بيد غيرهم، فالمبادرات الإقليمية مقدرة ولكن أصحابها لهم مشاكلهم، والمجتمع الدولي مشغول بمناطق تهديد الأمن والسلم الدوليين الحرب في أوكرانانيا والحرب في غزة.
إن إيقاف الحرب في السودان لن يتحقق ما لم تتوفر الإرادة الذاتية لقادة الحرب،ومالم يغير السياسيون نهجهم في التعاطي مع قضايا الوطن، فالمرحلة تقتضي مراجعة لكل المواقف والتجرد من أي اعتبار إلا المصلحة الوطنية؛ فالأمل أن يعي متخذو القرار مآلات هذه الحرب ويتعظوا من تجارب الدول التي سبقتنا في هذا الطريق الموعر، فيتخذوا قرارا شجاعا بإيقاف هذه الحرب التي لم تجلب إلا الشر للوطن وللمواطن.(( إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ))

ذكرى أكتوبر ومأساة الوطن


سادسا:

خلفت الحرب كارثة إنسانية خطيرة حيث شردت مئات الآلاف من الأسر تقطعت بهم السبل وتوقفت مصادر دخلهم، وهنالك آلاف المرضى انعدمت أدويتهم وبعضهم فارق الحياة لفقدان العلاج، والنازحون لم يجدوا ما يسد الرمق وما يقي حرارة الشمس ولا برودة الطقس، اجتمعت عليهم كل المآسي في حرب لا ناقة لهم فيها ولاجمل.


سابعا:

هذه الحرب ليس لها أي مسوغ أخلاقي، أو وطني، أو ديني، أو قانوني، فضلا عن ما خلفته من آثار كارثية توجب إيقافها الآن قبل الغد؛ نذكر كل من له علاقة بهذه الحرب بقوله تعالى:(( وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ)) وبقوله تعالى:(( وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا))، هذه الدماء التي سالت وتلك النفوس التي أزهقت، والحقوق التي سلبت كلها معلقة على رقابكم، راجعوا أنفسكم وحاسبوها قبل أن تحاسب، استجيبوا لصوت العقل وأوقفوا هذه الحرب.

ذكرى أكتوبر ومأساة الوطن


أخيرا:


إن شعب السودان الذي قاد ثورة التحرير من الاستعمار وقدم أروع البطولات، وشهد له الخصوم قبل الأصدقاء، وقدم أبناؤه أعظم صورة للإنسان السوداني حيثما حلوا؛ نبلا، وصدقا، وأمانة، وعلما، وتسامحا، ووفاء، شعب بهذه القيم لا يستحق ما يمارس عليه الآن، أقول رغم المأساة إلا أننا في ذكرى ثورة أكتوبر نستمطر رحمة الله، ونتطلع للطف الله، ونثق في عناية الله فهو القائل:(( حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ)).
اللهم يسر لنا فرجا قريبا يا إلهي لا تباعد.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى