المحاضرات

ولاية الخرطوم

المجلس الأعلى للتعايش السلمي 

التعايش السلمي في ظل التنوع الديني

تقديم الشيخ: عبدالمحمود أبو ابراهيم

الأمين العام لهيئة شؤون الأنصار

بسم الله الرحمن الرحيم

المقدمة:

المجتمعات الإنسانية القائمة علي التعدد تواجه مشاكل الاختلاف الديني والتنوع الثقافي والتباين القيمي، بسبب تباين الخلفيات المؤسسة لهذا التعدد، وهي مشاكل يمكن التعامل معها بوعي يحوِّل التناقض إلي تكامل والتصادم إلي تعايش والتعصب إلي تسامح. ويمكن التعامل معها بانفعال يزيد النار اشتعالا.إن التنوع والتعدد والاختلاف في الكون واقع ملموس تحدث عنه القرآن الكريم في أكثر من سورة ، والاختلاف في الحياة الإنسانية ضرورة اجتماعية وإرادة إلهية ، قال تعالى: “أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا وَمِنَ الجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ”[سورة فاطر: 27- 28] فهنالك حكمة إلهية في هذا التنوع ، فقد كان الكون كله يسير علي نسق واحد وخاضع لله سبحانه وتعالي جبرا ولكن الله جلت قدرته أراد أن يخلق الإنسان حرا ذا إرادة وخاطب الملائكة قائلا ” إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً “[سورة البقرة:30] فتساءلت الملائكة بدهشة واستغراب ” أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ” قَالَ أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك” فرد عليهم سبحانه وتعالي قائلا ” إِنِّي أَعْلَمُ مَا  لاَ  تَعْلَمُونَ “[سورة البقرة:30] فالإنسان إذن جاء مخلوقا مغايرا للمخلوقات الأخرى يحمل بعض صفاتها ويتفوق عليها بالعقل والإرادة والكرامة وحرية الاختيار. هذه الخصائص الإنسانية جعلت البشر يختلفون في أمزجتهم واهتماماتهم وتطلعاتهم وأفكارهم ومن هنا جاء اختلاف العقائد والأفكار والثقافات والحضارات، وهو اختلاف لا يمكن إلغاؤه في هذه الدنيا قال تعالي ” وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ” [سورة هود:118-119]والإنسان بحكم تكوينه يحتاج إلي عقيدة يؤمن بها، ولا يعيش إلا في وسط جماعة يأنس بها، ومن هنا ينشأ التناقض بسبب اختلاف العقائد وتباين المصالح وتعدد الثقافات في المجتمع القائم علي التنوع في ظل دولة واحدة ، فكيف يتحقق التعايش والتسامح في مجتمع تعددت أديانه وتنوعت ثقافاته وتباينت أفكاره؟ هذا ما سأحاول الإجابة عليه في هذه الورقة.

المحور الأول: مقومات التعايش المشترك

التعايش المشترك هدف يتطلع إليه كل العقلاء في المجتمع المتعدد الديانات والثقافات والإثنيات، ولن يتحقق ذلك إلا بوعي المجتمع بكل مكوناته بأهمية التسامح في العلاقات بين الناس، والتعايش السلمي يحتاج إلى شروط خاصة لكي يكون صفة غالبة في العلاقات البينية الاجتماعية، فالعنف والغضب والسيطرة والتصادم ومثيلاتها نزعات سهلة الحضور في علاقات الناس، ولا تحتاج إلا للمثيرات كالاستفزاز والإساءة والتحـدي وغير ذلك من عوامل الانفعال. وقد نهى الإسلام عن ذلك، عن أبى هريرة رضي الله عنه قال: بينما يهودي يعرض سلعته أعطى بها شيئاً كرهه فقال: لا؛ والذي اصطفي موسى على البشر، فسمعه رجل من الأنصار فلطم وجهه وقال: تقول والذي اصطفي موسى على البشر والنبي صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا؟ فذهب إليه فقال: أبا القاسم إن لي ذمة وعهداً، فما بال فلان لطم وجهي؟ فقال: ((لم لطمت وجهه؟)) فذكره، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم حتى رؤي في وجهه، ثم قال: ((لا تفضلوا بين أنبياء الله، فإنه ينفخ في الصور فيصعق من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله ثم ينفخ فيه أخرى فأكون أول من بعث، فإذا موسى آخذ بالعرش فلا أدري أحوسب بصعقته يوم الطور أم بعث قبلي ))[1]. فالرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث يوضح أن التفاضل بين أنبياء الله لا يجوز خاصة في وجود أتباع ديانات متعددة لأن ذلك يدعو لإثارة العصبية وحمية الجاهلية التي تؤدي إلى التباغض والتنازع والاحتراب. إن مقومات التعايش المشترك في مجتمع متعدد الديانات والثقافات والإثنيات كثيرة أهمها العناصر الآتية:

أولاً: التربية

الإنسان ابن بيئته أي أنه يتأثر بالمحيط الذي يعيش فيه سلباً كان أو إيجاباً ، فالبداوة تنعكس على سلوك أصحابها فتجد البدوي (عصبي المزاج ، سـريع الغضـب، يهيج للشيء التافه ، ثم لا يقف في هياجه عند حد ، وهو أشد هياجاً إذا جرحت كرامته ، أو انتهكت حرمة قبيلته ، وإذا اهتاج أسرع إلى السيـف واحتكـم إليه)[2]  وعكس ذلك تماماً البيئة الحضرية فإنها تجعل الإنسان أميل إلى التسامح والتجاوز والتريث وتقدير العواقب قبل الإقدام على الفعل ، فالبيئة إذن تعتبر أحد عوامل تكوين الشخصية البشرية بل أهمها ، وما يتعلمه الإنسان ويتربى عليه في مرحلة تكوين شخصيته سيصحبه طيلة فترة حياته ، ولعل هذا هو السبب الذي جعل الأنبياء والمرسلين والمصلحين يولون اهتماما كبيراً للتربية إعداداً لحملة الرسالة والفكـرة ، والملاحظة تتجلى في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم مع أصحابه : إذ كان يعدهم لحمل الرسالة للعالمين ، فحرص على إزالة ما تراكم في أذهانهم من آثار الجاهلية أولاً ثم غرس المعاني والقيم والمفاهيم التي جاء بها الإسلام ، وأكدت تعاليمه أثر التربية على حياة الإنسان ، وأن كل مولود يولد على الفطرة الصافية النقية ، والتغيير يحدث تبعاً للأسلوب الذي يتبعه الوالدان في تربية الأبناء . وكانت وسائل التربية التي اعتمد عليها الرسول صلى الله عليه وسلم تتمثل في القدوة والتعليم والتجربة والمقارنة. فمن طبع الإنسان أن يرد على العنف بمثله وربما بصورة أقسـى ، ولكن الإسلام عمل جاهداً على تغيير هذه الطبيعة في المسلم فدعا إلى العفو والإيثار والإحسان ، روى البخاري عن خباب أنه قال : شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة ـ قلنا له: ألا تستنصر لنا ألا تدعو الله لنا قال : (( كان الرجل فيمن قبلكم يحفر له في الأرض فيجعل فيه فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيشق باثنتين ، وما يصده ذلك عن دينه ، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب ، وما يصده ذلك عن دينه ، والله ليتمنّ هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضر موت لا يخاف إلا الله أو الذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون ))[3] فهو هنا يروض النفس على الصبر وتحمل الأذى والتحرر من نزعة الانتقام للنفس ، فالرسالة ستنتصر حسب سنن الله في خلقه ، لا حسب أماني الناس ، والتضحيات مهر الانتصار، فنبي الرحمة لم يكن يوماً ميالاً للانتقام ، وحتى في أحلك الظروف التي يتعرض فيها للأذى والظلم حيث تكون النفس مشحونة بالغضب فإن الرحمة تتغلب على الانتقام . عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : للنبي صلى الله عليه وسلم : هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد ؟ قال : ((لقيت من قومك ما لقيت وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة ، إذ عرضت نفسي على ابن عبد يا ليل بن عبد كلال فلم يجبني إلى ما أردت فانطلقت وأنا مهموم على وجهي ، فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني فنظرت فإذا فيها جبريل فناداني ؛ فقال : إن الله قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك ، وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم ، فناداني ملك الجبال فسلم علي ثم قال : يا محمد إن الله قد سمع قول قومك لك وأنا ملك الجبال ، وقد بعثني ربي إليك لتأمرني بأمرك ، فما شئت : إن شئت أطبقت عليهم الأخشبين )) فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ((بل أرجوا أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئاً ))[4] والله سبحانه وتعالى يرشد رسوله بالعفو عن المسيء ويأمره بإتباع المعروف حتى مع من جهل ، وعلمه الكيفية التي يرد بها نزغات الشيطان التي تدفع الإنسان دفعاً نحو الانتقام قال تعالى :” خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ”[سورة الأعراف:99-100]بل يذهب الإسلام أكثر من ذلك عندما يأمر المسلم أن يقابل السيئة بالحسنة عندها سيتحول العدو إلى ولي حميم ، قال تعالى : “وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ  وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ  وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ”]سورة فصلت:34-36] هذا النهج التربوي يخلص المرء من نزعات الغضب والانتقام والتسرع وهي عوامل تتصادم مع التسامح ، وهنالك عامل مساعد في انتهاج التربية المراعية لترسيخ ثقافة التسامح يتمثل في المجتمع القائم على التعدد ، فكل ما كان المجتمع متعدد الأديان ومتنوع الثقافات ومتباين الأفكار مع قبوله لهذه المكونات سهلت التربية المؤسسة لثقافة التسامح. لأن الناشئ يعيش الواقع عملياً ، إضافة للتربية النظرية ، ووعي المجتمع بطبيعة التعدد يرسخ ثقافة قبول الآخر، خاصة وأنه من الطبيعي أن تحدث تساؤلات بين الأطفال والشباب متعددي الانتماءات عن الممارسات التي يقوم بها نظراؤهم والمواقف التي تحدث من حين لآخر فإن أجيبوا إجابة واعية تشرح الاختلاف والتباين وتوضح الطرق المثلى للتعامل مع هذا الاختلاف فسوف توضع لبنة في بناء العقلية المعتدلة القابلة للتسامح وقبول الآخر وبالتالي تترسخ ثقافة التسامح في المجتمع ، وأما المجتمعات أحادية الثقافة أحادية الدين أحادية العرق فيصعب عليها قبول الآخر أو تفهمه لأنها عاشت نمطاً واحداً من الحياة لم تعرف فيه الغيرية ، ولهذا فإن أكثر المتطرفين ينحدرون من مجتمعات أحادية التوجه أو تعددية تسودها العصبية .

ثانياً: المعرفة الواقعية للذات وللآخر:

الإنسان عدو ما جهل ، وقلة المعرفة تجعل المرء متعصباً سريع الانفعال ، والمعرفة لا تتعلق بالآخر وحده ، بل معرفة الذات أولاً ثم تتكامل بمعرفة الآخر ، لقد وقعت كوارث كثيرة بسبب سوء تقدير الموقف – تضخيم الذات والاستخفاف بالآخر ـ فانتصار المسلمين في بدر كان معجزة ولكن كثيراً منهم اعتبروه قانوناً عاماً فلم يقدروا الموقف تقديراً صحيحاً فهزموا أول الأمر في أحد ، وفي حنين أعجبتهم كثرتهم فكان الغرور سبباً للهزيمة : “لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ”[سورة التوبة:25] وكثير من الحوادث التاريخية والمعاصرة أقدم عليها أصحابها دون معرفة لقدراتهم ولا لقدرات خصومهم فجنوا عاقبة فعلهم خسراً ، والشواهد أكثر من أن تحصى. إن ما يعنينا هنا هو البعد الفكري والجانب النظري ، فمعرفة الإسلام بعمق تظهر للمرء الجذور الممتدة لهذا الدين والتي تربط بينه وبين الرسالات الإلهية التي سبقته ، والصلات الإنسانية بينه وبين بني البشر أين ما وجدوا ، مما يؤكد أصالة هذا الدين من ناحية وعالميته من الناحية الأخرى ، والأصالة هنا نعني بها استيعابه لأصول الرسالات السماوية وتكامله معهـا، هذا الفهم يسهل على المرء إمكانية التواصل مع الآخر الديني والتحاور معه لأنه يعلم أن كل ديانة سماوية صحيحة لديها صلة بالإسلام ، وكل نحلة وضعية خيرة فيها إشراقه إيجابية ، وكل عطاء إنساني مفيد يدخل ضمن المعروف الذي هو أحد أركان الأخلاق المتفق عليها من جل علماء العلوم الإنسانية ، فالأخلاق الاجتماعية اتفقت عليها جميع الأديان السماوية ، ورحبت بها كثير من الفلسفات البشرية وهي مفصلة في سورة الإسراء ، ومفهوم البر في الإسلام ليس قاصراً على المسلمين بل يمتد ليشمل جميع بني البشر . فإذا علم المرء ذلك كان مهيئاً للتواصل مع كل البشر عبر الحوار وليس عبر العنف الذي هو في الغالب وسيلة العاجزين عن الحجة ، ومعرفة الآخر تشكل عاملاً مهماً في ترسيخ ثقافة التعايش السلمي والتواصل الإيجابي ، فربما تكون الأهداف متقاربة والمعاني متشابهة ولكن غيّبها الجهل أو اختلاف الصيغ ، فسهيل ابن عمرو عندما رفض تصدير وثيقة صلح الحديبية بعبارة (( بسم الله الرحمن الرحيم )) مفضلاً صيغة ((باسمك اللهم)) لم يتردد الرسول صلى الله عليه وسلم في قبولها لأن المعنى متقارب إن لم يكن واحداً ، مع أن صيغة البسملة تشتمل على معنى الصيغة المقترحة مع زيادة الثناء على الله بما هو أهله لكن أهل مكة كانوا يستغربون من اسم الرحمن كما ذكر القـرآن الكريم :”وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا”[سورة الفرقان:60] والصيغة الجديدة التي يفتتح بها المسيحيون الأقباط حديثهم تسقط مفهوم التثليث وتقربهم من المسلمين ، حيث يقولون: (( باسم الإله الواحد الذي نعبده جميعاً )) وهي صيغة من ابتكارات الأنبا شنودة الراحل، كما ذكر الدكتور محمد سليم العوا ، في محاضرة قدمها في ملتقى الفريق العربي للحوار الإسلامي المسيحي الذي انعقد في القاهرة في الفترة من 30 ـ 31 أبريل 2006م ، ومن أهم طرق معرفة الآخر أن يتم التعرف عليه من مصادره ولا نكتفي بما نعلمه عنه من مصادرنا وحدها ، كما ينبغي وصفه على حقيقته لا كما نتمنى ، وأن يتم التعامل معه حسب تعريفه لنفسه لا كما نعرفه نحن ، فأهل الكتاب اليوم ليسوا مثل أسلافهـم ، فقد أحدثوا تغييرات كبيرة في عقائدهم وأفكارهم وتنظيماتهم ، وإذا استثنينا الصهيونية اليهودية والمسيحية المتصهينة فإن أغلبهم يميلون إلى التسامح وإلى إقامة علاقات ودية مع المسلمين ، أيضاً من التحولات التي حدثت أن النصارى يفضلون أن يسموا مسيحيين لا نصارى . وقد جمعتنا ملتقيات كثيرة خاصة بالحوار الديني مع مسيحيين فأدركنا أننا لا نفهم بعضنا بعضاً كما ينبغي، فنحن نتعامل معهم على أساس ما نعرفه عنهم من كتبنا بينما حدثت تطورات كثيرة في أفكارهم ومعتقداتهم. إن سوء التفاهم بيننا كان سبباً في تعقيد الأزمة وتوسيع الشقة. إن عدم فهمنا للآخرين هو الذي يوقعنا في أخطاء منهجية نتيجتها أخطاء إستراتيجية قال تعالى : ” وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً” [سورة الإسراء:36] واتصالاً بمعرفة الذات ومعرفة الآخر؛ هنالك أهمية لمعرفة الواقع ، فالجهل بالواقع يوقع أيضاً في أخطاء منهجية وسلوكية ، ويلاحظ ذلك في تعامل بعض المسلمين مع الآخر حتى الآن بوسائل العصر الأموي والعصر العباسي حيث كانت الإمبراطـورية الإسلاميـة ـ إذا جاز التعبير ـ يمتد سلطانها من السند إلى المغرب ومن سمرقند إلى السودان ، حيث كان الرشيد يقول للسحابة : أمطري حيث شئت فسيحمل إلينا خراجك . في تلك الفترة أسست الدولة الإسلامية على أنقاض الإمبراطورية البيزنطية والفارسية، والآخر بادر بالعدوان ولذلك عومل بموجب السياسة الشرعية بالأسلوب الذي يتلاءم مع تلك المرحلة. أما الآن فنحن نعيش واقعاً مغايراً فعلى مستوى الذات تفككت الخلافة الإسلامية إلى أقطار صغيرة تحكمها دساتير وطنية جعلت المواطنة أساساً للحقوق والواجبات ، والقيادة الإسلامية الموحدة غابت عن عالم المسلمين وحل محلها حكام الدول وأمراء الجماعـات الدينية ، والمرجعية الفقهية ليست واحدة فكل دولة وكل جماعة ـ وإن أعلنت أن الكتاب والسنة مرجعيتها ـ إلا أنها تتبع مذهباً ومنهجاً خاصاً بها ولا توجد جهة تملك فرض سلطة دينية على الجميع ، ومعظم الأحكام السائدة في الأقطار الإسلامية هي من اجتهادات السلف من أئمة المذاهب. وعلى المستوى الدولي فإن تقسيم العالم الذي كان سائداًـ دولة الإسلام ودولة الكفر الحربية، والمعاهدة ـ قد اختفى وحل محله نظام جديد تديره الأمم المتحدة بمواثيقها الدولية ومنظماتها المنبثقة عنها إضافة إلى المنظمات الإقليمية التي تضم الدول التي تقع في الإقليم المعني كمنظمة المؤتمر الإسلامي وجامعة الدول العربية والإتحاد الأوروبي والإتحاد الأفريقي وغير ذلك. والأمم المتحدة تضم دولاً تنتمي لجميع الديانات على وجه الأرض وهي جميعها ملتزمة بمواثيق الأمم المتحدة الداعية لحفظ الأمن والسلم الدوليين، وأي دولة تخرق هذه المواثيق ستفرض عليها عقوبات دولية تلتزم الدول بتنفيذها دون أي اعتبار للعقيدة التي يدين بها أهل البلد المعني كما فعلت الدول الإسلامية مع عراق صدام ومع أفغانستان طالبان حيث التزمت بقرارات الأمم المتحدة ولم تخالفها بحجة أنها صادرة من جهة كافرة ضد دولة مسلمة! أيضاً من مستجدات العلاقات الدولية أن بلداناً إسلامية كثيرة تضم ديانات متعددة مسلمة وغير مسلمة ومواطنو تلك الدول هم أصحاب حق في بلدانهم دون نظر لعقائدهم، ولا يحق لأي مسلم ليس مواطناً في البلدان المعنية أن يتدخل في شئونها بحجة الـولاء الإسلامـي. ومن مستجدات العلاقات الدولية أن السيادة الوطنية لا معنى لها في ظل انتهاك حقوق الإنسان المنصوص عليها في المواثيق الدولية، هذه المستجدات لا بد من إدراكها والوعي بها، لنتبين طبيعة الواقع الذي نعيشه في عصرنا هذا. إن المعرفة الواعية بالذات وبالآخر وبالواقع الدولي أمر له أهميته في تعزيز قيم التسامح والتعايش المشترك وصيانته.

  ثالثاً: الإعلام الهادف:

الإعلام له تأثير كبير على الرأي العام ، فهو يشكل ثقافته ويعبئه للتفاعل مع الأحداث سلباً أو إيجاباً ، وقد أطلق على الصحيفة وصف السلطة الرابعة أي بعد السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية ، وهو وصف ينطبق على الإعلام بكل أدواته وليس حصراً على الصحف ، وعالم اليوم تعددت فيه وسائط الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية بصورة لم يسبق لها مثيل ، وأضحت المعلومات متاحة لكل راغب بأيسر السبل ، ولا شك أن المعلومة واحدة من العناصر التي يعتمد عليها الإنسان في اتخاذ قراراته ومواقفه ، لأنك بالمعلومة تعرف قدراتك وقدرات الآخرين وتحدد أهدافك حسب طاقتك متفاعلاً مع معطيات الواقع ، فالإعلام إذاً وسيلة من وسائل نشر الثقافة وترسيخها ، بل وسيلة تتجلى أهميتها في هذا العصر، ويؤكد ذلك كثرة وسائط الإعلام والقدرات الهائلة لوكالات الأنباء العالمية المسيطرة على قدر كبير من المعلومات . إن الإعلام هو أيقونة العصر المعلوماتية فإذا استخدم استخداما هادفاً سيساهم في ترسيخ ثقافة الوحدة الوطنية، وذلك عن طريق نشر مواضيع تدعو للتسامح وتبين حتمية الاختلاف وضرورته وكيفية التعامل معه، وأن تتجنب وسائط الإعلام المواضيع التي من شأنها أن تثير الفتنة وتدعو للتعصب وتنشر الكراهية. إن المؤثرات في هذا العصر أصبحت متعددة، فإضافة إلى وسائل الأخبار التقليدية نجد هنالك المسرح والسينما والأفلام التلفزيونية المؤثرة والإنترنت، فإذا اتبع الإعلام نهجاً تسامحياً فإنه سيوجه الرأي العام في اتجاه قبول الآخر والتعايش السلمي معه واتخاذ الحوار وسيلة لفض النزاعات.

رابعاً: التواصل بين المجموعات الدينية

      التعرف على الآخر لا يتم بالقراءة عنه وحدها، وإنما تتعمق المعرفة بالمعايشة والتواصل، لأن الواقع الملموس أبلغ من التنظير، فكثير من الناس يتخذون مواقفهم بناء على معلومات ناقصة فيظلمون ويظلمون، وربما يدلون بشهادتهم مستندين إلى تلك المعلومات التي تمثل جزء من الحقيقة، لا كلها. فأجهزة الإعلام مثلا تنقل المعلومة من الزاوية المتاحة لكاميرا المصور أو قلم المشاهد ولكن تظل هنالك زوايا أخرى، لم يتمكن الناقل من الوصول إليها. فالمعرفة تقتضي الاحتكاك بالآخر للتعرف عليه عن قرب وللإلمام بكل مكوناته الثقافية ، والاجتماعية، والبيئية ، عليه فإن من وسائل ترسيخ ثقافة التعايش المشترك  تبادل الزيارات والدخول في المجتمع المعني لمعرفة القواعد التي يقوم عليها ، والنظم التي يدير بها أموره ، ولعلّ النص القرآني يهدف إلى ذلك في قوله تعالى : “قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ”[سورة العنكبوت:20] إن التواصل بين المجموعات الدينية، والثقافية، والاثنية، يفتح الباب لتفاهم  يرفد العلاقات الإنسانية بمفاهيم تنظر بإيجابية للتعدد الديني والتنوع الثقافي وتعزز التعايش .

خامساً: الأنشطة المشتركة

هنالك مجالات متعددة تتيح العمل المشترك بين بني البشر ، دون أن تشكل عقائدهم وثقافاتهم وإثنياتهم عائقاً يحول بينهم وبينها ، كالمعارف الإنسانية ، والأنشطة الاقتصادية ، والمعونات الإنسانية لضحايا الحروب والكوارث الطبيعية وغيرها ، إن تنفيذ برامج مشتركة يقوم بها المنتمون لديانات متعددة وثقافات متباينة وإثنيات متنوعة من شأنه أن يعطي نموذجاً عملياً للتعايش المشترك ، بل للتعاون المشترك في البر والخير ، ولا توجد حساسية في هذا العصر من قيام أنشطة وبرامج مشتركة ، فقد كسرت حواجز كثيرة ، وتم تخطي عقبات كبيرة ، وهنالك أكثر من منبر يجمع أشخاصاً ينتمون إلى ديانات متعددة والأمم المتحدة ومنظماتها الفرعية خير نموذج لذلك ، كذلك عقدت ملتقيات كثيرة للحوار في مجالات كثيرة وتكونت ثقافة نظرية لا حدود لها حول هذا الموضوع، والمطلوب أن نخطو خطوات عملية لاختبار هذه الثقافة التراكمية ، ويعتبر مجلس التعايش الديني في السودان نموذجا للعمل المشترك فهو يضم مسلمين ومسيحيين بالتساوي يعملون معا لتحقيق أهداف مشتركة تتمثل في التسامح والتعايش المشترك، إن أكثر المجالات إلحاحاً لهذه الأنشطة المشتركة المجال الديني فالتعصب الديني من أخطر عوامل النزاعات البشرية ، والفوارق الثقافية تشجع العنف ، والنشاط المشترك يخفف من حدتها . إن مثل هذه الأنشطة المتبادلة ينبغي ألا تأتي عفو الخاطر بل يتم التخطيط لها وفق برمجة مدروسة وهادفة لأنها من أنجح وسائل ترسيخ ثقافة قبول الآخر وتعزيز الوحدة الوطنية.

سادساً: معرفة أسباب التوتر والتخلص منها

العلاقات بين الأديان والثقافات شهدت صراعات وحروباً عبر تاريخها خلفت مرارات كثيرة وخلقت حواجز تمنع التواصل بين كثير منها ، وبالرغم من التوجه العالمي المتصاعد نحو علاقة لا تشوبها نزاعات إلا أن آثار الماضي تلقي بظلالها على الحاضر وتعرقل مستقبل العلاقات الإنسانية ، عليه يكون من ضرورات ترسيخ ثقافة التسامح معرفة عوامل الصراع ومسببات النزاع والتخلص منها ليكون الطريق سالكاً نحو علاقات قائمة على الثقة والاستدامة ، ففي الإطار الإسلامي لا بد من حصر الخلاف السني الشيعي في طبيعته السياسية وتحريره من العوامل العقائدية التي استدعيت في تلك المرحلة لخدمة أهداف سياسية للطرفين ، والصراعات المذهبية تفهم في إطار اختلافات المناهج والخلفيات البيئية وهي اجتهادات مسموح بها في ظل الإسلام ، والخلاف الإسلامي العلماني ينبغي تفسيره على أساس اختلاف التصور للأشياء ، واستخدام مصطلحات يختلف فهم كل طرف عن فهم الطرف الآخر لها ، هذه المصطلحات عندما تحرر وتضبط ستقرب الشقة ، والصراع الإسلامي المسيحي يوضح أن ظروفاً تاريخية مرحلية أوجبته وبزوالها سقطت مبررات الصراع ، والصراع الإسلامي اليهودي تاريخياً انحصر في أحداث المدينة الثلاثة وهي وقائع لا تورث وقد انتهت مع أصحابها ، وأما الصراع الحالي فليس بين الإسلام واليهودية بقدر ما هو صراع بين الإسلام والصهيونية التي هي حركة سياسية استغلت الدين لأغراض سياسية . إن معرفة أسباب التوتر التاريخية يمكن التخلص منها بالوعي بأسبابها والحرص علي عدم تكرارها وبالتالي عدم إسقاطها علي الواقع فإذا حدث ذلك فإنه سيعزز الوحدة الوطنية

المحور الثاني: مهددات التعايش

فكما أن هنالك عوامل تعزز التعايش السلمي فإن هنالك مهددات له لابد من إدراكها والتصدي لها بوعي فمن هذه المهددات الآتي:

المهدد الأول: الاستعلاء الثقافي:

عندما تمارس مجموعة من المواطنين استعلاء علي المجموعات الوطنية الأخرى علي أساس أنها صاحبة الحق الأوحد في الوطن وأن ثقافتها هي الأصل والآخرون تبعا لها، فإن ذلك من شأنه أن يهدد النسيج الاجتماعي حيث يشعر الآخرون بالدونية تجاه الثقافة الغالبة، وهذا من شأنه أن يؤدي إلي توجس المجموعات الصغيرة بسبب ضعفها وقلتها وقوة الآخرين وكثرتهم خوفا من امتصاصها وذوبانها، مما يجعلها تتوجس من أي نشاط يقوم به الآخرون فتفسره بأنه يستهدفها ويسعي لاستئصالها. والاستعلاء قد يكون ظاهرا أو مضمرا في الثقافة الاجتماعية، وقد يكون حقيقيا أو متوهما، وفي كل الأحوال سيكون عائقا ومهددا لوحدة النسيج الاجتماعي. إذا كانت هنالك مجموعة دينية أو ثقافية غير معترف بها فإن ذلك من شأنه أن يهدد النسيج الاجتماعي. وعدم الاعتراف يدفع تلك المجموعة إلي اتخاذ مواقف مضرة تنفيسا عن إحساسها بالظلم وإعلانا لظلمها ولا تتورع أن تكون مخلب قط لأي عمل عدائي ضد دولتها لأن من أهم عوامل الإحساس بالوطنية هو الشعور بأن الوطن يحقق للمواطن الحاجات والتطلعات ويعبر عن الهوية.

 المهدد الثاني: عدم المساواة في الحقوق والواجبات:

 إذا كانت الدولة تميز بين مواطنيها بحسب المعتقد أو الثقافة أو العرق أو أي فارق غير العطاء فإن ذلك يعتبر أكبر مهدد للتعايش، وقد توصل الفكر الإنساني إلي أن المواطنة هي الأساس للحقوق والواجبات لأن الانتماءات الأخرى لا تحقق التماسك ولا الوحدة في الوطن الواحد القائم علي التعددية، فالانحياز الواضح من قبل الدولة لأي عقيدة أو ثقافة أوعرق علي حساب المكونات الأخرى يعتبر مهددا للتماسك الاجتماعي.

المهدد الثالث: التدخل الخارجي:

 بعد التقسيم القطري للدول أصبحت  أي دولة مستقلة تعتبر صاحبة سيادة علي أرضها وشعبها وحدودها حسب التعريف الدستوري للدولة ، ويمنع التدخل في خصوصياتها من قبل الآخرين لأن هذا التدخل من شأنه أن يهدد الأمن والسلم الدوليين، وتكمن الخطورة عندما تكون لمواطني الدولة المعنية امتدادات خارجية عرقية وثقافية وسياسية ، فإذا نشأ أي نزاع بين دولة وأخري فيخشى أن تستعين الدولة المحاربة بمواطني الدولة الأخرى التي تحاربها لتستعين بهم في الإضرار بدولتهم ، وخلافا لذلك إذا كانت الدولة تظلم مواطنيها وتضطهدهم فإنه يفتح بابا للتدخل الخارجي لحماية حقوق الإنسان ومعلوم أنه لا سيادة للدولة في حال انتهاكها لحقوق مواطنيها حسب النظام العالمي الحالي.

 إن أسباب التدخل الخارجي كثيرة أهمها:

انتهاك حقوق الإنسان

التطهير العرقي

انتهاك الحريات الدينية

وقوع الكوارث الطبيعية

التدخل في شئون الغير

رعاية الإرهاب الدولي

المهدد الرابع: الاستفزاز:

الإنسان السوي يحترم الآخرين ويقدرهم لأنه يحترم نفسه ، ويعامل الناس كما يحب أن يعاملوه ، فكما أنه لا يقبل الذلة والمهانة والإساءة  لنفسه ، مطلوب منه ألا يسئ للآخرين ولا يهينهم ولا يذلهم ، وقد نهى الإسلام عن كل ما من شأنه أن يحط من كرامة الإنسان ، ودعا لاحترام المعتقدات وعدم الإساءة إليها ، قال تعالي : ” وَلاَ تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ “[سورة الأنعام:108] فالاختلاف مع الآخر لا يبيح الإساءة إليه ولا استفزازه، فالسخرية والاستهزاء والإشارات المستفزة تعيق التماسك الاجتماعي ومصلحة الأديان تتحقق في ظل التعايش المشترك القائم على السلام والتسامح والاحترام المتبادل، اللهم إلا تلك الأديان التي يضعفها نشاط الآخرين بسبب عجزها وتناقض تعاليمها التي يكشفها تماسك تعاليم الديانات المنافسة . إن العوامل التي تستفز الآخرين كثيرة أهمها:

  • السخرية من المعتقدات
  • الإساءة للمقدسات
  • مناصرة العدو
  • التحريض ضد الآخرين
  • مضايقة الأنشطة

المهدد الخامس: تناقض الخطاب داخل المجموعة الواحدة:

الملاحظ أن مبدأ التعايش مع الآخر ليس محل اتفاق بين العاملين في حقل الدعوة الإسلامية كما أنه مختلف عليه داخل مؤسسات الآخر الملي ، مما يعتبر عائقاً من عوائق الوحدة، فالمتوقع من القادة الدينيين والمفكرين أنهم يمثلون جميع الذين يشاركونهم في المعتقد أو الثقافة أو الحضارة ، ولكننا في الواقع نجد جماعات إسلامية هنا وهناك تتبع نهجاً يدعو لاستئصال الآخر وتدميره ، ورفض أي تعايش معه ، ونجد في الطرف الآخر جماعات رافضة للحوار مع المسلمين وتدعو للقضاء عليهم ، ؛ فالمطلوب أن يسبق الحوار مع الآخر حوار داخلي يتفق فيه المعنيون على خطاب موحد بحيث لو قام به أي واحد منهم يعتبر ممثلاً للجميع . والواقع أنه منذ إلغاء الخلافة الإسلامية على يد أتاتورك فقد المسلمون، عاملاً من عوامل الوحدة فالخلافة ـ بالرغم من علاتها ـ كانت تمثل قيادة للمسلمين في كل أنحاء العالم فبإلغائها فقد المسلمون أهم مظهر سياسي من مظاهر الوحدة، وأما المسيحيون فإنهم بالرغم من إلغاء دور الكنيسة السياسي إلا أن لديهم قيادة روحية يلتفون حولها ويحترمون أوامرها. أما المسلمون فقد انقسموا إلى دول وجماعات وفقدوا القيادة الموحدة، مما أفقدهم الاتفاق على خطاب موحد في التعامل مع الآخر، فهنالك من يقر الحوار وينشط فيه وهنالك من يرفضه ويصدر الفتاوى لعرقلته مما يتعذر معه التوصل إلى تعايش سلمي مع الآخر، فالمطلوب التوصل إلى خطاب متفق عليه من المسلمين أو من الناشطين منهم يبين منهج التعامل مع الآخر حتى يزول التناقض بين خطابات الإسلاميين في هذا المجال.

المحور الثالث: التعايش المنشود

لقد ثبت أن الاختلاف واقع كوني وإرادة إلهية يستحيل إلغاؤه، والتعدد ضرورة اجتماعية، والمواطنة حق إنساني علينا أن نتعامل مع هذا الواقع بوعي يحقق الوحدة في ظل التنوع والتكامل مع التعدد والتعاون في القواسم المشتركة، عليه إذا أردنا وحدة وطنية راشدة وتعايشا سلميا يحافظ على الوحدة علينا أن نتواثق علي الآتي:

    1. الالتزام بحقوق المواطنة للجميع
    1. كفالة حرية العقيدة والعبادة والتبشير للجميع
    1. قيام مؤسسات للعمل المشترك
    1. الالتزام بثوابت الوطن
    1. العدالة في توزيع الحقوق
    1. المساواة في التعامل
    1. احترام التميز والجودة في العمل
    1. انتهاج الحوار وسيلة لفض النزاعات
    1. احترام حقوق الإنسان وحرياته الأساسي.

[1] رواه البخاري في صحيحه (3414) ص (718) مكتبة الإيمان القاهرة طبعة 1423ه – 2003م

[2]   أحمد أمين: موسوعة الحضارة الإسلامية ج / 1 ص (53)

[3] رواه البخاري في صحيحه (3612) ص (754) دار الأمان – القاهرة

[4] متفق عليه: رواه البخاري في صحيحه (3231) ومسلم (2327) مكتبة الإيمان القاهرة

المركز القومي للسلام والتنمية

ورشة عمل تحت عنوان: ” الغلو والتطرف الفكري الواقع والمأمول”

محور: التطرف الديني وطرق مواجهته فكريا

تقديم الأمير: عبدالمحمود أبو

الأمين العام لهيئة شؤون الأنصار

ورئيس المنتدى العالمي للوسطية – فرع السودان

11 أغسطس 2018م

بسم الله الرحمن الرحيم

ابتلي العالم في العقود الأخيرة بظاهرة الإرهاب التي يغذيها الغلو والتطرف؛ والذي بدوره يُبرزه الإحساس بالظلم، وحالة الإحباط العامة التي تعيشها كثير من الشعوب؛ نتيجة لعدة عوامل منها الفقر والبطالة عند بعض الناس، وبؤس الرفاهية عند آخرين.

والإرهاب في العالم الإسلامي جاء نتيجة للغلو في الدين، والتطرف في الأفكار، والتشدد في المواقف، تلك الصفات التي حذر منها الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: “إياكم والغلو في الدين، فإنه أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين”

لقد تصدرت أخبار الغلاة والمتشددين جُل أجهزة الإعلام! ومامن يوم يمُرُّ إلا وتقرأ فيه، أو تسمع أو تشاهد نبأ التفجيرات التي ينفذها المتطرفون ضد المدنيين في مواقع التجمعات المختلفة حتى أضحت هذه الأخبار هي المسيطرة على أجهزة الإعلام.

ولا شك أن الغلو وتوابعه أمرٌ تَنْفِر منه العقول السليمة، ويرفضه الضمير الإنساني السَّوِي؛ لأنه ضد الفطرة، ويعبر عن حالة مَرَضية للمُتَّصفين به، والتطرف لا هوية له ولا وطن له ولادين، فمنذ وجد الإنسان في هذه الدنيا؛ خلقت معه نزعات متعددة تحمل بذرة الخير وبذرة الشر.

                   كأن عدة أرواح تقوم به              فليس يهدأ ولا تهدأ رغائبه

ومهمة الرسل عليهم الصلاة والسلام؛ تدور حول تنمية عوامل الخير في الإنسان، وتطهيره من نزعات الشر وذلك بإرشاده وتوجيهه للوظيفة التي خلق لأجلها؛ وهي إخلاص العبادة لله، والقيام بوظيفة الاستخلاف على الوجه الذي حدده الله سبحانه وتعالى.

ومع أن الرسل بلَّغوا ما أُنزل إليهم من ربهم؛ إلا أن المجتمع البشري لا يخلو من المخالفين للأوامر الإلهية، والمنحرفين في أفكارهم؛ وأخطرهم أولئك الذين يُحَرِّفون كلام الله ويزعمون أنهم يطبقون أحكام الدين! وقد ظهر الغُلُو في كل الملل؛ فاليهود اشتُهروا بالغُلُو التَّجسيدي المادي؛ حتى أنهم قالوا لموسى عليه السلام: أرنا الله جهرة! قال تعالى: “ يَسْئَلُكَ أَهْلُ الكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِّنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً”[النساء:153] والنصارى كان غُلُوُّهم في نسبة الولد لله؛ ورفعهم  المسيح حتى أنهم ألَّهُوه وقد حذرهم الله من ذلك بقوله تعالى: ” يَا أَهْلَ الكِتَابِ  لاَ  تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الحَقَّ إِنَّمَا المَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انتَهُوا خَيْراً لَّكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا  فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً”[النساء:171] وقوله تعالى: ” قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَابِ  لاَ  تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلاَتَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيراً وَضَلُّواْ عَن سَوَاءِ السَّبِيلِ”[المائدة:77].

وعندما ظهرت أمارات الغُلو في عهد نزول القرآن؛ بادر الرسول صلى الله عليه وسلم بالقضاء عليها في مهدها، مبينا لأُمَّته أن الرسالة الخاتمة؛ جاءت لرفع الإصر والأغلال التي كانت على الأمم السابقة، ومعلنا أن هذا الدين يُسْرٌ ولن يُشَادَّ الدين أحد إلا غلبه، مُحَذِّرا من التَّنَطُّع والتشدد والغُلو، وفي وقت لاحق نتيجة لعدة عوامل سياسية واقتصادية واجتماعية وعقيدية؛ برز الغلو مرة أخرى وراح ضحيته خليفتان من الخلفاء الراشدين، وعدد من المسلمين بينهم صحابة وتابعون وعلماء وغيرهم.

وفي العصر الحديث انتشر الغُلو بصورة مُوسعة، شمل معظم البلدان الإسلامية وغيرها، وأدي إلى وقوع خسائر كبيرة في الأرواح والممتلكات والعلاقات، وشَوَّه صورة الإسلام والمسلمين تشويها فتح الباب للتدخُّلات الأجنبية، وأدى إلى إحجام كثير من الراغبين في الدخول في الإسلام.

لقد كانت أكبر خسارة حقَّقها الغُلو تَمثَّلت في الصَّدِّ عن الإسلام واتهامه بالعنف والإرهاب، فضلا عن الأرواح التي أُزهقت والأموال التي أهدرت، والتشويه الذي لحق بالمجتمعات المسلمة من تكفير وتعصب وتدمير.

لقد ثبت حجم الضرر الذي لحق بالإسلام والمسلمين، بل وبالعلاقات الإنسانية عموما؛ نتيجة للغُلُوّ والتَّطَرف والتشدُّد والعنف؛ مما يوجب تضافر الجهود وتعاون الكافة لمواجهة هذه الظاهرة بالتعرف على أسبابها وعوامل تغذيتها وآثارها، وأنجع الطرق والوسائل لعلاجها.

إنني أشارك في هذه الورشة بهذا البحث، الذي يتضمن ثلاثة محاور ومقدمة وخاتمة، سائلا الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا لتشخيص هذه الظاهرة الخطيرة والمساهمة في تحجيمها ومعالجة آثارها؛ شاكرا لمنظمي هذه الورشة أسرة المركز القومي للسلام والتنمية؛ سائلا المولى عز وجل أن يجزيهم خير الجزاء.

المحور الأول: التطرف الديني أسبابه ومظاهره

التطرف لغة: مجاوزة حد الاعتدال، وفي مقابل طرفه هذا طرف آخر هو التَّفْريط أو التَّسَيُّب، وكلا طرفي قصد الأمور ذميم. الوقوف في الطَّرَف، والطَّرَف بالتحريك: جانب الشيئ، ويستعمل في الأجسام والأوقات وغيرها. وعلماء اللغة كادوا أن يجمعوا على أن التطرف هو: الغلو والإسراف أو الشطط، بعيدًا عن التوسط والاعتدال؛ جاء في المعجم الوسيط في معنى التطرف: ” تجاوز حد الاعتدال ولم يتوسط “وفي المعاجم الغربية فإن تعريف التطرف يدور حول:” تبني معتقد متطرف، واستخدام العنف لتحقيق هدف سياسي، ورفض الآلية الديمقراطية، ورفض الآخر”.

والتَّطَرف اصطلاحا: يمكن تعريفه بأنه: ظاهرة تحدث عندما يتخذ الفرد موقفًا حدّيًا تجاه قضية ما؛ سواء كان موقفه إيجابيًا أو سلبيًا، وقد يكون هذا الموقف مجرد فكر أو يتخذ شكل سلوك ظاهري، وينشأ عن هذا الموقف تأثيرات سلبية على الفرد وعلى الآخرين.

والعلاقة بين المعنيين اللغوي والعرفي واضحة؛ فكل شيء له وسط وطرفان، فإذا جاوز الإنسان وسط شيء إلى أحد طرفيه قيل له: تَطَرَّف في هذا الشيء، أو: تَطَرَّف في كذا، أي جاوز حد الاعتدال ولم يتوسط. وعلى ذلك فالتَّطَرُّف يصدق على التَّسَيُّب، كما يصدق على الغلو، وينتظم في سلكه الإفراط، ومجاوزة الحد، والتفريط والتقصير على حد سواء؛ لأن في كل منهما جنوحاً إلى الطرف وبعداً عن الجادَّة والوسط والتطرف والغلو مرتبطان ارتباطا وثيقا، فكل غلو يؤدي إلى تطرف، وكل تطرف ينتج عن غلو.

تعريف: الغلو لغة: قال ابن فارس: “الغين واللام والحرف المعتل أصل صحيح يدل على ارتفاع ومجاوزة قدر” فالغلو هو مجاوزة الحد، يقال: “غلا في الدين غلوا تشدد وتصلب حتى جاوز الحد”

والغلو تجاوز الحد؛ وبينه وبين التطرف تداخل بين العام والخاص؛ وهنالك ألفاظ تلتقي مع الغلو والتطرف في بعض مظاهره، مثل: (التنطع والتشدد والتزمت).

والغلو شرعا: وردت الإشارة إلى الغلو والتنطع والتشدد؛” وكأنها جميعا مجاوزة حد الاعتدال المطلوب من المسلم أن يلتزم به.   فعن الغلو ورد في القرآن الكريم قوله تعالى:” يَا أَهْلَ الكِتَابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الحَقَّ.” [النساء: 171]. وفي سورة المائدة قوله تعالى:” قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِن قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَن سَوَاءِ السَّبِيلِ”[المائدة:77]. وعن التنطع جاء في الحديث النبوي الشريف قوله صلى الله عليه وسلم: “هلك المتنطعون” وعن التشدد قال صلى الله عليه وسلم: ” إن هذا الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه”.

ويقال غلا الرجل في الدين والأمر غلواً، إذا جاوز حده، ومعناه عدم الاقتصار على الوسطية، وعرفه شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – كما هو في كتاب (اقتضاء الصراط المستقيم في مخالفة أصحاب الجحيم) بأنه: (مجاوزة الحد بأن يزاد في الشيء في مدحه وذمه على ما يستحق)، وقد ذكر ذلك وقريباً منه الشاطبي في كتابه (الاعتصام)، والحافظ ابن حجر في الفتح، وغيرهم، وقالوا: إن الغلو (هو الزيادة ـ والزيادة لفظ عام ـ فقد تكون هذه الزيادة اعتقادية، أو عملية أو حكماً على الآخرين)

وأطلق العلماء قديما كلمة التطرف الديني على القائل المخالف للشرع، وعلى القول المخالف للشرع، وعلى الفعل المخالف للشرع. فهو فهم النصوص الشرعية فهما بعيدا عن مقصود الشارع وروح الإسلام، فالتطرف في الدين هو الفهم الذي يؤدي إلى إحدى النتيجتين المكروهتين، وهما الإفراط أو التفريط. والمتطرف في الدين هو المتجاوز حدوده، والجافي عن أحكامه وهديه، فكل مُغال في دينه متطرف فيه مجاف لوسطيته ويسره. والتطرف قد يكون في المعتقد، وقد يكون في الفكر، وقد يكون في المواقف والسلوك؛ فتجد الشخص المتطرف فاسد العقيدة، منحرف الفكر، حاد الطبع، يقسو على نفسه ويتعامل مع الناس بجفاء وغلظة! ينفر منه جميع الأسوياء، والتطرف في الدين أثر من آثار الوسوسة الشيطانية؛ يقول ابن القيم: “ما من أمرٍ أمرَ الله به؛ إلا وللشيطان فيه نزغتان؛ إما إلى تفريط وإضاعة، وإما إلى إفراط وغلو. ودين الله وسط بين الجافي عنه والغالي فيه، فكما أن الجافي عن الأمر مضيع له؛ فالغالي فيه مضيع له، هذا بتقصيره عن الحد، وهذا بتجاوزه الحد”.

مظاهره:

إن للتطرف مظاهر كثيره أهما الآتي:

أولا: الغلو في المعتقد: العقيدة هي فهم الإنسان للدين، وتَصَوُّره للكون والحياة؛ ومن ثم رسوخ هذا الفهم في وجدانه إيمانا وتعبدا وتعاملا، ولذلك اختلفت العقائد حسب استعداد كل شخص من حيث المعرفة، والخبرة، والتوازن النفسي، والبيئة المحيطة. فمن الناس من يكون اعتقاده صحيحاً لِتَلَقِّيه للمعلومة الصحيحة من أهل التخصص، ومن المصادر الموثوقة، وتأهُّله الشخصي لهذا التَّلَقِّي، ومنهم من تكون عقيدته منحرفة، لِخطإِ معلوماته، وفساد مصادره.

إن الاستقامة في العقيدة، والاعتدال في الفهم، والتوازن في المواقف؛ أمور تتحقق عند الذين يتلقون معلوماتهم من مصادرها الصحيحة المتمثلة في الأنبياء والرسل والعلماء الربانيين، فهؤلاء تجدهم يلتزمون منهج الوسطية في معتقدهم، وفي مواقفهم، وفي سلوكهم، وفي تعاملهم؛ لأنهم التزموا فطرة الله التي فطر الله الناس عليها وهي تمثل الدين القيم.

ثانيا: التعصب للرأي: من مظاهر التطرف؛ التعصب للرأي وإن خالف الحق! والتعصب من أهم الأسباب التي دفعت أهل مكة لرفض رسالة الإسلام تمسكا بما وجدوا عليه آباءهم قال تعالى: “ وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ (23) قَالَ أَوَ لَوْ جِئْتُكُم بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ”[الزخرف:23-24] إنه التقليد الأعمى الذي يصد المرء عن رؤية الحق، ويحول بينه وبين الصراط المستقيم، تعصبا لما ألفه؛ وليس هذا وقفا على من هم خارج الإسلام بل تجد في داخل الملة من أصيب بهذه النزعة المتعصبة، خاصة في الأمور التي تحتمل أكثر من معنى، فيتعصب لرأي شيخه، أو إمامه، أو طائفته، أو حزبه وإن كان الحق مع غيرهم، وهذا نهج يخالف منهج أهل العلم الذين يتبعون الدليل ولا يتعصبون للرأي؛ يقول ابن القيم: ” ثم خلف من بعدهم خلوف فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون، وتقطعوا أمرهم بينهم زبرا وكلهم إلى ربهم راجعون، جعلوا التعصب للمذاهب ديانتهم التي بها يدينون، ورؤوس أموالهم التي بها يتَّجِرون” وهذا النوع من التعصب أدى إلى تعميق الخلاف بين المسلمين، مع أن عوامل الوحدة أكثر لو اتبعوا المنهج العلمي الذي يلتزم بالأصول والقطعيات، ويتسامح في الفروع والظنيات، بل قد يدفع التعصب صاحبه إلى رد النصوص القطعية لمخالفتها لرأي المقلد المتعصب! يقول ابن القيم: “وكيف يكون من ورثة رسول الله صلى الله عليه وسلم من يجتهد ويكدح في رد ما جاء به إلى قول مقلده ومتبوعه؟ ويُضَيِّع ساعات عمره في التعصب والهوى ولايشعر بتضييعه؟ تالله إنها فتنة عمَّت فأعْمت، ورمَت القلوب فأصْمت، رَبا عليها الصغير، وهرِم فيها الكبير، واتُّخِذ لأجلها القرآن مهجورا” التعصب مظهر من مظاهر الغلو.

ثالثا: التشديد على النفس: من مظاهر التطرف الخروج عن منهج الاعتدال، فتجد المتطرف يتشدد على نفسه، ويقسو عليها، ويكلفها ما لا تطيق، فيلزم نفسه بالعزائم دائما، ولا يأخذ بالرخص مهما توفرت موجباتها، ويحرم على نفسه الطيبات، ظانّاً بأنه يتقرب إلى الله سبحانه وتعالى! قال سفيان الثوري: “إنما الفقه الرُّخصة من ثِقة، أما التَّشَدُّد فيُحْسِنه كلُّ أحد”! وقد حذر رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك في أكثر من حديث. قال صلى الله عليه وسلم: “إن الدين يُسْر، ولن يُشَادَّ الدين أحدٌ إلا غَلبه…” وقوله صلى الله عليه وسلم: “لاتُشَدِّدوا على أنفسكم فيُشَدِّد الله عليكم، فإن قوما شَدَّدُوا على أنفسهم فَشَدَّدَ الله عليهم، فتلك بقاياهم في الصوامع والديار..” إن التشدد في التدين يناقض رسالة الإسلام التي جاءت بالتخفيف واليسر ورفع الإصر؛ قال تعالى: “…وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ  الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ المُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ…”[الأعراف:156-157].

ولتأكيد أهمية اليسر في الإسلام؛ نهى رسول الله عن الإلحاح في السؤال حتى لا يكون سببا في إيجاب حكم على الأمة يزيد من التزاماتها؛ قال صلى الله عليه وسلم: “إن الله حَدَّ حُدودا فلا تَعْتَدوها، وفَرَض أشياء فلا تُضيعوها، وحرَم أشياء فلا تَنْتَهِكوها، وسَكَتَ عن أشياء رحمةً بكم غير نِسْيان فلا تبحثوا عنها” يقول الشيخ القرضاوي:” والخطاب في قوله: ” فلا تبحثوا عنها” للصحابة في زمن نزول الوحي، حتى لا يترتب على بحثهم وتقعُّرهم تشديد بزيادة التكاليف، من إيجاب واجبات، أو تحريم محرمات” ولهذا قال في الحديث الآخر: “ذروني ما تركتكم”

رابعا: الجفوة في التعامل: من مظاهر الغلو، الغلظة والجفوة والفظاظة في التعامل مع الناس، فالغلاة لا يعرفون لِينَ الكلام ولا سَمْحَ القول؛ فأسلوبهم في الغالب طابعه القسوة والجفاء، وهو أسلوب مُنَفِّر، يُناقض منهج الإسلام الداعي إلى الرفق واللين والتبشير والتيسير، بل حتى عتاة المجرمين والعصاة أمر الله سبحانه وتعالى بالترفق معهم، فعندما بعث الله موسى وهارون إلى فرعون الذي ادَّعَى الرُّبوبية أوصاهما أن يترفقا به، وأن يقولا له قولا لينا! قال تعالى:” اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى”[طه:42-443] والرسول صلى الله عليه وسلم كان سَمْح السجايا، كَسَاه الله بالجمال وكريم الخصال، أحبه كل من رآه، وأثنى عليه ربُّه بأنه ذوخلق عظيم، ومع ذلك نبَّهه ربُّه بأنّ منهج اللِّين هو الذي يؤَلِّف قلوب الناس، والغلظة تُنَفِّرهم؛ قال تعالى: ” فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظاًّ غَلِيظَ القَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ” [آل عمران:159].

إن الغلظة في الطبع، والجفاء في التعامل، والفظاظة في القول؛ صفات تتناقض مع منهج الإسلام القائم على السماحة واللطف واللين. عن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “ليس المؤمن بالطّعَّان، ولا اللعَّان، ولا الفاحش، ولا البذيء”

خامسا: سوء الظن بالآخرين: سوء الظن يعني عدم الثقة في الآخرين، وتفسير أقوالهم وأفعالهم وجميع تصرفاتهم بما يخالف ظاهرها، ويَحْدُث نتيجةً لِسُوء طَوِيَّة، أولِوَسْوَسَة، أو لتكرار تجاربَ مؤلمة مع بعض الناس، أدَّت لتعميم سوء الظن على كل الآخرين! وقليل من الناس مَن يستخدم سوء الظن على غرار المقولة الشائعة “سوء الظن من حُسْن الفِطَن” وهي تعني التَّرَيُّث والتَّثَبُّت والتَّحَقُّق من مواقف الآخرين للتَّأكُّد من صِحَّتِها، ولا تعني الجانب السلبي الذي نَعْنِيه من سوء الظن في هذا البحث، ويَصْدُق على ذلك ما نسب للخليفة الراشد عمر بن الخطاب من قول: ” َلسْتُ خِبّاً ولا الخب يَخْدَعُني” هذا الجانب من سوء الظن – إذا جاز التعبير – يُعْتَبَرُ محموداً، وأُفَضِّل تَسْمِيَته بالتَّثَبُّت والتَّحَقُّق ثم التصديق.

أما سوء الظن المذموم فهو ما يتعامل به الغلاة تجاه مُخالفيهم، وهو الذي نهى القرآن عن الاكثار منه وجَعْلِه دَيْدَناً، قال تعالى: “ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ…”[الحجرات:12].

إن افتراض كل الآخرين غير صادقين، وغير مؤمنين، وغير مدركين لحقيقة الدين؛ يجعل الحياة مضطربة، وصاحب هذا الاعتقاد لا يستطيع أن يتعامل مع البشر الذين خلقهم الله أحرارا عقلاء ذوي إرادة، فصاحب الظن السيئ لا يمكنه التعايش مع من يسيء بهم الظن، ولذلك يسعى لإدخالهم في زمرته وإلا سيواجههم، وهو مظهر من مظاهر الغلو. “فما أسوأ أمة تعيش في فتنة وغليان، يتقاذف بعضهم اتهامات الآخرين بالتكفير أو الضلال، أو الزندقة، أو الخروج من الإسلام؛ لأن المتهم جَنَح إلى فكر أو اعتقاد غير مألوف”

سادسا: المسارعة للعنف عند الاختلاف: خُلِق الإنسان وجُبِل على المدنية، أي العيش مع الجماعة، ومن شأن المجتمع البشري الاختلاف في العقائد والآراء، والمنهج الراشد هو الذي يدير الاختلاف والتنوع بالسلم وإعلاء المشتركات؛ ولكن الغلاة ليست لديهم منطقة وسطى؛ إما أن تكون معهم أو ضدهم، وعند الاختلاف فالحسم يكون باستعمال العنف، وهذا يتناقض مع منهج الإسلام القائم على الحوار واستخدام الحجة والبراهين الدالة على الحق، والموضوعية في الحوار؛ قال تعالى: “ قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ  (24)  قُل لاَّ تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلاَ نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ”[سبأ:24-25] إنه منهج يبدأ بالمتفق عليه، وانتزاع الاقرار من المخالف، حيث أن أكثرية البشر تُقِرُّ بأن الخالق والرازق هو الله، ثم يؤكد أن المختلفَيْن أحدهما على باطل والآخر على حق، وهو أمر يُصَدِّقُه الواقع. ولم يَنْسِب في هذه المرحلة الحقَّ لأيِّ جهة، وترك أمْرَ تَحْدِيدِه للحوار المنهجي، ثم يختم بعبارة لو التزم بها دعاة الحق لدخلوا القلوب، ولمَهَّدُوا الطريق لطالبي الحق للاقتناع والاتباع؛ تلك العبارة هي:” قُل لاَّ تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلاَ نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ” حيث خاطبت المخالف بأن ما تنسبه لنا، مما تظنُّه إجراماً لا تسأل عنه، ولا نُسْأل نحن عما تعمل! لاحظ ” أجرمنا” و”تعملون” نسب الإجرام للمؤمنين مع أنهم على حق، ووصف فعل المشركين بالعمل مع أنه باطل! تأكيدا وثقة بأن الحوار المنهجي سيؤكد صحة موقف المؤمنين وبطلان منهج خصومهم. وتعليما لأمة الإسلام بأهمية الحوار كمنهج للإقناع. أما أسلوب الغلاة المعتمد على العنف فليس منهجا صحيحا لإثبات الحق.

سابعا: تضخيم الذات واحتقار الآخر: من الصفات الواضحة لدى المتطرفين؛ أنهم لا يعطون اعتبارا ولا وزنا لمخالفيهم، ولا يقدرون قوة الخصم تقديرا صحيحا، وفي المقابل يُضَخِّمون ذاتهم تضخيما ورَمِيًّا! يحتكرون الحق والمعرفة والنجاة، ويرمون مخاليفهم بالبطلان والجهل والهلاك،

أسبابه:

لقد صار التطرف مقلقا للدول وللمجتمعات الإنسانية، ومصادما للعلاقات الإنسانية القائمة على السلم والتعاون، وأصبح ظاهرة عالمية مقلقة لكثير من الدول، وهنالك جهات كثيرة اهتمت بالتطرف؛ منها علماء النفس وعلماء الاجتماع، وعلماء السياسة وعلماء الدين؛ فضلا عن الأجهزة الحكومية الأمنية والاعلامية والاقتصادية، وغيرها وكل جهة ترجع أسباب التطرف للعوامل التي تدخل في مجال اهتمامها. ويمكن تلخيص هذه الأسباب في الآتي:

أولا: أسباب تربوية: تتمثل في الحرمان من رعاية الأبوين أوكلاهما في سن مبكرة، والحرمان الاجتماعي، والتعرض لصدمة نفسية شديدة فاجعة في الطفولة، والتربية القائمة على القسوة والضرب والتعامل الفظ مع الأطفال؛ هذا النوع من التربية يلقي بظلاله على حياة الأطفال، ويستمر معهم في كل مراحل العمر، ومرحلة الشباب هي مرحلة التنفيس عن الكبت والقهر والحرمان والمعاناة التي واجهت المرء في مرحلة الطفولة. فإن لم يتلقوا تدريبا على التحكم والضبط للنزعات النفسية، فإنهم يعجزون عن مقاومة الرغبات النفسية الشهوانية، ولا يستطيعون التحكم في النوازع والانفعالات السلبية، وضبطها فتدفعهم هذه العوامل إلى التطرف

ثانيا: أسباب نفسية: تتمثل في الاضطراب العصابي؛ كالقلق والاكتئاب، واضطراب الشخصية، والاضطراب الذهاني؛ كالإصابة بالفصام أو الهوس، أو الاضطرابات الضلالية؛ التي تجعل المصاب يعيش في هواجس تقنعه بأنه ليس شخصا عاديا، بل له دور كبير يقوم به لتغيير مجرى الحياة! ويجد الواقع مكذبا لاعتقاده وصادما له. وهنالك الدوافع النفسية المتأصلة في النفس البشرية، فضلا عن ضعف الأنا العليا(النفس اللوامة أو العقل والضمير) وسيطرة الذات الدنيا (الهوى والنفس الأمارة بالسوء) على الشخصية الإنسانية، وتضخيم الأنا العليا بسبب الشعور المتواصل بوخز الضمير، وهذا من الحيل النفسية الدفاعية التي يلجأ إليها الشخص لتطهير ذاته والتكفير عن تقصيره تجاه نفسه أو معتقده الديني أو مجتمعه؛ وغالبا ما يقترن ذلك بالخجل والاشمئزاز من النفس والاكتئاب، ويبلغ في مرضى الوسواس والاكتئاب النفسي حدا من القسوة والخطورة ما يجعل الحياة جحيما من العذاب وعبئا لا يطاق وهذا ما يفسر لنا القسوة التي يتعامل بها المتطرفون مع أنفسهم ومع الناس، فتفجير الذات طلبا للاستشهاد، وقطع الروس، وحرق الأسرى وهم أحياء؛ ممارسات تنم عن دواخل مريضة ونفوس مضطربة أدت إلى انحراف في الفكر وشذوذ في المفاهيم، مع أنهم لو اتبعوا هدي القرآن منذ البداية لما وصلوا لهذه الحال، قال تعالى: “ وَنَفْسٍ وَمَا  سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا”[الشمس:7-10] وتزكية النفس لا تكون بالانتقام منها وإنما بالتوبة والإكثار من عمل الصالحات. قال تعالى: ” وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ”[هود:114]

ثالثا: أسباب اجتماعية: كثير من الناس يقارنون بين حالهم وحال الآخرين، فينظرون إلى الفوارق الاجتماعية من اختلاف الأصول العرقية، والتباين الثقافي والتفاوت في أساليب المعيشة؛ فلا يرضون بقسمتهم ويسيطر عليهم الإحساس بالدونية؛ فيتطرفون في مواقفهم انطلاقا من هذا الشعور الخاطئ، ويقومون بممارسات غير طبيعية لتغطية الاحساس بالنقص، وقد لعبت التكنولوجيا الحديثة في تعزيز الشعور بالفوارق عن طريق ما تنشره وسائل الإعلام من أساليب حياة ومعيشة في الدول المتقدمة؛ مقارنة بما تعيشه دول العالم الثالث؛ فيتصاعد الغضب وعدم الرضا بالواقع والسعي للانتقام، وهو عامل مهم في انتشار التطرف في عالم اليوم. وتدخل الأسباب الاقتصادية في هذا المجال؛ فالفقر والبطالة وعدم القدرة على تلبية الحاجات الضرورية عوامل تساعد على انتشار التطرف والرغبة في الانتقام.

رابعا: أسباب فكرية: معظم تصرفات الإنسان نابعة من قناعاته الفكرية، التي تشكلها البيئة التي يعيش فيها؛ وفي عالمنا الإسلامي فإن عوامل التطرف الفكرية متوفرة بشدة؛ فالانقسامات الفكرية بين التيارات الإسلامية من جهة، وبينها وبين التيارات العلمانية واللبرالية والقومية من جهة أخرى؛ أدت إلى استقطاب حاد، ضاعت معه الموضوعية والسماحة والمرونة في التعامل مع الآخر، مضافا إلى ذلك التشويه المتعمد لصورة الإسلام والمسلمين من قبل دوائر في الغرب حيث يتم اختزال الإسلام في ممارسات بعض العناصر المغالية ويُغَضّ الطرف عن تاريخ المسلمين الناصع بل يتعمدون تشويهه مما يدفع الشباب المتحمسين للأعمال المتطرفة ردا على هذا العدوان الذي يستهدف هويتهم وتاريخهم ومعتقداتهم.

المحور الثاني: التطرف الديني آثاره ومخاطره

التطرف الديني من أخطر أنواع التطرف؛ لأن صاحبه يستند إلى عقيدة، ويؤمن أن ما يقوم به أمر مشروع، ينتصر فيه لعقيدته ويؤجر عليه يوم القيامة، والحروب الدينية التي وقعت بين الطوائف داخل الملة الواحدة؛ أو بين أتباع الأديان كانت من أشرس الحروب وأفظعها بشاعة؛ والصراع بين الطوائف المسيحية، وبين اليهود والمسيحيين، والحروب الصليبية التي مارسها الغرب ضد المسلمين، والحروب بين الطوائف الإسلامية شاهدة على ذلك

إن الآثار التي يخلفها التطرف على المجتمع والدول في كل مجالات الحياة خطيرة ومدمرة، ويمكن النظر إليها من خلال الآتي:

أولا: الآثار الاقتصادية: لاشك أن الاقتصاد يعتبر عصب الحياة، وعامل مهم في رُقِيّ المجتمعات، وقد أنعم الله سبحانه وتعالى على الإنسان بخيرات كثيرة وحثه على السعي لطلب الرزق حتى يتمكن من العيش في الدنيا بكرامة ويحقق الوظيفة التي خلق من أجلها. قال تعالى: “هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ”[الملك:15] وربط الله بين الأمن وتوفير الطعام في إشارة واضحة إلى أهمية الأمن في استقرار الحياة والهناء بالعيش الكريم قال تعالى:” فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا البَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ”[قريش:3-] ويزدهر الاقتصاد في ظل الأمن والاستقرار وبسط العدل، والتكافل بين أفراد المجتمع، قال تعالى:” وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ”[الأعراف:96]. فالإيمان والتقوى من لوازم العدل والاستقرار، بدليل أنه ذكر في آية أخرى أن الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم سيتحقق لهم الأمن والهدى. فالأمن ثمرة من ثمار العدل، والتطرف يتناقض مع العدل، ولذلك فإن للتطرف أثر كبير على الاقتصاد وعناصر ازدهاره، ومن تلك الآثار: توجيه كثير من الأموال للتصدي للنشاط العسكري؛ فالتطرف لا يقف عند القناعات والاعتقادات وإنما يتجاوز ذلك إلى السلوك والفعل ومن نتائجه الارهاب والعنف الموجه ضد المدنيين والأبرياء والمؤسسات العامة والخاصة؛ مما يوجب على الدولة التصدي له ومواجهته بكافة الوسائل وأبرزها المواجهة الأمنية، وهذه المواجهة تتطلب انفاقا كبيرا على الأجهزة الأمنية، تدريبا وتسليحا وحوافزا، مما يؤثر على موارد الدولة واقتصادياتها.

ومن الآثار: توقف الأعمال الاقتصادية الزراعية والصناعية والتجارية؛ فالنشاط الاقتصادي يحتاج إلى بيئة آمنة وحياة مستقرة ومطمئنة، وفي ظل العمليات الإرهابية التي يقوم بها المتطرفون تكون الأولوية للمحافظة على حياة الناس، وعليه فإن النشاط الزراعي والصناعي والاقتصادي؛ سيتأثر في البلدان التي تتعرض للعنف والعمليات الإرهابية، بل ربما يتوقف تماما عندما يتوسع العنف كما وكيفا. و تخريب المنشآت والممتلكات العامة والخاصة؛ ومن آثار التطرف التخريب الذي يستهدف المؤسسات بالتفجير والتدمير، فضلا عن إحجام الزوار والسياح، وعزوف الاستثمار الأجنبي هروب رأس المال الوطني.

ثانيا: الآثار الدينية: يؤدي التطرف لفساد العقيدة؛ فكما أن التطرف انحراف في الفكر؛ فإنه يؤدي لفساد العقيدة، بتبنيه لمفاهيم تتصادم مع العقيدة الصحيحة، حيث أن المتطرف يتدخل في نوايا الناس وعقائدهم، وهو حق لله سبحانه وتعالى هو الذي يفصل فيه يوم القيامة، كذلك يؤدي التطرف إلى إنحراف في الفكر، كما فعل الخوارج قديما وكما يفعل الداعشيون وأمثالهم حديثا، ومن آثار التطرف الخطيرة؛ إزهاق النفس الإنسانية باسم الدين! والله سبحانه وتعالى حرم قتل النفس الإنسانية بدون وجه حق، قال تعالى: “ وَلاَ تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ” [الأنعام:151] ومن الآثار أيضا: تشويه صورة الدين بممارسات يستنكرها العقل والوجدان السليم، فقتل الأطفال، وتفجير المؤسسات، وتكفير المؤمنين بسبب اجتهادهم، والتشدد في الدين؛ كلها أفعال تؤدي إلى تشويه الدين والتنفير منه. ومن آثار التطرف أنه يؤدى إلى تَصَدُّر قادة جهال يتحدثون باسم الإسلام اعتبروا ممثلين للمسلمين! وتراجع دور العلماء الربانيين الذي أمر الله بالرجوع إليهم، قال تعالى:” وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ”[الأنبياء:7]

ثالثا: الآثار السياسية: التطرف يؤدي إلى عدم الاستقرار وزعزعة نظم الحكم بتبنيه لأفكار موغلة في التعصب، وسلوك مفرط في العنف تجاه الشرائح الوطنية المخالفة لأصحاب النزعة المتطرفة في عقائدهم وأفكارهم، والتطرف من شأنه أن يؤدي إلى تراجع الفكر السياسي الراشد، ليحل محله الفكر الإقصائي، والتطرف يؤدي إلى حدوث انقسامات وطنية بين مكونات المجتمع،

مما يفتح الباب للتدخلات الأجنبية السالبة، وكلها آثار تضر بالسياسة الوطنية وتشوهها.

رابعا الآثار الثقافية: من الآثار السالبة للتطرف انتشار ثقافة العنف والاقصاء، فالتطرف بما يطرحه من أفكار ورؤى ينشر ثقافة العنف والاقصاء لأنه لا مكان للتسامح والرفق في سلوك ومواقف المتطرفين، وثقافة العنف تؤدي إلى زعزعة المجتمعات وإثارة الفتنة فيها. كذلك فإن التطرق يقتل روح الابتكار وفي ظله يتراجع الابداع الثقافي، فيصاب المجتمع بالتبلد والجمود. كما يؤدي التطرف إلى تراجع ثقافة الحوار وقبول الآخر؛ لتحل محلها ثقافة الاستقطاب والتعصب الفكري والسلوكي؛ وكلها آثار تضر بثقافة المجتمع وتحيله من مجتمع التآخي والتآلف والتواصل إلى مجتمع التدابر والتنافر والتقاطع.

المحور الثالث: التطرف الديني تجفيف منابعه وطرق علاجه

التطرف انحراف في الفكر، وشذوذ في المواقف؛ ينشأ من العوامل التربوية والنفسية والاجتماعية المذكورة سلفا؛ وتغذيه عوامل خارجية؛ سياسية واقتصادية واجتماعية وقد بذلت جهود كبيرة في الجانب الفكري تمثلت في إصدار مؤلفات تبين سماحة الإسلام وبعده عن التطرف؛ وتم عقد كثير من المؤتمرات والندوات التي تعنى بنقد التطرف، ونقض الأسس التي يقوم عليها؛ بل قامت منابر متخصصة في نشر المفهوم الوسطي، ونشر الفكر الوسطي؛ أبرزها المنتدى العالمي للوسطية ومقره في الأردن وله أفرع في عدد من البلدان الإسلامية ويقوم بإصدار الكتيبات وعقد الندوات وتنظيم المؤتمرات التي تنشر الفكر الوسطي والمنهج الوسطي؛ غير أن تجفيف منابع التطرف تحتاج إلى جهود كبيرة تعنى بإزالة أسبابه ومغذياته، على النحو التالي:

أولا: إزالة الأسباب السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تغذيه. عن النعمان بن بشر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ” مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى” إن التخفيف من حدة الفقر، وإعلاء قيم التكافل والتعاون والتراحم، ومعالجة الأخطاء السياسية والاجتماعية، وإزالة عوامل الإحباط؛ من شأنها أن تخفف من النزعة المتطرفة عند الشباب.

ثانيا: إدارة حوار مستمر وممنهج مع حملة الفكر المتطرف لزحزحتهم نحو الرشد والاستقامة. إن الأفكار لا تواجه بالإجراءات الأمنية وحدها وإنما تواجه بالفكر الواعي؛ وعليه فلابد من معرفة مداخل التطرف وأسبابه حتى يتم تفنيدها بالحجة والدليل.

ثالثا: إدخال الفكر الوسطي في المناهج التعليمية والتربوية ليشكل حصانة ضد التطرف والغلو؛ .قال صلى الله عليه وسلم: “ما نهيتكم عنه فاجتنبوه وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم”

رابعا: سد المنافذ التي تفتح الباب للتدخل الأجنبي باعتباره مغذيا للتطرف. إن من أهم أسباب التدخلات الأجنبية في هذا العصر؛ انتهاكات حقوق الإنسان التي تمارسها الدول ضد شعبها، والجرائم الموجه ضد الانسانية، والاضطهاد الديني، والحروب الأهلية؛ وغيرها من الممارسات التي تخل بالأمن والسلم الدوليين.

خامسا: تقوية مسيرة الحوار والتقريب بين المذاهب والمناهج والجماعات المسلمة، وذلك التزاماً بالآتي:

تبادل الوُدّ، وتفعيل أوجه التعاون بين علماء الأمة الإسلامية من سنة، وشيعة، وإباضية؛ ودفن كل مظاهر التوتر والخلاف والتعصب المذهبي.

منع نشر أو طبع كل الكتب التي تسيء لأتباع المذهب الآخر، وعدم السماح بنشر المحاضرات والأحاديث التي تمس أوضاع الخلاف.

استنكار كل محاولات التضليل والتكفير التي توجه لبعض أتباع المذاهب، لمنع إثارة الفتن، وتخطئة الكاتبين لهذا اللون من التأليف.

التشجيع في مجال المقارنة العقدية والفقهية، ولاسيما في صعيد الدراسات الجامعية التخصصية على منهج بيان آراء الآخرين بموضوعية مجردة، واحترام وتقدير لها، وإشاعة روح الحوار والنقد العلمي من غير تشنيع ولا تجريح ولا هجوم.

إقامة أنشطة ثقافية يشترك فيها علماء يمثلون كل المذاهب الإسلامين ويحضرها ناشطون منتمون لكافة المذاهب لتضيق الشقة والتعرف على المشتركات.

تفويض أمر الحساب لله سبحانه وتعالى في الأمور المختلف فيها.

الالتزام بميثاق شرف يمنع نشر الأفكار التي تدعو للانتقال من مذهب إلى مذهب، تحصينا للمجتمع من الاستقطاب وإثارة الفتنة.

الخاتمة

التوصيات:

أولا: التطرف في العالم الثالث؛ تعبير عن الرفض على الأوضاع القائمة في كل مظاهرها السياسية والاقتصادية والاجتماعية؛ المطلوب إصلاح سياسي؛ يكفل الحرية والكرامة الإنسانية، ويحقق الشورى والديمقراطية في الاختيار، ويضمن التداول السلمي للسلطة. وإصلاح اقتصادي، يحقق العدالة والتكافل والتنمية المستدامة، وإصلاح اجتماعي، يرسخ القيم الإنسانية كالمساواة والتعارف والتراحم.

ثانيا: مطلوب تقديم دراسات علمية لظاهرة التطرف؛ تحدد أسبابها ومغذياتها بدقة، وذلك بالقيام بدراسة مسحية تستهدف شريحة الشباب؛ باختلاف مستوياتهم التعليمية، والاجتماعية والاقتصادية؛ لمعرفة العوامل الجاذبة في التنظيمات المتطرفة.

ثالثا: العمل على نشر ثقافة الوسطية وتحويلها إلى برامج تخاطب حاجات الشباب ومتطلباتهم؛ ليجدوا إشباعا لحاجاتهم داخل دينهم، وإجابة مقنعة لتساؤلاتهم في منهج الوسطية.

هذا وبالله التوفيق.

الاستيعاب المؤسسى

بقلم الدكتور عبدالمحمود ابو

الاستيعاب-المؤسسى

الوحدة الاسلامية بين الواقع والتطلع

بقلم الدكتور عبدالمحمود ابو ابراهيم

الوحدة_الاسلامية_بين_الواقع_والتطلع

زر الذهاب إلى الأعلى